الحُصين
من الذاكرة إلى الخيال
ما الأساس العصبي للقدرة على الخيال غير المحدود باستخدام مفاهيم مجردة عالية المستوى؟ من المثير للدهشة أن رحلة علم الأعصاب للعثور على إجابة عن هذا السؤال تبدأ بدراسة الذاكرة. إن تذكر تجارب الماضي شيء، وتخيُّل الأحداث المستقبلية شيء آخر. ولذلك، قد يُفترَض أن الآلية العصبية للخيال تختلف عن تلك الخاصة بالذاكرة. وفي الواقع، كان هذا هو اعتقاد علماء الأعصاب حتى عام ٢٠٠٧، عندما اكتشف العلماء تداخلًا في مناطق الدماغ المسئولة عن الذاكرة والخيال. وعلى وجه التحديد، وُجد أن الحُصين (أو قرن آمون)، المعروف بدوره البالغ الأهمية في تشفير الذكريات الجديدة، له دور في الخيال أيضًا. وفي هذا الفصل، نتناول الاكتشافات الفارقة المتعلقة بالحُصين، بدءًا من دوره في الذاكرة (في خمسينيات القرن الماضي) وصولًا إلى دوره في الخيال (الألفية الأولى من القرن الحادي والعشرين).
هنري موليسون: فاقد الذاكرة الذي لا يُنسى
ولد هنري موليسون — الذي ظل الناس يعرفونه بالحرفَين الأولَين من اسمه، «إتش إم»، حتى وفاته — في فبراير عام ١٩٢٦ في مانشستر، بولاية كونيتيكت. كان يُعاني من صرعٍ شديد لدرجة أنه مع بلوغه سن السابعة والعشرين لم يعُد بإمكانه أن يحيا حياة طبيعية. في سبتمبر من عام ١٩٥٣، استأصل جراح الأعصاب ويليام سكوفيل أجزاءً من دماغ موليسون؛ للتخفيف من حدة الأعراض التي يُعاني منها. وجاءت الجراحة بنتائج فعالة في السيطرة على نوبات الصرع. غير أن أحد الآثار الجانبية غير المُتوقعة للجراحة حرمه من وظيفة دماغية حيوية، ألا وهي تذكُّر التجارب الجديدة. ومن المثير للدهشة أن الوظائف الأخرى، مثل الإحساس، والحركة، واللغة، والذكاء، والذكريات القصيرة المدى، وحتى الذكريات القديمة، بالكاد تأثرت سلبًا. وبدا أن القدرة على تذكُّر التجارب الجديدة فقط هي التي تضررت ضررًا شديدًا.

توطيد الذاكرة
يشير فقدان الذاكرة الرجعي المُتدرج وتوطيد الذاكرة إلى أن الطريقة التي يقوم بها البشر بتشفير وتخزين التجارب كذكرياتٍ، تختلف عن تلك التي يستخدِمها الكمبيوتر الرقمي. فلماذا إذن نقوم بتخزين الذكريات بهذه الطريقة؟ لماذا لا نُرسِل الذكريات ببساطة إلى موقع التخزين النهائي؟ ربما لأن وجود موقعَين منفصِلَين لتخزين الذكريات أمرٌ مفيد، وإن كان مرهقًا. فمِن ناحية، سيكون من المُفيد أن نتذكر تفاصيل الأحداث التي مررنا بها لاتخاذ خيارات أفضل في الحياة اليومية. ومن ناحية أخرى، قد تنفد مساحة التخزين لدَينا إذا قُمنا بتخزين معظم تجاربنا كذكرياتٍ دائمة. وإحدى طرق حل هذه المُعضلة هي وجود موقِعَين لتخزين الذكريات: أحدهما للتخزين المؤقت لتفاصيل الخبرات التي نمرُّ بها، والآخر للتخزين الدائم لخُلاصة هذه الخبرات.
من النتائج المهمة الأخرى التي تم التوصُّل إليها من واقع حالة هنري موليسون وجود أشكالٍ متعددة من الذاكرة. لم يتمكن موليسون من تذكُّر الحقائق والأحداث الجديدة، لكنه استطاع أن يتعلَّم أداء مهامَّ جديدةٍ بالممارسة. وهذا يشير إلى أن تذكُّر الحقائق والأحداث الجديدة («الذاكرة التقريرية» أو «الصريحة») يتم بواسطة الفص الصدغي الأوسط، في حين أن تعلُّم مهارات جديدة، مثل ركوب الدراجة («الذاكرة الإجرائية» أو «الضمنية») يتم بواسطة بِنًى دماغية أخرى. وعلى الرغم من وجود مجموعة كبيرة من الدراسات حول الأشكال المتعددة للذاكرة، فإن هذا الكتاب لا يستكشف أشكال الذاكرة هذه على نطاق أكبر؛ لأنها لا تتَّصل مباشرة بالموضوع الأساسي الذي يطرحه.
الحُصين والخيال
جاءت نتائج هذه التجربة مفاجئة. فقد واجه مرضى فقدان الذاكرة الحُصيني صعوبةً في بناء تجارب مُتخيَّلة جديدة. وبطبيعة الحال، توصَّل أفراد المجموعة الضابطة إلى سيناريوهات خيالية متنوعة دون صعوبة كبيرة. جرِّب هذا التمرين بنفسك. ربما يمكنك بسهولة تخيُّل تسلسلٍ منطقي للأحداث دون بذل كثيرٍ من الجهد. غير أن المرضى الذين يُعانون من فقدان الذاكرة الحُصيني يواجهون صعوبةً في تخيُّل أحداث منطقية بصورة واضحة. بعبارةٍ أخرى، إن الأضرار التي تلحق ببِنية الدماغ، المعروفة بأنها تضطلع بدورٍ حاسم في الذاكرة، يمكن أن تؤدي أيضًا إلى إضعاف القدرة على الخيال الخصب.
شبكة الوضع الافتراضي

كما هو موضح في بقية هذا الكتاب، غالبًا ما تظهر الأفكار الإبداعية في حالات الراحة وحتى في أثناء النوم. قد يبدو الدماغ خاملًا عندما نأخذ قسطًا من الراحة. على العكس من ذلك، تكون شبكة الوضع الافتراضي نشطة أثناء وقت راحتنا، وقد تظهر أفكار إبداعية بينما تتجوَّل عقولنا بحُرية. وسنتناول هذه المسألة عن كثَب في الفصل الثالث عشر. أما الآن، فإن ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا ببقيَّة هذه المناقشات هو ملاحظة أن الحُصين مكوِّن رئيس في شبكة الوضع الافتراضي.