الفصل الخامس
كان خادمنا رجلا يدعى «عم محمد» لا يعرف أحد من أين جاء؟ حتى ولا هو يعرف، وقد سألته من أى بلاد الدنيا هو؟ فشوّر بيديه وهز رأسه ولم يجب، ولعله نسى، فقد علت سنه جدًا، والأرجح أنه جاء إلينا وهو صبى لا يفقه، فقد كان لكل أسرة خادمها الذى نشأ وترعرع، — وشاب أيضًا — فى ظلها، ولم يكن أحد ينضو عنه ثوب هذه العمومة إلا ثلاثة: جدى وأبى، من الرجال، وجدتى من النساء أما سائر أهل البيت فكان اسمه عندهم «عم محمد» وكان هذا بعض ما يكرم به الناس خدمهم فى ذلك الزمان.
ولا أذكر كيف كان وجهه فى حداثتى، فإن مسافة الزمن بعيدة، ولكنى أنظر إليه الآن — فإنه لا يزال حيًّا يرزق — وأرى كيف كان يمشى معتدل القامة كالسيف يأبى أن يتخذ الترام أو غيره أو يقطع المسافات بين أرجاء القاهرة إلا على رجليه، وكيف أنه لا يمرض ولا يرقد ولا يشكو شيئًا حتى فى هذه الشيخوخة العالية، وكيف أنه لا يزال يشرب «البوظة» التى أعرفه — مذ عرفته — كلفًا بها لا ينصرف عنها أو يتوب — ولو قطعوا رأسه وأوصاله — فيخيل إلى أنه كان دائمًا هكذا — بشاربيه الخفيفين، وأسنانه القوية التى لم تسقط ولم تتزعزع منها واحدة، ووجهه المغضن الحافل بالأخاديد والحفر، وحذائه الأصفر الباهت الذى يحرص مع ذلك على صقله فيمسحه بطرف المعطف العتيق الذى خلعته عليه منذ خمسة عشر عاما، ويأبى مع ذلك أن يبلى أو يتمزق.
وكان عمله مقصورًا على ساحة البيت وما فيها من غرف أو «مناظر» — كما كانت تسمى — وعلى قضاء الحاجات من السوق، ولا يجوز له أن يصعد إلى حيث السيدات فإن لهن خادمتهن التى لا ينبغى لها تجاوز السلم إلى ساحة البيت وكانت حليمة هذه فتاة سمراء واسعة العينين مقوسة الحاجبين، طويلة الأهداب وممشوقة رشيقة، وكانت هى التى تنزل إلى عم محمد إذا احتاج البيت إلى شىء فتقف على آخر درجات السلم وتنقر على الباب فيجىء إليها، فحدث ما كان لابد أن يحدث — أحبها وأحبته.
وأقبل عم محمد يومًا على جدى، وهو جالس على كرسيه فى الدهليز وفى يده نبّوته وشفتاه تتحركان بالتلاوة، ووقف إلى جانبه يفرك كفيه ويتحين من الشيخ التفاته إليه، فلما فعل، مال عليه وأسر إليه أنه يطلب يد «حليمة» فهش له الشيخ لأن الزواج نصف الدين، ووعد أن يخاطب أبى فى الأمر وأن يحمله على الموافقة.
وقد كان — تزوجا — وصارت حليمة، تنتقل فى الليل إلى غرفة «عم محمد» فى البدروم كما يسمى فى مصر، أو السرداب كما يسمى فى العراق.
وقد جهزوها له بسرير وخزانة وصندوق أحمر، وحصيرة ملونه وبساط قديم مما كان فى البيت، وكانت حليمة هذه قوية جليدة لا تفتر ولا تهن، فكانت تعمل طول النهار وشطرًا من الليل، فى البيت — تكنس وتمسح وتغسل، وتنفض وتشيل وتحط، وترتب، وتغربل وتعجن وتخبز وتساعد فى المطبخ، وتطلع وتنزل، حتى إذا جاء وقت النوم انحدرت إلى «عم محمد» وبقيت معه إلى الفجر، فتنهض لتوضئ الشيخ وتعد له «الشبوك» والقهوة.
وحملت حليمة، فعظمت بطنها، فأرادوا أن يترفقوا بها، وأن يعفوها من عملها الشاق حتى تضع حملها، ولكنها أبت وظلت تروح وتجىء وتشيل وتحط وتقوم وتقعد. وهى مسرورة وزاد وجهها إشراقا ولمعت عينها بنور البشر والجذل.
وكان جدى يصعد بعد الغروب بقليل. أما أبى فكان يترك المكتب ليصعد أو يخرج، بعد صلاة العشاء، وينصرف الكاتب، ويوصد الباب، ويصفق عم محمد فتطل عليه حليمة من إحدى النوافذ — فما بقى من هذا بأس بعد انصراف الرجال — فيسألها «عاوزين حاجة..» فتستفسر ثم تخبره، ويطمئن فيخرج متسللا ويغيب ساعتين أو ثلاثًا ثم يعود وهو يتطرح من السّكْر، وكان لا يشرب إلا البوظة وكان جدى ينهاه ويعظه، وأبى يضربه وهو لا ينتهى ولا يرعوى، حتى يئسا من صلاحه فأهملا أمره وتركاه للأيام، فلم تزده إلا حبًّا «للبوظة».
وقد سألته مرة «ألا يمكن أن يزهدك شىء فى هذه البوظة»؟
فأجابنى بسؤال «أهى حرام»؟
قلت «من عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم».
فنظر إلى مستفسرًا مستوضحًا فقلت أعني أنك أصبحت تفنى. من طول ما عاشرت أهل القلم. ولكن قل لى. إنك تشربها منذ نحو سبعين سنة، أفلم تسأمها. سبعون سنة طويلة. إن المرء خليق بعدها أن يمل الحياة، فكيف بالبوظة؟
فقال معترضًا «سبعين سنة إيه يا سيدى»؟
قلت «معذرة. لندع السن، ولكن ألم تسأم»؟
قال «لم يبق لى ما أتسلى به سواها».
قلت «وحليمة»؟
قال «حليمة. الله يطيل عمرها ويخليها لأولادها ويبارك لها فيهم» فأقصرت، وبودى أن أسأله «ألا يزال يحبها»؟
وكانت ليلة أحياها «عم محمد» بالسهر فى البوظة وهو آمن، فقد كان جدى نائمًا، وأبى فى بيت زوجته الأخرى، فلما عاد وتطرح إلى غرفته، ألفى حليمة راقدة، ولكن عينيها مفتوحتان، وإلى جانبها شىء مغطى بملاءة، فوقف عند السرير، ونظر إليها مستغربا ابتسامتها وكانت عادتها أن تنهض له حين يدخل عليها لتكون فى خدمته حتى ينام فلما طال تحديقه فيها، تحت الملاءة ورفعت ما تحتها، على كفيها ليراه، فأفاق وذهب عنه خمار السكر، وهوى على ركبتيه، وأسند جبينه إلى مرتبة السرير وراح يبكى — بكاء الفرح لا الحزن، فوضعت حليمة طفلتها، وجلست، ومدت يدها إلى رأسه لترفعه وتمسح له دموعه فتناول كفها ولثم راحتها، ونظر إليها وقال: «لو كنت أعلم لما خرجت».
قلت: «خروجك كان أحسن.. ماذا يصنع الرجل فى هذه الحالة»؟
فسألها «كيف.. من كان معك»؟
قالت «لا أحد.. لم أخبر أحدًا.. ما الداعى»؟
فدهش ولكنها ابتسمت ونهضت، لتقوم بخدمته كعادتها، وحاول هو أن يمنعها، فسخرت منه، وسخنت له الطعام وقدمته إليه ليأكل، وكان لا يأكل إلا قبل النوم مباشرة، وبعد أن يرتوى من البوظة فعكف على طعامه وهو يتعجب لحليمة وقوتها وجلدها، حتى ليجيئها المخاض فتتشدد وتحتمل آلامه فى صمت، وتضع وحدها وبلا معين، وبعد ساعة أو ساعتين ترجع كما كانت، لا فاترة ولا متهافتة ولا مسترخية وجال بخاطره أن حليمه آية من آيات الله، وأنه سعيد بأن تكون زوجته، وحدثته نفسه، على ما روى لى أن يجعل مظهر شكره لله وإقراره بنعمته عليه، أن يكف عن معاقره البوظة، ولكنها كانت نجوى ليس إلا.
وقال لها وهو يمسح يديه فى الفوطة: «يجب أن تستريحى غدا على الأقل.»
فاستغربت هذا الاقتراح وقالت «أستريح. أنت مجنون»؟
ولم تسترح حليمة ولا دقيقة واحدة، فكانت ترضع طفلتها وتتركها وتواصل عملها المتنوع.
ولا تزال حليمة إلى اليوم — وقد جاوزت الستين — أقوى وأقدر على العمل من عشر فتيات فليس أعجب من «عم محمد» إلا امرأته التى لاتكل ولا تفارقها ابتسامتها — كأنها مرسومة — ابتسامة العطف والرضى والتسامح، وما أكثر ما افتقرت إلى عطفها، ورضاها وتسامحها، وكان حسبى منها فى كل حال أن تنظر إلى بعينيها النجلاوين، وأن أرى ثغرها المفتر فتسكن نفسى ويشيع فى صدرى الاطمئنان، ويعمر اليقين قلبى، ولا يسعنى إلا أن أجيبها بابتسامة، فتهز رأسها على مهل وتربت لى على كتفى وتمضى.
صدق عم محمد فان حليمة آية ….