الفصل العشرون
كانت حياة الشباب، حياة كبت، وحرمان وحيرة ولم أكن أعرف لى يومئذ مُعادًا غير الإكباب على القراءة والإكباب على قرض الشعر وكنت أقول — ولا يخفى علىّ عبث ما أحاول:
وكنت أقول لمن يذكرون شعرى:
وأحب أن أتعزى بالوهم فأردف ذلك بقولى:
ولم يكن زعمى أنى أحد الذين ينصفون نفوس الناس من الأيام وظلمها، بعزاء صادق أو دائم، فكانت وطأة الحرمان والكبت تثقل على كاهل صبرى فأصيح:
فيوم كان فيض الحياة زاخرا، كنت أقول يا ليتنى ما كنت، ولم يكن هذا طبيعيا، ولكنه كان ثمرة الكبت، وجنى الحرمان، وقطاف الحيرة، والآن، وأنا أدلف إلى الخمسين، لشد ما أتمنى أن يثقل الزمان رجله، ليطول التلبث، وتقضى النفس وطرها من التزود قبل أن يستأنف الركب مسيره إلى «فجر لا شىء» كما يقول الخيام فى إحدى رباعياته. وقد صار ما كان يشق على أن أراه، باعثا على التسلية ومجلبة للسرور، ولم يصدق ظنى حين توهمت فى أيام الشباب الكاذب، أنى سأقضى حياتى ثائر النفس، هائجا، أنه ليس لى عن ذاك معدى أو مهرب فقد قلت:
كما قلت على لسان غيرى.
بل لم أسكن، ولكنى نظرت إلى الحياة من ناحية أخرى، فقد تغيرت الدنيا، واختلفت أحوال الحياة، فراجعت نفسى، ورضتها على غير ما ألفت وانعطفت بها إلى سبل أخرى. فقد عرفت أن شعورى القديم بالمقت للحياة كان غير صادق، وأنه لم يكن سوي مظهر لحالة عارضة أعانيها، وأن حب الحياة والتعلق بها أعمق من ذلك، لكن حب الحياة كان يصطدم أحيانا بالجزع من الموت، فكان يرجّني هذا ويخرجنى عن طورى، ويعصف باتّزانى فأرانى أثور وأحاول فى مثل هذه الحالة الوقتية أن أنغّص على الناس كأنّ لهم ذنبا، أو كأنهم ليسوا مثلى سواء بسواء، فأروح أقلد «هينى» الشاعر الألمانى، وأكتب وصية ليس أكشف منها عن جنون الثورة، أقول مثلا:
ولم يكن لى فى ذلك الحين بنون ومن أجل هذا فاتنى أن أوصي لهذه الطبقة بشىء من تلك الثروة البغيضة!
وكان عقلى يثوب، فأطوى هذا الهراء، ولا أنشره فيما كنت أنشر من شعرى.. على أنى كنت هادئا ساكنا، لما عثرت — وأنا أحاول عبثًا أن أتعلم الألمانية وحدى — على بيتين فيهما غير قليل من خبث المكايدة ففرحت بهما وترجمتهما فيما يلى — والمفروض أنهما يكتبان على قبر صاحبهما:
وترجمتى هذين البيتين، وأنا هادئ، دليل على أن الثورة كامنة في النفس وإن كانت لا تبدو في العادة.
ثم صرت لا يعزينى علمى أن غيرى لا محالة ذاهب، إلى حيث أذهب وإن المآل واحد، ولا يقنعنى إلا أن أصور لنفسي فَناء العالم كله، بل العوالم أجمع، حتى هذا لم يكن فيه مقنع، فكنت أشتهى أن أكون آخر من في الدنيا لأشهد مصرعها بعينى، وأطمئن. وربما غالطت نفسى فزعمت لها أن هذه شهوة فنية، ولكنى لا أصدق! كلا، لا أصدق.
وكان مظهر هذا قصيدة تصورت فيها ثلاثة نساجين (ولا أدرى لماذا لم أجعلهم أربعة أو عشرين!) يصنعون كفنًا للعالم.
وقد خلفت ورائى هذه المرحلة أيضا، فلست ألتمس عزاء، أو أنشد ما أغالط به نفسى فى الحقائق. وسيان عندى اليوم أن يذهب الناس أو لا يذهبون، فما أحفل شيئًا من هذا، وإنه لآثر عندى أن يبقوا — لو كان إلى هذا سبيل — على أنى لا أعنىّ نفسى بأمرهم، وحسبى أمر نفسى، وهمى في هذه الآونة أن أروضها رياضة جديدة على سكون لا يفسده اضطراب، لا على الركود فإن هذا شر من الموت؟ بل طعمه يذاق في الحياة، والسكون قوة لأنه ابن الإدراك الصحيح والإرادة.