الفصل الرابع
قلت لنفسى بعد أن كتبت الفصول السابقة، وسردت فيها بعض ما أذكر من عهد الطفولة: «اسمع يا هذا، لقد رأيت أباك يضرب أخاك، ويُلهب له جلده بالخيزرانة الطويلة، ولم يضربك — كما كان يضربه — لأنك كنت أصغر من أن تحتمل ذلك، أو لأنك كنت أشبه بالقطة الأليفة أو كلب البيت الذى يقبل منه أصحابه العبث ولا يرضون عنه أو يسرون به إلا إذا لعب وتشيطن وأظهر لهم نشاطه وذكاءه أو لعل اتقاءه ان يضربك ويشويك بالعصا، راجع إلى أن أمك حية ترزق، وفى البيت معك وأن أم أخيك لحقت بمن غبر فلك دونه من يحامى عنك وأخوك كان قد بلغ مبلغ الرجال فكان أبوكما لايسعه الا أن يثقل عليه الشعور الخفى بأن هذا الشاب يزحزحه شيئًا فشيئًا عن مكانه: وينزله يوما بعد يوم عن سلطانه، وأنه هو الذى سيحل محله عاجلا أو آجلا، كما حل هو محل أبيه — أى جدنا — وإن كان على قيد الحياة، وعسى أن تكون بواعث الضرب لا هذا ولا ذاك بل تصادم الشعورين، شعور الابن بأنه هو الشاب، وأن أباه قد شيّخ، كائنة ما كانت سنة فى الحقيقة وشعور الأب بأن ابنه هو ابنه فهو طفل بالغا ما بلغ طوله وعرضه، أو لا أدرى ما العلة والباعث الصحيح، وإنه ليخطر لى مائة تعليل وتعليل ولا أرى واحدًا منها وحده يقنعنى.
وخطر لى وأنا أحدث نفسى بهذا أن هذا التفاوت بين الأب والابن من المصائب. فنحن الاَباء، قد كبرنا فى نطر الأبناء، ولا يمكن أن يعد الابن أباه إلا شيخا هرما، تقضى شبابه من زمان طويل، ولا يمكن أن عليه أن يتعرى هو منه، فلا يجوز له ما يجوز للشاب ويعقل منه، ولا يليق به إلا حال الشيوخ الفانين ولو كانت الحقيقة أنه ما انفك قويا كفئا للحياة.
وذكرت — وأنا أدير هذا المعنى فى نفسى — أنى لم أسمع ولم أر قط: فى طفولتى، شيئًا — كلمة أو ايماءة أو نظرة — تشى بالحب بين أمى وأبى. وكان يخيل إلى أن العلاقة بينهما قوامها الاحترام المتبادل أكثر مما كان قوامها الحب. وهذا خطأ. ولكنه هو الذى كان يبدو لى فى تلك السن الغضة. ولقد مات أبى وأنا صغير وِخلف لى أمى فحزنت عليه اثنتين وثلاثين سنة، لم تخلع فيها السواد يومًا واحدًا، وقد يكون هذا من الإكبار لا الحب، ومن أجل ماطابت به نفسا فى حياته، ولكنى أظنهما كانا متحابين أيضًا فقد كنت أسألها فتبتسم وتطرق استحياء ويضطرم وجهها حتى فى كهولتها الذاوية، وألح عليها بالسؤال فتنهرنى، وتزجرنى عما تظنه عبثا منى، وكنت أغالطها أحيانًا وأفاجئها بالسؤال على هذا النحو «ماذا كنت تحبين فى هذا الرجل المزواج المتعب الذى جعل حياتك معه جحيما فائرًا بالغيرة»؟ فكانت تؤخذ على غرة وتقول — قبل أن تفكر: «إنك لاتساوى الظفر الذى كان المقص يطيره من أصبعه». وترانى أبتسم فتدرك أنها اعترفت فتغضب أو تتكلف الغضب، وأحيانا تطردنى من مجلسها، وهى تجاهد أن تعبس ويأبى وجهها إلا أن يضحك وتقول لى: «قم، طيب قم، كفى قلّة حيا». فأنهض طائعا وأميل على رأسها فأقبله فترضى عنى وتدعو لى فأقول لها ويدى على الباب.
«اسمعى.. لم أعرف أبى كما ينبغى أن أعرفه، فقد مات قبل أن أكبر، ولكن القليل الذى عرفته مضافا إلى الكثير الذى سمعته منك، يقنعنى بأنه «هو» لم يكن يساوى الظفر الذى يطيره المقص من أصبعك وعزيز على أن أقول هذا عن أبى؛ فقد كان على العموم رجلا فاضلا ذا كرامة، وإذا كنت أبخسه حقه فذاك لأنك عندى بمنزلة لا تدانيها منزلة، أنت خير الناس وسيدة الدنيا؛ وكل من عداك هباء. واسمعى أيضا: أنا أحاول أن أحيا حياة فاضلة لأنك معى فى الدنيا. مجرد شعورى بوجودك يرفع نفسى، ويعصمنى من كثير، وما هممت بشىء إلا رأيتنى أسأل نفسى: هل ترضى عنه أمى لو علمت أو لا ترضى؟ فأقدم أو أحجم تبعا لجواب السؤال. ولو خلت منك دنياى لما بقى شىء يصدنى عن الشر والرذيلة، ولست أطيق البعد عنك لحظة ولكنى مقتنع أنه لو كان أبى حيا لما أمكن أن أحتمله، ولا أطقت أن أعيش معه تحت سقف واحد، ولعل ذاك لأنك — وأنت سيدتى — تدعيننى أشعر آنى أنا السيد ولكنى أظن السبب أنى أحبك وأجلّك، وأنى مدين لك بكل ما جعلنى كما أنا، أطال الله عمرك.
ولكن — سبحانه وتعالى — لم يشأ أن يفعل كلا، لم يكن للحب ذكر، فى بيتنا ونحن أطفال. ولكنه كان معى — هذا — موجودًا، بين أبوى على الأرجح، وإن كنت أنا لا أرى دلائله ومظاهره، وبين جدى وجدتى على التحقيق. وكان جدى قد قارب المائة، وجدتى قد ناهزت السبعين، ولكنهما كانا كالطفلين ولم يكن أحلى من تناجى هذين القديمين اللذين ردهما الهرم إلى مثل حال الطفولة وسذاجتها وطيبتها، وكانا لايعبآن شيئًا بوجودى، وهما كما يقول الشريف الرضى:
وكان الذى يتناجيان به سهل الفهم فقد كان قصصًا وحكايات قديمة، مما وقع لهما وجرباه، ولكن الحنو، وعذوبة الصوت، والذوبان، وحلاوة اللمعة فى العين التى انطفأ نورها أو كاد، واضطراب الشفتين إذ يقول الشيخ برقة: «هل تذكرين ياحاجة..» فتهز رأسها المصبوغ بالحناء ويفتر ثغرها الأدرد ويومض السرور فى عينيها ويشرق به وجهها الأحمر — فقد كانت بيضاء حلوة — وتقول «إيه» ممطوطه طويلة، ولكنها «آية» الرضى والحمد لله والاغتباط بجمال الذكرى. لا الأسف والأسى، فقد كان حب هذين المتهدمين من الدنيا، إنهما معًا فيها، وأن غرفة واحدة تجمعهما، وأن لهما بنين وحفدة، كلهم أحياء وبخير ولله المنة، وكنت أرى منهما ذلك فأدرك أنهما مسروران وإن كنت لا أدرك كنه السرور، وأحس بفرحة غريبة بهذين الوجهين اللذين غضنهما السن وحفرت فيهما أخاديد عميقة، فأرتمى على جدتى وأطوقها وأقبلها، فتضمنى وهى تقول ضاحكة: «إوع تفعصنى يا ولد» ثم تهوى على رأسى أو خدى بفمها الفارغ وتقبلنى فيكون لقبلتها صوت كقولك «مق».
وأنا الآن رجل، ولى زوجة وبنون، لا بنات، فقد أبت مشيئة الله أن يكون لى بنات على إيثارى لهن، وأنا ابن هذا الزمن، لا ذاك الذى عاش فيه أبى وجدى من قبله ومع ذلك أرانى أستحى أن أقول لزوجتى إنى أحبها، وأشعر أنه لا يليق بى أن أقول ذلك، ولى كل هؤلاء البنين، وأحس أن زمن الكلام فى ذلك قد فات وهو لم يفت فى الحقيقة، لكنا جربنا وعانينا وفكرنا، فعرفنا — عرفنا ماذا يحق للمرء أن ينتظر، سحره، وزالت فتنته، وفقد الحب تلك القدرة على خداع النفس ومغالطتها وإيهامها.
ويا ربما قلت لنفسى، حين أخلو بها وتتدفق خواطرى فى هذا المجرى: «لماذا أخجل أن أقول لزوجتى إنى أحبها، أمام هؤلاء الأبناء»؟ وأقول فى جواب السؤال إن هؤلاء الأبناء يروننا كبارا، ولا يتوقعون منا ما هو متوقع من الشبان، ولعلهم يظنون بنا أننا كنا فى صدر حياتنا كل شىء إلا شبابا، ويهيجنى ذلك ويثير نفسى فأقول ساخطًا معاندًا: «ولكنى لا أنوى أن أجعل حياتى وفق ما يظنون، قاتلنى الله إن فعلت. وأدخل على زوجتى ويكون معها هؤلاء البنون وغيرهم من الضيفان — من الأهل أو الغرباء — فأتعمد أن أنثنى بالحديث إلى ذكر الحب، وأهم بأن أجرى مع العناد، فأحس كبح الخجل، فأضطرب وأخرج من المأزق بمزحه، فيظن السامعون أنى أهزل؛ وتعرف هى أنى أجدّ.»
فلا فرق بينى وبين أبى، وإن كان بين زمنينا كل فرق وما زلنا، تحس اللجام على أشداقنا، والأعنة الخفية التى تصدنا وتلوى رءوسنا، وتوجهنا وجهة غير التى تدفعنا إليها طباعنا وغرائزنا، وبعد عشر سنين من الزواج والألفة والحال الوثيق يحمر وجه الزوجة إذا همست فى أذنها بكلمة حب أو لفظ يشى به وإن كان لا يصارح، وما أعرفنى استطعت قط أن أقول لواحدة إنى أحبها بالغا ما بلغ جنونى بها، فإذا شق على الكبح ونازعتنى نفسى أن أقول، قلت ولكن مازحا، أو متظاهرا بالمزاح متصنعًا له لأشككها، ولأنى أستحى أن أنطق باللفظ، أو على الأصح لأنى أشعر أنى إذا قلت الكلمة فقد صرت عبدها — أعنى عبدًا للمرأة لا للكلمة — وأنها حقيقة إذن أن تتخذ منى حصانًا تركضه بين الوعور، وأنا لا أطيق أن أحس بقيد ما، ولو كان من حرير، وما أحسست قط بقيد إلا نفرت وشردت وتمردت. وأنا فى كل يوم أقيد نفسى وألزمها أشياء شتى، ولا أزال قابضًا على اللجام أشدّه وأصرّفه إلى هنا وههنا، ولكن هذا لا يتسنى إلا إذا كان زمامى فى يدى، والأمر كله إلى إرادتى، فإذا شعرت أن يدًا أخرى تريد أن تقبض على الزمام طار عقلى، وفقدت اتزانى وركبت رأسى، وأكون واثقًا أن هذا خطأ، وأنه عناد صبيانى، وأنى لو وُكلت إلى نفسي ورأيى لما فعلت إلا مايراد منى أن أفعل ولكن طبيعتى تغلبنى فأشقى، بين دعوة العقل العاجز ودعوة الطبع الجامح.
والناس لا يضربون بنيهم فى هذه الأيام كما كان أبى يضرب أخى. وهم فى هذا على حق، فإن الضرب ليس تأديبًا وإنما هو ترفيه عن الوالد، ووسيلة لإراحته من ثقل الشعور الذى يجيش بصدره، فهو شىء ينفع الأب ولا ينفع الابن.
ودأب الناس فى زماننا أن يترفقوا بالأبناء ويجنبوهم التنغيص، وهذا جميل ولكنى أحس أنهم يبالغون فى الرفق ويسرفون فى اللين، ويجعلون حياة الطفل أرغد مما ينبغى وأخلى من المشاكل والعقد، ومن كل ما يستدعى إجهاد الفكر أو مايستثير الشعور ويوقظ النفس، فليتهم يضربون أحيانًا — برفق أيضًا — ولا بأس من أن يخرجوهم إلى العناد ويدفعوهم إلى التمرد، ليعرفوهم بأنفسهم ويكتشفوا لهم عن بعض خفاياها.
جرى هذا ببالى وأنا أكلم شابًا فى الثانية والعشرين من عمره، ولم أكن أعرف ماذا تعلّم أو يتعلّم وكان كلامنا فى شىء من الهندسة فوافقنى على رأى كان يعرف — كما تبينت فيما بعد — أنه خطأ محض فقد كان طالبا فى مدرسة الهندسة وكان فنه ما خضنا فيه، ومع ذلك لم يخالفنى، ولم يصحح لى غلطى فإذا كان هذا لا يُضرب حتىِ يدمى جلده ويتسلخ ليتعلم احترام النفس وليفهم أن المخالفة ليست عيبًا وأنها ليست من سوء الأدب بل من الواجب ما دام يعتقد أنه على حق — فمن غيره الجدير بالضرب؟ وكيف تكافح هذه النعومة وذاك التطرى لتجعل من ابنك رجلا يعرف قدر نفسه ويكرم عقله؟ أما أنا فسبيلى كسبيل أبى، ولست أستعين «بالزبالين» ولا أنا أقسو قسوته، ولكنى لا أحجم عن قرص آذانهم ولكمهم إذا رأيتهم يجبنون أو يكذبون أو يبكون الغير «ما يبكى الرجل» وقد جاءنى واحد منهم وقال إن تلميذًا معه فى المدرسة ضربه، فسألته عنه أهو أكبر منه.. وهل هو أضعف من أن يضربه كما ضربه.. فكانت نعم هى جواب السؤالين، فتناولت أذنه الصغيرة وقرصتها قرصًا وجيعًا وقلت له «ألم يكن فى الشارع حجر تتناوله وتقذفه به فتفتح له قرنه..» قال «بلى» قلت «لماذا تجيئنى باكيًا وفى وسعك أن تنصف نفسك منه»؟ وأنذرته أنى لا محالة قاتله إذا تكرر منه ذلك، ولم يكن القتل ما أعنى، وإنما عنيت الضرب الأليف، وقد فهم عنى الطفل، وأثبت لرفاقه أنه كفء لهم، فكفّوا عنه وهابوه، وقد احتجت بعد ذلك أن أجعل جرأته غير راجعة إلى مجرد الخوف منى.
أظن أن هذا خير وأهدى من هذه التربية الطرية التى تُفضى إلى التخنث.