الفصل السابع
لا أعرف ما سر حبي للحى فى وجوه الناس، غيرى، ولكنى أعرف أنى مارأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة إلا نازعتنى نفسى أن أجعل لها من أصابعى مشطا. وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس فى زماننا يحلقونها أو يقصونها، ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستفتاء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة ولن تجد أحدًا فى هذا الزمن يغضب إذا أحفى الحلاق له لحيته كما غضب شيخ من أصدقائنا كانت له لحية كثة منفوشة ذهب بها إلى برلين ليشترك فى تشيع جنازة زعيم من زعماء الترك قتل هناك. وقد احتفظ بجبته وقفطانه وعمامته فكان كل من يراه يتوهمه من أفتك البلاشفة وأخطر الفوضويين. قالوا. فذهب به صديق له إلى دكان حلاق، وذهب صاحبه يتمشى على الرصيف حتى يفرغ من هذا الأمر، فما راعه إلا صياح وزعيق لا يكونان فى برلين إلا من مثل الشيخ، فارتد إلى الدكان فألفى الشيخ واقفًا وسط الدكان والفوطة على صدره وهو يرسل الصوت مجلجلا بالعربية الفصحى، والحلاق مبهوت فسأله صاحبه عن الخبر فقال: «خير، انظر..» وأشار إلى خده الأيمن فنظر صاحبه فإذا الغابة الكثيفة اللقاء قد ذهبت بقدرة قادر، ولم يبق إلا وسم، على حين بقيت الغابة على خده الأيسر هائجة كما كانت، فلم يسعه إلا أن نضحك، ثم عالجه حتى رده إلى الهدوء والسكينة وسأله (ماذا قلت للحلاق..).
قال الشيخ. (إنه رطن لى ولكنى فهمت أنه يسألنى ماذا أبغى، ولم أدر كيف أجيبه فأومأت إلى لحيتى وأشرت بيدى أن سوها — هه — أى بعض الشىء قليلا جدًا، ولكنه لم يفهم فأجرى فيها الماكينة فذهبت بمعظمها).
وسأل الحلاق كيف حدث هذا الغلط فقال إنه سأله عما يريد أن يصنع بلحيته ويقصه منها فأشار الشيخ إليها وقال (هاف) أي النصف فهو لم يجُر عليها ولم يجاوزها ما طلب.
كلا: لا يغضب أحد فى هذه الأيام كما غضب صديقنا الشيخ، إذا ما جار المقص على لحيته، فيندر أن أنعم بمنظر لحية حقيقية، أو تتاح لى فرصة للعبث بها وتمشيطها، على أنه لا أسف، فقد فزت من ذلك فى حداثتى بأكثر من نصيبى العادل، وكان حسبى لحية جدى. أفتل شعراتها أو أثنيها وأدسها فى أذنه فينتفض ويصيح بى ويطردنى فأذهب أعدو وأنا أكاد أموت من الضحك فلما مات جدى شعرت بأن خسارتى جسيمة، وأنى فقدت ما لا أرى عنه عوضا، ولكن الله كان أرحم وأكرم من أن يطيل عذاب الحرمان، فقد جاء أخو جدتىٍ ليعزينا، فأمسكناه وكنت أنا أشدهم إلحاحا عليه وتعلقا به، وكان قصيرا فلحيته تبدو أطول مما هى فى الحقيقة فتسليت بها أسابيع حتى كان يوم وكنا جلوسًا على وسائد وحشايا مبعثرة على البساط وكان هو مطرقا والسبحة فى يديه! وإذا به ينتفض قائما ويعلن إلينا عزمه على السفر. فاستغربنا وسألته جدتى: «ما هذه المفاجأة»؟
فقال «الحقيقة يا حاجة أنى سمعت صوتا كصوت أبى يدعونى».
فزاد تعجبنا وقال إنى «أبوك يا خال.. أبوك يدعوك.. كيف تقول.. أين أنت من أبيك وبينكما ركوب خمس ساعات فى القطار»؟
فقال «نعم يدعونى: لقد سمعت صوته واضحًا جليًا ينادى: يا عمر ولا بد لى من السفر فما أشك فى أن به حاجة إلى..».
وأصر على السفر، وأبى أن يبقى، فاستودعناه الله وأرسلنا معه «عم محمد» بالحقيبة إلى المحطة وفى مساء اليوم التالي جاءتنا منه برقية ينعى إلينا فيها أباه أى جد أبى.
ومن تمام القصة أقول إنهم تحدثوا فيما بعد بأن هذا الجد كان راقدًا ثم اعتدل فجأة وأطلقها صيحة قوية «يا عمر» ولم يزد.
وكان هذا الجد معدودًا من القوم الصالحين، وكان يلبس عمامة — كما لا أحتاج أن أقول، فإن الصالحين لا يكونون على ما يظهر، إلا من أصحاب العمائم ولكن لفتها كانت خضراء، لأنه شريف من نسل الرسول — عليه الصلاة والسلام.
وكان السيد محمد هذا قويا، وقد احتفظ بقوته حتى في شيخوخته العالية، فقد جاوز التسعين أو قارب المائة. ولم يركب فى حياته قطارًا ولا تراما ولا مركبة. وكان إذا زارنا فى القاهرة يجىء على قدميه، وعلى كتفه الخرج الذى فى شِق منه ثيابه، وفى الشق الثانى هدية من التمر أو الجبن «الحلوم» أو غير هذا وذاك مما يرى أن يهديه إلينا. وكان أبى قد رزق قبلى بولدين. ماتا. فلما جئت أنا إلى الدنيا، خاف أبواى أن أموت أيضًا. وصارا يجزعان كلما أصابنى برد أو غيره. وأنىَّ لهما أن يعلما الغيب وأن يعرفا أنى ممن قيل فيهم إن «عُمْر الشقى بقى» واتفق أن جاء هذا الجد المبروك فاستكتبوه لى حجابًا، فخطط شيئًا فى ورقة، أو كتب آيات من القرآن الكريم. لا أدرى وطواها وأمر بها أن تغلف ونهى عن فتحها. وقال: علّقوها له جنبه. فغلفوها فى قماش للتنجيد — أى لكسوة المراتب — وبعثوا بها إلى حذّاء. ولم يكن حذّاء فى الحقيقة. وإنما كان رجلا يصنع المراكيب فجلّد الحجاب، وجعل له عينين للحيط. وعلقوه لى فصار كالحجر فيما أحس حين أرقد على جنبى.
ولم يفارقنى هذا الحجاب إلا بعد أن انتقلت جدتى إلى رحمة الله. حتى بعد أن كبرت ودخلت فى مداخل الرجال وتزوجت، كانت تصر على لبسه. وكنت أغافلها وأخلعه وأدسه تحت الوسادة. فإذا عرفت ذلك نظرت إلى نظرة أسف وعتاب وإشفاق. وكان لبس الحجاب يثقل على نفسى وكنت أنفر من ذلك نفورًا شديدًا. ولكنى كنت أقول لنفسى إن جدتى كبيرة السن وإنها فجعت فى ابنها وأنها تجزع كلما خطر لها أنها قد تفجع فى حفيدها الذى تتعزى به. فماذا على لو أرضيتها وسررتها وتركتها تقضى ما بقى من عمرها فى راحة واطمئنان. ثم إنى ما أحببت أحدًا قط مقدار حبى لها ولأمى فكنت أشعر أن قلبى تعصره يد قوية غليظة حين أرى على وجهها آيات الفزع. ومن أجل هذا استخرت الله وتوكلت عليه وتركتها تفرح وتطمئن بالحجاب على جنبى. وكانت إذا رأتني مقبلا عليها لتحيتها كالعادة تبتسم لى بفمها الأدرد، وتمد يدها إلى جنبى لتتحسسه، فأضحك وأقول: «لا تخافى» إنه ما زال فى مكانه. وما أبقيه إلا لأنه يسرنى أن أراك راضية قريرة العين «فتمسح لى رأسى وتدعو لى بخير».
فلما ماتت، تركت الحجاب. وكانت أمى تقوم فى أول الأمر مقامها في الإلحاح علىّ أن أحتفظ به فقلت لها يوما: «يا ستى. أنك عاقلة، فبيّنى لى لماذا ينبغى أن ألبس هذا الحجاب».
قالت: «إنه بركة من جدك».
قلت: «صدّقنا وآمنا. وأنْعِم بجدى وأعظم ببركته! ولكن ما جدوى أن أضع حجرًا.»
فأطرقت فقلت: «أنا أعلم أنك تخجلين أن تقولى إنه يقينى السوء ويحمينى من الموت لأنك أعقل وأذكى من ذلك. أليس الرب واحد والعمر واحد. أليس ما قدر يكون»؟
قالت: «آمنت بالله».
قلت: «كنت أعلم أنك ستوافقين على اطّراح هذا الحجاب. ولكنى أحب أن احتفظ به للذكرى فاحفظيه لى عندك».
فأخذته، وبقى عندها مصونًا حتى ماتت فقيل لى أنهم وجدوا حجابا بين أشيائها. وسألونى ماذا يصنعون به.. فأوصيت به أن يحفظوه فإنه أثر له تاريخه الطويل وصلته الوثيقة بأقوى العواطف الإنسانية ففعلوا، ولكنى لم أطلب أن أراه، والحق أقول إنى لم أقو على النظر إليه يومئذ. فقد كان موت هذه الأم الصالحة أوجع ما أصابنى فى حياتى وأعمقه أثرًا فى نفسى، ولقد أبيت إلا البقاء فى البيت الذى وافاها الأجل فيه، لأن كل مافيه يذكرنى بها ولكنى كدت أجن، فقد كنت أتشدد وأظهر الجلد، ولكنى كنت أراها فى كل مكان، وأبصرها تروح وتجىء وأسمع صوتها، فكأنها لم تمت وإن كان غيرى لايعرف ذلك ولا يفطن إليه، وتلفت أعصابى فكانت هذه الخيالات تسرنى أحيانًا، وأحيانًا أخرى تفزعنى فأضطرب وأرتعد، وثقلت علىّ وطأة الهواجس والوساوس وطال الأمر فلم أر علاجًا أحسم به هذا البلاء إلا أن أفارق البيت، وأنأى بنفسى عن مواطن الذكرى ومثارها على قدر الإمكان، وأقول على قدر الإمكان لأن المرء يستطيع أن يهرب من بيت أو بلد ولكن أنى له أن يهرب من نفسه؟