الشبكة العصبية العميقة
في الفصلَين التاسع والعاشر، تناولنا منطقتَين مختلفتَين من الدماغ، هما القشرة الجبهية الأمامية والطَّلَل، اللتَين ربما لعِبَ توسُّعُهما دورًا حاسمًا في تطور القدرة البشرية الفريدة على التجريد العالي المستوى. وفي هذا الفصل سنُناقش احتمالية أنَّ هذه القدرة البشرية ترجِع في المقام الأول إلى التنظيم العام للدماغ وليس إلى توسُّع منطقة بعينِها من الدماغ. ولهذا، دعُونا نوجِّه انتباهنا إلى الشبكات العصبية الاصطناعية. نظرًا لكونها فرعًا رئيسًا من فروع الذكاء الاصطناعي، فإنها تقوم بعمليات حسابية تستنِد إلى هياكل تُحاكي الشبكات العصبية البيولوجية. كانت هناك أربع موجاتٍ من أبحاث الشبكات العصبية الاصطناعية على مدار التاريخ منذ أربعينيات القرن العشرين. وكانت الموجة الثالثة منها في الثمانينيَّات. وقد بدأت مسيرتي المِهنية في مجال علم الأعصاب كطالب دراساتٍ عُليا في كاليفورنيا في تلك الفترة تقريبًا. وما زلتُ أتذكَّر بوضوح الإثارة التي أحدَثَتْها في ذلك الوقت.
كان من الصعب فَهم الدماغ بسبب تعقيدِه، ولا يزال كذلك. فالدماغ البشري يحتوي على ما يقرب من مائة مليار خليةٍ عصبية ومائة تريليون رابطة عصبية، ويُشكل العديد من أنواع الخلايا العصبية المُختلفة نظامًا معقدًا للغاية من الروابط العصبية. لذا فإن اكتشاف الطريقة التي يُعالج بها هذا النظام المُعقد المعلومات لتوجيه السلوك في عالَمٍ مُتغير باستمرار يُمثل تحدِّيًا هائلًا. يدرُس خبراء علم الأعصاب التجريبي الدماغ مباشرة، ويستخدم العديد منهم نماذج حيوانية لها أدمغة أقلَّ تعقيدًا إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، يضع علماء الفسيولوجيا العصبية أقطابًا كهربائية دقيقة في الدماغ لرصد نشاط الخلايا العصبية الفردية أثناء انخراط الحيوان في سلوكياتٍ مُعينة، مثل تحديد الرافعة التي سيضغط عليها من الرافعتَين المتاحتَين. وكنهجٍ بديل لفهم الدماغ، يدرس العلماء في مجال علم الأعصاب الحوسبي ما يمكن للشبكات العصبية الاصطناعية فِعله وكيف تؤدِّيه.
في ثمانينيات القرن العشرين، كان علماء الأعصاب والمهندسون على حدٍّ سواء يأمُلون أن تؤدي الشبكات العصبية الاصطناعية إلى تقدُّمٍ كبير في فهمِنا للدماغ وأن تقدِّم حلولًا جديدة لمشاكل الذكاء الاصطناعي الصعبة مثل تصنيف الأشياء المرئية. ولكنهم مُنُوا بخيبة أملٍ مع فتور حماسة البدايات تدريجيًّا؛ إذ لم ترْقَ الشبكات العصبية الاصطناعية إلى مستوى التوقُّعات على الرغم من إسهاماتها الكبيرة. الموجة الرابعة من الشبكات العصبية الاصطناعية تمضي قدمًا الآن، ويقودها «التعلم العميق».
التعلم العميق


التعلُّم غير الخاضع للإشراف
في المثال السابق، أدَّت الشبكة العصبية الاصطناعية عمليةً لتجريد نتيجة للتعلُّم الخاضع للإشراف البشري. فقد عرض نوع من الحيوانات صراحة في الصورة للشبكة العصبية الاصطناعية (وإن لم يكن للطبقات المخفية) في أثناء التدريب. وبذلك قد يُزعَم أن الشبكة العصبية الاصطناعية قد أدَّت عملية التجريد؛ لأنها تدرَّبت على ذلك. بعبارة أخرى، لا يمكن للشبكات العصبية الاصطناعية تأدية عملية التجريد إلا عندما تُدَرَّب على ذلك صراحة في مجالٍ ضيِّق. على سبيل المثال، قد يكون أداء الشبكة المُدربة على تصنيف أنواع الحيوانات ضعيفًا في مجالاتٍ أخرى مثل تصنيف أنواع المركبات. وبناءً على ذلك، فإن فهم التجريد الناجِم عن التعلُّم في الشبكات العصبية الاصطناعية العميقة قد لا يوفِّر أي رؤًى مفيدة للعمليات العصبية التي تقِف وراء التجريد البشري. ولكن الأمر ليس كذلك لحُسن الحظ. فيمكن تدريب الشبكات العصبية العميقة لتمثيل المفاهيم المُجرَّدة باستخدام التعلُّم غير الخاضع للإشراف.
التجريد الأوَّلي
خلايا المفاهيم

الشبكات العصبية الاصطناعية العميقة
إذا كان عُمق شبكة عصبية في الدماغ يُحدد مستوى التفكير المجرد، فكيف ستكون المفاهيم المجردة للشبكات العصبية الاصطناعية العميقة جدًّا؟ في الوقت الحاضر، يتجاوز عُمق الشبكات العصبية الاصطناعية المائة طبقة عادة. وتعمل وحدات مُعالجة رسوم الجرافيك القوية، المُصمَّمة في الأصل لتلبية مُتطلبات ألعاب الكمبيوتر الحديثة، على تسهيل تنفيذ خوارزميات التعلُّم العميق جدًّا. فهل ستتمكن هذه الشبكات العصبية الاصطناعية العميقة من تكوين مفاهيم مُجردة أعلى مستوًى من الأدمغة البشرية؟ هل نجح برنامج «ألفا جو»، أول برنامج كمبيوتر يهزِم أحد أفضل خبراء لعبة «جو» من البشر، في تحقيق الفوز باستخدام مفاهيم مُجردة عالية المستوى تتجاوز الفهم البشري؟
الشبكات العصبية الحقيقية العميقة

يحتوي الجزء العلوي من الدماغ البشري على طيَّات عديدة، مما يزيد من مساحة سطح القشرة المخية الحديثة. ويبدو أن هذه طريقة للاستفادة بقشرة دماغية حديثة مُتضخمة داخل مساحة محدودة داخل الجمجمة. في المقابل، تتَّسم أدمغة قرود القِشَّة العادية بسطح أملس. وفي حقيقة أن أجنة قرود القِشَّة المعدلة جينيًّا لدَيها قشرة دماغية حديثة متضخمة مع بعض التجاعيد على سطحه، إشارة إلى أن «تفكير» هذه القردة قد يختلف إلى حدٍّ كبير عن تفكير قردة القِشَّة العادية، بشرط أن تكون قد وُلدت وظلَّت على قيد الحياة حتى سنِّ البلوغ. بطبيعة الحال، لا تزال أدمغة هذه القرود الطافرة بعيدةً كلَّ البُعد عن تعقيد الدماغ البشري. وهكذا، فمِن غير المرجَّح أن تقترب قُدرتها على التفكير المجرد من قدرة البشر. ومع ذلك، مع التحفُّظ المُتعلق بالقضايا الأخلاقية، قد يأتي هذا المسار البحثي ذات يومٍ بدماغ حيواني على نفس القدْر من تعقيد الدماغ البشري، أو حتى يفوقه تعقيدًا.
خلاصة القول، إن الأساس العصبي للتفكير المجرد البشري العالي المستوى غير واضح. ولكن قد تُصبح الدراسات التي تبحث مباشرة في هذه القضايا رائجةً في المستقبل، وإن كانت قد تصحبها مخاوف تتعلَّق بالاعتبارات الأخلاقية.