الفصل السادس
الحادثة الثالثة أن «جليلة» بنت حليمة وعم محمد — أكلتها النار وأنا أنظر إليها مسحورًا. وبعد سنوات وسنوات طويلات المدد، قرأت أن نيرون أضرم النار فى رومية — عروس الدنيا يومئذ ووقف على تلها فى حاشيته المستهترة، وفى يده قيثارته يعزف عليها، وعيناه على الضرم المتأجح والدخان المتكاثف، فاستطعت أن أفهم، ولم يُعينى أن أدرك سحر النار وفتنة هولها، وكان الذى تمثل لخاطرى وأنا أقرأ ذلك.. لا رومية وبناها العالية وقصورها الضخمة بل «جليلة» وقد ضربت النار عليها سرادقًا.
ولم تطلق المسكينة إلا صيحة جزع واحدة، ثم وقفت كالتمثال، وذهبت النار تأكل ماعليها من خفيف الثياب وتحيل جسمها الأسمر الطرى جمرة مضطرمة.
وكنت واقفًا على سلم البدروم — مسمرًا هناك — وعينى عليها لا تتحول عنها، وفى مسمعى من اللهب الخفاق اللمعان مثل الدمامة والتدويم، وفى أنفى رائحة اللحم المشوى وعلى وجهى صهد الحر.
وكان الوقت شتاء، والبدروم يكون فى الصيف رطبا فكيف به في زمهرير الشتاء.. وكانت جليلة قد سبقت أمها إلى هذه الغرف التى تشبه القبور، فشرعت تضرم الفحم — أو السن كما يسمى تراب الفحم — فى الموقد لتدفأ به، ولم تكن عندها منفاخ تعجل به إيقاد النار وكانت ترتعد وتنتفض من البرد، وكان مصباح الغاز مضاء، فتناولته وانحنت به على الموقد ورفعت غطاءه النحاسى الذى يتدلى منه الشريط فى الغاز ولم تر أن تنزع الزجاجة وتطفئ الشريط قبل أن تصب الغاز على الفحم، فسال منه شىء على ثوبها وهى لا تدرى، أعادت الغطاء إلِى مكانه من المصباح، ووضعته إلى جانبها على الحصيرة وأشعلت عودًا وأدنته من البترول فى الموقد فارتفع منه اللهب فجأة، وكانت حانية عليه، فردت وجهها بسرعة، ونسيت أن تتناول المصباح وهى تنهض قائمة، فانقلب المصباح واشتعل طرف الثوب الذي كان مسفسفًا بالبترول.
وليس هذا خيالا أتخيله فقد رأيته كله بعيني، وكنت قد غافلت أمى وحليمة، وانحدرت وراء جليلة، وفى مأمولي أن أجالسها وألاعبها وأسامرها قليلا، فقد كنت مشوفًا بها، وكانت هى تأنس بى وتهش لى، ولا تضن على بما تعلم — مما سمعت أو رأت أو خطر لها. وكنت على عتبة الباب، وكنت أهم بأن أضع قدمى على درجة السلم نازلا إليها، فرأيتها تمشى إلى «الصفة» وتعود بالمصباح فى يدها، وألهمت أن أقف حيث كنت — على العتبة — فلم يفتنى شىء من الفاجعة.
وألقيتها تهوى إلى الارض، والنار حولها، فأفقت وارتددت راجعًا إلى ساحة البيت: ورحت أصيح، وأزعق وأدعو كل من يسمع أن يدرك جليلة فإنها تحترق. وسرى الخبر سريان النار فى الهشيم اليابس، وكان أخي الأكبر فى البيت، فنزل مع النازلين، ورأوا أن جليلة قد أكلتها النار، فصار هم الجميع أن يطفئوا الحريق، فقد امتد لسان النار إلى الحصير والسرير وسائر ما فى الغرفة.
وكنت بينهم، أروح وأجىء إلى حيث أراهم يروحون، ومن حيث يجيئون، ولا أعمل شيئًا، وكانوا مضطربين وكان لغطهم كثيرا وعاليًا، وكان النساء يبكين ويولولن وفى أيديهن الطشوط والأباريق، وأخى يتناولها منهن مترعة ويصب على النار، ولا يفتأ يسأل عن «محمد» — «ابن الكلب» أين غطس فى هذه الليلة السوداء، ويتوعده بعلقة، ويقول ليته كان هو الذى احترق، وبقيت جليلة، فتقول حليمة — عفى الله عنها «آه والنبى». وترسل الصوت مجلجلا فى سكون الليل بالنواح على بنتها، ولا تكف عن ذلك، وعلى الرغم من الحرقات، التى تعانيها لاتتوانى عن ملء الطشوت وحملها إلى أخى.
ورآنى أخى كالكلب الذى لا يترك قومه ولا ينفك يجرى معهم ويطوف بهم ويدخل من بين سيقانهم ويربكهم وهو يريد أن يعرب بخفة حركته بينهم عن مشاركته لهم فيما هم فيه، فزجرنى وطردنى وأمرنى أن أصعد.
ولكنى لم أطع — نعم نأيت عن البدروم، ولكنى بقيت فى فناء البيت وكيف أصعد إلى فوق. وكل من فى البيت قد ترك هذا الفوق إلى تحت؟ وكيف أكون وحدى فى مأمن من المخاوف التى كظوا لى رأسي بصورها فيما كانوا يقصون على كلما أرادوا تنويمى.. كأنما كان خير ما ينيم الطفل هو هذه المفزعات.
وجاء أبى: فقد دعى من البيت الصغير ورآنى فى الساحة وحدى، فأقبل على يسألنى بصوته الهادئ المتزن النبرات «أنت هنا»؟ فبكيت.. كأنما فتح لى هذا السؤال منفسًا فتفجر ما كان محتبسًا فربت على كتفى، ومضى عنى إلى البدروم، فألقي أهل البيت جميعًا جالسين على درجات السلم.
وكان لابد أن تأتى الشرطة، وأن يجرى التحقيق، وكانت النار قد أطفئت، فذهب بى أبى إلى المكتب ولحق أخى بنا، بعد أن غير ثيابه وهناك قصصت عليهما ما رأيت، وكان الشرطى أخوف ما نخاف نحن الصغار، بعد العفاريت والأمساخ، وغير هذه، وتلك من المرعبات. وكان الذى نعرفه هو أن العسكر عدو لدود لخلق الله، وأنه مجعول للقبض عليهم والزج بهم فى المحابس، وأن «الكركون» — كما كنا نسمى مركز الشرطة — ليس أكثر ولا أقل من سجن فظيع، وأن العاقل من يتقى أن يمر من أمامه، فشرع أبى يذهب عنى الروع ويطمئنى، ويروضنى على السكون إلى لقاء هؤلاء الشرطة وغيرهم، ويفهمنى أنه ليس على أكثر من أن أروى لهم ما رأيت، ويؤكد لى أنى سأكون موضع عطفهم، وأنى سألقى منهم كل خير، وأنه لن يصيبنى منهم سوء، فنسيت وذهلت عن النار التى اشتوت بها جليلة، وعن فجيعتى فيها، ولم أعد أفكر إلا فى هؤلاء الشرطة المخوفين الذين سأقف أمامهم وأُسأل وأجيب.
مضت على هذه الحادثة أربعون عامًا، ولكنى لا أرى أثرها يمحى أو يبهت، وليس أبغض إلىّ ولا أقدر على إفزاعى وإطارة عقلى من النار، ويمضى شتاء بعد شتاء، وتحتاج إلى أضرام النار فى الموقد للتدفئة فيسألنى أهل البيت فأصيح بهم «يا خبر أسود! لا لا لا.. حاذروا» وترتفع قبل عيني جليلة «فى سرادق من اللهب الخفاق …».
ويلحون على ويقولون إن البرد قارس، فأروح أتفلسف وأقول لهم إنهم بله، وإنهم يضعفون أجسامهم بتعويلهم فى المقاومة على الثياب والنار، وأن قدرة أجسامهم على المقاومة تزيد إذا خففوا ولم يسرفوا فى التوقى، ولم يجعلوا معولهم فى التماس الدفء على شىء أجنبى منهم، وأقول لهم أيضا إنى أضعف منهم جميعًا، وأنحف وأحوج إلى وسائل الوقاية، ولكنى أحتمل ما لا يحتملون. فلماذا؟ لا سر هناك كل ما فى الأمر أنى لا أكثر من الثياب، ولا أتخذ المعاطف إذا وسعنى أن أستغنى عنها، ولا أستعين بالنار. وأذكر لهم أنى كنت فى صدر أيامى ألفّ رأسى عند النوم فى فوطة كبيرة وألبس ثيابا من الصوف حتى فى وقدة الصيف المحرقة، فكنت لهذا طول عمرى مزكوما، وكان السعال لا يترك لى راحة فى ليل أو نهار، ثم ضاق صدرى، وحزنت على نفسى وقلت، إذا كان هذا حالى فى شبابى، فماذا عسى أن أكون فى الكهولة والشيخوخة؟ وكان هذا يسود الدنيا فى عينى ويغرينى بالتشاؤم.
وكانت المرارة تقطر من قلبى على الورق، فى شعرى ونثرى، ويئست فتمردت وقلت إنه لن يصيبنى شر مما أعانى، فخفَّفت، وصرت إذا نمت أخلع ثيابى جميعا ولا أبقى منها إلا الكفاية للسترِ، أى الجلابية ليس إلا، وكان الأوان يسمح بذلك، فقد كان الوقت صيفًا، فلما جاءت مقدمة الشتاء، وسعنى أن استغنى عن الملابس الثقيلة التى اعتدت أن أتخذها، ودخلنا فى الشتاء فلم أشعر بحاجة إلى المعطف، ولكن بقية من الحذر القديم جعلتنى أحرص على حمله، ولكن على ذراعى، عسى أن أحتاج إليه فى الليل. وكنت إذا شعرت بهذه الحاجة، أظل أدافعها وأقاومها، وأرجئ الالتجاء إلى المعطف والدخول فيه، وأقول لنفسى «نصف ساعة آخر. لن يقتلنى نصف ساعة من البرد» ثم أرجئ الأمر مرة أخرى وهكذا، حتى أصبحت أحس أن المعطف حمل لا معنى له مادمت لا ألبسه، فصرت أتركه فى البيت، وأن لى الآن لمعطفا، ولكنه قديم.. قديم حتى لقد نسيت من طول عمره متى فصّلته، وهو للزينة أكثر مما هو للمنفعة، بل ليس حتى للزينة، فقد أكلت منه الفيران نحو شبر فى شبر وخجلت أن أبعث به إلى الرّفاء، ولم أر أن أكلف نفسى ثمن معطف جديد لا ضرورة إليه فتركته، وأمرى إلى الله، وأمره إلى الفيران.
أما الشرطة فقد زايلنى الخوف الصبيانى منهم. فما يسع من يشب عن الطوق إلا أن يدرك أن الشرطة لا يملكون ضرًا ولا نفعا، وأن الأمر فيهم إلى القانون وأنهم ليسوا أداة إرهاب — أو لا ينبغى أن يكونوها — بل أداة حماية للناس. ولكنى مع ذلك أكره أن أدخل مركزًا من مراكز الشرطة وأنفر من الحاجة إليهم وأحب أن أستغنى عن الالتجاء إليهم ولقد سرقت خادمة كانت عندى أشياء — أو هذا هو المرجح والذى تشير إليه القرائن جميعًا — فقلت غفر الله لها ولا أحوجنا إلى الشرطة، وهنيئا لها ما أخذت ولا عذبها الله به، فما هى بعد كل ما يقال فيها إلا مسكينة، وهل ينفعها ما حملت إلا قليلا؟ وسينتهى بها الأمر إذا اعتادت ذلك، إلى الشقاء المحقق. فهى أحق بالعطف. وأولى بالرحمة ولو أنها لم تهرب بما حملت، لحاولت أن أعالجها وأن أفىء بها على الخير، ولكن الأمر خرج من يدى بفرارها، فالله هو القادر علي إنقاذها من ذلك المآل المخيف الذى أتوقعه لها.
ولى بين رجال الشرطة معارف وإخوان أحبهم وأكبرهم، ولكنى لا أحب أن أحتاج إليهم، ولست أكره مجالسهم، ولكنى أحس غضاضة حين أكون مع واحد من رجال «السلطة» وأحب أن يكون غيرى مثلى — لا سلطان لهم على خلق الله — ولعل هذا بقية من أثر النشأة الأولى. على أنى لست على يقين من هذا فقد تكون لهذا الشعور علل أخرى خفية راجعة إلى آرائى ومزاجى.