الفصل العاشر
الثورة البشرية والتغيرات الدماغية المرتبطة بها
الثورة البشرية
قد يساعدنا النظر إلى الماضي في تخمين
التغيُّرات الحاسمة التي طرأت على الدماغ،
والتي مكَّنت الإنسان العاقل من التفكير المجرد
على مستوًى عالٍ. وعلى وجه التحديد، قد توفِّر
لنا مقارنة الجماجم الأحفورية بالأدلة الأثرية
مؤشرًا للأساس العصبي للتجريد العالي المستوى.
وفي هذا الصدد، حدَّدت الدراسات الأثرية
مجموعةً من الابتكارات التي تميز السلوك البشري
الحديث — مثل التواصل اللفظي، وتبادل السلع،
وعمليات الدفن المُتطورة، والتعبير الفني،
والمُجتمعات المنظمة — في أوراسيا خلال العصر
الحجري القديم العلوي (العصر الباليوثي)، منذ
نحو أربعين إلى خمسين ألف عام. وقد عُرف هذا
العصر ذات يوم باسم «الثورة البشرية»؛ بسبب
الظهور المفاجئ نسبيًّا لمجموعة من السلوكيات
البشرية الحديثة، على الرغم من أن علماء الآثار
وجدوا فيما سبق شواهد متفرقة لبعض هذه
الصفات.1

شكل ١٠-١: لوحات من العصر الحجري
القديم العلوي (نُسَخ طبق الأصل):
كهف ألتاميرا (أعلى اليسار)،
راميسوس: «رسومات الكهوف في كهف
ألتاميرا»، موسوعة التاريخ
العالمي، ٦ يناير ٢٠١٥،
http://www.worldhistory.org/image/3537/cave-painting-in-the-altamira-cave؛
كهف لاسكو (أعلى اليمين)، بروفيسور
ساكس، «رسومات الكهوف في كهف
لاسكو»، موسوعة التاريخ العالمي، ٧
يناير
٢٠١٥http://www.worldhistory.org/image/3539/cave-painting-cave-in-lascaux/
(CC BY-NC-SA)؛
وكهف شوفيه (أسفل اليسار)، تي
توماس: «رسومات الكهوف في كهف
شوفيه»، موسوعة التاريخ العالمي،
١٦ يناير
٢٠١٤،http://www.worldhistory.org/image/3539/cave-painting-cave-in-the-chauvet-cave/
(CC BY-NC-SA)،
و(أعلى اليمين)
Patilpv25:
«لوحة لوحيد القرن، كهف شوفيه
(نُسخة طبق الأصل)»، موسوعة
التاريخ العالمي، ١٠ فبراير ٢٠١٧،
https://www.worldhistory.org/image/6350/panel-of-the-rhinos-chauvet-cave-replica/
(CC
BY-SA).

شكل ١٠-٢:
تمثال فينوس ويليندورف. الشكل
مستنسخ من مقال أوك بعنوان: «فينوس
ويليندورف»، ويكيميديا كومنز، جرى
التحديث في ٢٩ أكتوبر ٢٠٠٦،
https://en.wikipedia.org/wiki/Venus_figurine/media/File:Wien_NHM_Venus_von_Willendorf.jpg
(CC
BY-SA).
تشير هذه النتائج الأثرية بقوة إلى أن
أسلافنا في العصر الحجري القديم العلوي في
أوراسيا كانوا يتمتعون بقدرةٍ معرفية لا تقلُّ
عن قدرة البشر الحديثين. ويوضح الشكل (١٠-١) بعض لوحات العصر الحجري
القديم العلوي التي اكتُشفَت في أوروبا. يُعَد
كثير من الأدوات والمنحوتات واللوحات الجدارية
من هذا العصر إبداعًا فنيًّا حتى بالمعايير
المعاصرة. فالتفكير الرمزي والمجرد من بين
الوظائف المعرفية الأساسية المُرتبطة بالفن.
على سبيل المثال، يُعتقد أن تمثال فينوس (انظر
الشكل ١٠-٢)، الذي يوجد
عادةً في مواقع العصر الحجري القديم العلوي في
جميع أنحاء أوراسيا، يرمز إلى الخصوبة. إن أحد
الموضوعات الرائجة في الفن عبر تاريخ البشرية
هو الجنس والخصوبة؛ أي فكرة الحفاظ على نوعِنا.
وربما يكون تمثال فينوس نسخةً قديمة من دُمى
الخصوبة الأفريقية الحالية، التي ترمز إلى إحدى
آلهة الخصوبة.2 وبصفةٍ عامة، يحتاج الفنان إلى
القدرة المعرفية لإسقاط محتواه الرمزي على
صورةٍ ذهنية مع التبديل بين وجهات نظره ووجهات
نظر المُتفرِّجين المُحتمَلين بغرَض توصيل
الأفكار والمشاعر والتجارب.3 ويُشير فن العصر الحجري القديم
العلوي إلى قدرات أسلافنا الرائعة في التفكير
الرمزي والتجريدي.
يُعَد دفن الحُلِيِّ دليلًا آخر على الحداثة
السلوكية لأسلافنا في العصر الحجري القديم
العلوي. فالقبور تُعتبر دليلًا واضحًا على وجود
مُعتقداتٍ دينية، وهي سِمة مميزة للسلوك البشري
الحديث. ويصور الشكل (١٠-٣)
عملية دفن مُتقدمة للحُلِيِّ من تلك الفترة.
وعلى الرغم من أن الرأي القائل بأن المقابر لم
تصبح منتشرةً ومتطورة إلا خلال العصر الحجري
القديم العلوى يبدو تبسيطًا مفرطًا، فإن
المقابر المعقدة والمتطورة كتلك الموضحة في
الشكل تُشير إلى أن أسلافنا من العصر الحجري
القديم العلوي كانوا يفكرون فيما يحدث بعد
الموت ويؤمنون بتناسُخ الأرواح مثل كثيرٍ من
البشر المعاصرين.4 وربما لم يتغير الوعي الروحي
والتديُّن لدى الإنسان العاقل كثيرًا منذ ذلك
الحين.

شكل ١٠-٣: مقبرة من العصر الحجري
القديم العلوي عُثر عليها في موقع
سونجير الأثري، في روسيا. الشكل
مأخوذ من «المومياء ذات الشعر
الأحمر»، موسوعة المومياوات، جرى
التحديث في ٨ يونيو ٢٠١٣،
https://mummipedia.fandom.com/wiki/Red_Haired_Mummy
(CC BY
SA).
تُشير الظواهر الأثرية في العصر الحجري
القديم العلوي إلى أن أسلافنا كانوا يتمتعون
بقدراتٍ معرفية متطورة، من بينها التفكير
الرمزي العالي المستوى. وإذا نُقِلَ طفل
زمنيًّا من تلك الحقبة إلى الوقت الحاضر، لربما
يكبر ليُصبح عالمًا أو فنانًا أو كاتبًا أو
سياسيًّا، تمامًا مثل أي طفلٍ آخر في عصرِنا
الحالي. قارن بين الرسمَين في الشكل (١٠-٤).

شكل ١٠-٤: الوحش الكامن في النفس.
(يسارًا) رسم بالفحم عُثر عليه في
كهف شوفيه، بفرنسا. المقطع مأخوذ
من كلود فاليت،
File:20
TrianglePubienAvecTêteDeBison&JambeHumaine.jpg،
ويكيبيديا كومنز، جرى التحديث في ٤
مارس ٢٠١٦،
https://commons.wikimedia.org/wiki/File:20_TrianglePubienAvecT%C3%AAteDeBison%26JambeHumaine.jpg
(CC BY-SA).
(يمينًا) لوحة بابلو بيكاسو
المينوتور يُداعب المرأة النائمة.
طباعة بالحفر الإبري، ١٩٣٣. اللوحة
مستنسخة بإذن (حقوق الطبع والنشر
لجمعية الفنانين في كوريا).
الرسم على اليسار هو رسم بالفحم عُثر عليه في
كهف شوفيه بفرنسا، ويقدَّر عمره بنحو ثلاثين
ألف عام. ويظهر في الرسم رجل برأس ثور يقبع فوق
جسد امرأةٍ عارٍ يبرُز فيه شكل مثلث العانة.
أما الرسم الموجود على اليمين فهي لوحة لبابلو
بيكاسو بعنوان المينوتور يداعب المرأة النائمة.
والتشابُه بين الرسمَين مُذهل. فيبدو أن كليهما
يمثل رغبةً راسخة في أعماق نفس الذكور («الوحش
الكامن في النفس»). ولم يُكتشَف كهف شوفيه إلا
بعد وفاة بيكاسو. ومن ثم، فقد صنع بيكاسو
قطعتَه الفنية دون أن يكون على علمٍ بوجود ذلك
الرسم المُشابه. غير أن بيكاسو زار كهوف لاسكو
في جنوب غرب فرنسا وشاهد لوحاتٍ جدارية مثل تلك
الموضحة في الشكل (١٠-١).
ويقال إن بيكاسو، الذي انبهر بهذه اللوحات، قال
لمرشده: «لقد اخترعوا كل شيء».5
الإنسان الحديث تشريحيًّا
كان الاعتقاد السائد حتى أواخر ثمانينيات
القرن العشرين أن الإنسان العاقل الحديث ظهر
قبل أربعين إلى خمسين ألف سنة في أوراسيا
(النموذج الأوروبي). وكان هذا متزامنًا مع ظهور
إنسان الكرومانيون (الإنسان الأوروبي الحديث
الأول) واختفاء إنسان النياندرتال. كان إنسان
الكرومانيون طويل القامة، وكان دماغه أكبر
بنحوِ ثلاثين في المائة من دماغ الإنسان
الحديث. إن جمجمة إنسان الكرومانيون والإنسان
الحديث مُستديرة الشكل، بينما كانت جمجمة إنسان
النياندرتال أكثر استطالة بكثير من الأمام إلى
الخلف (انظر
الشكل ١٠-٥). ومن غير
الواضح لماذا بقي أسلافنا بينما لم يبقَ إنسان
النياندرتال، ولكن أحد الاحتمالات أن إنسان
الكرومانيون كان متفوقًا معرفيًّا.6 فنظرًا لأن جباههم كانت أكثر
تفلطحًا، ولأن القشرة الجبهية الأمامية تُمثل
منطقةً دماغية بالِغة الأهمية لعديد من الوظائف
المعرفية المُتقدمة، كما ناقشنا في الفصل
التاسع، كان من الطبيعي أن نشكَّ في أن إنسان
الكرومانيون كان يتمتع بقدرةٍ معرفية مُتقدمة
بسبب قشرته الجبهية الأمامية المُتطورة. وبناءً
على هذه النظرية، فإن الثورة البشرية تتزامَن
مع توسُّع القشرة الجبهية الأمامية.7

شكل ١٠-٥: الاختلافات بين جمجمة
الإنسان النياندرتال والإنسان
الحديث. الشكل مستنسخ من مقال
سايمون نيوباور وجان-جاك هوبلين
وفيليب جونز، «تطور شكل الدماغ
البشري الحديث»، مجلة «ساينس
أدفانسز» المجلد ٤، العدد ١
(٢٠١٨): eaao5961
(CC
BY-NC).
غير أن
الاكتشافات اللاحقة تُشير إلى أن القصة ليست
بهذه البساطة. فعلى سبيل المثال، كان يُعتقَد
في البداية أن السجلَّات الأحفورية للإنسان
العاقل الحديث تشريحيًّا، والتي عُثر عليها في
كهوف قفزة وسخول في إسرائيل، يبلُغ عمرها نحو
أربعين ألف عامٍ وفقًا للنموذج الأوروبي. غير
أن ثمة تقديرًا أدق — استند إلى طريقة انبعاث
الضوء الناجم عن الحرارة (وتسمَّى هذه الطريقة
التأريخ بالتألق الحراري: حيث تتراكم
الإلكترونات النشطة بمرور الوقت بما يتناسَب مع
الإشعاع الذي تلقَّته العينة من البيئة) في
أواخر ثمانينيات القرن العشرين — أشار إلى أن
السجلَّات الأحفورية يبلغ عمرها نحو مائة ألف
عام.8 وقد دفعت الاكتشافات اللاحقة
للسجلات الأحفورية الجديدة بأصل الإنسان العاقل
الحديث تشريحيًّا إلى أزمنةٍ أقدم كثيرًا.
فتُشير الاكتشافات الأثرية إلى أن الإنسان
العاقل الحديث تشريحيًّا ظهر قبل مائتي ألف عام
على الأقل، وأن السجلات الأحفورية للإنسان
العاقل الأكثر بدائية التي عُثر عليها في
أفريقيا، يعود تاريخها إلى نحو ثلاثمائة ألف
عام.9 وتدعم دراسات الحمض النووي أيضًا
فكرة أن الإنسان الحديث تشريحيًّا قد ظهر في
أفريقيا قبل العصر الحجري القديم العلوي
بكثير.10 ومن المتفق عليه في الوقت الحالي
أن الإنسان العاقل الحديث تشريحيًّا قد ظهر في
أفريقيا قبل العصر الحجري القديم العلوي بفترةٍ
طويلة وانتشر في مختلف أنحاء أوراسيا عبر آلاف
السنين، ليحلَّ محلَّ البشر الأوائل الآخرين
مثل إنسان النياندرتال («نظرية الخروج من
أفريقيا»).11
أصل الحداثة السلوكية
وعلى
هذا، يبدو أن هناك فارقًا زمنيًّا بين ظهور
الإنسان الحديث تشريحيًّا والسلوك البشري
الحديث. فما هو إذن المُحرك الأساسي للظهور
المفاجئ للسلوك الحديث؟ يُرجع بعض الباحثين
السبب إلى حدوث تغيير عصبي. فربما أدَّت طفرة
عارضة إلى إحداث تغييرٍ عصبي غير ملحوظ، ولكنه
بالِغ الأهمية لتعزيز القدرة المعرفية دون حدوث
تغييرٍ كبير في شكل الجمجمة.12 أو ربما كانت القوة الدافعة
الرئيسية لذلك التغيير هي العوامل البيئية
والاجتماعية، مثل الضغوط البيئية وزيادة
الكثافة السكانية، وليس تغيرًا
بيولوجيًّا.13
يُنكر بعض الباحثين مفهوم الثورة البشرية،
وحُجتهم في ذلك أن خصائص السلوك البشري الحديث
قد ظهرت على مدار فترةٍ زمنية طويلة. فيزعمون
أن الابتكارات التكنولوجية والثقافية ظهرت
واختفت عدة مرات في تاريخ الإنسان العاقل بسبب
عوامل مثل فقدان السكان وعدم الاستقرار البيئي.
وقد يُفسر هذا، إلى جانب فقدان السجلات
الأثرية، لماذا لا توجَد سوى أدلةٍ غير مُكتملة
على وجود الحداثة السلوكية قبل العصر الحجري
القديم العلوي.14 سيكون من الصعب إعادة بناء الأحداث
التي وقعت قبل عشرات الآلاف من السنين. لذا يجب
أن ننتظر حتى يقدم علماء الآثار وعلماء أصول
الإنسان القديم أدلةً مقنعة تدعم فرضية
بعينِها. ومع ذلك، يبدو أن أسلافنا اكتسبوا
القدرة على التجريد العالي المستوى على الأقل
بحلول العصر الحجري القديم العلوي.
علم الأعصاب القديم
علم الأعصاب القديم هو دراسة تطوُّر الدماغ
من خلال تحليل القالب الداخلي للجمجمة. سيكون
من الصعب اكتشاف تغيُّر عصبي دقيق حدث أثناء
التطوُّر من خلال فحص القالب الداخلي. غير أن
حدوث تغيرات كبرى في بِنية الدماغ من المُرجَّح
أن يصحبها تغييرات أخرى مُماثلة. ولذا، إذا
كانت القدرة المعرفية للإنسان العاقل قد وصلت
إلى مستوى الإنسان الحديث نتيجة حدوث تغيرات
بنيوية كبرى في الدماغ، فقد تكون أبحاث عِلم
الأعصاب القديم قادرة على تقديم رؤًى قيمة حول
هذه التغيرات. وفي هذا الصدد، حددت الدراسات في
عِلم أعصاب القديم تغيُّرات في حجم وشكل
الجمجمة أثناء تطوُّر الإنسان.15

شكل ١٠-٦: عملية تحوُّل شكل الدماغ إلى
الشكل الكروي في أثناء التطور.
الشكل مستنسخ من بحث نويباور،
وهوبلين، وجانز، «تطور شكل الدماغ
البشري الحديث»،
eaao5961 (CC
BY-NC).
لنتأمل دراسة حديثة نشرت في عام ٢٠١٨. قام
ثلاثة علماء في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا
التطورية في ألمانيا، وهم سايمون نويباور، وجان
جاك هوبلين، وفيليب جانز، بتحليل دقيق لعشرين
حفرية للإنسان العاقل تعود إلى ثلاث فتراتٍ
مختلفة (من ٣٠٠ ألف إلى ٢٠٠ ألف سنة، ومن ١٣٠
ألفًا إلى ١٠٠ ألف سنة، ومن ١٠٠ ألف سنة إلى ٣٥
ألف سنة). ووجدوا أن شكل دماغ المجموعة الثالثة
فقط، وهي الحفريات الأحدث، هو الذي يتطابق مع
شكلِ دماغ البشر في الوقت الحاضر.16 وهذا يشير إلى أن شكل دماغ الإنسان
العاقل قد وصل إلى الشكل الحديث في الفترة بين
١٠٠ ألف و٣٥ ألف سنة مضت. ونظرًا لأن هذه
الفترة تتزامن مع ظهور السلوك البشري الحديث في
السجل الأثري، فمن الممكن أن تكون هذه التغيرات
العصبية قد لعبت دورًا مهمًّا في تطور السلوك
البشري الحديث.
كيف يختلف شكل الدماغ في المجموعة الثالثة عن
المجموعتَين الأُخريَين بالضبط؟ كان حجم الدماغ
متشابهًا في جميع المجموعات الثلاث، ولكن شكل
الدماغ أصبح أكثر كروية (انظر الشكل ١٠-٦). وأشار المزيد من
التحليل إلى بروز منطقتَين من الدماغ، وهما
القشرة الجدارية والمُخيخ (انظر الشكل ١٠-٧)، في أثناء عملية تحول
شكل الدماغ إلى الشكل الكروي.17 سنركِّز هنا على القشرة الجدارية؛
لأن توسُّع القشرة الحديثة من المُرجَّح أن
يكون مسئولًا عن القدرة المعرفية المُتقدمة لدى
البشر (انظر الفصل الثامن)، وإن كنَّا لا
نستطيع استبعاد احتمالية أن تكون التغيُّرات
التي حدثت في المُخيخ قد ساهمت إلى حدٍّ كبير
في ظهور السلوك البشري الحديث.

شكل ١٠-٧: القشرة الجدارية والمُخيخ
والطَّلَل. (يسارًا) منظر جانبي
للدماغ يُظهر القشرة الجدارية
والمُخيخ. المقطع منقول من هنري في
كارتر، File: Lobes
of the brain
NL.svg، ويكيميديا
كومنز، جرى التحديث في ١٥ يناير
٢٠١٠،
https://commons.wikimedia.org/wiki/File:Lobes_of_the_brain_NL.svg
(public domain).
(يمينًا) منظر طولي للدماغ يُظهر
الطَّلَل. المقطع مستنسخ من دايو
جاي، وفابيو ماكوري، وسي ورسلي،
«الطَّلَل»، راديوبيديا، جرى
التحديث في ٢ سبتمبر ٢٠٢١،
https://doi.org/10.53347/rID-38968
(CC
BY-NC-SA).
تجدُر الإشارة إلى صعوبة الحصول على صورة
واضحة لشكل الدماغ من شكل القحف
العصبي.18 علاوة على ذلك، فالقشرة الجدارية
منطقة واسعة. ومع ذلك، فقد أظهرت الدراسات أن
منطقةً مُعينة من القشرة الجدارية، وهي
الطَّلَل (انظر الشكل ١٠-٧)، أكبر نسبيًّا لدى البشر مقارنة
بالشمبانزي19 ويرتبط حجمها أيضًا ببروز المنطقة
الجدارية لدى البشر المُعاصرين.20 واستنادًا إلى هذه النتائج، اقترح
إيميليانو برونر بالمركز الوطني لأبحاث
التطوُّر البشري في إسبانيا أن توسُّع الطَّلَل
قد يكون مرتبطًا بالتخصُّص المعرفي البشري
الحديث.21
الطَّلَل
من المؤسف أننا لا نعرف إلا القليل نسبيًّا
عن الطَّلَل. ومن النادر أن نجد مريضًا بشريًّا
يعاني من تلَف انتقائي في الطَّلَل (كذلك الذي
يحدث بفعل السكتة الدماغية)، كما أن الدراسات
حول هذه المنطقة الغامضة من الدماغ قليلة
للغاية. في بحثٍ نُشر عام ٢٠٠٦، استعرض أندريا
كافانا ومايكل تريمبل دراسات التصوير الدماغي
البشري المنشورة وجَمَّعا أربع عملياتٍ ذهنية
مختلفة يبدو أن الطَّلَل يُسهم فيها: الخيال
البصري المكاني (السلوك الموجَّه مكانيًّا)،
واسترجاع الذاكرة العرضية (تذكر مخزون الذاكرة
الذاتية)، ومعالجة الذات (تمثيل الذات في
علاقتها مع العالم الخارجي)، والوعي.22 وعلى هذا فالطَّلَل ينشَط
بالتزامُن مع مجموعة متنوعة من العمليات
الإدراكية، وهو أمر غير مُفاجئ بالنظر إلى كونه
جزءًا من قشرة ترابُطية بعيدة تمامًا عن
المناطق الحسِّية والحركية الأولية ومُرتبطة
على نطاق واسع بمناطق من القشرات الترابُطية
العُليا.
كذلك اكتشفت دراسات لاحِقة أن الطَّلَل يدخل
في الأداء الفني والإبداع. على سبيل المثال،
تكون كثافة المادة الرمادية في
الطَّلَل23 أعلى لدى الطلاب الذين يدرسون
الفنون مقارنةً بغيرهم من الطلاب،24 وتكون الارتباطية الوظيفية
(التلازُم على مستوى النشاط بمرور الوقت بين
منطقتَين من الدماغ، فيما يُعَد مؤشرًا على مدى
عمل منطقتَين من الدماغ معًا على نحوٍ وثيق)
بين الطَّلَل والمهاد أقوى لدى الموسيقيِّين
مقارنة بغير الموسيقيين.25 كذلك يرتبط نشاط الطَّلَل بالإبداع
اللفظي26 والأصالة الفكرية.27 وتشير هذه النتائج إلى أن توسع
الطَّلَل ربما كان مرحلة مهمة في تطور القدرة
البشرية على تكوين مفاهيم مجردة عالية
المستوى.
وكاحتمالٍ بديل، قد يُسهِّل الطَّلَل لدى
الإنسان استخدام المفاهيم المجردة العالية
المستوى دون تكوينها. فالطَّلَل يُعَد «نقطة
اتصال» لشبكة الوضع الافتراضي. ويستهلك قدرًا
من الطاقة (الجلوكوز) أكبر من أي منطقةٍ قشرية
أخرى أثناء فترة الراحة الواعية.28 وكما تناولنا في الفصل الأول، فإن
شبكة الوضع الافتراضي تنشط عندما ننخرِط في
العمليات العقلية الداخلية (المعالجة
المفاهيمية) وتُثبَّط عندما ننتبِه إلى
المُثيرات الخارجية (المعالجة الإدراكية). ومن
الجدير بالملاحظة أيضًا أن الطَّلَل ينشَط عبر
حالات سلوكية مُتعددة. فوفقًا لدراسات التصوير
الدماغي، يتألَّف الدماغ البشري من شبكاتٍ
عصبية مُتعددة ومتداخلة ومتفاعلة يبدو أنها
تؤدي وظائف مُميزة. وإحدى هذه الشبكات هي شبكة
الوضع الافتراضي. وتشمل الشبكات الأخرى
المُرتبطة بالمهام، والتي حظِيَت بدراسة علمية
مكثفة، الشبكة التنفيذية المركزية (أو الشبكة
الجبهية الجدارية؛ ومكوناتها الرئيسة هي القشرة
الجبهية الأمامية الظهرية، والقشرة الجدارية
الخلفية)، التي تنشط في المواقف الصعبة
إدراكيًّا وعاطفيًّا.
كان الاعتقاد السائد في البداية أن شبكة
الوضع الافتراضي والشبكات المُرتبطة بالمهام
مُنفصلة ومتعارِضة. غير أن دراسات لاحقة أظهرت
أن منطقةً مُعينة من الدماغ قد تنشط أثناء
فترات السكون وأداء المهام على حدٍّ سواء، مما
يُشير إلى أن الشبكتَين يمكن أن تتداخلا. بحث
كل من أماندا أوتيفسكي وديفيد سميث وسكوت هويتل
النشاط الدماغي لدى نحو مائتي شخصٍ في أثناء
أداء ثلاث مهامِّ اتخاذِ قرارٍ قائمة على
المكافأة، وكذلك في فترات الراحة التامة، في
دراسة أُجرِيَت عام ٢٠١٤.29 وحددوا منطقةً واحدة من الدماغ
أظهرت ارتباطيةً وظيفية مُمنهجة تعتمِد على
الحالة، ألا وهي: الطَّلَل. كان الطَّلَل هو
المنطقة الدماغية الوحيدة التي زادت من نشاط
الارتباطية الوظيفية مع الشبكة التنفيذية
المركزية أثناء أداء المُهمة، ومع شبكة الوضع
الافتراضي أثناء الراحة. ويُشير هذا إلى أن
الطَّلَل قد يلعب دورًا مهمًّا في تنسيق النشاط
بين مُختلف الشبكات واسعة النطاق. ونظرًا لأن
الإدراك الإبداعي ينطوي على تفاعُلات ديناميكية
بين شبكات الدماغ الواسعة النطاق، التي من
بينها شبكة الوضع الافتراضي والشبكات التنفيذية
المركزية،30 فقد يلعب الطَّلَل دورًا محوريًّا
في توليد أفكار جديدة ومبتكرة.
إن هذه النتائج العصبية العلمية مُجتمعة
تُثير احتمال أن الطَّلَل البشري قد يسهل
«استخدام» المفاهيم المجردة العالية المستوى
أثناء التخيُّل من خلال تنسيق نشاط شبكات
مُتعددة واسعة النطاق، والربط بين شبكات فرعية
بعينِها مُنبثقة من شبكة الوضع الافتراضي. وقد
يعمل باعتباره قناة ربطٍ فعَّالة بين نظامَين
دماغِيَّين مُهمَّين لتحفيز الخيال (مثل
الحُصين) والتعامُل مع المفاهيم المجردة
العالية المستوى (مثل القشرة الجبهية
الأمامية). وفي الوقت الحالي، لا تُعتبر
الإسهامات المُحتملة للطَّلَل في القدرة
البشرية على الابتكار التي ناقشناها حتى الآن
سوى احتمالاتٍ تخمينية. وهناك حاجة إلى مزيد من
الدراسات للكشف عما إذا كان توسُّع الطَّلَل
خطوةً حاسمة نحو «القفزة الهائلة إلى الأمام»
التي حدثت في القدرة المعرفية للإنسان
الحديث.31