الفصل الثامن عشر
سألنى «بعضهم»: هل تعتزل الناس، أو تروم أن تعتزلهم، لأنك مللت الحياة، وزهدت في العيش؟ أو أنت تفعل ذلك لأنك لا تأنس من نفسك القدرة على خوض الغمار، ومصارعة التيار، أي لفتور عراك وضعف أدركك؟
وليست هذه ألفاظ السائل، فقد نسيت الموضع الذى كنت أدخر فيه رسالته إلى أوان الرد عليها، والنسيان آفتى التي تكاد تذهب بلبى فإنى أنسى كل شىء إلا أنى أكلت، وما أذكر الشبع إلا بما أعانيه من كربة الثقال، وأحسب أنه — وأعنى النسيان، لا الشبع — هو الذى حمانى أن أحب وأعشق، وكيف بالله يكون حب من يمسى عاشقًا ويصبح ساليًا؟
أى والله، وإن الحسن لفتنة، وإن القلب ليصبوا.
ولكنى أنسى أني صبوت. وتطير من رأسى الأسماء والأحاديث، كما تطير العصافير عن أعشاشها.
وقد اتفق لى أن خرجت يومًا بالسيارة وحدى إلى آخر مصر الجديدة، فأوصدت أبواب السيارة وذهبت أتمشى في الحدائق الممتدة إلى حدود الصحراء، وكنت مطرقًا أنظر إلى الأرض وأنا أخطو، وكان بالى إلى الفرق بين وقع قدمي — قدم رجلى السليمة، وقدم رجلى المهيضة — وإلى مسافة الزمن التى يستغرقها الخطو بكل منها وأيهما أثقل وأبطأ فيما أحس وأرى.
وكان الداعى إلى هذا أنه خطر لى أنى مخطئ فى اجتناب الرقص، وأنه عسى أن تسعفنى ساقى المهيضة ولا تعبأُ بالحركة الخفيفة السريعة المطلوبة فلا يبقي موجب للصبر على هذا الحرمان ومسوغ لتوطين النفس عليه، وأنا أحب الرقص، ولكنى لا أحب أن أكون حجر طاحون، وأخشى أن تخذلنى ساقي، فأتلكأ وأبطئ، أو دوس قدم التى أراقصها وأدور بها، وأخجل أن أجرب قبل أن أتبين وأستوثق، وإنى لهكذا وإذا بي أصدم بفتاة داخلة من بعض أبواب الحديقة، فاتقيت الوقوع بإسناد كتفى إلى كتفيها، واتقته هى براحتيها على صدرى وأفقنا فشرعت أعتذر، فقاطعتنى وقالت «أهو أنت»؟
فابتسمت وقلت «ليس عندى أدنى شك فى أنى أنا، فهل يكفيك هذا الجواب؟ إنه على كل حال من نوع السؤال».
قالت «إنما أعنى أن هذه مصادفة عجيبة. أين كنت كل هذا الزمن»؟
فتأملتها، وأطلت التحديق فى وجهها الصابح، ولكن رأسى لم يختلج فيه شىء. فهززت رأسى وقلت «كل هذا الزمن؟ هل؟ هل أقص عليك تاريخ حياتى من البداية»؟
قالت «ألا تذكر»؟
قلت «هذه هى المسألة — كما يقول هملت، فهل سمعت به»؟
قالت «كيف تنسى؟ كيف يمكن أن تنسى»؟
قلت «اسمعى» وجررتها من ذراعها إلى مقعد «هذا موضوع يحتاح إلى تقص طويل، فقولى لى: هل أنا مدين لك؟ هل اقترضت منك مالا، أو استعرت شيئًا»؟
فضحكت وقالت «لا مال لى أقرض منه، وليس عندى ما يستحق أن يعار».
قلت: «هذا حسن. فإنى الساعة أدنى ما أكون إلى الإفلاس. سؤال آخر …».
فقاطعتنى وقالت: «لاتسأل.. سأذكرك بكل شىء».
قلت: «خيرًا إن شاء الله، هاتى ما عندك».
قالت: «أتذكر السويس»؟
قلت: «أعرف السويس، مصيف جميل وشتى أجمل فهل تلاقينا هناك على ساحل البحر، أو فى الكازينو، أو على الباخرة التى ركبتها إلى الحجاز أو …».
قالت — وهي تضحك — انتظر لا، لم نتقابل فى السويس، بل فى طريق السويس، عند الكيلو الخمسين، وكنا عائدين إلى مصر..».
فقاطعتها «كنا؟ من تعنين»؟
قالت «ألا تنتظر؟ أخى وصديقتان وصاحب لهما، وأنا، فانكسر غطاء المحرك فوقفنا ننتظر نجده، وكاد يدخل الليل، وكدنا نيأس، فقد كانت السيارات التى تمر بنا، لا تقف، وهى صغيرة لا تتسع لنا، ولا تقوى على جرنا وإذا أنت مقبل فاعترضت طريقك وأشرت إليك فوقفت، وسألتنا عما نريد، فأخبرناك، فاقترحت أن تحملنا جميعًا فى سيارتك، ولكننا اعترضنا، وقلنا إننا لا نستطيع أن نترك سيارتنا واقترحنا عليك أن نربط السيارتين فتجرنا، ففعلت وركبت أنا معك فقلت لى: «ستخرب سيارتى، وسينهكها هذا العبء، ولكن حسبى عوضًا أن ست عيون كفّت عن البكاء، وثلاث وجوه عاد إليها الإشراق»..
وقد عرفتنا وعرفناك، وكتبت أسماءنا كلها فى رقعة، ولقيتك أنا وأخى بعد ذلك مرتين، دعوتنا فى أولاهما إلى السينما، وفى المرة الثانية قضينا أكثر من ساعتين فى (الأمريكين)، وقد أخبرتك فى ذلك اليوم أنى مسافرة إلى الإسكندرية لقضاء شهر فيها، وأعطيتك عنوانى فوعدت أن تزورنى، وأن تكتب إلى، قبل الحضور، ولكنك لم تفعل لا هذا ولا ذاك».
قلت «الحمد لله».
فقطبت وقالت «إيه؟ ماذا تعنى»؟
قلت «اسمعى. إن رأسى هذا غربال واسع الخروق، كما يعرف كل من يعرفنى، وقد كنت أخشى، وأنت تقصين على الحكاية، أن أكون قد قلت أو فعلت شيئًا.. الحمد لله على كل حال، فقد اقتصر الأمر على هذا القدر».
قالت: «ولكن لماذا لا تنتظر؟ لقد وعدتنى أيضًا …».
فقاطعتها قائلا: «هل تريدين أن تضحكى على ذقنى؟ لأنك عرفت أنى سريع النسيان، تخترعين وعودًا و…».
قالت «ولماذا أخترع»؟
فتناولت ذراعها وسألتها «سأوجه إليك سؤالا قد يبدو لك محرجا أو ثقيلا، ولكن عذرى هو هذا النسيان، هل قلت لك إنك جميلة»؟
قالت «نعم» قلت: «إن عينى زرقاوان كالبحر، وعميقتان مثله».
قلت «هذا صحيح» ففرحت وصاحت: «هل تذكرت»؟ قلت: «كلا» إنما أعنى أن عينيك هكذا تمامًا وأن هذا الوصف هو الحقيقة على كل حال — وهل.. هل..»؟
قالت: «نعم».
قلت: «ماذا تعنين بنعم» (بعبوس).
قالت: «منتظرة سؤالك».
فتشهدت وسألتها «هل قبلتك؟؟ معذرة»!
قالت «أوه.. هذا … نعم ثلاث مرات … مرة فى الطريق وأنا معك فى السيارة ومرة …».
قلت «كفى.. كفى.. إنى آسف.. ولم يبق إلا أن أسأل هل كانت القبلة حلوة؟ أظن أنى سأجن …».
فقالت — وهى تضحك: «إنك مدهش. ولكن هل صحيح أنك تنسى إلى هذا الحد؟ أم تراك تتكلف لتعابثنى»؟
قلت: «لا والله ما أذكر أنى رأيتك فى حياتى».
وغريب أن أنسى الأصل وأذكر الهوامش!
فهذه حادثة تريك كيف يكون من المستحيل على أن أعشق، لأنى أنسى كل حب، بل كل عاطفة، لا يزيد عمرها على أربع وعشرين ساعة، على الأكثر، ثم تنطوى.
وأعود إلى السؤال الذى بدأت به هذا الفصل، فأقول: إنى لم أسأم الحياة ولم أزهد فيها، ولا فترت عنها، بل أنا أطْلَبُ لها، وأقوى رغبة فيها مما كنت فى أى عهد مضى، ولست آنس من نفسى عجزًا عن مسايرة الدنيا، أو الناس، فإن الأمر على النقيض، وأحسب أن الرغبة فى الحياة تقوى مع ارتفاع السن وقلما يلتفت الشاب إلى الحياة وطولها أو قصرها، أو يفكر فى أنها إلى زوال، لأن ما يحسه من فيض الحيوية لا يجعل له بالا إلى شىء من ذلك، ولأنه يكون مشغولا بإنفاق هذه الحيوية الزاخرة عن كل أمر أو حال آخر، فهمه أن يريح نفسه من ثقل الضغط، وأن يفتح «البوابات» كلها لينحدر منها ويخرج ما يجاوز طاقته، ويزيد على قدرته على احتمال ضغطه ثم ينقضى الشباب فيسلس التدفق وتخف وطأته ويزداد شح المعين على الأيام، فيتسنى للمرء أن يفكر بعقله وينظر بقلبه وأن يدير عينه فى الماضى، والحاضر، وأن يمد بصره فى المستقبل ويرى أنه يدلف إلى النهاية، فيفرَق ويشفق وقد يجزع.
وتحدثه نفسه أن النهاية قد تكون أدنى إليه مما يرجو فيشتهى أن يفوز فيما بقى له من العمر. بأضعاف أضعاف ما فاز به فيما مضى وانقضى ويطلب أن ينعم أعظم نِعم فى أوجز وقت لأنه من يدرى؟ قد لا يطول العمر. وقد يتخونه الموت. وهبه طال فقد لا تبقى الصحة. وما خير حياة بلا صحة ولا قدرة على العمل والاستمتاع؟
فهو لهذا يقبل على الحياة، لم يكن يفعل فى شبابه، لأنه كان مغترًا بالعباب الزاخر فى شبابه، ومفتونا به، ومصروفا، عن التأمل والتدبر، أما فى الكهولة فلماذا يغتر؟ وماذا يتوقع، وهو يحس النضوب يوما بعد يوم؟ ومن أجل هذا يخطئ من يتوهم أن الشباب هو وحده سن الإقبال على الحياة. فما ينقطع أو يفتر الإقبال، ولكن المرء فى صغره يركب الحياة بالجهل، أما فى الكهولة فإنه يركبها بالإرادة. وهو فى شبابه يكون محمولا على متن تيار لا يستطيع أن يقاومه أو يصده، وفى كهولته يكون كراكب السفينة المطاوعة، يمخر بها إلى حيث يبغى، وقد صارت فى عونه تجربته، وسكون التيار. كذلك يخطئ من يحسب الكهولة أضأل استمتاعا بالحياة، فإنها أدرى بالمتعة، وأحس بها، وأفطن لها، وأعرف بوجوهها، وأخبر بالوسيلة إليها.
كلا، لست أنشد الاعتزال لشىء من هذا الذى سأل عنه بعضهم، بل لأسباب أخرى أعمق، أحاول أن أجلوها، وأرانى كلما عالجت ذلك أذهل عنها، أو أستطرد، أو أغرق خطر أنها فى بحر من الذكريات والتأملات.