الفصل الثالث
كان لأخى الأكبر زوجتان من قريباته تقيمان معنا فى بيت واحد لهما منه الدور الأوسط، ولنا: جدتى وجدى وأبى وأمى — الدور الأعلى — وللمكتب الغرف — أو المناظر — التى كانت فى ساحة البيت، أو فنائه. وكان أخى — كأبى — مزواجًا. فأما أبى لا أعرف لماذا كان هكذا، فما أعرف فى أسرتنا كلها من كانت له زوجتان فى وقت واحد، أو من طلق زوجته أما أخى فقد يبدو من المستغرب أن يتخذ امرأتين فى حياة أبيه، وهو لا يكسب قرشًا بعرق جبينه، ولا مورد له إلا ما يجود به عليه الوالد، ولهذا يحسن أن أقول، إن أباه زوّجه وهو صغير — كما كانت العادة فى ذلك الزمان — ليفرح به، وكانت ليلة الجلوة ليلة سوداء أعنى أن السرادق أقيم، وأضيئت الأنوار ونشرت الرايات، ومدت الموائد، وراحت الموسيقى تعزف، وشرع المغنى يصعد إلى «التخت» وإذا بنبأ يجىء من سمخراط أن المرحوم إبراهيم أفندى الوكيل توفى فجأة، فأطفئت الأنوار، وانفض السامر وشرع الذين كانوا فى جذل وسرور وحبور، يتهيأون للسفر إلى المأتم.
ومضت سنوات فلم يعقب أخى نسلا فقلق أبى، وقال قائل: إن الزوجة عاقر، وقال آخرون قد يكون العقم علته من «الولد» فما العمل؟ العمل أن يزوجوه من أخرى على سبيل التجربة وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان وقد كان، ولكن «الولد» — أعنى أن أخى — ظل لا يعقب شيئًا، ولم يفد من هذه التجربة، إلا أنه صار ذا زوجتين.
وعلى ذكر العقم، أقول إن أخى هذا وشقيقته — عليهما رحمة الله — من أخرى ماتت قبل أن يتزوج أبى أمى، وقد شاءت الأقدار أن يكون نسلها عقيما، وأن يحرم أبناها — أخى وأختى — بعض زينة الحياة الدنيا وأن يقاسيا من جراء ذلك ما يقاسيه كل راغب فى الذرية، وكان بلاء أعظم، فقد اضطرت أن تصبر على الحرمان، وأن تحتمل ما يبديه بعلها من اللهفة على البنين وأن تنصح له بالزواج، فلما فعل ورزق طفلا طلق أمه — أو ماتت لا أدرى، فتولت هى تربيته وتبنته وتعهدته وأولته ما انطوت عليه نفسها من عطف الأمومة المخنوقة وحفظ لها هو ذلك، فكان أبر الناس فى حياته وأحناهم عليها وأعمقهم حزنا لما وافاها الأجل.
وأعود إلى أخى بعد هذا الاستطراد فأقول إنه كان على هذا لا يجرؤ أن يسهر، أو أن يدخن أمام أبى، فقد كان السهر والتدخين محرمين على غير جدى وأبى، فأما جدى فكان يتخذ ما يسمى «الشُّبُك» — بضم الشين والباء — وهو قصبة طويلة جدًّا نحو ذراع ونصف ذراع يتصل باَخرها شىء يحشى بالدخان وتوضع عليه الجمرة. وأما أبى فكان يتخذ السجاير ولكن ما كان مباحا لهما، كان محرمًا على سواهما — لا أدرى لماذا؟ وإن كان أخى ذا زوجتين.
وقد رأيت أخى مرة يدس السيجارة فى جيبه وقد خرج عليه أبى فجأة فتحرق الجيب، فيطبق عليه أصابعه ليخمد ما اضطرم.
وما أكثر ما كان أبى يضربه، لأنه يسهر، ويدخن! ولكن العلقة الكبرى كانت لما هو أدهى من السهر والتدخين، حدثنى أخى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا مثله لى شاربان أفتلهما ولحية أحلقها، قال: (لم يكن باقيا على العيد إلا بضعة أيام، فخطر لى أن أقص شعرى قبل أن أذهب إلى الحمام) — وكان أخى مغرما بحمام السوق أو الحمام التركى، يؤثره على ما عداه — وكنت قد مللت حلاقنا، وكان شيخًا وقورًا له لحية كثة هائجة لا يعنى بتشذيبها وتقليمها، وسئمت فوطته الحمراء المخططة، والطشت الذى يضعه لى عند رقبتى ويترك لى حمله، فيسيل الماء الذى يصبه على رأسى بلا حساب، على ثيابى وينفذ إلى بدنى، فقلت ألتمس حلاقًا آخر، وذهبت أجوب الشوارع وعينى على دكاكين الحلاقين، حتى خرجت من الأحياء الوطنية ودخلت فى الشوارع التى يكثر فيها الأجانب، واهتديت إلى حلاق أجنبى، فتوكلت على الله ودخلت فأقبل على يرحب بى، وأجلسنى على كرسى وثير لا عهد لى بمثله ونشر على صدرى فوطة بيضاء مكوية، لها كُمَّان يدخل فيها ذراعاى، وقص شعرى، ثم نفض الفوطة وجاء بغيرها وحلق لى ذقنى بماء الكولونيا، ثم راح يقترح على أن يصنع كيت وكيت مما لم أكن أعرف مثل «الماساج» و«الشامبو» إلى آخر ذلك، وأنا جذل أهز له رأسى أن نعم، كلما عرض على شيئًا من ذلك، ثم قال: «مانيكور» فهززت رأسى موافقًا وإن كنت لا أعرف ماذا يعنى، فدعانى إلى ماوراء ستار ونادى فتاة شقراء حلوة لا أدرى من أى الفراديس جاءت، وقال لها كلامًا فابتسمت لى وتناولت كفى الكبيرة الخشنة التى يغطى ظهرها الشعر، وعكفت على أظافرى تنظفها وتقصها، ثم تناولت شيئأ جعلت تدهنها لى به وأنا أكاد أموت من الخجل، وصدقنى حين أقول لك إن هذه أول فتاة غريبة لمست كفها كفى، فإذا أضفت إلى هذا أنها كانت ساحرة الجمال، ذهبية الشعر، وضاءة المحيا، مشرقة الجبين، نظيفة الأسنان، وأن ابتسامتها فاتنة، وفى صوتها عذوبة تذيب المرء، وأنها هيفاء ممشوقة، وخفيفة لطيفة، وأن فى نظرتها لينًا يغرى بتطويقها وضمها، وأنى ماعرفت من النساء إلا البدينات اللواتى يخنق روحهن ما عليهن من أكداس اللحم — إذا أضفت هذا كله — فإن فى وسعك أن تدرك عذرى حين أقول لك إنى عشقتها ولم أستطع أن أقول لها شيئًا.
إنه يسرها أن تنظر إلى هذا الكف الكبيرة الخشنة، وإن أكثر ما ترى من الأكف لينِّ بض غض كأكف النساء، فلم أدر ماذا أقول لها فى جواب ذلك، ولكنى أنفت أن تصبغ لى أصابعى، وأبيت أن أناولها يدى الأخرى وقلت حسبى واحدة، وسألتها: متى يزول ذلك؟ فقالت: «أوه! إنه لا يدوم.. لا تخف» فاشتهيت أن أقول لها أنى أحب أن أراها مرة أخرى، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فلم أنطق بحرف، واكتفيت بأن أمد لها يدى مصافحًا، فوضعت فيها راحتها الصغيرة فهززتها كأنما كنت أصافح رجلا فأدهشنى أنها قالت: «أرجو أن أراك» فكان جوابى السخيف: «ولكنى لا أستطيع أن أقص شعرى كل يوم» فابتسمت وخيل لها أنها تكاد تميل على وقالت: «إنى أخرج من هنا كل يوم الساعة السابعة مساء»، قلت: «آه! إذا كان هذا فسأنتظرك على الرصيف الآخر.. كل يوم».
قال أخى وهو يقص على هذا الخبر: «وقد كان. تعلقت بها، وصرت أراها كل يوم فنذهب نتمشى، وعرفتنى أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، ولو استطعت أن أتزوجها لفعلت، وقد أطلعتها على كل شىء ولم أُخف عنها شيئًا، ففهمت وعذرت، وبقينا صديقين حوالى عامين حتى خطبها واحد من أبناء جنسها، وأحسست منها زهدًا فيه، فأقنعتها بالرضا به إشفاقا عليها، ورغبة فى الاطمئنان على مستقبلها.
ولكن هذا موضوع آخر، فلنرجع إلى المانيكور، وكانت يمناى لسوء الحظ هى التى صبغت أظافرها، فلما عدت إلى البيت وقابلت أبى تناولت يده لأقبلها، فسألنى: ما هذه الحناء التى فى اصابعك؟ فأخبرته بما حدث، وفى ظنى أنى لم أصنع سوءًا، وما كنت أعرف ما هو المانيكور، وقد قلت له: إنى لما عرفت ما هو أبيْت أن أصبغ أظافر يدى الأخرى، ولكن وجهه اربد وهو يقول: «وما فرق ما بينك وبين النساء الآن»؟ ونهض فدعا إليه الخادم «العم محمد» كما نسميه وأسرّ إليه شيئًا فخرج، وما لبث أن عاد ووراءه ثلاثة من الزبالين الأقوياء، فأشار إلى فربطونى بالحبال، وألقونى على الأرض، وأنا من فرط الذهول لا أقاوم. وجاء أبى بخيزرانة طويلة وأهوى بها على، لا يتقى شيئًا ولا يبالى أين وقعت وماذا أصابت من بدنى ولم ينقذنى إلا خالتى (يعنى أمى، فقد كان يدعوها خالتى) فقد أسرعت وانحدرت إلىَّ ولم تبال هؤلاء الزبالين، ولم تعبأ بظهورها أمامهم سافرة وفى ثياب البيت، وارتمت على، وجعلت نفسها بينى وبين الخيزرانة فاضطر أبى أن يكف ولكنه أمر فسُجنت فى إحدى «المناظر» ثم خرج.
وأتم أنا الحكاية فأقول إنى توجعت لأخى وحزنت لما أصابه من الضرب الأثيم، وما هو فيه من السجن ولم يكن أحد يستطيع أن يصنع شيئًا، وإلا حل به غضب أبى، ولكنى كنت طفلا لا أدرك هذا إدراكه، فصممت على إخراج أخى من محبسه وفك وثاقه. وكان لابد من الحيلة، ولكن الأطفال شياطين فدبرت الأمر مع أخى الأصغر، وجليلة بنت خادمنا، وكان مفتاح «المنظرة» مع الخادم فلم نزل به نلاعبه ونتحين منه غفلة حتى سرقت المفتاح، وأوعزت إلى أخى وجليلة أن يبعدا به عن فناء البيت ففعلا، ففتحت الباب وأعيانى حل الحبال فجئت بسكين وقطعتها، وأطلقت سراح أخى وقد ظل يحفظ لى هذا الجميل طول عمره.
وهنا ينبغى أن أذكر أنى عدت إلى الخادم فدسست له المفتاح فى جيبه وهو لا يدرك ولا يزال هذا الخادم حيا ولا يزال يتعجب لأخى كيف وسعه أن يقطع الحبال الغليظة التى كان موثقا بها، وأن يفتح الباب ويخرجٍ، وكلما ذكر هذه الحادثة، هز رأسه وقال: الله يرحمه! لقد كان عفريتا».
وكان هذا أول سر حرصت فى طفولتى على كتمانه.