الفصل السابع عشر
سألت نفسى: «لو أمكن أن أبدأ حياتي من البداية، مرة أخرى، فهل ترانى أسير فيها كما سرت» ؟
وخطر لى، وأنا أدير هذا السؤال فى نفسى أن الأولى أن أسأل: هل يسرنى أو أنا أشتهى، أو أتمنى أن يرتد عقربا الساعة، وأن أكر راجعًا إلى تلك البداية؟
ولا أدّعى أني كرهت هذا، ونفرت منه، ولكنى أقول. لأنى ترددت وصحيح أنها كرّة — لو أتيحت — يكبر بها الأمل فى طول البقاء فى هذه الدنيا، والتلبث على الأرض، ولكن المعول فى الحياة ليس على الطول والعبرة ليست بالمدة، وعدد السنين، بل الامتلاء والسعة، ولولا شهادة الميلاد لما صدّقت أنى تجاوزت الخمسين، فإنى — كما قلت قديمًا أيام كنت مغرى بالنظم:
ويضحكنى الآن أنى قلت هذا، فما أعرف أخى المزعوم هذا ما عسى أن يكون؟ وقد كنت أعنى نوحا، ولكن نوحا لم يغرق أرضًا، ولم يفجر ماء، وكل ما كان منه أنه صنع فلكا حمل فيه من كل شىء زوجين حتى أقلعت السماء، وبلعت الأرض ماءها، فليته ما فعل؟ وهذا البيت مثال للتأليف السخيف الذى لا دقة فيه ولا إحكام. وبعد أن يقول المرء إن الدهر كله، عمره، لا يقبل منه هذا القياس المحدود، بأن يكون أخا نوح أو حتى أخا لآدم، فإن مسافة هذا الزمن مهما طالت لا تعدو أن تكون جزءًا من الدهر. وقد كنت فى هذا البيت شبيهًا بالعامة أو الأطفال حين يقيسون ما لا حد له إلى ماله حدود قريبة. وللعامة عذر من أنهم محدودون، وأن فجاج الفكر والخيال والشعور مسدودة عليهم، وليس كذلك الأديب الذى يزعم أنه واسع، وأنه عالم صغير «يسع السبعة الأقاليم طرًا» كما يقول ابن الرومى فى بيت يهجو به ابن بوران، أو أمه، ويقول بعد:
والذي يزعم نفسه قادرًا على أن يطوى العالم كله فى ضميره، وأن فؤاده يتسع للدنيا لا يجوز له أن يكون قاصرًا محدود الخيال، ضعيف التصور كالطفل والجاهل العامى النفس.
وكان بعض الإخوان قد أشار على أن أعيد طبع ديوانى بعد أن أضيف إليه ما لم ينشر، فقلت له إنى لا أرضي الآن عما قلت من الشعر في صدر حياتى — وأنه يحتاج إلى مراجعة طويلة متعبة، ليصبح فى رأيى صالحًا للنشر، ولا صبر لى على هذا، ولا وقت له عندى، ومن الخطل أن أنشر ما لا أستجيد، فقال إن رأيك فيه ليس من الضرورى أن يكون رأى الناس مثله، وأن ما لا يعجبك قد يعجب غيرك، وأن ما يروقك قد لا يروق سواك.
فقلت هذا صحيح، ولكنه شعرى، ونشرى له معناه رضاى عنه وارتياحى إليه، وغير مقبول أن أشتم الناس بأن أقول لهم خذوا هذا الشعر، فهو حسبكم وإن كان ليس حسبى، ثم إن رأيى أنا فى كلامى هو الذى يعنينى، وما قلته إلا للتعبير عما في نفسى..
فإذا كنت أرانى لم أجد العبارة ولم أوفق في التصوير، وأنى تشابه الأمر على، لجهلى، وخلطت بين العرض والجوهر، وركبنى الغلط حتى فيما توهمته حقيقة إحساسى وخوالجي، فكيف أستبيح أن أعرض هذا الخلط والغلط والعجز على الناس؟
وكما لا أحب أن أنشر ما قلت من الشعر بعد أن أدركت مافيه من قصور، كذلك لا أحب أن أبدأ حياتى — كرة أخرى — من البداية، وأكبر الظن أن ذكرى الشباب أحلى من حقيقته، وأعذب. وإنى لأغوص فى أعماق نفسى الآن، فأجد أنى فى شبابى لم أسعد به كما أسعد بذكراه، وأنى لم أجعل بالى فى عهده إلى الحلاوة التى أتذوقها الآن من عرض أيامه على خاطرى، ونشر المطوى من زمانه، وأحسب أن الذى يكسب ذكرى الشباب هذه الحلاوة ويرقق القلب له ويعطفه عليه، ويعصره أيضًا، هو أن الإنسان ينتقي منه وينتخب، ويغربل وينخل، ويبرز ما يحب، ويحجب ما يكره ويقول هذا هو الشباب! كلا، ليس هذا بالشباب، وما كانه قط، ولن يكونه، وإنما هو الحميد منه، مستخلصًا، ومصفى، ومعروضًا على نفس تحس دبيب الفناء، وتشعر بأنها مولية عن الدنيا، وكل ما يذهب ولا يرجع يلتفت إليه القلب، وما ينفرد الشباب بما يدعو إلى الصبوة إليه والرغبة في استعادته، فما يخلو عهد من عهود العمر من بواعث الرضى، وللكهولة لذاتها ومتعها، كما للشباب، بل لعل متع الحياة ولذات العيش فى الكهولة أقوى وأعمق، فإن للتجربة مزيتها وللمعرفة فضلها، والمرء يغالط نفسه حين يقول إن ما مر به كان أطيب مما هو فيه، فما كان كذلك، ولكن الذى فى الماء لا يستطيع أن ينعم بمرأى البحر ومناظر السابحين فيه، كما ينعم بذلك الواقف على الشاطئ، والماضى أوقع فى النفس لأن ذكراه تثير السرور بما كان فيه من حسن، والأسف على انقضائه، وتمنى عودته، ولكن الحاضر يشغل بمعاناته عن التفكير فيه والإحساس به من نواحيه جميعًا. كالسابح في الماء يشغل بجهد السباحة عما حوله من المناظر. وإذا وسع الإنسان أن يكون فى اللحظة الحاضرة وأن ينأى عنها ويلاحظها من بعيد، ويتأملها ويوقظ لها نفسه وحسه وعقله، كما يفعل حين يتدبر الماضى — إذا وسع المرء أن يفعل هذا، فإنه يستطيع أن يضيف إلى لذة الحاضر المتع المستفادة من رجع البصر أو التذكر.
والأمر يحتاج إلى رياضة، وقد استطعت أن أروض نفسى على هذا، فأنا حين أكون على حال ما، لا أعجز عن انتزاع نفسى منه، والوقوف بمعزل عنه بحيث يتسني لى أن أراقب ما يجرى — كأنه يقع لسواى — وأن أدير فيه خاطرى فأكون فى الحاضر وكأنه مضى وظفر بالمتعة المحسوسة والمتعة المتخيلة وأضرب مثلا فأقول هبنى أعانق فتاة وأقبلها، فأنا حين أفعل ذلك أشعر بمتعة القبلة ولذة الضمة، ولكنى أزيد على ذلك أنى أستطيع أن أسبق هذه اللحظة بسنة أو سنتين. وأتصور نفسى جالسًا أتذكر حلاوة القبلة التى فزت بها من تلك الفتاة ويكون تصورى هذا فى أثناء التقبيل. فهما قبلتان — واحدة أحسها بفمى ويرف لها قلبى وأخرى يجسدها لى خيالى كما ستكون بذكراها بعد انقضاء عام أو عامين وهكذا فى غير ذلك.
لهذا لا أرى مزية للعودة إلى الشباب.