الملحق الأول

التلفيف المُسنَّن

من بين مكونات الدائرة الثلاثية المشبكية الحُصينية، ركَّزنا على منطقتَي CA3 وCA1. فهاتان المنطقتان يُعتقَد أنهما مرتبطتان مباشرة بالموضوع الرئيسي لهذا الكتاب: الأساس العصبي للخيال. فما وظيفة التلفيف المُسنن إذن؟ النظرية الأكثر انتشارًا في الوقت الحالي بشأن ذلك أنه يقوم بفصل الأنماط، الأمر الذي يعزز سعة تخزين الذاكرة في شبكة CA3 العصبية. وكتفسير بديل، افترضتُ أنا وزميلي القديم جونج وون لي أن الوظيفة الأساسية للتلفيف المُسنَّن هي ربط مصادر متنوِّعة للمدخلات الحسِّية الواردة معًا لتحديد سياقٍ مكاني.1 وسأشرح هنا بإيجاز كل نظرية وألخص الإشكاليات النظرية المُرتبطة بنظرية فصل الأنماط.

فصل الأنماط

وفقًا لهذه النظرية، فإن الوظيفة الأساسية للتلفيف المُسنَّن هي فصل أنماط الإدخال العصبي المتشابهة إلى أنماط مميزة بحيث يمكن لشبكة CA3 العصبية تخزين العديد من أنماط الإدخال بأقل قدرٍ من التداخل. تستند النظرية إلى أن التلفيف المُسنن يحتوي على عددٍ كبير جدًّا من الخلايا العصبية. في وقتٍ سابق، افترض ديفيد مار في نظريته حول المُخيخ أن أنماط النشاط المتداخلة للألياف المطحلبة الجسرية تتحول إلى أنماطٍ غير مُتداخلة من خلال التفرعات العصبية المُتشعِّبة المُمتدة إلى الخلايا الحُبيبية (إعادة التشفير التوسعي).2 في حُصين الفئران، يحتوي التلفيف المُسنن على نحو مليون خلية عصبية استثارية (خلايا حبيبية)، وهي أكثر من مجموع الخلايا العصبية الاستثارية في شبكة CA3 وCA1 (الخلايا الهرمية). تتلقى الخلايا الحبيبية للتلفيف المسنن مدخلات استثارية أساسية من نحو ٠٫٢ مليون خلية في الطبقة الثانية من القشرة الشمية الداخلية.3 وهكذا، وكما هو الحال في المخيخ، فإن التفرُّع العصبي المُمتد من شبكة عصبية أصغر (الطبقة الثانية من القشرة الشمِّية الداخلية) إلى شبكة أكبر (التلفيف المُسنن) قد يُقلل من تداخل أنماط النشاط العصبي في الحُصين (انظر شكل (م١-١)).4 وبهذه الطريقة، ووفقًا لنظرية فصل الأنماط، يساعد التلفيف المُسنن شبكة CA3 على تخزين العديد من الأنماط بأقل قدْرٍ من التداخُل.
fig48
انظر شكل م١-١: فصل الأنماط عن طريق إعادة التشفير التوسُّعي (EC: القشرة الشمية الداخلية، وDG: التلفيف المُسنن).

الربط

تتكون القشرة الشمية الداخلية من قسمَين: أوسط وجانبي. يُعتقد أن القشرة الشمية الداخلية، حيث توجَد الخلايا الشبكية (الشكل ٨-٢)، تحمل تمثيلًا متريًّا عامًّا للمساحة، بينما يُعتقد أن القشرة الشمية الداخلية الجانبية تحمِل معلوماتٍ حول تفاصيل البيئة المُحيطة. وبصورة أعم، قد تحمل القشرة الشمية الداخلية الوسطى والجانبية المعرفة البنيوية المجردة والتجارب الحسِّية الفردية على التوالي (انظر الفصل الثامن). ومن الناحية التشريحية، يلتقي هذان المساران من المدخلات في التلفيف المُسنن وفي شبكة CA3، مما يُشير إلى أن التلفيف المُسنن وCA3 ربما يُسهمان بدور مُهم في ربط أنواع مختلفة من المدخلات بالحُصين (انظر الشكل ٨-٤).5 أما في المجال المكاني، فيتلاقى تمثيل مكاني عام (من القشرة الشمية الداخلية الوسطى) مع المعلومات حول تفاصيل البيئة (من القشرة الشمية الداخلية الجانبية) في التلفيف المُسنن وCA3. وهذه الإشارات، عند دمجها، ستكون كافيةً لتحديد سياقٍ مكاني لبيئة مُعينة (معرفة المكان الذي يُوجَد فيه الشخص).
إن الإسهامات النسبية للتلفيف المُسنن في مقابل إسهامات شبكة CA3 في ربط المدخلات الحسية الواردة غير واضحة. ومع ذلك، تشكل المدخلات الواردة من القشرة الشمية الداخلية (الوسطى والجانبية مجتمعتَين) نحو ثُلثَي إجمالي المدخلات المشبكية الاستثارية الواردة إلى الخلايا الحبيبية للتلفيف المسنن، في حين تُشكل أقل من ربع المدخلات في الخلايا الهرمية لشبكة CA3 (انظر الشكل ٤-٢). وهذا التنظيم التشريحي إنما يُشير إلى أن المدخلات القشرية الشمية الداخلية تلعب دورًا مهمًّا نسبيًّا في عمل التلفيف المُسنن. علاوة على ذلك، يُشير عدد متزايد من الأدلة التجريبية إلى دور التلفيف المُسنن في الربط الحسِّي وتحديد السياق المكاني.6 فتشير هذه النتائج إلى أن التلفيف المُسنن، سواء كان بمفرده أو بالاشتراك مع شبكة CA3، يدخل في الربط الحسِّي وتعيين السياق المكاني. والواقع أن هذه الفرضية ليست جديدة تمامًا. فقد أشار رايموند كيسنر إلى أن التلفيف المُسنن يلعب أدوارًا مُتعددة من بينها فصل الأنماط و«التشفير الرابط»، واقترح سين تشينج أن الوظيفة الأساسية للتلفيف المُسنن هي «إعادة تعيين السياق».7

الإشكاليات النظرية في نظرية فصل الأنماط

إن فصل الأنماط لا يتعارض مع ربطها. فقد يربط التلفيف المُسنن المدخلات الحسية الواردة من القشرة الشمية الداخلية، وفي هذه العملية يفصل الأنماط المتداخلة لتعزيز «التمثيل المتناثر». ومع ذلك، هناك أسباب تدعو للشك في أن عملية فصل الأنماط قد لا تُعبِّر عن جوهر مساهمة التلفيف المُسنن في عمل الحُصين. ويمكن العثور على حجج مفصلة تدحض نظرية فصل الأنماط وتؤيد الربط في ورقتنا البحثية.8 أما هنا، فسنبحث بإيجاز الإشكاليات النظرية المُرتبطة بنظرية فصل الأنماط فقط.
  • أولًا: من وجهة نظر تطورية، من غير المؤكد أن التلفيف المُسنن قد تطور في المقام الأول ليقوم بفصل الأنماط. فيشير العديد من الأدلة إلى أن التلفيف المُسنن تطور بصورة مستقلة في الثدييات؛ إذ لا تمتلك الطيور بِنية مماثلة شكلًا لتلفيف الثدييات.9 وكما تناولنا في الفصل السابع، يتمتَّع بعض الطيور (التي تخزن الطعام) بذاكرة مكانية ذات سعةٍ فائقة. فهي تخزن الطعام في آلاف المناطق المختلفة وتستعيد معظمه بنجاح بعد عدة أشهر بناءً على ذاكرتها المكانية. وهذا يعني أن هذه الطيور قد وجدت طريقة لتمثيل العديد من الذكريات مع القليل من التداخُل دون وجود تلفيفٍ مُسنن. فلماذا إذن تطوَّرت بِنية بهذه الضخامة (التلفيف المُسنن) لدى الثدييات بينما كان هناك حل أبسط لتعزيز سعة تخزين الذاكرة؟10
  • ثانيًا: تتعلق نظرية فصل الأنماط بفصل الأنماط الثابتة، ولكن من الواضح الآن أن شبكة CA3 تُمثل الذكريات المُتسلسلة أيضًا (مثل المسارات المكانية؛ انظر الفصل الثالث). بالنسبة إلى الأنماط الثابتة، من المُرجَّح أن تؤدي التفرعات العصبية المُمتدة من شبكة أصغر إلى أخرى أكبر إلى تقليل التداخُلات بين الأنماط من خلال إعادة التشفير التوسعي (انظر الشكل ). غير أن تأثير إعادة التشفير التوسعي على فصل التسلسُلات ليس مباشرًا؛ لأن تسلسل النشاط العصبي لا يعتمد فقط على المدخلات الواردة، ولكن أيضًا على الديناميكيات الداخلية للشبكة العصبية.
  • ثالثًا: من الصعب التوفيق بين فصل الأنماط والمرونة المشبكية (تغيُّر في قوة الربط العصبي) الموجودة في التلفيف المُسنن.11 تشير المرونة المشبكية في التلفيف المُسنن إلى أنها تلعب دورًا في تشفير الذكريات الجديدة. ويعتقد العلماء أن الشبكة العصبية تُخزن الذكريات بطريقةٍ متداخلة وموزَّعة من خلال تغيير قوى الاتصال بين الخلايا العصبية (انظر الشكلين ٤-٣ و٨-١). بعد ذلك، ستُعَزَّز تلك المشابك العصبية التي تنشط عن طريق مدخلات مُتشابهة، تعزيزًا متكررًا (هذا هو أحد الأُسس العصبية لعملية التعميم، انظر الفصل الثامن). وبناءً على ذلك، ستقوم الشبكة العصبية عند التعرُّض لمدخلات متشابهة بدرجة كافية باستكمال الأنماط (أي جعل المدخلات المُتشابهة أكثر تشابهًا) وليس فصل الأنماط (أي جعل المدخلات المتشابهة أكثر اختلافًا). وبافتراض أن التلفيف المُسنن يُخزن الذكريات وفقًا لهذا المخطط العام، فإن المرونة المشبكية ستضرُّ بالدور المُفترض للتلفيف المُسنن في فصل أنماط الإدخال المتشابهة إلى أنماطٍ متمايزة.

إيجازًا، باستثناء فكرة إعادة التشفير التوسعي، فإن الأُسس النظرية لنظرية فصل الأنماط واهية. كما فشلت الدراسات التجريبية في تقديم أدلةٍ واضحة على فصل الأنماط. على سبيل المثال، على الرغم من أن العديد من الدراسات أظهرت أن التلاعُب بالتلفيف المُسنن يضعف قدرة الحيوان على التمييز بين مُثيرين متشابهين (مثل موقعين مكانِيَّين متقاربين)، فإن مثل هذه الاختلالات السلوكية قد تنجم عن عوامل عديدة. قد يكون ضعف التمييز السلوكي ناتجًا عن ضعف فصل الأنماط؛ ولكنه قد يكون ناتجًا عن اختلالات في عمليات عصبية أخرى، مثل ضعف ربط المدخلات الحسية الواردة. يرجى الاطلاع على ورقتنا البحثية المشار إليها بالفعل في الملاحظات لمزيد من المناقشات التفصيلية حول هذه المسألة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥