الفصل الرابع عشر
بعد أن كتبت الفصل السابق شق على أنى نسيت لماذا سقت قصة هذه الفتاة التى أحببتها وأنا صبى، ولا يزال لحبها — أو لذكراه — نوطة فى الفؤاد، وعلوق بالنفس، وقضيت أياما أحاول أن أتذكر، حتي وأنا أعمل أو أتكلم، أرى خوِاطرى تنثنى إلى هذا الذى تفلت منى وغاب عنى، وكان يخيل إلى أحيانًا أن السجف المسبل ينمحى قليلا، قليلا، أو ما يشبه السحاب المعقود يرق ويشف، وأن نجما يوشك ومضه الخفاق أن يطالعنى، فأبتسم، وأطمع، وأتشوف، ولكن ما كاد يرق يعود فيتكاثف ويتراكب، فأرتد بالخيبة والأسف، وأتعزى بقولى من يدرى؟ إن للذاكرة معابثاتها، وقد يتفق لى يومًا بعد أن أكف عن تعنية النفس بما نسيته، أن أكون فى مجلس شراب أو فى السينما، أو أكون ناهضًا من رقاد، فيحضر الغائب ويظهر المحجوب أو المتوارى، ويطفو الراسب، ومن يدرى أيضًا؟ لعلى حينئذ أتذكر اسم الفتاة!
ولكن أيمكن أن أكون على يقين أن هذا اسمها؟ هل يسعنى أن أطمئن إلى أن هذا الاسم هو الذى كنت أعرفها به، كلا، فما إلى هذه الثقة أو الاطمئنان من سبيل، وعجيب أن أنساه.
وأعجب منه أن ما يدور في نفسى من الأسماء لا أجد له فى جوانبى صدى ولا أحس منه هزة أو عسى أن تكون هى قد نسيت اسمى، بل نسيتنى جملة، فما كنا إلا طفلين نلعت بما لا نفهم، وما أحسبها غالت بحبها لى وضننت به على العفاء كما غاليت وضننت، وأكبر الظن أن شئون الحياة وشجونها وأفراحها وأتراحها أذهلتْها عن ذلك العهد على ما كان فيه من حلاوة، وله من سحر، وإنه ليخطر لى أحيانًا، وأنا أرى بنى أن هؤلاء كان يمكن أن يكونوا بنى منها، ولو رأيت أبنائها — أترى صار لها بنون؟ لما وسعنى أن أتصور أنهم بنوها دونى، أو على الأقل أن خاطرى الماثل فى نفسها لم يطبعهم بشىء منى، ولكن أنى لى أن أعرف — بل أكون واثقًا — أن خاطرى يتمثل، أو كان يتمثل، لها؟ ويشق على أن أتصور أنها تنسى. ولعل حبها لم يكن كفاء حبي، ولكن أحسبها تنسى كل شىء إلا أني فزعت إليها واختفيت عندها وفى بيتها، وفى حجرة مظلمة رطبة مهجورة منه، يومين كاملين.
وكان أخى الأكبر — رحمه الله فإن به حاجة إلى الرحمة — قد أراد أن يبرنى ويسرنى فدعانى إلى مرافقته فى يوم «شم النسيم» فذهب بى، ومعنا من أصدقائه ذلك الشركسى الثرثار الذى أشرت إليه فى الفصل السابق — والذى رآنى أعانق فتاتى فذهب يقص الخبر على كل من يلقاه ويقهقه فسمعت به أمى واغتمت له جدًا — إلى روض الفرج، وكانت هناك سفن راسية.
وقد صفت عليها الكراسى والطولات على هيئة المقاهى، فجعل أخى وصاحبه يشربان «بيرة ستوت» وجاءت امرأة سمينة، ولكنها جميلة فسلمت وجلست، وأديرت عليها الراح التي تدار عليهما، ونظرت المرأة السمينة إلى بعينها المكحولتين وسألت «ألا تشرب»؟ فتبسمت ولم أرد، فقال أخى وكان من أظرف الناس إذا شرب — «خد.. إن هذا لا يضر» فهززت رأسى أن لا، فمال على وهمس فى أذنى: «لا تخف اشرب وأنت آمن» فهززت رأسى مرة أخرى، فعاد يهمس فى أذنى: «اشرب بالله، وسأقول لخالتى» يعنى أمى — ولم تكن خالته ولا أمه: «إنى اسقيتك سوبية» وهى شراب يصنع من الأرز فقبلت وأقبلت على الكوب الكبير أكرع منه كما يكرعون، وكان هذا أول عهدى بالشراب، فدار رأسى قليلا، وأحسست بالدم يصعد إلى ما وراء عينى ويتجمع هناك وانطلق لسانى وراح هذا الشركسى الثرثار يغمز أخى فيسألنى هذا عن فتاتى، فأقول بحبى فيضحكون ويقهقهون، وتكون المرأة السمينة الجميلة أعلاهم ضحكا وأشدهم قرقعة صوت، وكانت صورة هذا المجلس ماثلة لخاطرى، لما نظمت بعد سنوات طويلات المدد — قصيدة مطلعها.
ولم أكن أعنى هذه السمينة الجميلة، ولكن صورة مجلس الشراب الأول ألحت على، فمضى القلم يرسمها فى التى يطربنى منها ما نثيره من الذكرى.
ولا أحتاج أن أقول أنى سكِرِت، وقد دخلت على أمى، وشمت من فمى رائحة الخل، فغضبت غضبًا شديدًا ودعت جدتى «لأبى» وقالت انظرى ما صنع خيرى بأخيه؟ فنادت جدتى أخى، فأقبل عليها يبتسم لها، فصاحت به: «يا قليل الحيا يا مزبلح.. خد» وخلعت القبقاب، وأهوت به على أخى وهو يضحك فيلاطفها ويعتذر ويسألها الصفح، ويحاول أن يطمئنها على، وكنت أنا قد تسللت إلى غرفتي، وارتميت على السرير، ولم أكد أفعل حتى ألقيت ما فى جوفى على البساط، فخجلت.
ولم أعد أطيق أن أنظر إلى وجه أمى أو جدتى، فصعدت إلى السطح وانحدرت منه — على السلم المعهود — إلى سطح الفتاة ونزلت إلى الفناء، وأهبت بها أن تؤوينى، وتخفينى عن العيون — حتى عيون أمها وأختها — فحارت كيف اصنع، ورأيت أنا باب الحجرة المهجورة فدفعته ودخلت وقلت هنا أختبئ، ولم يكن فى الحجرة شىء يصلح للجلوس أو الرقاد، فسرقت الفتاة كرسيا قعدت عليه حتى نتدبر الأمر، ثم جاءتنى بحصير ومخدة فارتميت ونمت ساعات، ولما أفقت كانت قد هيأت لى طعامًا — بيضًا مسلوقًا وقطعة من الجبن وبضع زيتونات وخبزًا — فأكلت هنيئا وشربت ماء كثيرًا.
فى هذه الحجرة قضيت ليلتين، وكنت فيها كأنى فى سجن، فما كنت أبرحها إلا دقائق حين آمن العيون، وكانت الفتاة تؤنسنى بوجودها، وتجيئنى بأخبار البحث عنى، وقد ضحكنا جدًّا لما روت لى أنهم أطلقوا مناديا يصيح فى الشوارع «ياللى شاف ولد تايه عمره اتناشر سنة لابس جلابية بيضة وراسه عريانة اسمه إبراهيم … الخ الخ».
وكان ضحكنا لأنى لست طفلا حتى يظنوا أنى تهت وضللت الطريق وكان قلبى يعصره الألم كلما تصورت جزع أمى وجدتى، وبكاءهما، وقد هممت مرارًا أن أبعث إليهما بخبر مطمئن، ولكن الوقت كان يمضى ولا أفعل، وكان التردد فى هذا والحيرة شر ما أعانى، ولكنى كنت راضيًا مغتبطًا بقرب الفتاة وحسن رعايتها لى، وصدق سريرتها فى كتمان سرى، حتى عن أمها وأختها. ولم أكن أبالى الرطوبة أو الظلام فقد كان الوقت صيفًا، والظلام جُنة، وألفت عيناى النظر فيه فكان حسبى أن أرى محيا الفتاة.
ولكن الحب — بالغًا ما بلغ من القوة والعمق — لا يمنع أن يضيق المرء صدرًا بهذا الحب، وأن تلح الرغبة فى الخروج من مثل هذا المحبس على ما كان فيه من الأنس، ولم تنكر الفتاة منى ما كان يبدو من تململى وضجرى واشتهائى الخروج إلى النور، بل تطوعت فكانت رسولى إلى أمى تطلب لى منها الصفح، فما كان من أمى إلا أن ائتزرت وخفت إلى، وضمتنى إلى أحلى صدر وأرق قلب كأنما كنت قد غرقت أو خطفت..!
كلا، قد تنسى الفتاة كل شىء إلا هذه الحادثة ولكن أين هى؟ فوق الثرى أم تحته ياترى؟ قد تكون ماتت! أو تكون الآن عجوزًا شمطاء! فهل أنا أحب اليوم أن أراها، وأن أعرف كيف صارت من بعدى؟ لا!
وإنى لأذكر أنى كنت يومًا أتمشى مع صديقى الأستاذ العقاد، فرأيت رجلا قصيرًا مرسل اللحية أبيضها، مقوس الظهر، مغضن الوجه، فقلت لصديقى «انظر.. هذا هو المازنى فى السبعين من العمر! تالله ما أقبح ما نحن صائرون إليه من الضعف والتهدم والدمامة! لا ياسيدى، خير من هذا المصير عمر قصير مع الصحة والقدرة.»
نعم؟ أكره أن أرى الفتاة فى حاضرها، وأن أفسد على نفسى صورة صباها النضير، وشبابها الريان، وهبها ماتت، فما ماتت عندى، وإنى ليموت منى كل شىء، ولكنها هى عندى ومعى حية لاتموت ولاتهرم مابقيت.