الفصل الثاني عشر

مشاركة الأفكار والمعرفة من خلال اللغة

«إذا كانت رؤيتي أبعدَ من الآخرين، فهذا لأنني أقف على أكتاف العمالقة.» كثيرًا ما تُستخدَم هذه المقولة الشهيرة التي وردت في رسالةٍ من إسحاق نيوتن إلى عالِم آخر بارز ومنافس، ألا وهو روبرت هووك، للدلالة على كيفية تحقيق التقدُّم العلمي. نادرًا ما تنشأ الاكتشافات والاختراعات والابتكارات من فراغ. فنحن نعتمِد على المعرفة التي اكتسبها أسلافنا لتحقيق التقدم الفكري.

كان جاليليو جاليلي، الذي تُوفي في العام الذي وُلد فيه نيوتن (١٦٤٢)، عملاقًا من العمالقة الذين وقف نيوتن على أكتافهم. لقد أرسى جاليليو الأساس لفهم حركة الأجسام، بما في ذلك صياغة مفهوم «القصور الذاتي» (يظلُّ الجسم في نفس حالة الحركة ما لم يتعرَّض لقوة خارجية تُغير من حالته)، والذي كان له تأثير قوي على نيوتن. كان يوهانس كيبلر عملاقًا آخر ممَّن أثَّروا في نيوتن. اكتشف كيبلر، مُستعينًا بالبيانات الفلكية التي جمعها تيخو براهي على مدار عقود، قوانين حركة الكواكب. واستنادًا لعمل كيبلر، وضع نيوتن قوانين عامة للحركة يُمكنها تفسير جميع أنواع الحركة، سواء كانت دوران الأرض حول الشمس، أو سقوط تفَّاحة من شجرة. قبل ميلاد نيوتن، كان لجاليليو وكيبلر رؤية أبعد من مُعاصريهما؛ لأنهما بدورهما وقفا على أكتاف نيكولاس كوبرنيكوس، الذي وضع نموذج مركزية الشمس للنظام الشمسي.

لقد بحثنا حتى الآن الآليات العصبية المسئولة عن العمليات الفكرية للإنسان التي تُمكنه من الإبداع، مع التركيز بصفةٍ خاصة على الخيال والتجريد. ولكننا لم نلتفِت كثيرًا لمَلَكة جوهرية أخرى للعقل البشري تُساعده على الإبداع، ألا وهي القدرة على تبادُل الأفكار والمعرفة. يُشكل التواصل الاجتماعي الذي ينطوي على مفاهيم مُجردة عالية المستوى ضرورةً أساسية لتحقيق التقدُّم العلمي والتكنولوجي، كتلك الإنجازات الفارقة المُوضحة في الشكل (١). من الصعب أن نتخيَّل حضارة إنسانية معقدة ومُتقدمة مثل حضارتنا الحالية بدون لغة. وفي هذا الصدد، يُمثل اكتساب القدرة اللغوية خطوةً مهمة في التطوُّر البشري، كما وصفها مارك باجيل قائلًا: «بفضل امتلاك البشر للغة، كانت لديهم شفرة عالية الدقة لنقل المعلومات التفصيلية عبر الأجيال. لقد كانت المعلومات الكامنة وراء هذه المعلومات مشفرةً تاريخيًّا في صورة تعليمات لفظية، ومع ظهور الكتابة أصبح حفظها مُمكنًا وازدادت تعقيدًا. إن امتلاك القدرة اللغوية إذن، هو السبب وراء قُدرة البشر على خلق تكيُّفات ثقافية مُتطورة تراكمت الواحدة فوق الأخرى على مدار تاريخِنا كنوع.»1

سنستكشف اللغة في هذا الفصل، ذلك الشكل الفريد من أشكال التواصل البشري الذي ارتقى بالإبداع الجمعي للبشرية ككلٍّ إلى بُعدٍ جديد. وسوف نبحث بعض الموضوعات المُختارة المُتعلقة باللغة، من بينها أساسها العصبي، وعلاقتها بالتفكير المجرد، وأصلها.

عالمية اللغة

اللغة هي نظام تُستخدَم من خلاله الأصوات والرموز والإيماءات وفقًا لقواعد نحوية للتواصُل. لم يُكتَشَف قطُّ وجود أي قبيلة صامتة، مما يُشير إلى أن اللغة عالمية في جميع المُجتمعات البشرية. وعلى الرغم من وجود العديد من اللغات المُختلفة (أكثر من سبعة آلاف لُغة ولهجة في جميع أنحاء العالم)، فإن جميع اللغات تُستخدَم بطرُق مُماثلة: لتعميق التجارب الشخصية، والتعبير عن المشاعر الدقيقة التي يصعُب فهمها، وطلب المعلومات (من خلال طرح الأسئلة)، واختلاق القصص (أحيانًا بغرَض الخداع)، إلى جانب العديد من الجوانب الأخرى للتواصُل البشري. وتتشابَه عملية اكتساب اللغة أيضًا في جميع الثقافات. علاوة على ذلك، توجَد فترة حرجة يتعلَّم خلالها الأطفال استخدام اللغة دون عناء بلا أي تدريبٍ رسمي في حال تعرضهم لبيئة لغوية طبيعية. وفي هذا الشأن يُضيف باجيل موضحًا: «تعتمد جميع اللغات البشرية على الجمع بين الأصوات أو «الوحدات الصوتية» لتكوين الكلمات، والعديد من هذه الأصوات مشتركة عبر اللغات، ويبدو أن اللغات المختلفة تمثِّل العالم دلاليًّا بطرقٍ مُماثلة؛ إذ تعترف جميع اللغات البشرية بالماضي والحاضر والمُستقبل، وجميع اللغات البشرية تنظم الكلمات في جُمل. وجميع البشر قادرون أيضًا على أن يتعلم بعضهم لغاتِ بعض، وأن يتحدَّثوا بها».2 وتشير عالمية اللغة إلى أن الدماغ البشري قد طوَّر أنظمةً خاصة لمعالجة اللغة.

تفرُّد اللغة البشرية

غالبًا ما تُوضَع اللغة على رأس قائمة المعايير التي تُميز البشر عن الحيوانات الأخرى. فعلى الرغم من أن الحيوانات الأخرى، بخلاف البشر، يتواصل بعضها مع بعض، فثمة شكٌّ أن التواصل بين الحيوانات يُمكن اعتباره لغة. فالسِّمات التي عادة ما تُنسَب للغة البشرية إما غائبة أو محدودة إلى حدٍّ كبير في نظُم التواصُل لدى الحيوانات الأخرى،3 وهي كما يلي:
  • «الانفصال»: تتكوَّن اللغة البشرية من مجموعةٍ من الوحدات المُنفصلة. أصغر وحدة كلامية هي الفونيم (أو صوت الكلمة). يوجَد أربعة وأربعون فونيمًا مُستقلًّا في اللغة الإنجليزية يُميز كلمة عن أخرى. على سبيل المثال، تشترك الكلمتان فأس وفأر في أول وحدتَين صوتِيَّتين (فونيمَين)، ألا وهما الفاء والألف، ولكنهما تختلفان في الأخيرة. على مستوًى آخر، تُدْمَج الكلمات الفردية لإنشاء عباراتٍ وجُمل. تُوجَد جُمل مكوَّنة من خمسِ أو ستِّ كلمات، ولكن لا تُوجَد جُمل مكوَّنة من خمس كلماتٍ ونصف. إن كلمتَي فأس وفأر مختلفتان تمامًا، ولا يُوجَد معنًى يتخلَّلهما.
  • «القواعد النحوية»: تحكم القواعد النحوية البنية الأساسية للغة. وتُدْمَج الوحدات اللغوية وفقًا لهذه القواعد للتعبير عن المعاني.
  • «الإنتاجية»: لا يُوجَد حدٌّ أقصى لطول الجملة التي يمكن إنشاؤها باستخدام الكلمات. ويتمتع البشر بالقدرة على إنتاج عددٍ لا نهائي من التعبيرات، من خلال الجمع بين مجموعة محدودة من الوحدات اللغوية.
  • «الإزاحة»: يُمكن للبشر التحدُّث عن أشياء غير حاضرة توًّا (مثل الأحداث الماضية والمستقبلية) أو غير موجودة أصلًا (مثل المخلوقات الخيالية التي تعيش على المريخ).
نحن ندمج وحدات لغوية منفصلة (مثل الكلمات) وفقًا لقواعد نحوية لتوليد تعبيرات كلامية لا نهائية (مثل الجُمل) تتضمن أشياء غير موجودة أصلًا. ويملك العديد من أنواع الحيوانات القدرة على التواصل المُعقد الذي يُظهر بعض سِمات اللغة البشرية. على سبيل المثال، تصف الرقصة الاهتزازية للنحل موقِع وثراء مصدر الغذاء،4 وتختلف نداءات كلاب البراري التحذيرية وفقًا لنوع المُفترس وسِمات المفترس الفردية، بما في ذلك لونه وشكله.5 ولكن لا يُظهِر أي نظام تواصُل حيواني كل سِمات اللغة البشرية. فاللغة البشرية نظام تواصُل مُعقَّد ومرِن وقوي. ويمكن أن يؤدي الاستخدام المُبتكِر للكلمات وفقًا لقواعد إلى توليد تعبيراتٍ لا محدودة. لذا، لا يقترب أي نظام تواصُل حيواني آخر من اللغة البشرية.

هل يمكن تعليم الحيوانات اللغة البشرية؟

إن التواصُل الطبيعي للحيوانات لا يرقى إلى مستوى اللغة البشرية، ولكن هل من الممكن تعليم الحيوانات استخدام اللغة؟ والسؤال هو ما إذا كان من الممكن تدريب الحيوانات الأخرى على دمج الرموز بطرُق مُبتكرة، وفقًا لنظامٍ نحوي ما للتعبير عن أشياء جديدة. وقد كانت هناك محاولات عديدة لتعليم الحيوانات (مثل الشمبانزي والدلافين) اللغة البشرية، وجاءت النتائج مُثيرة للجدل. لنتناول حالة كوكو (٤ يوليو ١٩٧١–١٩ يونيو ٢٠١٨)، وهي أنثى غوريلا تنتمي إلى سلالة غوريلا السهول الغربية، تعلمت وعاشت في بيئةٍ لغوية (جمعت بين لغة الإشارة واللغة الإنجليزية المنطوقة) منذ كان عمرها عامًا واحدًا. وقد زُعِم أن كوكو كانت قادرةً على دمج المفردات في «عباراتٍ إبداعية ومُبتكرة بلُغة الإشارة».6
ابتكرت كوكو العديد من الإشارات الجديدة دون تعليمات، وعدَّلت الإشارات القياسية في لُغة الإشارة الأمريكية لتنقل التغييرات النحوية والدلالية، واستخدمت الإشارات في الوقت نفسه، وابتكرت أسماءً مُركبة (التي قد يكون بعضها استعارات مقصودة)، وانخرطت في استخدام لغةٍ إشارية مُوجَّهة ذاتيًّا بغرض التعبير عن نفسها وليس للإشارة إلى أشياء بعينها، واستخدمت اللغة للإشارة إلى أشياء غير موجودة في الزمان والمكان الحاضرَين، وللخداع والإهانة والجدال والتهديد والتعبير عن مشاعرها وأفكارها ورغباتها. وهذه النتائج … تدعم الاستنتاج القائل بأن اكتساب اللغة واستخدامها من قِبل الغوريلا يتطوَّران بطريقةٍ مماثلة لطريقة الأطفال من البشر.7
فيما يلي مُحادثة بلغة الإشارة بين المُدرِّبة فرانسين باترسون (المشار إليها ﺑ «ف»)، وكوكو (المشار إليها ﺑ «ك») حول قطة كوكو الصغيرة المُفضلة، «أوول بول»، التي تُوفِّيت في حادث سيارة قبل بضعة أشهر:8
ف : كيف شعرتِ عندما فقدتِ بول؟
ك : أريد.
ف : كيف شعرتِ عندما فقدتها؟
ك : افتح مشكلة زيارة آسفة.
ف : هل تتذكَّرين عندما ماتت بول، كيف شعرت؟
ك : أحمر أحمر أحمر سيئ آسفة كوكو- حُب جيد.

فُسِّر هذا الحوار بوصفه تعبير كوكو عن مشاعر الحزن إزاء وفاة أوول بول. غير أن العلماء المُتشكِّكين تُساوِرهم شكوك إزاء ما إذا كانت كوكو، وغيرها من الحيوانات التي تعلمت اللغة أيضًا، قادرة حقًّا على دمج الرموز بطرُق مبتكرة. لا يمكن استبعاد احتمال أن تكون هذه الحيوانات قد تعلمت التصرُّف بطرُق مُعينة في ظلِّ ظروفٍ مُعينة (من خلال ارتباطات بسيطة بين المُثير والاستجابة) للحصول على مكافأة، دون فهم المعنى الكامن وراء أفعالها. على سبيل المثال، ربما تعلمت القيام بأفعال مُعينة استجابة لإشارات مدربها اللاواعية غير الملحوظة. وعادة ما يُطلَق على هذا «تأثير هانز الذكي»:

في العقد الأول من القرن العشرين، لفت حصان يُدعى هانز أنظار العالم في برلين باعتباره أول وأشهر حيوان «ناطق» ومُفكر … أجرى هانز عملياتٍ حسابية دقيقة، وكان ينقر بحافرِه ليُعبِّر عن الأرقام، وكان يُجيب عن الأسئلة بالطريقة نفسها، باستخدام أبجدية استُبْدِلَت فيها الأرقام بالحروف (A = 1, B = 2, C = 3) على سبُّورة وضعت أمام عينَيه. وهكذا، دمج هانز الحروف محولًا إيَّاها إلى كلمات، والكلمات إلى جُمل، والجُمل إلى أفكار وخواطر … وجد البروفيسور أوسكار بفونجست أن الحصان غير قادرٍ على الإجابة عن أي سؤالٍ إذا كان الشخص الذي يسأله لا يعرف الإجابة … وعلاوة على ذلك، لم يستطع الحصان الإجابة عن أي سؤالٍ عند وضع حاجزٍ فاصل بينَه وبين مُمتحنه، بحيث لا يُمكنه رؤية وجهه … واتضح أن الحصان كان ملاحظًا مُمتازًا وذكيًّا؛ إذ استطاع قراءة أدقِّ الإشارات في وجه سيدِه، التي تُشير إلى أنه نقر، أو كان على وشك النقر، على الرقم أو الحرف الصحيح وسيحصل على مكافأة. ولكنه لم يكن قادرًا على الأداء في غياب مثل هذه الإشارة. بل إن بفونجست وجد نفسه عاجزًا عن التحكُّم في هذه الإشارات، عندما استمرَّ الحصان في الإجابة بصورةٍ صحيحة عندما كان وجهه ظاهرًا للحصان.9
ثمَّة مصدر قلَق آخر يتمثَّل في أنَّ إشارات كوكو كانت لا بدَّ أن تُترجَم من قِبل المُدربة. «إن المحادثات مع الغوريلا تُشبِه المحادثات مع الأطفال الصغار، وفي كثيرٍ من الحالات تحتاج إلى تفسيرٍ يستند إلى السياق والاستخدام السابق للإشارات المَعنية. وكثيرًا ما تكون التفسيرات البديلة لكلام الغوريلا مُمكنة».10 فسلسلة من إشارات اليد التي ترجمتها المُدربة إلى «أنت مفتاح هناك أنا بسكويت» (والتي يُفترَض أنها تعني «من فضلك استخدمي مفتاحك لفتح تلك الخزانة، وأحضري لي قطعة من البسكويت لآكلها») قد تُمثل في الواقع «تلويح كوكو بإشاراتٍ عشوائية في محاولةٍ مرتبطة بموقفٍ بعينه فحسب للحصول على الطعام من مدربتها، التي كانت تتحكم في خزانة طعام مُقفلة. لم تقُل كوكو أي شيءٍ قط؛ فلم تزعُم حقيقةً مُحددة، أو تعبر عن رأيٍ مُحدد، أو تطرح سؤالًا يمكن تحديده بوضوح. إن إنتاج إشاراتٍ عرضية مُرتبطة بالسياق، تكون في الغالب استجابة لإشارات باترسون، بعد سنواتٍ من التدريب المُكثَّف القائم على المكافأة، ليس استخدامًا للغة».11

خلاصة القول، لا يزال هناك غموض حول ما إذا كانت هناك حيواناتٌ أخرى خلاف البشَر قادرة على تعلُّم استخدام اللغة. ورغم أننا قد نعترِف بإمكانية ذلك، فإن استخدامها للكلمات يختلِف عن استخدام البشر البالِغين لها. وفي أفضل الأحوال، لا تتجاوز القدرة اللغوية التي اكتسبها الحيوان قدرة طفلٍ في الثالثة من عمره.

مناطق اللغة في الدماغ

يبدو واضحًا أن النظام المُعقد والمرِن للغة البشر فريد من نوعه. وبسبب الافتقار إلى نموذجٍ حيواني مشروع، فإن دراسة تفاصيل العمليات العصبية الأساسية للُّغةِ محدودة. لقد أحرزنا تقدمًا هائلًا في فهم العمليات العصبية التي تُشكل الأساس لكثيرٍ من وظائف المخ التي يشترك فيها البشر والحيوانات الأخرى. على سبيل المثال، يُمكننا تفسير عمليات التعلُّم والتذكُّر من حيث ديناميكيات الدوائر العصبية البديلة؛ نتيجةً لوجود وصلاتٍ عصبية مُعززة (فاعلية التشابُك العصبي المُعززة، انظر الفصل الرابع). علاوة على ذلك، حدَّدنا العمليات الجزيئية التي تكمُن وراء تغيُّر فاعلية التشابُك العصبي. بل يستطيع العلماء التحكُّم في خلايا عصبية مُحددة (تشغيل وإيقاف خلايا عصبية مُحددة اصطناعيًّا باستخدام تقنية تُسمَّى علم البصريات الوراثي) لزرع ذاكرةٍ زائفة لدى فأر.12 وبالمقارنة بفهمنا للأساس العصبي للذاكرة، فإن فهمنا للأساس العصبي للُّغة متأخر للغاية. غير أننا حدَّدنا مناطق في المخ البشري مُتخصِّصة في معالجة اللغة.
كانت أول منطقة مُتخصِّصة في معالجة اللغة تم تحديدُها هي منطقة بروكا. في عام ١٨٦١، وصف طبيب الأعصاب الفرنسي بول بروكا حالةً لمريض فقد القُدرة على الكلام، دون أي إعاقات جسدية أو عقلية أخرى. كان اسم المريض لويس فيكتور لوبورن، لكنه كان معروفًا باسم تان لأن «تان» كان المقطع اللفظي الوحيد الذي استطاع النُّطق به. وقد كشف الفحص التشريحي الذي أُجري بعد الوفاة، عن وجود تلَفٍ كبير في الجزء الأوسط السُّفلي من الفص الجبهي الأيسر (التلفيف الجبهي السفلي الأيسر)، وهي المنطقة المعروفة الآن باسم منطقة بروكا (انظر الشكل ١٢-١).13 ويتَّسم الأشخاص المُصابون بتلَف في تلك المنطقة بفهم سليم نسبيًّا، ولكنهم يُواجهون صعوبةً كبيرة في التحدُّث. وغالبًا ما يكون كلامهم مُختصرًا للغاية كلغة البرقيات؛ إذ يتكوَّن في الغالب من أسماء وأفعال فقط. ويُطلَق على هذا النوع من الحُبْسة أو فقدان القدرة على الكلام اسم حُبْسة بروكا، أو الحُبْسة التعبيرية، أو الحُبْسة الحركية.
بعد بضع سنوات، رصد طبيب الأعصاب الألماني كارل فيرنيك نوعًا مُختلفًا من الحُبْسة. يستطيع المرضى المُصابون بهذا النوع التحدُّث بطلاقة، ولكنهم يجدون صعوبةً في الفهم. ورغم أن كلامهم سلس (أي مُتواتر وصحيح نحويًّا)، فإنه بلا معنًى، وغالبًا ما لا يُدركون ذلك. يبدو أن نظام إنتاج الكلام لديهم يعمل دون السيطرة الواجبة على محتوى الكلام. يتمركز التلَف لدى هؤلاء المرضى في الجزء الخلفي من الفص الصدغي الأيسر بالقُرب من القشرة السمعية الأولية، وهي المنطقة المعروفة الآن باسم منطقة فيرنيك (انظر الشكل ١٢-١).14 ويُطلَق على هذا النوع من الحُبْسة، حُبْسة فيرنيك، أو الحُبْسة الاستقبالية، أو الحُبْسة الحسِّية.
fig38
شكل ١٢-١: منطقتا بروكا وفيرنيك. في نموذج فيرنيك-جيشويند، تُباشر هاتان المنطقتان مهامَّ إنتاج اللُّغة والفهم على التوالي، وتتبادلان المعلومات عبر الحزمة المقوَّسة، وهي حزمة المحاور العصبية الرئيسية التي تربطهما. عندما نُكرر كلماتٍ منطوقة، تُحوَّل أصوات الكلام، بعد مُعالجتها أولًا بواسطة الجهاز السمعي، إلى كلماتٍ ذات معنًى في منطقة فيرنيك ثم تُرْسَل إشارات الكلمات إلى منطقة بروكا (عبر الحزمة المقوَّسة) حيث تُحوَّل إلى إشاراتٍ حركية لتحريك العضلات لإنتاج الكلام. أما عندما نقرأ نصًّا مكتوبًا، فتُحوَّل الإشارات البصرية، التي يُعالجها الجهاز البصري في البداية، إلى إشاراتٍ شبه سمعية وتُرْسَل إلى منطقة فيرنيك. ثم تُحَوِّل منطقة فيرنيك تلك الإشارات إلى كلمات ذات معنًى.
طرح فيرنيك نموذجًا عصبيًّا مُبكرًا للغة، وقام نورمان جيشويند بتوسيع نطاقه فيما بعد. كان نموذج فيرنيك-جيشويند مؤثرًا إلى حدٍّ كبير، إلا أنه يستند إلى تبسيطات مُفرطة، ويتسم بأنه مَعيب في كثيرٍ من النواحي.15 على سبيل المِثال، لا توجَد فروق وظيفية واضحة ومُحددة بين حُبْسة بروكا وحُبْسة فيرنيك؛ إذ تنطوي معظم حالات فقدان القدرة على الكلام على عجزٍ عن الفهم وعجزٍ عن الكلام على حدٍّ سواء. ويذهب البعض إلى أن «النموذج مَعيب على مستوى أبعاد عديدة للغاية، حتى إنه لا يمكن اعتبار الأبحاث الجديدة مجرد تحديثات له».16 علاوة على ذلك، تنطوي معالجة اللغة على مستوياتٍ متعددة من المعالجة (الصوتية والنحوية والدلالية) وعلى تفاعُلات مع أنظمة عصبية متعددة (مثل أنظمة التحكم الحركي والتنفيذي ونظم التحكم في الذاكرة). ومن ثم، فإن تأطير معالجة اللغة، باعتبارها مجرد عملية فهمٍ وإنتاج للكلام، لن يكون مفيدًا في الكشف عن العمليات العصبية المتنوعة التي تكمُن وراء اللغة. وتُركز النماذج العصبية الأدقُّ للغة الآن على المكوِّنات الفرعية الوظيفية لمعالجة اللغة، وليس على التمييز بين فَهم وإنتاج اللغة. لن نتناول هذه النماذج الجديدة هنا، ولكن المجال ينتقل «من التوصيفات العامة غير الدقيقة للُّغة والرؤى ذات الطبيعة الارتباطية إلى حدٍّ كبير، إلى التحليلات المعرفية الدقيقة التي تستهدف تحديد الآليات التفسيرية».17

اللغة والفكر

كتب الشاعر والكاتب المسرحي الأيرلندي أوسكار وايلد ذات يوم قائلًا: «لا يوجد أسلوب تصرُّف، ولا شكلٌ من أشكال العاطفة، لا نتشاركه مع الحيوانات الأدنى. باللغة وحدَها نسمو فوقهم، أو نسمو بعضنا فوق بعض؛ «باللغة، التي هي أصل الفِكر، وليست نتاجًا له».»18
لقد بدأت هذا الفصل بالتأكيد على دور اللغة في تبادُل المعرفة وتجميعها عبر الأجيال؛ أي الجانب التواصُلي للغة. ومن هذا المنطلق، يفترض اعتبار اللغة ابنة الفكر؛ أي وسيلة التعبير عن أفكارنا الداخلية. ولكن اللغة، وفقًا لوايلد، لا تُعبر فقط عن أفكارنا، بل تُشكلها أيضًا، وقد شاركه في هذا الرأي العديد من المشاهير مثل لودفيج فيتجنشتاين («حدود لُغتي تعني حدود عالمي»)19 وبرتراند راسل («إن اللغة لا تُستخدَم فقط للتعبير عن الأفكار، بل لجعل الأفكار التي لا يُمكن أن توجَد لولاها مُمكنة»).20
لا خلاف على أن اللغة تؤثر على الفكر. ولا شك أن «استخدام اللغة له تأثيرات قوية ومُحددة على الفكر. وهذا هو الغرَض منها، أو على الأقل هذا هو أحد أغراض استخدامها: نقل الأفكار من عقل إلى آخر».21 يسمع أغلبنا «صوتًا داخليًّا» أو «كلامًا داخليًّا» أثناء التفكير. ولكن هل اللغة ضرورية للفِكر؟ إذا فقَدْنا اللغة، فهل نفقد الفكر أيضًا؟ الإجابة على هذا السؤال واضحة: «لا، ليس تمامًا». تشير الدراسات العصبية إلى أن مناطق الدماغ المُرتبطة باللغة تختلف عن تلك المُرتبطة بوظائف إدراكية أخرى مثل الذاكرة، والتفكير، والتخطيط، واتخاذ القرار، والإدراك الاجتماعي. كما أن الأشخاص الذين يُعانون من الحُبْسة الشاملة؛ أي فقدوا قُدرتهم اللغوية بسبب تلَف الدماغ، يمكنهم أداء مجموعة متنوعة من المَهامِّ التي تتطلَّب التفكير المجرد.22 علاوة على ذلك، وكما ناقشنا في الفصل الثامن، فنحن لسْنا النوع الحيواني الوحيد القادر على التفكير المجرد؛ فقردة الشمبانزي والدلافين، على سبيل المثال، تُظهر قدراتٍ رائعة في الاستدلال المجرد. من الواضح إذن أن اللغة ليست شرطًا أساسيًّا للفكر. فكثير من الناس يأتون بأفكارٍ إبداعية من خلال التفكير غير اللَّفظي. وقد زعم ألبرت أينشتاين أن تَخيُّله بأنه يُطارد شعاعًا من الضوء، كان له دور لا يُنسى في وضع نظرية النسبية الخاصة. بل إن بعض الناس يُفكرون دون وجود حديث داخلي.
وعلى الرغم من أن التفكير من دون كلماتٍ أمر مُمكن، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن اللغة لا تلعب دورًا في تشكيل أفكارنا. وقد دارت مناقشات كثيرة حول ما إذا كانت اللغة تؤثر في الفكر وكيف تؤثر فيه. ويذهب البعض إلى أن الدور الأساسي للغة يقتصر على التواصل. فاللغة تُمكِّننا من التعبير عن الأفكار الداخلية، ولكنها ليست ضروريةً للفكر المجرد نفسه. ووفقًا ﻟ «فرضية لغة الفكر» المؤثرة، فنحن نُفكر باستخدام لُغة ذهنية (غالبًا ما يُطلَق عليها «اللغة العقلية») لها بِنية لغوية. بعبارة أخرى، الأفكار هي في الواقع «جُمَل داخل الرأس».23 ومن هذا المُنطلق، من غير المُرجَّح أن يتجاوز تأثير اللغة على الفكر ذلك، من خلال دورها في التواصُل:
اللغة تُشبه حاسَّة البصر إلى حدٍّ كبير. فاللغة والبصر أداتان مُمتازتان لنقل المعلومات. والمكفوفون يُواجهون صعوبةً أكبر في تعلُّم جوانب مُعينة من الثقافة البشرية مقارنةً بالمُبصرين؛ وذلك لافتقارهم إلى نفس القُدرة على الوصول إلى الكتب والرسوم البيانية والخرائط والتلفاز وما إلى ذلك. ولكن هذا لا يعني أن حاسَّة البصر تجعلك ذكيًّا، أو أن شرح كيفية تطوُّر البصر أو نموِّه يُعادل شرح تطوُّر الفكر المجرد ونموِّه. فقد تكون فائدة اللغة مُشابهة لفائدة البصر. فهي أداة للتعبير عن الأفكار وتخزينها. فهي ليست آلية تخلق القدرة على توليد هذه الأفكار وتقديرها في المقام الأول.24
على النقيض من هذا الرأي، ينظر كثيرون إلى اللغة باعتبارها أكثر من مجرد وسيلة للتواصل الفكري. وتذهب نسخة قوية من هذا المنظور، تُعرف باسم «فرضية سابير-وورف» أو «فرضية النسبية اللغوية»، إلى أن تصوُّرنا للعالم يتحدَّد من خلال بِنية لغة مُعينة نستخدمها.25 وبناءً على هذه الفرضية، قد يكون لدى المُتحدثين بالصينية والإنجليزية طرُق تفكير مختلفة. وهذه الفرضية، على الأقل في نسختها المتطرفة، لا تحظى بقبولٍ واسع. غير أن كثيرًا من الباحثين يرَون أن اللغة يمكن أن تؤثر بقوة على أفكارنا، وخاصة تلك التي تنطوي على مفاهيم مجردة، بما يتجاوز دورَها في التواصُل.
على سبيل المثال، يرى جاي دوف أن اللغة شكل من أشكال «التعزيز العصبي»، فيقول إن «نظام اللغة المُدرك عصبيًّا يُشكل عنصرًا فرعيًّا مهمًّا في نظامٍ مفاهيمي مرِن مُتعدد الوسائط ومُتعدد المستويات. فهو ليس مجرد مصدرٍ للمعلومات عن العالم الخارجي، بل إنه أيضًا إضافة حوسبية تعمل على توسيع نطاقنا المفاهيمي.»26 وتؤكد آنا بورجي على دور اللغة في تمثيل المفاهيم المُجردة بقولها: «إن إمكانات اللغة تُستغَلُّ إلى حدودها القصوى في تمثيل المفاهيم المجردة؛ فالمُسمَّيات يمكن أن تُساعدنا في تجميع العناصر المُتباينة للمفاهيم المجردة معًا، ويمكن للحديث الداخلي أن يُحسن قدرة أدمغتنا على تتبُّع المعلومات حول الحالات والعمليات الداخلية وعلى النظر داخل أنفسنا بتعمق.»27
وفقًا لهذا المنظور، لا تُستخدم اللغة لتبادل الأفكار فحسب، بل تلعب دورًا أيضًا في تمثيل المفاهيم المجردة مثل «الحرية» و«النزاهة» (ولكنها تساهم على نحوٍ أقل في تمثيل المفاهيم الملموسة مثل «الطاولة» و«القط»). وفي هذا الصدد، أشار لوبيان ووينتر إلى أن اللغة تجريدية أكثر منها رمزية، على الرغم من أن الرمزية — بمعنى تشابُه شكل الكلمة مع معناها (tweet وclick وbang هي أمثلة على الكلمات الرمزية) — يمكن أن تكون مفيدة للغاية في تعلم اللغة والتواصل.28 ووفقًا لهما، «يتغلغل التجريد في كل ركنٍ من أركان اللغة»، و«قد تكون اللغة نفسها أفضل مصدرٍ للمعرفة بالمعاني المجردة.»29 فنحن نتعلَّم العديد من المفاهيم المجردة من خلال تعلُّم اللغة، وليس من خلال التفاعُلات الفعلية مع العالم.30
إن الأشخاص الذين يُعانون من الحُبْسة لا يُظهرون أي قصور (أو قصور طفيف فحسب) في التفكير المجرد.31 وفي هذا دحض لادِّعاء أن اللغة يجب اعتبارها «تعزيزًا عصبيًّا» يُوسِّع إطار نطاقنا المفاهيمي.32 غير أن الحرمان من اللغة في مرحلة الطفولة (الأطفال الصُّم المولودون لآباء بحاسَّة سمعٍ طبيعية غالبًا ما لا يتعرَّضون بصورة كافية للُغة الإشارة في السنوات القليلة الأولى من حياتهم) يمكن أن يؤدي إلى «مُتلازمة الحرمان اللغوي»، التي تنطوي على عجز في مجموعة متنوعة من الوظائف المعرفية، مثل فهم السبب والنتيجة، واستنتاج نوايا الآخرين.33 وقد كشفت دراسات التصوير الدماغي عن حدوث تغيرات في بنية القشرة المخية وأنماط التنشيط العصبي لدى هؤلاء الأطفال.34 ومن المثير للاهتمام أن بعض الملاحظات تشير إلى عجز شامل في قدراتهم التجريدية. «الأشخاص الذين يعانون من الحرمان اللغوي لا يتفوقون في مثل هذه المهارات غير اللفظية (ولكنها مهارات مفاهيمية بلا شك) مثل لعب الشطرنج أو الرياضيات … فقد يعانون لتسمية المشاعر الأساسية، والتعرُّف على الحدود الاجتماعية التي تنطوي عليها الكلمات، مثل كلمة «حبيبة»، أو التأمُّل في تجاربهم الخاصة. إنهم يُعانون للتعرف على الأنماط وإطلاق التعميمات. فلا يمكنهم تطبيق الدروس المستفادة في مجالٍ بِعينه بسهولة على مجالات أخرى».35
وهكذا، وبرغم محدودية الأدلة المُتاحة على ذلك، فإن اللغة قد تلعب دورًا في توسيع وتحسين التفكير المجرد أثناء الفترة الحرجة. قد تلعب اللغة دور دعامات البناء أو السقالات التي تُعد «ضرورية لإنشاء بِنيةٍ معرفية، ولكن بمجرد أن يُحقق النظام مستوًى من الاستقرار، حينها يمكن إزالة الدعامات اللغوية.»36 قد تكون اللغة أحد العوامل الحاسمة أثناء التطور التي تمدُّ حدود الفكر لتصل به إلى عُمق المجال المجرد، مما يُتيح لنا التفكير بسلاسة باستخدام المفاهيم المادية والمجردة على حدٍّ سواء، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان إلى خطأ في التصنيف (انظر الفصل الثامن). ومرة أخرى، الأدلة محدودة. فما تَكهَّنَّا به بشأن الدور المُحتمل للغة في التجريد قد يكون صحيحًا أو غير صحيح. وما زال الحسم في هذا الأمر مُعلقًا.

أصل اللغة

على الرغم من أن الغموض ما زال يحيط بالعلاقة بين اللغة والفكر، فلا شك أن اكتساب القدرة اللغوية كان خطوة هائلة في طريق التطوُّر البشري. فكيف اكتسبنا هذه القدرة؟ وما أصل اللغة؟ تُعد هذه قضية بالِغة الأهمية لفهم كيف أصبحنا على ما نحن عليه الآن: «الإنسان المُبتكر». ظلَّ أصل اللغة محلَّ جدلٍ لوقتٍ طويل بين علماء اللغة وعلماء الأنثروبولوجيا والفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الأعصاب. تُوجَد العديد من وجهات النظر التي يتعارَض بعضها مع بعض. وهذا يُشير، للأسف، إلى أننا ما زلنا بعيدِين عن فهم هذه المسألة فهمًا كاملًا.

يُشكل فهم أصل اللغة تحدِّيًا صعبًا لعدة أسباب. أولًا: اللغة سِمة يتفرَّد بها البشر. فلا يُوجَد نظام تواصل آخر لدى الحيوانات يقترب من النظام المُعقد الذي يجمع بين المرونة والقوة، الذي يستخدمه البشر للتواصل. ومن ثم، وعلى عكس العديد من الوظائف البيولوجية الأخرى، من الصعب اكتساب رؤًى من خلال الأساليب المُقارِنة (أي فحص ومقارنة وظائف اللغة في أنواع حيوانية متنوعة). كذلك من الصعب إجراء دراسات تعتمِد على الأساليب الباضعة (مثل تسجيل النشاط العصبي باستخدام قطبٍ كهربائي دقيق أو تعطيل منطقة موضعية في الدماغ) بسبب الافتقار إلى نموذج حيواني.

ثانيًا: نحن نفتقر إلى سجلَّات أحفورية مباشرة للغة. ومن الصعب أن نربط السجلات الأثرية مباشرة بتطور اللغة. بالمِثل، لا تستطيع القوالب الدماغية الداخلية أن تُخبرنا إلا بالقليل عن وظيفة اللغة. ربما كانت السجلَّات الأحفورية لأعضاء الكلام، مثل المجرى الصوتي، مُرتبطة بتطوُّر الكلام، ولكن ثمة فجوة هائلة بين القُدرة على إنتاج الأصوات المنطوقة والقُدرة على دمج الرموز نحويًّا لتوليد تعبيرات جديدة. كانت نظرية هبوط الحنجرة شائعةً على مدى السنوات الخمسين الماضية. وتزعم هذه النظرية أن هبوط الحنجرة قد حدث لدى أسلافنا، دون الرئيسيات الأخرى، منذ نحوِ مائتي ألف عام، مما يسمح بإنتاج الأصوات المُتحركة المُتباينة، وتطوُّر الكلام، وأخيرًا تطوُّر اللغة لدى الإنسان العاقل. ولكن خلصت مراجعة شاملة حديثة إلى أن «الأدلة الآن تدحض بشكلٍ ساحقٍ نظرية هبوط الحنجرة القديمة، التي تُرجِع فكرة «فَجْر ظهور الكلام» إلى أكثر من ٢٠٠ ألف سنة، لتصِل إلى ما يزيد على ٢٠ مليون سنة».37
ثالثًا: لا بدَّ من النظر في ديناميكيات التفاعل الاجتماعي عند تفسير تطور اللغة. كثيرًا ما يكون تفسير تطوُّر سِمة اجتماعية، مثل الإيثار، أقل وضوحًا مقارنةً بسِمة غير اجتماعية. ولعل البشر هم الحيوانات الوحيدة التي تُظهر إيثارًا «حقيقيًّا». فنحن كثيرًا ما نُساعد الغرباء دون أن نتوقع منهم ردَّ الإحسان بمثله. بل إننا نتحمَّل خسارة شخصية لمعاقبة مُنتهكي القواعد (العقاب الإيثاري). لا يمكن تفسير هذه السلوكيات البشرية بسهولة من حيث الصلاحية البيولوجية (القدرة على نقل جيناتنا إلى الجيل التالي).38 بالطبع يُعزز الإيثار صلاحية البقاء لمجموعةٍ ما. ولكن داخل المجموعة، ستكون صلاحية البقاء أعلى بين الأفراد الأنانيين. ومن ثم، فليس واضحًا كيف جرى انتخاب السمات الإيثارية على السمات الأنانية عبر الأجيال. وعلى نحوٍ مُماثل، تشكل القدرة على تبادل المعلومات ميزة كبيرة للمجموعة. ولكن كيفية ظهور هذه السِّمة في البداية وكيفية بقائها عبر الأجيال أمور لا تزال غير واضحة. فاللغة لا قيمةَ لها إذا كنتَ الشخص الوحيد القادر على الكلام.

وفي هذا المقام، بدلًا من تقديم نظرة شاملة للنظريات المُتعلقة بأصل اللغة، سوف نبحث عددًا قليلًا منها فقط على نحو انتقائي إلى الحدِّ الذي يكشف عن تنوُّع الآراء في هذا المجال. كان من بين النقاشات الجدلية بشأن أصل اللغة ذلك الذي دار حول ما إذا كانت اللغة قد تطوَّرت فجأة أم تدريجيًّا. وهنا نتذكَّر النقاش الذي دار حول تطوُّر الحداثة السلوكية والثورة البشرية (انظر الفصل العاشر). فقد افترض نعوم تشومسكي أن اللغة الحديثة تطوَّرت فجأة نتيجةً لطفرة عرضية غير متوقَّعة.

إن القدرات البشرية على التخيل الإبداعي، واللغة والرمزية عمومًا، والرياضيات، وتفسير وتسجيل الظواهر الطبيعية، والممارسات الاجتماعية المُعقدة، وما إلى ذلك، هي مجموعة من القدرات التي يبدو أنها تبلورت منذ عهدٍ قريب إلى حدٍّ ما، ربما منذ ما يزيد على خمسين ألف عام ونيف، بين مجموعةٍ تكاثرية صغيرة ننحدِر منها جميعًا؛ مجموعة قدرات تُميز البشر بوضوح إلى حدٍّ ما عن الحيوانات الأخرى، بما في ذلك أشباه البشر الآخرين، إذا حكَمْنا من خلال الآثار التي خلَّفوها في السجل الأثري … وكان اختراع اللغة … هو الحدث «المفاجئ والناشئ» الذي كان بمنزلة «الحافز المُطْلِق» لظهور القدرة البشرية في السجلِّ التطوُّري؛ تلك «القفزة الهائلة إلى الأمام» كما أسماها جاريد دايموند، التي ترتَّبت على حدثٍ وراثي أعاد برمجة الدماغ، مما سمح بظهور اللغة الحديثة مصحوبة بالتركيب اللغوي الثري الذي يوفر العديد من أساليب التعبير عن الفكر، ويُعد شرطًا أساسيًّا للتطور الاجتماعي والتغيرات الجذرية في السلوك التي تكشف عنها السجلات الأثرية.39
أحيا اكتشاف الجين FOXP2 (فوكس بي ٢) الأمل في أن نتمكن من التعرف على «الطفرة العرضية» التي افترضها تشومسكي. جرى التعرف على جين FOXP2 من خلال تحليل جيني أُجري عام ٢٠٠١ لعائلة بريطانية تُعرف باسم كيه إي، كان نصف أفرادها يُعانون من قصور شديد في إنتاج الكلام.40 يُعاني العديد من أفراد عائلة كيه إي المُصابين بهذا القصور من انخفاض معدل الذكاء، إلا أن بعضهم ممَّن يتمتعون بمعدل ذكاء طبيعي يُعانون من صعوباتٍ لغوية، مما يُشير إلى أن مشكلة اللغة ليست بسبب قصور إدراكي عام. وقد أظهرت دراسة جينية مقارنة لاحقة أن بروتين FOXP2 البشري يختلف عن بروتينات القِرَدة العُليا الأخرى بحمضَين أمينِيَّين فقط.41 وجدت هذه الدراسة أيضًا أدلة على حدوث «المسح الاصطفائي»، وهي عملية تتزايد فيها وتيرة طفرة مفيدة نادرة سريعًا عن طريق الانتخاب الطبيعي. وتشير هذه النتائج إلى أن طفرة مفيدة في جين FOXP2، يُقدَّر أنها قد حدثت منذ مائتي ألف عام، ربما كانت السبب وراء تطوُّر اللغة الحديثة لدى البشر. ولكن على النقيض من التقرير الأول، لم تجِد دراسة لاحقة أي دليلٍ على حدوث مسح اصطفائي في جين FOXP2.42 علاوة على ذلك، كشفت دراسة مَعنية بتسلسل الحمض النووي القديم أن النياندرتال يشترك في التغيرات التطوُّرية في جين FOXP2 (حمضان أمينيَّان يختلفان عن القردة العُليا الأخرى) مع الإنسان الحديث.43 وبناءً على ذلك، لا بد أن التغيرات المُفيدة في جين FOXP2 قد حدثت قبل انفصال أسلافنا عن النياندرتال (قبل نحوِ نصف مليون عام)، ولكن لا يُوجد دليل واضح على استخدام النياندرتال للغة. يؤيد البعض فرضية استخدام النياندرتال للغة، ولكن كثيرين يُشككون في هذه الاحتمالية.44

في الوقت الحالي، يبدو أن أغلب الباحِثين يميلون إلى فكرة أن اللغة البشرية قد تطورت على مراحل على مدى فترةٍ زمنية طويلة، تمامًا كما حدث مع أغلب الوظائف البيولوجية، على الرغم من عدم وضوح كيفية تطوُّر هذه العملية التدريجية على وجه التحديد أثناء التطوُّر البشري. فيما يلي سيناريو افتراضي لخطوات تطوُّر اللغة:

في مرحلة مُبكرة، كانت الأصوات تستخدَم لتسمية مجموعةٍ واسعة من الأشياء والأفعال في البيئة المحيطة، وكان الأفراد قادرين على اختراع مفردات جديدة للتحدث عن أشياء جديدة. ولتحقيق حصيلة مفردات كبيرة، حدث تطور مهم، وهو القدرة على «تحويل» الإشارات إلى تسلسُلات من أصواتٍ كلامية منفصلة — الحروف الساكنة والحروف المتحركة — بدلًا من النداءات غير المُنظمة. وهذا يتطلَّب تغييراتٍ في الطريقة التي يتحكم بها الدماغ في المجرى الصوتي، وربما في الطريقة التي يُفسر بها الدماغ الإشارات السمعية … الخطوة المنطقية التالية هي القدرة على ربط العديد من هذه «الكلمات» معًا لإنشاء رسالة من معاني أجزائها. ولكن يظلُّ هذا بعيدًا عن مستوى التعقيد الذي تتَّسم به اللغة الحديثة. ربما اتسمت بكونها بدائية وبسيطة للغاية، ومع ذلك تظل أفضل كثيرًا من التعبير عن الكلام بكلمة واحدة. الواقع أننا نجد مثل هذه «اللغة البدائية» لدى الأطفال في سنِّ الثانية، وفي المحاولات المبدئية التي يبذلها الكبار عند تعلُّم لغة أجنبية، وفيما يُسمَّى ﺑ «اللغة الهجينة»، وهي الأنظمة التي يصوغها الكبار المُتحدثون بلغاتٍ مختلفة عندما يحتاجون إلى التواصل أحدهم مع الآخر بغرض التجارة أو غير ذلك من أشكال التعاون … ومن شأن التغيير النهائي أو سلسلة التغييرات أن تُضيف إلى «اللغة البدائية» بِنية أكثر ثراء، تشمل أدوات نحوية مثل علامات الجمع، وعلامات الأزمنة، والعبارات الموصولة، والعبارات المُتمِّمة للمعنى («يعتقد جو أن الأرض مسطحة»).45

هناك قضية أخرى كانت محلَّ نقاش ساخن بشأن أصل اللغة، وهي العلاقة بين اللغة والوظائف المعرفية الأخرى. فيذهب البعض إلى أن نظام اللغة البشرية هو نظام قائم بذاته ومُنفصل عن جميع المَلَكات العقلية الأخرى، في حين يزعُم آخرون أن اللغة تعتمِد على وظائف معرفية أخرى. ومرة أخرى، دعونا نبحث بعضًا من هذه النظريات.

يُعَد مايكل توماسيلو أحد الباحثين المؤيدين لفكرة أن اللغة هي مظهر من مظاهر وظائف معرفية أعم وأشمل. ويجادل بأن البشر والقردة العُليا على حدٍّ سواء لديهم القدرة على فهم نوايا الآخرين. غير أن البشر فقط هم من ينخرطون في أنشطةٍ تنطوي على نوايا وانتباهٍ «مُشتركَين»، وهو ما أطلق عليه «القصدية المشتركة»: «بالإضافة إلى فهم الآخرين باعتبارهم فاعِلين عقلانِيِّين قصديِّين، فإن البشر يمتلكون أيضًا نوعًا من القدرة الاجتماعية أكثر تحديدًا، تمنحهم الدافع والمهارات المعرفية اللازمة لتَشارُك المشاعر والخبرات والأفعال مع الآخرين، فيما قد نطلق عليه، بالتركيز على المرحلة النهائية من التطور، القصدية المشتركة (أو مفهوم الجماعة، «نحن»). ونظرًا لاعتبار القصدية المشتركة المهارة المعرفية الاجتماعية الأساسية للإبداع الثقافي والإدراك، فإن لها أهمية خاصة في تفسير المهارات المعرفية ذات القوة الفريدة من نوعها للإنسان العاقل.»46

وفقًا لتوماسيلو، فإن البشر فقط هم من يملكون القدرة المعرفية على تمثيل هدف مشترك (على سبيل المثال، أنت وأنا نتعاون معًا لفتح صندوق)، ونية مشتركة (على سبيل المثال، أنت تمسك الصندوق بينما أقوم أنا بفتحه). تبدأ القدرة على تمثيل القصدية المشتركة في الظهور بحلول العام الأول من العمر عندما يبدأ الأطفال في استخدام الكلمات. ويذهب توماسيلو إلى أن القدرات المعرفية البشرية الفريدة، مثل استخدام اللغة ونظرية العقل، «مُشتقة» من فهم ومشاركة النوايا (القصدية المشتركة).

إن القول بأن البشر وحدهم هم من لديهم لغة أشبه بالقول بأن البشر وحدهم هم من يبنون ناطحات السحاب، في حين أن الحقيقة هي أن البشر وحدهم (من بين الرئيسيات) هم من يبنون مساكن مُستقلة وقائمة بذاتها أصلًا. إن اللغة ليست قدرة فطرية، بل هي مُشتقة. وهي تستند إلى نفس المهارات المعرفية والاجتماعية الأساسية التي تدفع الأطفال إلى الإشارة إلى الأشياء وإظهارها للآخرين على نحوٍ واضح ومُفيد، على نحو لا تفعله الرئيسيات الأخرى، مما يدفعهم إلى الانخراط في أنشطة تعاونية تعتمد على انتباه مشترك مع الآخرين من نوع ينفرد به البشر أيضًا بين الرئيسيات.47

يُعَد ستيفن بينكر من الباحثين المؤيدين لوجهة النظر المعاكسة، تحديدًا تلك النظرية القائلة بأن اللغة تختلف اختلافًا جوهريًّا عن أنواع الإدراك الأخرى. فيذهب بينكر إلى أن اللغة تطوَّرت من أجل «إيصال» عبارات مُعقدة.

ما الذي تسعى آليَّة اللغة إلى تحقيقه؟ يبدو أن النظام قد تم تجميعه لتشفير المعلومات الإخبارية — مَن فعَل ماذا بمَن، وما هو صحيح عن ماذا، وما يتعلق به من عناصر زمنية (متى)، ومكانية (أين)، وسببية (لماذا) — في إشارة يمكن نقلها من شخصٍ إلى آخر. ليس من الصعب إدراك السبب وراء قدرة نوع يتمتع ببقية خصائصنا أن يطور مثل هذه القدرة بدافع التكيف. إن البِنى النحوية مناسبة تمامًا لنقل معلومات حول التكنولوجيا، مثل: أي شيئين يمكن جمعهما معًا لإنتاج شيء ثالث؛ وحول البيئة المحلية المحيطة، مثل أماكن الأشياء؛ وحول البيئة الاجتماعية، مثل مَن فعَل ماذا بمَن، ومتى، وأين، ولماذا؛ وحول نوايا المرء الخاصة، مثل «إذا فعلتَ هذا، فسوف أفعل ذاك»، وهو ما ينقل بدقة الوعود والتهديدات التي تُعزز أُسس علاقات التبادل والهيمنة.48
يزعم بينكر أن البشر، على النقيض من الحيوانات الأخرى، قد تطوَّروا بحيث يقومون بإجراء عملية الاستدلال القائمة على السبب والنتيجة والاعتماد على المعلومات من أجل البقاء. ومن ثم، فمن المفيد لهم أن يتوصلوا إلى وسيلة «لتبادل» المعلومات. ويذهب إلى أن «ثلاث سماتٍ رئيسة لأسلوب الحياة الذي يُميز البشر — وهي المعرفة، والتواصل الاجتماعي، واللغة — تطورت معًا، وتُشكل كل منها ضغطًا انتقائيًّا على السمات الأخرى».49
وفقًا لمارك هاوزر، ونعوم تشومسكي، وتيكومسيه فيتش، ينبغي التمييز بين القدرة اللغوية الواسعة (FLB) والقدرة اللغوية الضيقة (FLN). لا تتضمَّن القدرة اللغوية الضيقة سوى الآليات الحوسبية الأساسية للتكرار (يمكن أن تحتوي عبارة على عبارة أخرى بحيث يُمكننا توليد عددٍ لا نهائي من الجُمَل بأي حجم، مثل «أتساءل عما إذا كان يعرف أنها تعتقد أننا نشتبه في أنه المجرم»)، بينما تحتوي القدرة اللغوية الواسعة على عنصرَين إضافِيَّين، هما: نظام حسِّي حركي، ونظام مفاهيمي قصدي. توفر كلتا القدرتَين مُجتمعتَين «القدرة على توليد نطاقٍ لا نهائي من التعبيرات من مجموعة محدودة من العناصر» (اللانهاية المُتقطعة).50
يفترض الباحثون الثلاثة أن القدرة اللغوية بمفهومها الضيِّق قد تطوَّرت حديثًا، وهي قدرة فريدة من نوعها لدى البشر، وفريدة من نوعها بالنسبة إلى اللغة؛ ومن ثم «ينبغي ألا تكون هناك تشابهات وظيفية أو شكلية في الحيوانات الأخرى، ولا عمليات مُتشابهة في مجالات أخرى من مجالات الفكر البشري».51 على النقيض من ذلك، فإن العديد من جوانب القدرة اللغوية الواسعة مشتركة مع الفقاريات الأخرى. ويُخمِّنون أيضًا أن القدرة اللغوية الضيقة (آلية التكرار) ربما تطورت «لحل مشاكل حوسبية أخرى، مثل التنقل، أو التمييز العددي، أو العلاقات الاجتماعية».
من الاحتمالات الواردة، والتي تتَّسق مع نمَط التفكير الحالي في العلوم المعرفية، أن التكرار لدى الحيوانات يُمثل نظامًا معياريًّا مُصممًا لأداء وظيفة مُعينة (كالتنقُّل على سبيل المثال) ولا يمكن لأي أنظمةٍ أخرى النفاذ إليها. وخلال التطور، ربما أصبح نظام التكرار المعياري والمحدد بنطاقٍ مُعين قابلًا للنفاذ وغير مقتصِر على نطاق معين. وقد فتح هذا المجال أمام البشر، ربما على نحوٍ فريد، لتطبيق قوة التكرار على مشاكل أخرى. وربما كان هذا التحوُّل من نطاقٍ محدد إلى نطاق عام وشامل، موجهًا بضغوط انتقائية بعينِها، انفرد بها ماضينا التطوري، أو نتيجة (نتاج ثانوي) لأنواعٍ أخرى من إعادة التنظيم العصبي.52
لقد ذكرتُ الطبيعة الاجتماعية للُّغة باعتبار أنها تُشكِّل تحدِّيًا لفهم أصلها. وتتعامل إحدى النظريات التي بحثناها، وهي نظرية القصدية المشتركة لتوماسيلو (أي مشاركة الأهداف والنوايا مع الآخرين)، مع هذه المسألة، ولكنها ليست الوحيدة. فكثير من النظريات الأخرى تركز على الطبيعة الاجتماعية للغة. لنبحث نظرية أخرى، ألا وهي نظرية التطور المشترك للشعائر والكلام، التي تزعم أننا يجِب أن نأخذ في الاعتبار الثقافة الرمزية البشرية بأكمَلِها لفهم أصل اللغة. يفترض مؤيدو هذه النظرية أن اللغة لا تعمل إلا بعد إرساء مستوياتٍ عالية من الثقة في المُجتمع؛ لأن الكلمات إشارات رخيصة (منخفضة التكلفة)، وبالتالي فهي غير موثوقة بطبيعتِها. ويشير كريس نايت إلى أن «أي زيادة في نسبة المُستمعين الواثقين تزيد من المكافآت للكاذب، مما يزيد من تواتر الكذب. ولكن إلى أن يتمكن المستمعون من افتراض صدق المتحدث باطمئنان، سيكون موقفهم تجاه الإشارات الطوعية هو اللامبالاة. حينئذٍ، حتى الكذب سيكون مَضيعة للوقت. بعبارة أخرى، يوجد حدٌّ للاستخدام الصادق للإشارات التقليدية، وأي استراتيجية قائمة على مثل هذه الإشارات أسفل هذا الحد تظلُّ استراتيجية غير مستقرة. ولكي يتسنَّى تحقيق الاستقرار، لا بدَّ أن تطغى الاستراتيجية الصادقة بصورةٍ قاطعة على الخداع.»53 لذا، لكي يكون التواصل اللفظي مُمكنًا، «ما يكون على المحكِّ ليس فقط صدق وموثوقية رسائل مُعينة، بل أيضًا المصداقية وجدارة التصديق والثقة في حدِّ ذاتهم؛ لذا فإن أُسس الثقة ضرورية لأنظمة التواصُل والمجتمع بصفةٍ عامة.»54
ويمضي نايت ليصِف كيف أن هذه النظرية تُسلط الضوء على دَور الدين والشعائر في إرساء الثقة الاجتماعية قائلًا: «الكلمات رخيصة وغير موثوقة. وترياقها يتمثَّل في طقوسٍ دينية مُتكررة وثابتة ومُكلفة. يقبع على قمَّة المنظومة الإيمانية «مُسلَّمة مقدسة مطلقة»؛ قاعدة إيمانية لا يمكن إنكارها. قد تكذب الكلمات البشرية، كما يزعم البعض، ولكن «الكلمة الإلهية» تنبثِق من مصدرٍ أسمى. وبدون هذه الثقة العامة التي تدعمها الطقوس الدينية، سينهار الإيمان بمنظومة الرموز المترابطة بأكملها. لذا كانت الخطوة الحاسمة خلال تطور البشرية هي إرساء الشعائر القادرة على دعم مستويات الثقة اللازمة لنجاح التواصل اللغوي.»55

لذا لكي يتسنَّى لنا فهم أصل اللغة، يتعيَّن علينا أن نأخذ في الاعتبار سياقًا أوسع — الثقافة الرمزية البشرية ككل — تشكل اللغة أحد مكوناته الأساسية، وفقًا لهذه النظرية.

فرضية الخلية العصبية المرآتية

كما يُمكننا أن نرى من هذه الأمثلة، توجَد وجهات نظر متباينة إلى حدٍّ بعيد حول أصل اللغة، تمتد إلى تخصُّصات مُتعددة. وقبل ختام هذا الفصل، دعونا نبحث نظريةً أخرى مُستمدَّة من أبحاث علم الأعصاب، ألا وهي: فرضية الخلية العصبية المرآتية.

ما هي الخلايا العصبية المرآتية؟ هي خلايا عصبية توجد في القشرة الأمام حركية للقرد وتنشط عند القيام بعملٍ ما وملاحظته. تقع القشرة الأمام حركية بين القشرة الجبهية الأمامية والقشرة الحركية الأولية. تخطط القشرة الجبهية الأمامية لسلوك موجَّه نحو هدف (نوقِشَ في الفصل التاسع) وتتحكم القشرة الحركية الأولية في تقلُّصات العضلات الفردية. يُعتقَد أن القشرة الأمام حركية تلعب دورًا وسيطًا في اختيار خطة حركية مناسبة لتحقيق نتيجة مرجوة (الإمساك بشيءٍ ما على سبيل المثال). وبصفة عامة، فإن القشرة الجبهية الأمامية والقشرة الأمام حركية والقشرة الحركية الأولية مسئولة عن استراتيجيات وتكتيكات وتنفيذ السلوك الموجَّه نحو هدف، على التوالي.

في تسعينيات القرن العشرين، اكتشف جياكومو ريزولاتي وزملاؤه أن بعض الخلايا العصبية في القشرة الأمام حركية للقرد تُطلِق إشارات عصبية عندما يقوم القرد بفعلٍ مُعين (مثل الإمساك بشيء ما) وكذلك عندما يلاحظ نفس الفعل يقوم به آخر (انظر الشكل ١٢-٢).56 وأظهرت دراسة لاحقة أن الإشارات البصرية (الرؤية) وكذا والإشارات السمعية (السمع)، فعَّالة في تنشيط بعض الخلايا العصبية المرآتية (الخلايا العصبية المرآتية السمعية البصرية) في القشرة الأمام حركية للقرد.57 على سبيل المثال، نشطت خلية عصبية في القشرة الأمام حركية عندما كسر القرد حبة فول سوداني (الفعل)، وعندما راقب القرد إنسانًا يكسر حبة فول سوداني (الرؤية)، وعندما سمع القرد حبة الفول السوداني تُكْسَر دون أن يرى الفعل (السمع). ويُعتقَد أن هذه المنطقة من القشرة الأمام حركية في دماغ القرد (المنطقة F5) تتماثل في بِنيتها مع منطقة بروكا في الدماغ البشري، كما تزيد منطقة بروكا من معدل النشاط أثناء أداء وملاحظة حركة الإصبع.58
fig39
شكل ١٢-٢: خلية عصبية مرآتية سُجِّلَ نشاطها من القشرة الأمام حركية لدى قرد. رفعت هذه الخلية العصبية نشاطها استجابةً لملاحظة حركة الإمساك بشيءٍ من قِبل القائم على التجربة، وكذلك حركة الإمساك بشيءٍ من قِبل القرد نفسه. الشكل مستنسخ من مقال أنطونينو إرانتي وليوناردو فوجاسي: «التخصيص الدماغي الوظيفي لنظام الخلايا العصبية المرآتية لدى القردة والبشر»، دورية «سيمتري» مجلد ١٣، العدد ١ (٢٠٢١): 77 (CC BY).
وقد أدَّت هذه الملاحظات إلى فرضية مفادها أن نظام الخلايا العصبية المرآتية (أو نظام «مطابقة الملاحظة/الفعل») ربما كان الأساس لتطور اللغة.59
إن الخلايا العصبية المرآتية في القشرة الأمام حركية للقردة تزوِّد جهازها الحركي بقدرة فطرية متأصلة على مقارنة الأفعال التي تولِّدها القردة مع تلك التي يُولدها أفراد آخرون. لذا فإن هذا الجهاز لديه القدرة على أن يكون المُرسِل والمُستقبل للرسالة في نفس الوقت … إن مشكلة تحويل البنية الدلالية للعناصر النحوية إلى جُملة (هي واحدة من احتمالات عديدة) تعبر عن هذه البنية، قد يُنظَر إليها باعتبارها مُماثلة للمشكلة غير اللغوية المُتمثلة في التخطيط للترتيب الصحيح للأفعال لتحقيق هدف معقد. لنفترض أن القرد يريد الإمساك بالطعام، ولكنه يُدرك بعد ذلك أن عليه أن يفتح بابًا للحصول على الطعام. وعند التخطيط للفعل، لا بد أن يعكس ترتيب القيام به: الباب أولًا ثم الطعام. هذا أشبه بالمشكلة النحوية المُتمثلة في إنتاج جملة جيدة الصياغة، ولكن يُنظَر إليها الآن باعتبارها انتقالًا من «الأفكار التي تعتمل في الرأس» إلى سلسلة من الكلمات/الأفعال تسير بالترتيب الصحيح لتحقيق هدف تواصُلي أو عملي.60
تتَّفق هذه النظرية مع الرأي القائل بأن أصل اللغة هو التواصل الإيمائي وليس نداءات الحيوانات.61 وتجدُر الإشارة إلى أن نظام الخلايا العصبية المرآتية وحدَه غير كافٍ لدعم بناء الجملة في اللغة البشرية، وخاصة التكرار الهرَمي. ووفقًا لمايكل أربيب وميهائيل بوتا، فإن ربط منطقة بروكا بنظام التخطيط في القشرة الجبهية الأمامية يُتيح لنا «تجميع بِنى الفعل والمُسند إليه والبِنى الهرمية الأكثر تعقيدًا، مما يؤدي إلى إيجاد الكلمات وربطها ربطًا صحيحًا».62
باختصار، لا شك أن اللغة تُشكل عنصرًا حاسمًا في الابتكار البشري. وقد كان اكتساب القدرة اللغوية خطوةً هائلة حقًّا في التطور البشري. فاللغة تسمح بتبادل الأفكار وتراكُم المعرفة عبر الأجيال. وقد تلعب اللغة أيضًا دورًا في تأسيس قُدرة مناسبة على التفكير المجرد أثناء التطور. ولا شكَّ أن فهم أصل اللغة يُشكل أهمية بالغة لفهم الكيفية التي تَحوَّلنا بها إلى «الإنسان المبتكر». ولكن للأسف لا يزال أصل اللغة بعيدًا كل البُعد عن الوضوح، ويرجع هذا جزئيًّا إلى تفرُّد اللغة البشرية. فما من وسيلة تواصُل بين الحيوانات تقترِب بأي حالٍ من اللغة البشرية من حيث المرونة والتعقيد والقوة. وهذا التفرد للغة، إلى جانب قلة الأدلة الأثرية وطبيعتها الاجتماعية، يفرض تحدياتٍ أمام دراسة أصل اللغة. لدينا العديد من النظريات، ولكننا لم نتوصل بعد إلى إجماع قوي حول كيفية تطور القدرة اللغوية؛ «إن ثراء الأفكار مصحوب بفقرٍ في الأدلة».63 ومع ذلك، فإن أصل اللغة يجذب اهتمام العديد من التخصُّصات المعرفية. وقد حاول كثير من العلماء حل هذه المشكلة بالاستعانة بأفكار المُفكرين العظماء السابقين، وهو ما أصبح مُمكنًا بفضل اللغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥