الفصل الثالث عشر
منذ مئات من السنين، أو الحقب فما أبعد هذا الماضى فيما أحس، وما أقربه أيضًا! قرأت قصة هيبسيا لشالز كنجزلى، وكان صديقى العقاد هو الذى دفع بها إلى وأوصانى، وأنا أقرأها، أن أحضر إلى ذهنى قصة تاييس لأناتول فرانس ففعلت، ورأيت — كما رأى — أن من الممكن أن يقول المرء أن القصة الانجليزية هى التى أوحت إلى الأديب الفرنسى بموضوع تاييس، وأنا أفضل القصة الانجليزية، وإن كان أناتول فرانس أبرع فنا وأسحر أسلوبا، على أن هذا موضوع آخر، وكل ما أريد أن أقوله أن في هيبسيا — على ما أذكر — رجلا عجيب الأطوار غريب الفلسفة، يكون في زورق أو سفينة — فما أدرى الآن — فيروح يتفلسف في ضعف دلالة الحس على وجود المحسوس، حتى ينتهى إلى إمكان القول بأنه هو غير موجود على الرغم من إحساسه بنفسه، وشعوره بوجوده.
وقد راقنى هذا الرجل يومئذ وأعجبتنى فلسفته، وإن كانت تؤول إلى لا شىء، وبعد كل هذه السنين لا يزال منطقه يدور فى نفسى، ومع ذلك لا أستطيع أن أتذكر اسمه، أو ماذا هو فى الرواية، وكنت فى صباى — أى نعم فى صباى — أحببت فتاة كانت جارة لى، وكانت فى مثل سنى ومن أجلها كففت عن اللعب فى الحارة مع الغلمان ومن أجلها كنت أسقط من سطح بيتنا على سطح بيتها لأنعم بحديثها وأتملى بالنظر إلى حسن وجهها، فقد كان أهلى يزجروننى عن لقائها وأهلها لا يرضون عن حبنا الصبيانى، وهؤلاء وأولئك جميعًا يخشون العاقبة ولا يطمئنون إلى النهاية. وكنت لا أكتم حبي لها، بل أشعر به وأنا جذل مسرور وأحدث به غلمان الحارة؛ فيستغربون، وخادمنا فيدعو لى بطول العمر والسعادة، والشيوخ الوقورين من أصدقاء أخى الأكبر فيضحكون، ويتسلون، ويربتون على كتفي ويقولون: «عال عال، ما شاء الله ما شاء الله».
وكنت أقول لأمى حين تنهرنى عن هذا الذى كان فى رأيها عبثًا: «ماذا يضير أحدًا أن أحبها».
فتقول: «اختشى يا ولد عيب»!
فأتعجب وأسألها: «عيب؟ أى عيب فى حبى لها؟ إنى لا أصنع شيئًا سوى أنى أحبها».
فتقول: «هذا هو العيب».
فأسألها: «ألست تحبينى»؟
فتبتسم وتقول: «يا بنى كيف تسأل»؟
فأقول: «لست أسأل، فإنى أعرف أنك تحبيننى، وأنا أحبك وليس حبك لى عيبًا، ولا حبى لك، فلماذا يكون ذلك عيبًا»؟
فتقول: «هذا شىء آخر أنت ابنى وأنا أمك ولكن هذه.. هذه ليست منا».
فأسألها: «إن أبى لم يكن منك. ولكن تحبينه، ومازلت تلبسين السواد حدادًا عليه منذ سنوات».
فتقول: «ولكنك صغير لا تفهم».
فأقول: «صحيح إنى صغير، وإنى لا أفهم، ولكنى أحس يا أمى.. ألا يكفى أن أحس؟ وصدقينى ولا تغضبى أو تستائى حين أقول إنه أشهى إلىّ أن أكون جالسًا إليها الآن وإن قلبى يرف صبوة إليها».
فتطرق شيئًا ثم ترفع رأسها وتضع يدها على كتفى وتقول «وبعد؟ ما هى النتيجة؟ ما هو المآل»؟
فأقول: «لست أعرف ماذا تعنين؟ كل ما أعرفه أنى أحبها وأنا فرح بذلك».
فتسأل «ولكن النتيجة؟ ماذا بعد هذا الحب؟ ما آخرته»؟
فأقول «لا شىء.. أحبها، وهذا هو الأول والآخر.. ثم لماذا يكون له آخر»؟
فتقول «إنك طفل.. وهذا غير معقول».
وكان حب هذه الفتاة ينمو على الأيام. كما ينمو شعر رأسى. وقد تحولنا إلى بيت آخر وبعدت الشقة جدًا ولم يكن هذا ليمنعنى أن أقطع المدينة من أولها إلى آخرها سيرًا على القدمين كل يوم لأزورها. وثابرت على حبها أعوامًا طوالا ثم زوجوها فى الأرياف فغابت عنى، فغاب الخير والأنس، وغاض السرور من نفسى، وأظلم القلب.
كان هذا وأنا صبى فى الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وقد مضى ثلث قرن وزيادة على هذا الحب الأول، وزحفت المدينة، وهُدم الحى الذى كان فيه بيتها. هُدم كله، ورفعت عمائر جديدة، وشقت طرقا، ووسعت ميادين، وغرست أشجارًا؛ ومدت قضبانًا، وأجرت تراما. وإذ بى فى يوم الأيام أزور هذا الحى وأجوبه شبرًا شبرًا، وأتمثل ماضيه كيف كان، حتى أهتدى إلى الرقعة التى كان بيتها قائمًا عليها فأرجع مغتبطًا قرير العين، وأزداد اعتزازًا بذكرى ذلك الحب.
ولم تبهت ولن تبهت صورة الفتاه وإنى لأراها الآن، كما كنت أراها فى ذلك العصر الحالى، واقفة إلى جانبى وأمامنا على النافذة طبق فيه «لب» تقشره لى، وتعطينه، لأنى لا أحسن قَشْره، أو جالسة على حشية تسرّح شعرها الدجوجى، وترجله وتضفره، فأميل على رأسها، وأدنى أنفى من شعرها الوحف، وأشمه. وإنى ليخيل إلى أنى أجد طيبه الآن أنفى! وما أقول «يخيل إلى» إلا اتقاء لإنكار القارئ فإن شعورى بذلك أصدق ما يمكن أن يكون شعور إنسان بشىء.. وما زلت أراها، تجرى فى الحارة وراء دجاجة لها شاردة، وأنا أدعوها أن تتريث وتقف هناك، وتخطو مترفقة، على حين أقف أنا فى ناحية أخرى لنحصر الدجاجة بيننا، ونزحف ونضيق على الدجاجة المارقة، وهى تصيح وتضرب بجناحيها، وتحاول الإفلات، فتنحنى الفتاة عليها بغتة لتمسكها، فتأخذ عينى ثدييها الناهدين الراسخين وقد ثقلا بالثوب وأحس هزتهما تحته؛ فيدور رأسى وأذهل عن الدجاجة ولا أعود أدرى أفلتت أم وقعت، فتصيح بى وقد اعتدلت «مالك وقفت وسكت؟ ألا تساعدنى»؟ فأفيق وكأنى عدت من عالم آخر، ولا نزال بالدجاجة حتى نمسكها».
وصورتها وهى على السطح تنشر الثياب على الحبال الممدودة وتثبتها بالمشابك، وقد كشفت عن ساعديها وطوت الكمين فوق المرفق، فبدت البشرة السمراء مضطرمة من أثر الغسل، وجهد الدعك وفعل الصابون.
وصورتها وهى واقفة بفناء البيت تودّعنى، وباب السكة موارب، وقد ضممتها إلى صدرى وطوقتها بذراعى، وعكفت على فمها بالقبل الحرار، وكان وجهها إلى الباب، وظهرى إليه فمر رجل من أصدقاء أخى، نعرفه ثرثارة تماما، وتراه فتحاول أن تفلت من عناقى، وأحسبها ضجرت، أتوهمها فترت، فأكتئب، فتصيح «لالا.. هذا الرجل» وتقص على الخبر وتعيد لى بشاشتى وترد إلى روحى الإشراق.
وصورتها وهى راقدة ورأسها على وركى، ويدى على شعرها أمسحه وأتخلله بأصابعى، وألمس خدها الأسيل، وأداعب شفتها الرقيقة بأصبعى، فتغافلنى وتعضه.
كلا، لن تبهت هذه الصور أبدا، ولن تكبر الفتاة أو ترتفع بها السن، أو يزداد عمرها عندى يوما، وستظل على الأيام غضة صغيرة.
ولكنى نسيت اسمها، فكأنى ما عرفته قط ولا سمعت به.
ترى ماذا كان؟ وكيف كان فى السمع؟ وفى وسعى أن أسميها شيئًا وأن أطلق عليها أعذب ما أعرف من الأسماء، ولكنها عندى أحلى هكذا بلا اسم، ولا عنوان. وماذا يزيدها أن يكون لها اسم وماذا أصنع به وليس ينقصُ الصورةَ شىء؟
نسيت اسمها كما نسيت اسم ذلك الرجل المتفلسف فى قصة هيبسيا.