المقدمة
البشر حيوانات استثنائية. فبوصفهم النوع الوحيد المعروف الذي يمكنه إدراك مفهوم وجوده، فقد تَفكَّر البشر طويلًا في مكانهم في العالم وفي علاقتهم بالكون. وأدت هذه التساؤلات إلى بعضٍ من أهم التطورات في العلوم والفلسفة والروحانيات. إن قُدرتنا غير العادية على الاستبطان والتأمُّل الذاتي تُميزنا عن جميع الكائنات الحية الأخرى على هذا الكوكب. وعلى الرغم من استثنائيَّتنا، فإننا نتشارك مع الكائنات الحية الأخرى الهدف النهائي المنشود نفسه؛ ألا وهو بقاء نوعِنا وديمومته.
نحن حاليًّا لسنا أنجح الحيوانات على الأرض، إلا أننا ربما نكون أنجح الحيوانات الفقارية «الكبيرة». لقد تمكَّنَّا من الازدهار في مجموعة كبيرة من البيئات في كل قارة، وتتجاوز كتلتنا الإجمالية الآن كتلة جميع الحيوانات الفقارية البرية بكثير. والأهم من ذلك أننا الحيوانات الوحيدة التي طورت تقنياتٍ متقدمة، وخلقت ثقافات متطورة، وأنشأت مجتمعاتٍ كبيرة، واكتسبت القدرة على التأثير على بيئتنا وتشكيلها بطرقٍ لا يملكها أي حيوانٍ آخر.
ولم يكن من المُمكن تحقيق هذه الإنجازات لولا قدرتنا على الابتكار. نحن نميل إلى تجربة أشياء جديدة لتحسين مستقبلنا. وقد أتاح لنا تراكم الابتكارات الكبيرة والصغيرة عبر التاريخ في النهاية بناء حضارات على نطاقٍ عالمي. بل إننا أنشأنا نظامًا اجتماعيًّا لتشجيع الابتكارات، يتمثل في قوانين براءات الاختراع. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار البشر حيواناتٍ مُبتكِرة أو ما يُسمى «الإنسان المُبتكِر» (هومو إينوفاتيكوس).

لماذا نحن مبتكرون إلى هذا الحد؟ ربما تختلف أدمغتنا عن أدمغة الحيوانات الأخرى. ولكن كيف؟ هذا هو موضوع هذا الكتاب. يتطلَّب الابتكار رؤيةً جديدة، ومن العوامل الضرورية للرؤى الجديدة القدرة على التخيُّل. نحن نبتكِر تقنيات جديدة ونتوصَّل إلى معلومات وأفكار وفنون من خلال المزج بين القائم من هذه العناصر بالاستعانة بأساليب جديدة باستخدام خيالنا. وقد أشار ألبرت أينشتاين إلى قوة الخيال بقوله: «سيأخذك المنطق من النقطة أ إلى النقطة ب. أما الخيال فسيأخذك إلى كل مكان.» وهنا يُطرَح سؤال حول ما إذا كانت القدرة على الخيال تقتصر على البشر فحسب. الإجابة عن هذا السؤال واضحة، وهي: «قطعًا لا». إن الخيال أبعد من أن يكون ملَكةً عقلية بشرية فريدة من نوعِها. فقد قدمت دراسات علم النفس وعلم الأعصاب والسلوك الحيواني أدلةً متقاربة على قدرة الحيوانات على الخيال. وكشفت أبحاث علم الأعصاب، على وجه الخصوص، في العقدَين الماضيَين عن وجود نشاطٍ عصبي يبدو أنه مرتبط بالخيال.
إنَّ فَهْمنا الحالي لآليات الدماغ التي تسمح بذلك محدود. غير أن لدَينا مجموعة كبيرة بما يكفي من الاكتشافات من عدة تخصصات مختلفة، لا سيما علم الأعصاب، تُتيح مناقشة العمليات العصبية المحددة التي تقف وراء هذه الملكة البشرية العظيمة. كان محور التركيز التقليدي لعِلم الأعصاب هو كيفية معالجة الدماغ للمعلومات الحسِّية الخارجية وتخزينها والتحكم في السلوك باستخدام هذه المعلومات. في المقابل، كان الاهتمام أقلَّ بالعمليات العصبية الكامنة وراء التفكير الداخلي والتفكير الذاتي المَنشأ، وخاصة تلك المتعلقة بالخيال والإبداع. وهذا الاتجاه في تغيُّر بفضل اكتشافاتٍ مثل وجود نظام عصبي ينشط على نحوٍ خاص عندما ننخرط في التفكير الداخلي، مثل أحلام اليقظة وتصوُّر المستقبل؛ وأن هذا النظام العصبي يتفاعل ديناميكيًّا مع الأنظمة العصبية الأخرى أثناء التفكير الإبداعي؛ وأن الحُصين، المعروف بالفعل بأنه يساهم بدورٍ بالِغ الأهمية في تشفير الذكريات الجديدة، يضطلع أيضًا بدورٍ مُهم في الخيال؛ والنشاط العصبي الذي جرى تحديده في الدراسات على الحيوانات، والذي يبدو أنه مُرتبط بتخيُّل الأحداث المستقبلية. تُتيح لنا هذه الاكتشافات الحصول على لمحة عن العمليات العصبية التي تشمل العمليات العقلية الداخلية، والخيال، والتفكير الإبداعي، والابتكار.
سوف يتوغَّل هذا الكتاب بعُمق في الأبحاث الحديثة لعلم الأعصاب من خلال دراسة شتى الاكتشافات التي قدَّمت رؤًى مهمة حول الآليات العصبية التي تكمن وراء الخيال والتجريد العالي المستوى. وأعتزم تناول هذه المسألة على مستوى عمل الدائرة العصبية أينما أمكن ذلك، وليس مجرد افتراض أن منطقةً ما من الدماغ أو الأنيسان يقوم بهذه المهمة. لقد مكَّنتنا الاكتشافات الرائدة في العقدَين الأخيرَين التي تركزت حول الحُصين، من تفسير عملية التخيُّل على مستوى الدوائر العصبية. وعلى الرغم من فَهْمنا الأقل للأساس العصبي للتجريد العالي المستوى، فثمة بعض القرائن تسمح لنا بتخمين عمليات الشبكة العصبية التي تدعم التجريد العالي المستوى. بالإضافة إلى ذلك، سأسلط الضوء على الأعمال ذات الصلة في علم النفس والأنثروبولوجيا والذكاء الاصطناعي. وفي وسط ذلك، سأحاول شرح ملَكةٍ فريدة يتمتَّع بها الإنسان العاقل، أو «الهومو سابينس»، ألا وهي القدرة على الابتكار، من حيث تنظيم الأنظمة والدوائر العصبية وعملها.
ينقسم هذا الكتاب إلى أربعة أجزاء. يُغطي الجزء الأول من الكتاب (من الفصل الأول إلى الثالث) دَور الحُصين في الخيال. ويتناول الجزء الثاني (من الفصل الرابع إلى السابع) العمليات التي تحدث في الدائرة العصبية الحُصينية التي تشكل الأساس للخيال. ينتقل الجزء الثالث (من الفصل الثامن إلى الحادي عشر) إلى تناول الأساس العصبي للتجريد العالي المستوى لدى البشر. بينما يأخُذنا الجزء الرابع (من الفصل الثاني عشر إلى الرابع عشر) إلى ما هو أبعد من الخيال لمساعدتنا على فهم الإبداع، وكيف يمكن للبشر استخدام القدرة على الابتكار في المستقبل.
وأودُّ أن أشير إلى أن كثيرًا من الاكتشافات المهمة الوثيقة الصلة بأقسام الكتاب العديدة قد حُذفَت. إن هذا الكتاب يهدف إلى جمع النتائج المُتباينة في علم الأعصاب والمجالات ذات الصِّلة لشرح الأساس العصبي للابتكار بطريقةٍ موجزة. لذا فالأمر يُحتِّم التعامل مع الموضوعات والنتائج بطريقةٍ شديدة الانتقائية. ثمة كمٌّ هائل متاح من المؤلفات العلمية، وكثير من المصادر تتجاوز إطار هذا الكتاب. لاحظ أيضًا أن أسلوب صياغة هذا الكتاب يختلف جوهريًّا عن أسلوب صياغة المقالات والأبحاث العلمية. وعلى الرغم من أنني أتعمق في الأبحاث الحديثة لعلم الأعصاب، فإنني أعتزم تقديم سردٍ موجز لقارئ ذكي ليس لدَيه معرفة متخصِّصة بعلم الأعصاب.
آمُل أن يساعدك هذا الكتاب في اكتساب فهمٍ أفضل للعمليات العصبية التي تُشكل الأساس لأحد الجوانب الأروع والأهم من الطبيعة البشرية، ألا وهي قدرتنا على الابتكار.