الفصل الثالث عشر
عن الإبداع
يشكل الخيال جانبًا أساسيًّا من الطبيعة البشرية.
فنحن نتخيل ما هو واقعي وغير واقعي عندما تتوفر لنا
رفاهية تجاهُل العالم الخارجي. ويُعتَقَد أن هذه
عملية تكيُّفية. وقد ذهبتُ في الفصلَين السادس
والسابع إلى أن الخيال قد يكون متجذرًا في عملية
الاختيار والمحاكاة أو «التعلُّم المُعَزَّز غير
المُتصل بالإنترنت»، حيث نعمل على تعزيز الخيارات
ذات القيمة العالية في ظروف متنوعة قد نواجهها في
المستقبل. ومن خلال الاستكشاف الذهني للخيارات
المختلفة وتقييم قِيمتها المُحتمَلة، نصبح أكثر
استعدادًا لاتخاذ القرارات المُثلى في مواقف الحياة
الواقعية. ولعل هذا أحد أسباب انجذابنا إلى الأدب
والدراما؛ فهما يوفران لنا مجالًا لممارسة خيالنا
والانخراط في عملية الاختيار والمحاكاة هذه.
فالخيال، على النقيض من المهارات الأخرى، قُدرة
فطرية لا تحتاج إلى ممارسة أو تدريب. فهو طبيعي ولا
يتطلَّب أي جهدٍ مثل التنفس.
ولكن ماذا عن الإبداع؟ هل من الممكن تعزيز
الإبداع لدى الفرد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف؟
وبما أن هذا الكتاب لا يهدف إلى التوسُّع في علم
الأعصاب المُتعلق بالإبداع على نحوٍ مستفيض، فإنني
أقترح على القراء المُهتمِّين أن يبحثوا عن هذين
الكتابَين، الأول من تأليف آنا أبراهام، والثاني من
تأليف ريكس يونج وأوشين فارتانيان.
1 الكتاب الأول عبارة عن مُقدمة عامة
ومتوازنة للأساس العصبي للإبداع، والكتاب الثاني
عبارة عن مجموعةٍ من الكتابات لعلماء رائدين في هذا
المجال. ورغم أن الإبداع ليس المحور الأساسي لهذا
الكتاب، فإن الخيال والإبداع مرتبطان ارتباطًا
وثيقًا لا انفصامَ له. إن الخيال لا يُفرز بالضرورة
أفكارًا إبداعية. ولا يُعد الخيال ضروريًّا دائمًا
لتوليد الأفكار الإبداعية. غير أن الأفكار
الإبداعية غالبًا ما تتولَّد من الخيال. لقد
تناولنا العمليات العصبية المُحتملة التي تكمن وراء
الخيال أثناء حالات الخمول (فترة الراحة الواعية
وأثناء النوم) في الفصلَين الثالث والسادس. وفي هذا
الفصل، سنُحاول ربط ما بحثناه في الفصول السابقة
بالإبداع. وسنبحث أيضًا المسألة العملية المُتمثلة
في كيف نُصبح مبدعين.
الإبداع العفوي
يشير الإبداع إلى القدرة على إنتاج نتائج
جديدة وقيمة، مثل النظريات العلمية والأعمال
الفنية والتقنيات التكنولوجية والحلول لمُختلف
المشاكل. يوجد عنصران مهمَّان للإبداع: الأصالة
(التجديد) والفاعلية (القيمة أو الملاءمة أو
الصلاحية أو الأهمية). ثمة عامل ثالث هو
الفجائية، التي ترتبط بمدى عدم احتمالية توليد
فكرة معيَّنة. فالفكرة التي تكون مبتكرةً
ومفيدة، ولكنها غير مدهشة على الإطلاق قد لا
تعتبر فكرة إبداعية.
2 فالإبداع وثيق الصلة بالخيال؛ لأن
الخيال غالبًا ما يُفرز أفكارًا أصيلة. وقد
أظهرت إحدى الدراسات أن تلَف الحُصين، الذي
يُضعف الخيال الخصب (انظر الفصل الأول)، يُعطل
أيضًا التفكير الإبداعي.
3 من ناحية أخرى، لا يؤدي الخيال
المُفرط بالضرورة إلى مستوًى عالٍ من الإبداع.
هذا لأن ليس كل أنواع الخيال عالية القيمة؛
فالخيال نفسه في الواقع، ذا قيمة مُحايدة. فقد
نستخدِم خيالنا للتفكير في شيء عديم الفائدة
تمامًا أو حتى مُعادٍ للمجتمع.
الإبداع ليس مَلَكة عقلية موحدة لا تتجزَّأ.
ولكنه «بناء مُعقد ومُتعدد الأوجه» يمكن أن
يتجلَّى بطرق عديدة.
4 في الوقت الحالي، لا يوجد إجماع
عام حول كيفية تقسيم الإبداع إلى أنواع فرعية.
غير أن من الممكن تمييز الإبداع وفقًا لمجاله.
على سبيل المثال، يختلف الإبداع الفني عن
الإبداع العلمي. إن ألبرت أينشتاين وبابلو
بيكاسو يُعتبران من الأشخاص الشديدي الإبداع في
العلوم والفن على التوالي، ولكن ليس في
المجالات الأخرى.
وهنا سوف نعتمِد التصنيف الذي اقترحه آرني
ديتريش.
5 فقد ميَّز بين الأنماط المتعمدة
والأنماط العفوية لمعالجة المعلومات فيما يتصل
بالإبداع. قد نتوصَّل إلى حلٍّ جديد لمشكلةٍ ما
من خلال الاستدلال الموجَّه. ويشار إلى هذا
النوع من الإبداع ﺑ «الإبداع المُتعمَّد».
ويُعتقد أن القشرة الجبهية الأمامية (انظر
الفصل التاسع) تلعب دورًا حاسمًا في هذه
العملية. في المقابل، فإننا كثيرًا ما نتوصل
إلى أفكار إبداعية عندما نكون في حالة استرخاءٍ
دون تعمُّد التركيز على مشكلة مُعينة أو حتى في
أثناء النوم. ويُشار إلى هذا النوع من الإبداع
ﺑ «الإبداع العفوي». ويُعتقد أنَّ شبكة الوضع
الافتراضي تُشكل أهميةً بالِغة للإبداع
العفوي.
تجدُر الإشارة إلى أن العمليات المُتعمَّدة
والعفوية لا تعمل بمعزِل لخلق الإبداع. بل إن
التفكير الإبداعي ينطوي عادةً على تفاعُل
ديناميكي بين العمليات المحكومة والعفوية. أما
في إطار ديناميكيات الدماغ، فيُعتقَد أن
التفكير الإبداعي ينطوي على تفاعلات ديناميكية
بين شبكات عصبية متعددة واسعة النطاق (انظر
الفصل العاشر). وعلى وجه التحديد، تُرصَد
تفاعلات ديناميكية بين شبكة الوضع الافتراضي
والشبكة التنفيذية المركزية (أو الشبكة الجبهية
الجدارية، التي تشمل القشرة الجبهية الأمامية)
أثناء أداء مهام التفكير الإبداعي
المتنوعة.
6 ويُعتقد أن شبكة الوضع الافتراضي
مرتبطة بالتوليد العفوي للأفكار، بينما يُعتقد
أن الشبكة التنفيذية المركزية تشرف على العملية
التقييمية التي تقيِّد الأفكار لتلبية الأهداف
المرجوة من مهمَّة مُحددة. وفي سبيل ربط
الإبداع بالأطروحة الأساسية لهذا الكتاب —
الخيال غير المُقيَّد أثناء حالات الخمول —
سنُركز في هذا المقام فقط على الإبداع
العفوي.
الذاكرة والإبداع
دعونا نُلخص الأساس العصبي للخيال. تُنَشَّط
شبكة الوضع الافتراضي بالتزامُن مع العمليات
العقلية الداخلية أثناء حالات الخمول (انظر
الفصل الأول). يحدث هذا عندما يعمل الحُصين
بالتزامن مع القشرة الحديثة ويُولِّد تسلسُلات
نشاط متنوعة. وتشير الدراسات إلى أن التغيرات
في الروابط العصبية تتم في الحُصين في أثناء
تخزين الخبرات الجديدة في صورة ذكريات (انظر
الفصل الرابع). في وقتٍ لاحق، عندما تكون
لدَينا رفاهية عدم الاهتمام بالعالم الخارجي،
يضعُف التحكُّم المُثبِّط للحُصين، وتولد
الشبكة العصبية للحُصين (خاصة شبكة
CA3
العصبية) تسلسُلات نشاط متنوعة. وفي أثناء هذه
العملية، لا تُولد الشبكة العصبية للحُصين
تسلسُلات نشاط مُجرَّبة فحسب، بل تولد أيضًا
تسلسلات نشاطٍ غير مُجرَّبة (انظر الفصل
الثالث). بهذه الطريقة، تدعم الشبكة العصبية
للحُصين كلًّا من استرجاع الذاكرة
والخيال.
ثمة نقطة مُهمة هنا، وهي أن محتوى الخيال لا
يخلو من محتوى الذاكرة. فنظرًا لأن تشفير
الذاكرة يُصاحب التغيرات في الروابط العصبية
لتسهيل إعادة تنشيط التسلسلات المُجرَّبة، فإن
الشبكة العصبية الحُصينية تُولد حتمًا تسلسلات
نشاط مرتبطة بالتسلسلات التي يتذكرها الشخص (أي
التسلسلات المُجرَّبة). بعبارة أخرى، عادة ما
يُجدد الحُصين تسلسُلات النشاط المُتطابقة
(استرجاع الذاكرة) أو ذات الصِّلة (الخيال
المرتبط بالأحداث التي يتذكرها الشخص)
بالتسلسلات المُجرَّبة. ووفقًا لفرضية المحاكاة
العرضية البنَّاءة، فإننا نتخيَّل أحداثًا
مُستقبلية من خلال استخراج عناصر التجارب
السابقة بمرونة وإعادة تجميعها (انظر الفصل
الثاني).
7 فالخيال محدود بالذاكرة، وكذلك
الإبداع.
8
التنوع
ماذا يُمكننا أن نفعل إذن لتعزيز الإبداع؟
للأسف، لا توجَد حيلة سحرية. فمحتوى الخيال
مُقيد بمحتوى الذاكرة، ومحتوى الذاكرة يتحدَّد
بتجاربنا اليومية وأنشطتنا العقلية. لذا،
كلَّما كانت أنشطتنا مرتبطةً بشيء قَيِّم، زادت
احتمالات التوصُّل إلى أفكارٍ إبداعية.
لنفترِض أنك تعمل على إيجاد حلٍّ لمشكلة
تكنولوجية صعبة على مدى سنوات عديدة. ولنفترِض
أيضًا أنك كنت توجِّه انتباهك إلى أي شيءٍ آخر
واجهتَه قد يكون مرتبطًا بالمشكلة. في هذه
الحالة، من المُحتمل أن تتفتَّق حلول إبداعية
للمُشكلة فجأة في ذهنك عندما تكون في حالة
استرخاء. وغالبًا ما تحدُث مثل «لحظات
اليوريكا» (لحظات الكشف المفاجئ) هذه (عندما
تؤدي رؤًى عظيمة إلى اكتشافٍ أو اختراع) في
أوقاتٍ غير مُتوقَّعة. لذا يقتضي تعزيز الإبداع
العفوي الانتباه إلى الأشياء التي قد تؤدي إلى
نتائج قيِّمة. وهذا لا يعني ضرورة قصر نطاق
اهتمامك على موضوع بعينِه. بل على العكس،
فاتساع الخبرة هو مفتاح الإبداع. وإذا كانت
خبرتك محدودة بنطاقٍ ضيق من الموضوعات، فإن
نطاق خيالك سيكون ضيقًا أيضًا، وهو ما من شأنه
أن يضرَّ بالإبداع.
على سبيل القياس، لننظُر إلى أنشطتنا اليومية
كما لو كنَّا نُعد مكونات وجبة طعام. سوف
يتوافق تنوُّع تجاربنا مع تنوُّع مكوناتنا.
فيمكن للطاهي أن يُعد العديد من الأطباق
المختلفة بمكونات متنوعة. ولكن إذا كانت
المكونات محدودة (كأن تكون خضراوات فقط)، فحتى
أكثر الطهاة براعة وتفننًا قد لا يصنع إلا
مجموعة محدودة من الأطباق. بالمِثل، فإن
الاهتمامات والتجارب المحدودة ستُضيِّق حتمًا
نطاق وتنوع الأفكار التي يمكن أن يولِّدها
الخيال. وهكذا، من المُفيد للإبداع الانتباه
إلى موضوعات متنوعة والتعرف عليها؛ لأن الأفكار
الإبداعية غالبًا ما تتولَّد من خلال جمع
المعرفة ووجهات النظر من تخصُّصات
متعددة.
تؤكد العديد من المؤسَّسات التعليمية على
التنوع. فالتفاعل مع أشخاص من خلفياتٍ متنوعة
يساعد في توسيع أفق الفرد. والقراءة في
موضوعاتٍ متنوعة تُشكل أيضًا وسيلةً ممتازة
لتوسيع آفاق الإنسان دون بذل الوقت والطاقة في
التعلُّم من التجارب الفعلية. إن الابتكار يعني
كسر الإطار القائم. ولأن من الصعب التنبؤ
مسبقًا بالتجارب التي سوف تساعد في توليد أفكار
إبداعية في المُستقبل، فعلينا أن نولي اهتمامًا
للموضوعات المتنوعة (التي من المُرجح أن تكون
ذات قيمة) حتى يتَّسع نطاق الخيال.
الانفتاح الذهني
لن يكون للفكرة الإبداعية قيمة إذا لم
يُستفَد منها. فستظلُّ الفكرة مجرد فكرة إذا لم
يُبذَل جهد لتطبيقها. في بعض الأحيان يكون من
الصعب تقييم قيمة فكرةٍ جديدة. والمُضي قدمًا
في فكرةٍ ما حتى مع عدم اليقين بشأن قيمتِها من
شأنه أن يُسهل الابتكار. وهذه المسألة لا تشكل
أهمية للتوجهات الشخصية فحسب، بل أيضًا
للثقافات التنظيمية والمجتمعية. فيمكن لعلماء
الأنثروبولوجيا تفسير الكثير عن الإبداع
والابتكار في أي مجتمع بمجرد النظر إلى
ثقافته.
9 لنفترض أنك عندما تقترح فكرة
جديدة، يكون رد رئيسك المعتاد هو: «لا تُهدر
وقتك في مثل هذه الأشياء غير المُفيدة. ركز على
ما أُمِرت بفعله». إن هذه المؤسسة بعيدة كل
البُعد عن الإبداع. بالمِثل، إذا كان المُجتمع
يفرض حظرًا صارمًا على الأفكار والتعبيرات
الخارجة عن المعايير الاجتماعية، فمن المُرجح
أن يظلَّ هذا المجتمع ثابتًا على حاله وباليًا.
فالإبداع الجماعي يكتسِب أهمية متزايدة على
حساب الإبداع الفردي مع تقدم التكنولوجيا
وتزايد الحاجة إلى اتباع نُهُج مُتعددة
التخصُّصات في حل العديد من المشكلات
المعقدة.
10 ومن العوامل المهمة التي تعزز
الإبداع الجماعي الانفتاح الذهني، الذي يُسهل
تبادل الأفكار دون قيود.
11 إن تقدم أي مؤسسة أو مجتمع يقتضي
السماح بحدوث إخفاقاتٍ وانحرافات. لا بدَّ أن
يُشجع المعلمون في المدارس الطلاب على القيام
بمحاولاتٍ جديدة والتسامُح مع الفشل. فالانفتاح
الذهني يحتضن التنوع، والتنوع يُعزز
الإبداع.
محفزات الإبداع الثلاثة
لننتقل الآن إلى قضايا أكثر عملية تتعلق
بالإبداع. فيما يتصل بالنمط المُتعمَّد من
التفكير الإبداعي، قد نعتمِد عدة تكتيكات عن
وعي، مثل «القياس، وإعادة تأطير المفاهيم
(تغيير الإطار)، وإيجاد السؤال الصحيح، وتوسيع
المنظور، والعكس، والمُوازنة بين الاستدلال
والاستنتاج، والاستدلال الاستخلاصي، وتحليل
المشكلة، وتجربة الأفكار والتلاعُب بها،
واللعب، فضلًا عن مجموعةٍ من أدوات البحث
الاستكشافي، مثل تحليل الوسائل والغايات،
واستراتيجية تسلُّق الهضبة، والعمل على حلِّ
المشكلات بطريقةٍ عكسية، والتجربة
والخطأ.»
12 ولا نستطيع استخدام مثل هذه
التكتيكات المُتعمَّدة لتعزيز الإبداع العفوي.
ولكننا قد نُعزز الإبداع العفوي بصورةٍ غير
مباشرة من خلال تعزيز نشاط شبكة الوضع
الافتراضي. وقد يكون من المُفيد أن تسترخي
بدلًا من إرهاق عقلك عندما تواجِه مشكلةً صعبة.
وهذا ما يُشار إليه باسم «مُحفزات الإبداع
الثلاثة».
وهذه المُحفزات الثلاثة هي الفراش والاستحمام
والحافلة. بمجرد خلوِّ عقلك من الأفكار
الإبداعية، فمن المُفيد غالبًا أن تنام
(الفراش) أو تسترخي (الاستحمام) وتتخلَّى عن
التفكير العقلاني المُتعمَّد. كما أن السفر إلى
مكانٍ جديد (الحافلة) والتعرُّض لمُثيرات جديدة
من شأنه أن يُنعش عقلك ويُعزز فرص الأفكار
الإبداعية. فوفقًا لدراسة حديثة، فإن المُثيرات
الجديدة تجعل الوصلات العصبية بين الحُصين
والقشرة الجبهية الأمامية أكثر مرونة.
13 قد يبدو الدماغ خاملًا عندما نأخذ
قسطًا من الراحة. ولكن على العكس من ذلك، قد
تظهر الأفكار المُبتكرة بينما تتجوَّل عقولنا
بحُرية في أثناء فترات الراحة التامة وحتى
أثناء النوم (انظر الفصلَين الأول والثالث).
لذا عندما تفشل كل المحاولات المُتعمَّدة لحل
مشكلةٍ ما، حاول أن تنتعِش أو تسترخي وربما
تظهر فكرة رائعة تلقائيًّا.
حالة التدفُّق
حتى لو جرَّبنا هذه المحفزات الثلاثة كلها،
لن تظهر الأفكار الإبداعية بطريقةٍ سحرية إذا
لم نكن مُستعدِّين. فالإبداع العفوي يُحتم
علينا أن نُجهز أدمغتنا لتوليد أفكار إبداعية.
على المدى البعيد، يتعين علينا أن ننتبِه إلى
موضوعاتٍ متنوعة وأن نُوسِّع خبراتنا لتعزيز
أُفق خيالنا. أما على المدى القصير، فيتعيَّن
علينا أن نُركز على مشكلةٍ محددة لتسهيل
الإبداع العفوي لحل هذه المشكلة. فبدون العمل
الجاد والجهد المُسبق، لن تؤدي ممارسة
المُحفزات الثلاثة إلى ظهور أفكار إبداعية
بطريقةٍ سحرية.
بعبارة أخرى، إن الجهود الواعية والمُتعمدة
أثناء حالات النشاط من شأنها أن تُعزز فرص
توليد أفكار إبداعية أثناء حالات الخمول.
فلنفترِض أنك بحاجةٍ إلى حلِّ مشكلة مهمة (على
سبيل المثال، إيجاد طريقة جديدة لإثبات نظرية
رياضية أو إقناع خصمَين سياسِيَّين بالتوافُق
على شيءٍ ما) في غضون أسبوع. في مثل هذه
الظروف، فإن التركيز على هذه المشكلة فقط
أسبوعًا كاملًا من شأنه أن يزيد من فُرَص إيجاد
حلٍّ لها.
قد تمرُّ بحالة «التدفق» من خلال التركيز
العميق على مشكلةٍ معينة. فالتدفُّق هو الحالة
التي يستغرق فيها الشخص تمامًا في مهمة صعبة،
ولكنها قابلة للتنفيذ لدرجة أنه يفقد الوعي بكل
شيء آخر. «يكون التركيز شديدًا لدرجة أنه لا
يتبقى أي قدر من الانتباه للتفكير في أي شيء
غير ذي صلة، أو للقلق بشأن المشاكل. فيختفي
الوعي الذاتي، ويصبح الشعور بالوقت
مشوشًا».
14 إن التناوب بين حالات التدفق
والاسترخاء من شأنه أن يزيد من فُرَص توليد
أفكارٍ إبداعية لحل المشكلة المطروحة. فمن خلال
التركيز العميق على مسألةٍ واحدة بعينها،
ستتشكل شبكاتنا العصبية بحيث تُعالج المعلومات
المُتعلقة بالمشكلة. وهذا من شأنه أن يسمح
لخيالنا أثناء حالة الخمول بأن يمتلئ
بالمعلومات ذات الصلة. سيكون دماغنا أيضًا
جاهزًا لالتقاط أي فكرة إبداعية محتملة عندما
تظهر. ولعل أرخميدس مرَّ بعمليةٍ نفسية مماثلة
عندما توصَّل إلى طريقة لإثبات أن التاج الجديد
الذي صُنِعَ للملك هيرو لم يكن من الذهب
الخالص، قبل أن يركض عاريًا في شوارع سرقوسة
وهو يصرخ «وجدتها!»
تأمُّل الزِّنِّ القائم على الكوان
قد يتبنَّى المرء هذا النهج (التناوب بين
حالات التدفُّق والاسترخاء) عندما يواجِه
مشكلةً صعبة، سواء كانت علمية، أو فنية، أو
مُتعلقة بالأعمال والتجارة. ويُمكن استخدامه
أيضًا للحصول على رؤًى تؤدي إلى التنوير
الروحي. ويُعَد تأمل الزِّن القائم على الكوان
مثالًا جيدًا على ذلك. يتمثَّل هدف البوذية في
التغلُّب على المُعاناة من خلال فهم آلية عمل
العقل («رؤية العقل الأصلي»). إن أفكارنا
ومشاعرنا لا تنشأ عشوائيًّا؛ إذ تكمُن وراءها
ديناميكيات تحكُمها قواعد («النشوء
الاعتمادي»). وقد تتغلَّب على عبوديتك لأفكارك
ومشاعرك من خلال إدراكك الكامل لكيفية
عملها.
يَسْتَخْدِم تأمُّل الزِّنِّ القائم على
الكوان، المُنتشِر على نطاقٍ واسع في دول شرق
آسيا (الصين وكوريا واليابان)، التأمُّل
المركَّز لتحقيق هذا الهدف. يتأمَّل طالب الزن
في كوان، وهو عبارة قصيرة مُتناقضة أو سؤال أو
حكاية رمزية، على غرار ما يلي:
«تصفق يدان ويصدُر صوت، فما صوت
تصفيق اليد الواحدة؟»
«ما هو وجهك الأصلي قبل ولادة
والدَيك؟»
سأل تلميذ مُعلمه: «ما هو
بوذا؟»
وأجاب المُعلم قائلًا: «عصًا
قذرة.»
لا تكون أسئلة الكوان منطقية
أو مفهومة دائمًا. فهي تهدف إلى إثارة «شك
هائل». إنها تُحفزك للخروج من دائرتك الذهنية
المُعتادة وتوسيع نطاق تفكيرك. إنها وسيلة
«لإحداث صدمةٍ للعقل الأناني الذي تشكَّل من
خلال التكييف والتفكير القائم على الاعتقادات
الذي تعزَّز أثناء التنشئة والتعليم
التقليدي».
15
ثمَّة ممارسة مُتطورة من الكوان (تُسمى «هوا
تو» أو «رأس الكلمة») تستمر عادة من ثلاثة إلى
سبعة أيام. وخلال هذه الفترة يجِب أن تُكرس لها
كل انتباهك ليلًا ونهارًا، كما هو موضح هنا:
«يُشرق ضوء «هوا تو» على جسدي وعقلي بالكامل
وكأن القمر المُكتمل الساطع يملأ السماء ليلًا.
نمتزج أنا وهوا تو بحيث يختفي التمييز بيننا؛
يصبح هوا تو أنا، وأصبح أنا هوا تو … أغوصُ
عميقًا في هوا تو بدلًا من تحليله باعتباره
شيئًا مُنفصلًا. أصِل إلى قاع هوا تو بحيث لا
تفصلني عنه أي مسافة، ولا تُواتيني فكرة أو
يعتريني شعور آخر غير هوا تو».
16
يضاهي هذا حالة تدفُّق مثالية. وربما تتناوب
حالات التدفُّق والاسترخاء أثناء ممارسة الكوان
المُتطور بحيث يتعاظم الإبداع العفوي لتوليد
رؤًى جديدة تؤدي إلى التنوير الروحي.
المثابرة
قد نتوصل إلى فكرة إبداعية تُقدِّم حلًّا
كاملًا للمشكلة المطروحة. ولكن في أغلب
الأحيان، لا تكون عملية استنباط الحلِّ النهائي
بهذه البساطة، لا سيما في مواجهة مشكلةٍ معقدة.
فقد نُضطر إلى التناوب بين فتراتٍ من التأمُّل
المركَّز والاسترخاء عدة مرات قبل التوصُّل إلى
حلٍّ جيد بما فيه الكفاية لمشكلةٍ ما. وقد
يتبيَّن لنا أيضًا أن الفكرة الإبداعية ليست
إلا حلًّا جزئيًّا أو قد تؤدي إلى مشكلاتٍ غير
مُتوقعة. حينئذٍ يكون علينا ممارسة دورة
التأمُّل والاسترخاء المركَّزة مرارًا وتكرارًا
للتوصُّل إلى حلٍّ مُرضٍ. لذا، غالبًا ما نحتاج
إلى المثابرة عندما نواجِه مشكلةً صعبة. «إن
المتطلَّبات الحقيقية الوحيدة للإبداع هي
المرونة الإدراكية والمثابرة التحفيزية.
فالأشخاص الشديدو الإبداع سيُواجهون المشكلة من
زوايا مختلفة عديدة، ويتحمَّلون العديد من
البدايات الخاطئة والطرق المسدودة، قبل أن
يُكملوا مسعاهم في النهاية، إن نجحوا في فعل
ذلك أصلًا!»
17
الهواتف الذكية والإبداع
يُشكل الخيال جانبًا أساسيًّا من الطبيعة
البشرية. فنحن لا نحتاج إلى بذل جهدٍ خاص
لإطلاق العنان لخيالنا عندما نسمح لأنفسنا
بتجاهل العالم الخارجي. ومع ذلك، إذا تعرَّضنا
لفيضٍ مُستمر من المُثيرات، فقد تتضاءل فُرَصنا
في استخدام خيالنا على نحوٍ خطير. والعديد من
المُجتمعات الحديثة غارقة في الضوضاء
والمُثيرات المستمرة على مدار الساعة. ولعلَّ
المصدر الأهم للمُثيرات التي تجذب الانتباه
بالنسبة إلى كثيرٍ منَّا هو هواتفنا الذكية.
لقد اعتاد الناس الانخراط في العمليات العقلية
الداخلية أثناء أخذ قسطٍ من الراحة أو في
الفراش قبل النوم. أما الآن، فيَهمُّون لالتقاط
هواتفهم الذكية عندما يكون لديهم وقت فراغ،
ويستخدِمها الكثيرون حتى في السرير قبل النوم.
وهذا يُعزز نشاط مناطق الدماغ المُخصصة
للمعالجة الحسِّية بينما يكبت نشاط شبكة الوضع
الافتراضي.
كذلك يعمل الإفراط في استخدام الهواتف الذكية
على كبت النشاط الدماغي المرتبط بالتأمُّل.
فعندما نواجه مشكلةً ما، ندمج المعلومات
المتاحة بطرق مختلفة ونقيِّم النتائج لإيجاد
حلٍّ للمشكلة. أما في وجود الهواتف الذكية، فلا
يتعيَّن علينا بذل مثل هذا الجهد؛ إذ يمكننا
ببساطة البحث عن الحل عبر جوجل.
إذا استمر الإفراط في استخدام الهواتف
الذكية، فقد يكون له عواقب طويلة الأمد على
الدماغ. وقد يمثل هذا إشكاليةً خصوصًا
للمُستخدِمين الصغار الذين لم يكتمل نضج
أدمغتهم بعد. فبعض أجزاء الدماغ، مثل القشرة
الجبهية الأمامية، تمرُّ بعملية نضوجٍ حتى سنِّ
البلوغ. لذا ستكون العواقب الطويلة الأمد
للإفراط في استخدام الهواتف الذكية على أدمغة
اليافعين أكثر وضوحًا وحتمية مقارنة
بالبالِغين. علاوة على ذلك، مع عدم اكتمال نضج
القشرة الجبهية الأمامية، التي تلعب دورًا
رئيسًا في التحكم المثبِّط (انظر الفصل
التاسع)، سيكون من الصعب للغاية على المراهق
الامتناع عن الإفراط في استخدام الهواتف
الذكية. لهذه الأسباب، من المُهم فهم العواقب
الطويلة الأمد للإفراط في استخدام الهواتف
الذكية على دماغ اليافِعين.
إن نتائج الدراسات حتى الآن مُثيرة للقلق.
فالإفراط في استخدام الهواتف الذكية بين
اليافعين يرتبط بمجموعة متنوعة من المشكلات
الإدراكية والعاطفية والشخصية فضلًا عن
الاضطرابات العصبية والنفسية مثل الاكتئاب
واضطراب نقص الانتباه وفرْط النشاط. كذلك يرتبط
الإفراط في استخدامها بضعف الروابط بين الخلايا
العصبية في الشبكة التنفيذية المركزية وتضاؤل
سُمك القشرة المخية.
18
إيجازًا، قد تكون عواقب الإفراط في استخدام
الهواتف الذكية على دماغ المُراهقين خطيرة. وقد
يتعيَّن علينا اتخاذ إجراءات للتخفيف من
حدَّتها بقدْر ما نسعى حاليًّا لخفض معدلات
التدخين وشُرب الكحوليات بين المراهقين.