الفصل الحادي عشر

الشبكة العصبية العميقة

في الفصلَين التاسع والعاشر، تناولنا منطقتَين مختلفتَين من الدماغ، هما القشرة الجبهية الأمامية والطَّلَل، اللتَين ربما لعِبَ توسُّعُهما دورًا حاسمًا في تطور القدرة البشرية الفريدة على التجريد العالي المستوى. وفي هذا الفصل سنُناقش احتمالية أنَّ هذه القدرة البشرية ترجِع في المقام الأول إلى التنظيم العام للدماغ وليس إلى توسُّع منطقة بعينِها من الدماغ. ولهذا، دعُونا نوجِّه انتباهنا إلى الشبكات العصبية الاصطناعية. نظرًا لكونها فرعًا رئيسًا من فروع الذكاء الاصطناعي، فإنها تقوم بعمليات حسابية تستنِد إلى هياكل تُحاكي الشبكات العصبية البيولوجية. كانت هناك أربع موجاتٍ من أبحاث الشبكات العصبية الاصطناعية على مدار التاريخ منذ أربعينيات القرن العشرين. وكانت الموجة الثالثة منها في الثمانينيَّات. وقد بدأت مسيرتي المِهنية في مجال علم الأعصاب كطالب دراساتٍ عُليا في كاليفورنيا في تلك الفترة تقريبًا. وما زلتُ أتذكَّر بوضوح الإثارة التي أحدَثَتْها في ذلك الوقت.

كان من الصعب فَهم الدماغ بسبب تعقيدِه، ولا يزال كذلك. فالدماغ البشري يحتوي على ما يقرب من مائة مليار خليةٍ عصبية ومائة تريليون رابطة عصبية، ويُشكل العديد من أنواع الخلايا العصبية المُختلفة نظامًا معقدًا للغاية من الروابط العصبية. لذا فإن اكتشاف الطريقة التي يُعالج بها هذا النظام المُعقد المعلومات لتوجيه السلوك في عالَمٍ مُتغير باستمرار يُمثل تحدِّيًا هائلًا. يدرُس خبراء علم الأعصاب التجريبي الدماغ مباشرة، ويستخدم العديد منهم نماذج حيوانية لها أدمغة أقلَّ تعقيدًا إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، يضع علماء الفسيولوجيا العصبية أقطابًا كهربائية دقيقة في الدماغ لرصد نشاط الخلايا العصبية الفردية أثناء انخراط الحيوان في سلوكياتٍ مُعينة، مثل تحديد الرافعة التي سيضغط عليها من الرافعتَين المتاحتَين. وكنهجٍ بديل لفهم الدماغ، يدرس العلماء في مجال علم الأعصاب الحوسبي ما يمكن للشبكات العصبية الاصطناعية فِعله وكيف تؤدِّيه.

في ثمانينيات القرن العشرين، كان علماء الأعصاب والمهندسون على حدٍّ سواء يأمُلون أن تؤدي الشبكات العصبية الاصطناعية إلى تقدُّمٍ كبير في فهمِنا للدماغ وأن تقدِّم حلولًا جديدة لمشاكل الذكاء الاصطناعي الصعبة مثل تصنيف الأشياء المرئية. ولكنهم مُنُوا بخيبة أملٍ مع فتور حماسة البدايات تدريجيًّا؛ إذ لم ترْقَ الشبكات العصبية الاصطناعية إلى مستوى التوقُّعات على الرغم من إسهاماتها الكبيرة. الموجة الرابعة من الشبكات العصبية الاصطناعية تمضي قدمًا الآن، ويقودها «التعلم العميق».

التعلم العميق

تتكوَّن الشبكات العصبية الاصطناعية من طبقاتٍ من الوحدات (أو العُقَد أو الخلايا العصبية الاصطناعية) التي تتصرَّف وفقًا لقواعد مُبسطة مُستمدَّة من الخلايا العصبية البيولوجية (مثل «الدمج والإطلاق»، حيث تجمع كل وحدة المدخلات النشطة وتُصدِر مخرجاتٍ عند تجاوز حدٍّ معين). تحتوي الشبكات العصبية الاصطناعية النموذجية على طبقة مُدخلات وطبقة مُخرجات وعدد مُتغيِّر من الطبقات المخفية (انظر الشكل ١١-١). إذن، ما هو التعلُّم العميق بالضبط في الشبكات العصبية؟ إنه يشير إلى التعلُّم الذي يتم عن طريق شبكة عصبية اصطناعية مُتعددة الطبقات المخفية. تمكن الطبقات المخفية الشبكة العصبية من إجراء حساباتٍ معقدة وغير خطِّية. ويُشير عُمق الشبكة إلى عدد الطبقات المخفية.
fig34
شكل ١١-١: مخطط لشبكة عصبية اصطناعية. الشكل منقول من مقال ماسيمو ميريندا وكارلو بوركارو وديميتريو إيرو بعنوان: «تعلم الآلة المُتطور لأجهزة إنترنت الأشياء المدعومة بالذكاء الاصطناعي: مراجعة»، مجلة سينسورز (بازل) المجلد ٢٠، العدد ٩ (أبريل ٢٠٢٠): 2533 (CC BY).
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وجد العلماء أن أداء الشبكات العصبية الاصطناعية في تطبيقاتٍ مُعينة يمكن تحسينُه جذريًّا، عن طريق إضافة المزيد من الطبقات المخفية (أي جعل الشبكات أعمق). بدأت الشبكات العصبية العميقة تتفوَّق على طرقٍ أخرى في المعايير البارزة لتحليل الصور، وأبرزها تحدِّي التعرُّف البصري الواسع النطاق ImageNet في عام ٢٠١٢، وكانت هذه الإنجازات الشرارة التي أشعلت «ثورة التعلُّم العميق» في الذكاء الاصطناعي.1 وقد أصبح التعلُّم العميق الآن يُستخدَم في كل مجالات أبحاث الذكاء الاصطناعي تقريبًا.
كيف تعمل الطبقات المخفية إذن؟ تُتيح الطبقات المخفية المُتعددة مستوياتٍ متعددة من التجريد، وهو أمر مُفيد لاستخراج التسلسُلات الهرمية للسِّمات. افترض أنك تريد تدريب شبكةٍ عصبية على تعرُّف فصائل الحيوانات من صورها الفوتوغرافية (انظر الشكل ١١-٢). بمجرد تدريبها عن طريق نموذج لبعض صور الحيوانات (الأفيال والفقمات … إلخ)، يمكنك اختبارها بصورٍ جديدة لهذه الحيوانات نفسها. يمكن تدريب شبكة عصبية سطحية (على سبيل المثال، طبقة مخفية واحدة) على أداء هذه المهمة، ولكن عدد الكواشف عن السِّمات المطلوبة في الطبقة المخفية ينمو بصورة كبيرة مع عدد المدخلات. ويمكن للشبكة العصبية العميقة الحدُّ من هذه المشكلة.
fig35
شكل ١١-٢: تعلُّم شبكة عصبية عميقة للتسلسُل الهرمي للسِّمات. الشكل مستنسخ بإذن من هانس شولتس وسفين بينكي، من مقال بعنوان: «التعلُّم العميق: التعلُّم الطبقي للتسلسُلات الهرمية للسمات»، مجلة «كونستليش إنتيليجانس» الألمانية، المجلد ٢٦، العدد ٤ (٢٠١٢): ٣٥٧.
في المثال الموضح في الشكل (١١-٢)، نجحت شبكة عصبية ذات تغذيةٍ أمامية مكونة من ستِّ طبقات في تصنيف الأنواع الحيوانية من الصور الجديدة من خلال تشكيل تسلسُلٍ هرمي للسِّمات.2 تُمثل الطبقات المخفية الأولى سِمات منخفضة المستوى، مثل الحواف الموضعية، التي تُدمَج تدريجيًّا لتمثيل سِمات أكثر تجريدًا في الطبقات المخفية النهائية، والتي تُمثل في النهاية سِمات عالية المستوى لنماذج أولية للأنواع الحيوانية (على سبيل المثال، «سمات الفيل»). تُعَد هذه طريقة قوية وفعَّالة لتنفيذ التعرُّف البصري للأشياء. ويجدُر بنا هنا ملاحظة أنه لم تتوفَّر أي معلوماتٍ حول الأنواع الحيوانية للطبقات المخفية أثناء التدريب. فالشبكة العصبية تُنظم نفسها كي تُمثل السِّمات بصورة هرمية لتحقيق المهمة. في الواقع، استوحي هذا المسار البحثي في مجال الشبكات العصبية من النتائج التي توصَّل إليها علم الأعصاب البصري. تستجيب الخلايا العصبية في المراحل المُبكرة من عملية المعالجة البصرية للسِّمات المنخفضة المستوى مثل الحواف، في حين تستجيب الخلايا العصبية في المراحل المُتقدمة من المعالجة البصرية للسِّمات الأكثر تعقيدًا مثل الوجوه. وفي هذا المثال توضيح لإمكانية تنفيذ استخراج السمات العالية المستوى بسهولة في شبكة عصبية عميقة.

التعلُّم غير الخاضع للإشراف

في المثال السابق، أدَّت الشبكة العصبية الاصطناعية عمليةً لتجريد نتيجة للتعلُّم الخاضع للإشراف البشري. فقد عرض نوع من الحيوانات صراحة في الصورة للشبكة العصبية الاصطناعية (وإن لم يكن للطبقات المخفية) في أثناء التدريب. وبذلك قد يُزعَم أن الشبكة العصبية الاصطناعية قد أدَّت عملية التجريد؛ لأنها تدرَّبت على ذلك. بعبارة أخرى، لا يمكن للشبكات العصبية الاصطناعية تأدية عملية التجريد إلا عندما تُدَرَّب على ذلك صراحة في مجالٍ ضيِّق. على سبيل المثال، قد يكون أداء الشبكة المُدربة على تصنيف أنواع الحيوانات ضعيفًا في مجالاتٍ أخرى مثل تصنيف أنواع المركبات. وبناءً على ذلك، فإن فهم التجريد الناجِم عن التعلُّم في الشبكات العصبية الاصطناعية العميقة قد لا يوفِّر أي رؤًى مفيدة للعمليات العصبية التي تقِف وراء التجريد البشري. ولكن الأمر ليس كذلك لحُسن الحظ. فيمكن تدريب الشبكات العصبية العميقة لتمثيل المفاهيم المُجرَّدة باستخدام التعلُّم غير الخاضع للإشراف.

في عام ٢٠١٢، قام الفريق البحثي بقيادة أندرو نج وجيف دين بتدريب شبكةٍ عصبية مكوَّنة من تِسع طبقاتٍ تحتوي على ملايين الصور غير الموصوفة (أي لم تقدَّم أي معلومات حول ماهية الصور). ومن المُثير للدهشة أنه بعد ثلاثة أيام من التدريب، ظهرت خلايا عصبية تستطيع تعرُّف الوجوه بشكلٍ انتقائي. واستطاعت الخلية العصبية الأفضل أداءً في الشبكة تحديد وجوهٍ من الصور الجديدة بدِقَّة بلغت ٨١.٧ في المائة.3 وقد أظهرت هذه الدراسة والدراسات اللاحقة، على نحوٍ مقنع، أن الشبكات العصبية العميقة قادرة على تمثيل السِّمات العالية المستوى (النموذج الأوَّلي للوجه في المثال أعلاه) دون تعليماتٍ مُحددة بشأن السِّمات محلِّ الاهتمام.

التجريد الأوَّلي

أثبتت دراساتٌ أحدث، على نحوٍ أكثر إثارة للدهشة، أن الشبكات العصبية العميقة قادرة على تمثيل المفاهيم المجردة حتى من دون أي تدريب على الإطلاق، وهو ما يشير أكثر إلى وجود شيءٍ مُميَّز في بِنية الشبكة العصبية العميقة في تمثيل المفاهيم المجردة. وقد قام سي-بوم بايك؛ زميلي في المعهد الكوري المُتقدم للعلوم والتكنولوجيا، بإنشاء شبكاتٍ عصبية عميقة مُستوحاة من بِنية الدماغ البيولوجية. وفي إحدى الدراسات، وجد فريقه أن الخلايا العصبية في شبكة عصبية محاكاة مُتعددة الطبقات تُظْهِر استجاباتٍ خاصة بالأعداد حتى من دون أي تدريب.4 بعبارة أخرى، ينشأ الإدراك العددي تلقائيًّا من الخصائص الإحصائية التي تتَّسم بها الروابط الناقلة للمعلومات في الشبكة العصبية المتعددة الطبقات. وقد أظهرت هذه الخلايا العصبية المُشفِّرة للأعداد في الشبكة العصبية المحاكاة خصائص استجابةٍ مُماثلة لتلك التي تُظهرها الخلايا العصبية المشفِّرة للأعداد الموجودة في الدماغ (انظر الفصل التاسع). على سبيل المثال، تقلُّ حساسيتها للتمييز بين رقمَين مع زيادة حجم الأرقام (على سبيل المثال، حساسيتها للتمييز بين الرقمَين ١ و٢ تُشبه حساسيتها للتمييز بين الرقمَين ١٠ و٢٠)، وهو ما يتوافق مع قانون ويبر-فيشنر (شدة الإحساس تتناسَب طرديًّا مع لوغاريتم شدة التحفيز).
في دراسة أخرى، وجد الفريق خلايا عصبية انتقائية للوجوه في شبكةٍ عصبية مُتعددة الطبقات تُحاكي المسار البصري للقرد دون أي تدريب.5 أظهرت هذه الخلايا العصبية الخاصة الانتقائية للوجوه العديد من خصائص الاستجابة مُشابهة لتلك الموجودة في الخلايا العصبية الانتقائية للوجوه في دماغ القرد. تكشف لنا هذه الدراسات نقطتَين مهمتَين. أولًا: قد تظهر خصائص انتقاء الأرقام والوجوه في شبكة عصبية دون أي تعلُّم. ثانيًا: لا توجَد مثل هذه الخصائص إلا في الشبكات العصبية ذات العُمق الكافي (أي يوجَد بها ما يكفي من الطبقات المخفية). وهكذا، قد تكون الشبكة العصبية العميقة بما فيه الكفاية، مثل دماغ الرئيسيات، قادرةً على توليد مفاهيم مجردة (مثل الإدراك العددي) دون أي خبرةٍ سابقة. بعبارة أخرى، قد تكون بِنية الشبكة العصبية المُتعددة الطبقات في الدماغ هي مصدر الوظائف المعرفية الفطرية مثل التجريد.

خلايا المفاهيم

تُشير الدراسات التي تستخدِم الشبكات العصبية الاصطناعية إلى أن القدرة البشرية الفائقة على التجريد العالي المستوى ربما ترجِع إلى أن الدماغ البشري يحتوي على طبقات أكثر من الروابط العصبية مقارنة بالحيوانات الأخرى، وليس إلى وجود شبكةٍ عصبية مُخصَّصة للتجريد العالي المستوى. والواقع أن البنية الأساسية للدوائر العصبية في القشرة المخية لدى جميع الثدييات مُتشابهة. ومن هذا المنظور، فقد يكمن السبب الأساسي في الوظائف المعرفية العُليا للقشرة الأمامية الجبهية (انظر الفصل التاسع) في كونها القشرة الارتباطية الأرقى، وليس في وجود دوائر عصبية مُتخصِّصة. وعلى وجه الخصوص، تقع القشرة الجبهية القطبية في قمة التسلسُل الهرمي للروابط العصبية (انظر الشكل ٩-٤)، وربما يكون هذا هو السبب وراء تعامُلها مع المفاهيم المُجرَّدة الشديدة التطوُّر لدى البشر.
ولكن ماذا عن الحُصين؟ يمكن اعتباره أيضًا القشرة الارتباطية الأرقى. وعلى هذا، قد يكون البشر قادرين على التخيُّل بحُرية باستخدام المفاهيم المجردة العالية المستوى؛ لأن هذه المفاهيم تتشكَّل تلقائيًّا عندما تمرُّ المدخلات الحسِّية عبر طبقاتٍ مُتعددة من الشبكة العصبية قبل الوصول إلى الحُصين. وتجدُر الإشارة إلى أن حساب عدد الطبقات المخفية بين المُستقبلات الحسِّية والحُصين ليس بالأمر البسيط مثل حساب عدد الطبقات المخفية في شبكة عصبية اصطناعية ذات تغذية أمامية؛ لأن القشرة المخية بها تفرعات عصبية متكررة قوية (أي مجموعة من الخلايا العصبية ترسِل إشارات إلى نفسها) وعادة ما تكون منطقة واحدة من القشرة المخية مُتصلة بمناطق مُتعددة. كذلك، ليس لدَينا إلا بيانات محدودة لإجراء مقارنةٍ منهجية كمِّية لعدد الطبقات المخفية في القشرة المخية عبر الأنواع الحيوانية المختلفة. غير أن مِن الواضح أن الدماغ البشري يحتوي على عددٍ كبير جدًّا من المناطق القشرية الارتباطية.6 على سبيل المثال، في المسار البصري البطني (المسار المُمتد من القشرة البصرية الأولية إلى الحُصين)، يكون عدد المناطق القشرية التي تتوسَّط هذا المسار أكبر بكثيرٍ في البشر عنه لدى الفئران، وزبابيات الشجر، والسناجب الرمادية، والقردة.7
لنتناول الدراسة التالية التي توصَّلت إلى وجود نشاطٍ عصبي مرتبط بالتجريد في الحُصين البشري. كجزء من إجراءٍ لتحديد مصدر نوبات الصرع، سجِّل النشاط العصبي في الحُصين والمناطق المُحيطة به (الفص الصدغي الأوسط) لدى أشخاص مُصابين بالصرع. وقد أظهرت الخلايا العصبية في الفص الصدغي الأوسط لدى هؤلاء المرضى أنماطًا متنوعة من النشاط، استجابة لمُثيرات بصرية متنوعة. ومن المُدهش أن بعض الخلايا العصبية كانت تستجيب فقط لأشخاصٍ أو أشياء مُحددة. على سبيل المثال، كانت الخلية العصبية الموضحة في الشكل (١١-٣) تستجيب لصورِ المُمثل جاكي شان، بينما لم تستجب لصور أشخاص آخرين. من اللافت للنظر أن هذه الخلية العصبية لم تكن تستجيب لصور جاكي شان فحسب، بل تستجيب أيضًا لاسمِه كتابةً ونطقًا.8 وهذا يُشير إلى أن هذه الخلايا العصبية الانتقائية للأشخاص لا تستجيب للسِّمات البصرية فحسب. بل إنها تستجيب للهوية الشخصية، التي تُعَد مفهومًا مجردًا. ولذلك سُميت هذه الخلايا ﺑ «خلايا المفاهيم».9
fig36
شكل ١١-٣: خلية عصبية في الحُصين البشري تستجيب للمُمثل جاكي شان ولكنها لا تستجيب لمُمثل آخر، هو لوتشيانو كاسترو. الصف الأوسط، يوضح مُخططًا نُقَطيًّا لرصد تزايد النبضات (كل نقطة تُمثل نبضةً وكل صفٍّ يُمثل تجربة). الصف السُّفلي يوضح متوسط الاستجابة. الشكل مستنسخ من مقالٍ لهيرنان جي راي وآخرين بعنوان: «تشفير الخلايا العصبية الفردية للهوية في تكوين الحُصين البشري»، مجلة «كارنت بيولوجي»، المجلد ٣٠، العدد ٦ (مارس ٢٠٢٠): 1153 (CC BY).
لم تنجح محاولات العثور على خلايا مفاهيم مُماثلة في الحيوانات. على سبيل المثال، جرى تنشيط الخلايا العصبية الحُصينية لدى القرود من خلال صور وأصوات، كل على حدة، لقردة أخرى في المستعمرة.10 وهذا يُشير إلى أن الحُصين البشري قد يتعامَل مع مفاهيم مجردة عالية المستوى للغاية، على الرغم من أن التفسيرات الأخرى (على سبيل المثال، قد لا تكون القدرة على تشفير الهوية المجردة مفيدة على نحوٍ خاص للقردة التي لا تُشكل مجتمعات اجتماعية كبيرة مثل البشر) معقولة بالقدْر نفسه. ومن الجدير بالذكر أن القشرة الجبهية الأمامية والحُصين، وهما أعلى قشرتَين ارتباطيتَين، لهما قنوات اتصال مباشرة. يمد الحُصين تفرعات عصبية مباشرة إلى القشرة الجبهية الأمامية، وبالعكس، تمد القشرة الجبهية الأمامية تفرعات عصبية مباشرة إلى الحُصين.11 وبطبيعة الحال، يتَّصل كل منهما بالآخر أيضًا بصورةٍ غير مباشرة بواسطة مناطق أخرى من الدماغ، مثل الطَّلَل. ومن الوارد تمامًا أن يتفاعل الحُصين والقشرة الجبهية الأمامية على نحوٍ وثيق عبر هذه المسارات المباشرة وغير المباشرة، وأن تدعم مثل هذه التفاعُلات بين الحُصين والقشرة الجبهية الأمامية، الخيال غير المحدود باستخدام المفاهيم المجردة عالية المستوى لدى البشر.

الشبكات العصبية الاصطناعية العميقة

إذا كان عُمق شبكة عصبية في الدماغ يُحدد مستوى التفكير المجرد، فكيف ستكون المفاهيم المجردة للشبكات العصبية الاصطناعية العميقة جدًّا؟ في الوقت الحاضر، يتجاوز عُمق الشبكات العصبية الاصطناعية المائة طبقة عادة. وتعمل وحدات مُعالجة رسوم الجرافيك القوية، المُصمَّمة في الأصل لتلبية مُتطلبات ألعاب الكمبيوتر الحديثة، على تسهيل تنفيذ خوارزميات التعلُّم العميق جدًّا. فهل ستتمكن هذه الشبكات العصبية الاصطناعية العميقة من تكوين مفاهيم مُجردة أعلى مستوًى من الأدمغة البشرية؟ هل نجح برنامج «ألفا جو»، أول برنامج كمبيوتر يهزِم أحد أفضل خبراء لعبة «جو» من البشر، في تحقيق الفوز باستخدام مفاهيم مُجردة عالية المستوى تتجاوز الفهم البشري؟

افترَضَ البعض أن الدماغ البشري سيصِل إلى أقصى قُدرة معالجة له عند نحو ٣٥٠٠ سنتيمتر مكعب، وهو ما يتجاوز القدرة الحالية (١٣٥٠ سنتيمترًا مكعبًا) بنحو مرتَين ونصف.12 وبسبب قيود المعالجة العصبية ومعالجة الطاقة في الدماغ، فإن دماغًا بحجمٍ أكبر سيكون أقلَّ كفاءة. فهو يتطلَّب المزيد من الطاقة والتبريد القوي، مما سيزيد من الحجم الذي تشغله الأوعية الدموية من الدماغ. علاوة على أن الخلايا العصبية لدَيها حدود فطرية في سرعة معالجة الإشارات، مما يُقيد كفاءة معالجة المعلومات التي يُمكن للدماغ بلوغها من خلال زيادة حجمِه. وإذا كان هذا التقدير صحيحًا، فإن الدماغ البشري لدَيه مساحة للتطوُّر إلى شبكةٍ عصبية أعمق. إذا وُلِد شخص ما بِبنية شبكية أعمق بسبب طفرة، فكيف سيفكر؟ هل سيختلف حسُّه الفني عنَّا؟ إذا تلاعبنا بالجينات بحيث يُولَد كلب بروابط شبكية عصبية عميقة كما هو الحال لدى البشر، فهل سيكون للكلب نفس القُدرة على التفكير المجرد مثل البشر؟ ليس لدَينا حاليًّا إجابات واضحة عن هذه الأسئلة. غير أن جعبتنا لا تخلو من أبحاثٍ في هذا المسار.

الشبكات العصبية الحقيقية العميقة

كما شرحت في الفصل الثامن، فالدماغ البشري الحالي هو نتاج التوسُّع المفاجئ للقشرة الدماغية الحديثة في أثناء التطور. ويرجع هذا على الأرجح إلى حدوث طفراتٍ في بعض الجينات التي تتحكَّم في تطوُّر القشرة المخية الحديثة. ويُعتبر جين ARHGAP11B أحد الجينات البالِغة الأهمية لتطور القشرة البشرية الدماغية الحديثة. فهذا الجين له دور أساسي في تكاثُر الخلايا الجذعية العصبية أثناء النمو المبكر. بعبارةٍ أخرى، يُعزز هذا الجين إنتاج الخلايا العصبية للقشرة الدماغية الحديثة. فماذا سيحدُث إذا تم التعبير عن هذا الجين في أحد الحيوانات؟
تمكن العلماء حتى الآن من التعبير عن هذا الجين في الفئران، وابن مقرض، وقرد القِشَّة. وقد أدى التعبير عنه في الفئران إلى زيادة حجم القشرة المخية الحديثة، إلى جانب مرونة الذاكرة. وكان أداء الفئران التي خضعت للتعبير عن جين ARHGAP11B وفئران المجموعة الضابطة مُماثلًا في تذكُّر موقع ثابت للمكافأة. غير أن الفئران التي تُعبر عن جين ARHGAP11B تفوَّقت على الفئران الضابطة عندما تغير موقع المكافأة يوميًّا، مما يُشير إلى مرونةٍ سلوكية مُعززة.13 ولعلَّنا نتذكَّر من الفصل العاشر أن الأشخاص الذين يُعانون من تلَف في القشرة الجبهية الأمامية يُعانون من ضعف في المرونة السلوكية.
وماذا عن قرد القِشَّة، وهو قرد صغير الحجم؟ هل يجعل التعبير عن جين ARHGAP11B هذا القرد أكثر ذكاءً؟ هل يسمح له هذا الجين بالتفكير باستخدام مفاهيم مُجردة عالية المستوى؟ كما قد تتوقَّع، لم تخلُ هذه الدراسات من المشاكل الأخلاقية. ولهذا السبب أوقف العلماء الألمان واليابانيون الذين أجرَوا هذا العمل البحثي المشروع قبل ولادة القرد التجريبي.14 فقد أزالوا الأجنة الطافرة جراحيًّا وفحصوا أدمغتها. لذا من غير المعروف ما إذا كانت قرود القِشَّة هذه «ستفكر» بصورةٍ مختلفة عن القرود العادية. غير أنه وُجِدَ أن التعبير الجيني قد غيَّر تطوُّر دماغ قرد القِشَّة. فقد تضخَّمت قشرته الدماغية الحديثة وتجعَّدت بصورةٍ واضحة (انظر الشكل ١١-٤).
fig37
شكل ١١-٤: التعبير عن جين ARHGAP11B في دماغ قرد القِشَّة. (يسارًا) قرد القِشَّة الشائع. المقطع مستنسخ من “Common Marmoset (Callithrix jacchus),” NatureRules1 Wiki، تاريخ زيارة الرابط ٢٨ أغسطس ٢٠٢٢، https://naturerules1.fandom.com/wiki/Common_Marmoset (CC BY-SA). (أعلى اليمين) دماغ جنين قرد قِشَّة طبيعي. (أسفل اليمين) دماغ قرد يُعبر عن جين ARHGAP11B البشري. المَقطعان مستنسخان بإذنٍ من مايكل هايد وآخرين، «جين ARHGAP11B لدى البشر يزيد من حجم وطيِّ القشرة المخية الحديثة للرئيسيات في جنين قرد القِشَّة»، دورية «ساينس»، مجلد ٣٦٩، رقم ٦٥٠٣ (يوليو ٢٠٢٠): ٥٤٧.

يحتوي الجزء العلوي من الدماغ البشري على طيَّات عديدة، مما يزيد من مساحة سطح القشرة المخية الحديثة. ويبدو أن هذه طريقة للاستفادة بقشرة دماغية حديثة مُتضخمة داخل مساحة محدودة داخل الجمجمة. في المقابل، تتَّسم أدمغة قرود القِشَّة العادية بسطح أملس. وفي حقيقة أن أجنة قرود القِشَّة المعدلة جينيًّا لدَيها قشرة دماغية حديثة متضخمة مع بعض التجاعيد على سطحه، إشارة إلى أن «تفكير» هذه القردة قد يختلف إلى حدٍّ كبير عن تفكير قردة القِشَّة العادية، بشرط أن تكون قد وُلدت وظلَّت على قيد الحياة حتى سنِّ البلوغ. بطبيعة الحال، لا تزال أدمغة هذه القرود الطافرة بعيدةً كلَّ البُعد عن تعقيد الدماغ البشري. وهكذا، فمِن غير المرجَّح أن تقترب قُدرتها على التفكير المجرد من قدرة البشر. ومع ذلك، مع التحفُّظ المُتعلق بالقضايا الأخلاقية، قد يأتي هذا المسار البحثي ذات يومٍ بدماغ حيواني على نفس القدْر من تعقيد الدماغ البشري، أو حتى يفوقه تعقيدًا.

خلاصة القول، إن الأساس العصبي للتفكير المجرد البشري العالي المستوى غير واضح. ولكن قد تُصبح الدراسات التي تبحث مباشرة في هذه القضايا رائجةً في المستقبل، وإن كانت قد تصحبها مخاوف تتعلَّق بالاعتبارات الأخلاقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥