الفصل الرابع عشر

مستقبل الابتكار

fig40
شكل ١٤-١: التغيرات في نسبة الحيوانات الفقارية البرية على مدار عشرة آلاف عام. الشكل مستنسخ بإذن من جوناثان أوسترن، «أنقذوا الأرض … لا تُنجبوا: القصة وراء أبسط وأصعب طريقة للمساعدة في إنقاذ كوكبنا المُهدد بالانقراض»، رسوم بيانية توضيحية، تاريخ زيارة الرابط ٢٢ يونيو٢٠٢٢، https://www.savetheearth.info/infographics.html.
fig41
شكل ١٤-٢: صيد الجاموس في القرن التاسع عشر، عندما أتاحت البنادق للبشَر الصيد الجماعي لها في أمريكا الشمالية. الشكل مستنسخ من Bison skull pile edit.jpg، ويكيميديا كومنز، جرى التحديث في ٢٧ مايو ٢٠١١، https://commons.wikimedia.org/w/index.php?curid=15324296.
هل قُدرة الإنسان على الابتكار نعمة؟ من حيث المنافسة مع الأنواع الأخرى، فهي نعمة بكلِّ تأكيد. لقد سمحَت قدرة الإنسان على الابتكار له بالسيطرة على الحيوانات الكبيرة الأخرى. ويوضح الشكل (١٤-١) توزيع كتلة الحيوانات الفقارية البرية. قبل عشرة آلاف عام، كانت الكتلة الإجمالية للبشر تُشكل ١ في المائة فقط والباقي كانت تساهم به الحيوانات البرية. أما الآن، فأصبحت الأرقام المقابلة ٣٢ في المائة و١ في المائة على التوالي، وتتجاوز الكتلة الإجمالية للماشية (الأبقار والأغنام والخيول والدجاج، إلخ) الكتلة الإجمالية للبشر والحيوانات البرية مُجتمعَين. وهذا يوضح مدى هيمنة البشَر على الحيوانات الكبيرة الأخرى.
fig42
شكل ١٤-٣: تدمير الموائل. (أ) التصحر في بورنيو. مقطع مستنسخ من مقال لهوجو أهلينيوس بعنوان «حجم التصحر في بورنيو ١٩٥٠–٢٠٠٥، والتوقعات حتى عام ٢٠٢٠»، قاعدة بيانات جريد أريندال، جرى التحديث عام ٢٠٠٧، https://www.grida.no/resources/8324 (بإذن من هوجو أهلينيوس). (ب) توزيع إنسان الغاب في بورنيو. المقطع مستنسخ من مقال هوجو أهلينيوس بعنوان «توزيع إنسان الغاب في بورنيو (إندونيسيا، ماليزيا)»، جرى التحديث عام ٢٠٠٦، https://www.grida.no/resources/8326 (بإذن من هوجو أهلينيوس).
ولكن من المؤسف أن القدرة البشرية على الابتكار قد يتبيَّن أنها نقمة وليست نعمة على الأمد البعيد، إذا لم نتحكَّم فيها كما ينبغي. فالنظام البيئي يتعرَّض للتدمير على نطاقٍ عالمي بسبب الأنشطة البشرية، مثل الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية (انظر الشكل ١٤-٢)، وتدمير الموائل (انظر الشكل ١٤-٣)، وتغيُّر المناخ بسبب الإفراط في استخدام الوقود الأحفوري. وربما يتعيَّن علينا أن نَقلق بشأن انقراضنا قريبًا إذا استمرَّ الاتجاه الحالي في الابتكار.

ما الذي ينتظرنا حال استمرارنا على مسار الابتكار الحالي؟ هل ينتظرنا عالَم مثالي (يوتوبيا) أم بائس (ديستوبيا)؟ إن التنبؤ بالمستقبل أصعب كثيرًا من النظر إلى الماضي. ومع ذلك، يُمكننا أن نحاول التنبؤ بما سيحدث بعد ذلك بناءً على ما حدث في الماضي. لنستعرِض وجهتَي نظر مُتعارضتَين، إحداهما متشائمة والأخرى متفائلة.

fig43
شكل ١٤-٤: معدلات الانقراض الأخيرة. الشكل مأخوذ من مقال هانا ريتشي وماكس روزر بعنوان «عمليات الانقراض»، تاريخ زيارة الرابط ٢١ يونيو ٢٠٢٢، (https://ourworldindata.org/extinctions (CC BY)).

المنظور المتشائم

شهد تاريخ الأرض خمس عمليات انقراض جماعية. كان آخرها منذ خمسةٍ وستين مليون سنة. وقد انقرض العديد من الحيوانات، كان من بينها جميع الديناصورات غير الطائرة. ولحُسن حظِّنا، اغتنمت الثدييات هذه الفرصة للازدهار، ما أدى في النهاية إلى تطور الرئيسيات بما فيها البشر. ولعلَّنا الآن في طريقنا إلى انقراضٍ جماعي سادس بسبب الأنشطة البشرية. فوفقًا لدراسة أُجريت على الفقاريات، فإن معدل الانقراض خلال الخمسمائة عام الماضية أسرع بمئات إلى آلاف المرات من المعدل العادي، والذي يبلغ ٠٫١ انقراض لكلِّ مليون نوع في السنة، وهذا المعدل في تسارُع منذ عام ١٩٠٠ (انظر الشكل ١٤-٤).1 ووفقًا لتقرير الكوكب الحي لعام ٢٠٢٢ الصادر عن «الصندوق العالمي للطبيعة»، انخفضت الوفرة النسبية لأعداد الحيوانات البرية المُراقَبة بنِسبة ٦٩ في المائة في جميع أنحاء العالم بين عامَي ١٩٧٠ و٢٠١٨. وكان الانخفاض حادًّا جدًّا في أعداد الأنواع التي تعيش في المياه العذبة (٨٠ في المائة)، وعلى المستوى الإقليمي، في أمريكا اللاتينية (٩٤ في المائة).2 وإذا استمرَّ الاتجاه الحالي للانقراض، فقد يشمل في النهاية الإنسان العاقل كضحيةٍ قادمة.

وما يُثير القلق بشكلٍ خاص هو التغير المناخي المستمر. فجميع أنواع الكائنات الحية تواجِه تحدي التكيُّف مع بيئتها الدائمة التغير. وقد تساهم التغيرات البيئية في التنوُّع البيئي، من خلال إجبار الأنواع الموجودة على التطوُّر إلى أنواع جديدة. ولكن إذا كانت التغيرات مفاجئة أو حادة بحيث لا تتمكن معظم الأنواع الحية من التكيُّف معها، فقد تواجِه الانقراض الجماعي.

تاريخيًّا، تسببت الأحداث الكارثية العنيفة، مثل الانفجارات البركانية الواسعة النطاق واصطدام الكويكبات بالأرض في حدوث تغييرات جذرية في البيئة، مما أدى إلى نفوق جزءٍ كبير من الأنواع الموجودة. جاء الانقراض الجماعي الأشد، والمعروف باسم «الموت العظيم»، قبل ٢٥١.٩ مليون سنة. فقد نفق ما يصل إلى ٩٦ في المائة من إجمالي الأنواع البحرية ونحو ٧٠ في المائة من إجمالي الأنواع البرية. يعتقد العلماء أن الانفجارات البركانية الضخمة في سيبيريا أطلقت كمياتٍ هائلة من الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي خلال مدة قصيرة. وتسبَّب هذا في احتباسٍ حراري عالمي مفاجئ وسلسلة من التأثيرات البيئية الضارة الأخرى مثل التجوية (تحلُّل الصخور والمعادن على سطح الأرض)، مما أدى إلى انخفاض مستوى الأكسجين في المُحيط. وقد كانت هذه التغيرات البيئية أقوى من قدرة معظم الأنواع على التكيف معها.3
fig44
شكل ١٤-٥: الإفراط في استخدام الوقود الأحفوري. (يسارًا) الاستهلاك العالمي للوقود الأحفوري (الغاز والنفط والفحم)، مَقيسًا بالتيراواط في الساعة بين عامَي ١٨٠٠ و٢٠١٩. المقطع منقول من مجموعة أبحاث ومقالات هانا ريتشي وماكس روزر بعنوان «الطاقة»، Ourworldindata.org، تاريخ زيارة الرابط ٢١ يونيو ٢٠٢٢، https://ourworldindata.org/energy (CC BY). (يمينًا) احتمالات احتياطيات الطاقة المُستقبلية مَقيسًا بمليار طنٍّ مكافئ نفط. نقاط النهاية المقدرة للنفط والغاز والفحم هي ٢٠٥٢ و٢٠٦٠ و٢٠٩٠ على التوالي.
ولكن النبأ السيئ هنا هو أن الأنشطة البشرية، وخاصة الاستخدام المُكثف للوقود الأحفوري، يبدو أنها تؤدي إلى إحداث تغييراتٍ بيئية مفاجئة وعنيفة، لا تقلُّ حدةً عن تلك التي حدثت أثناء فترات الانقراض الجماعي في الماضي. والوقود الأحفوري الذي نستخدِمه حاليًّا هو نتاج عملية احتجاز الكربون مدة طويلة. فقد تحوَّلت النباتات الميتة إلى خُث بدلًا من أن تتحلَّل خلال العصر الكربوني (قبل نحو ٣٦٠ إلى ٣٠٠ مليون سنة)، ثم تحولت في نهاية المطاف إلى الفحم والنفط والغاز. ولكنَّنا الآن نعكس هذه العملية في غضون بضع مئاتٍ من السنين فقط (انظر الشكل ١٤-٥)!4 إذن فمِن غير المُستغرب أن يؤدي الإفراط في استخدام الوقود الأحفوري إلى إحداث تغيُّر المناخ بمعدل أسرع وأعنف، من أن يتمكن كثير من أنواع الكائنات الحية من مواكبته.
ولكن لماذا لم تتحلَّل النباتات الميتة خلال العصر الكربوني؟ وفقًا للنظرية الأكثر شيوعًا، كانت هناك فجوة زمنية مُدتها ستون مليون سنة بين ظهور الغابات الأولى والكائنات الحية الهاضمة للخشب (فرضية التأخُّر التطوري). بعبارة أخرى، لم تكن هناك كائنات حية تستطيع أن تُحلل الخشب خلال تلك الفترة.5 ومن الأحداث المهمة في تاريخ تطوُّر النبات ظهور اللجنين، وهو فئة من البوليمرات العضوية المعقدة. يوفر اللجنين، إلى جانب السليلوز، الصلابة للنباتات الأرضية، مما يسمح لها بالاستطالة، ما يُفيد في تسخير المصدر الأساسي للطاقة، وهو ضوء الشمس. لم تتمكن الكائنات الحية الدقيقة القديمة من تحليل اللجنين؛ ومن ثَم تراكمت النباتات الميتة ولم تتحلل.6 كان اللجنين أشبه نوعًا ما بالبلاستيك في الوقت الحاضر. فقد استغرق تطور البكتيريا والفطريات التي تهضم اللجنين ستين مليون سنة. وربما تتطوَّر في نهاية المطاف كائنات حية جديدة قادرة على تحليل البلاستيك بحيث تُحَل أزمة البلاستيك الحالية. ربما يستغرق الأمر زمنًا طويلًا للغاية، وستُّون مليون سنة أخرى تعادل مائتَي مرة الفترة الزمنية الكاملة لوجود الإنسان العاقل.
في الوقت الحالي، يُعد الاحتباس الحراري العالمي أهم عواقب الإفراط في استخدام الوقود الأحفوري. فوفقًا لتقرير التقييم السادس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المَعنية بتغيُّر المناخ (IPCC)، ارتفعت درجة الحرارة العالمية بنحو درجةٍ مئوية واحدة فوق مستويات ما قبل العصر الصناعي (بين عامي ١٨٥٠ و١٩٠٠) بحلول عام ٢٠١٧ (انظر الشكل ١٤-٦).7 وهذه الزيادة في أقلَّ من مائة عام تعد تغيرًا سريعًا للغاية على مقياس زمني جيولوجي؛ فهي تنافس معدل الاحتباس الحراري العالمي أثناء عصر الموت العظيم. ويموت العديد من الكائنات الحية لأنها لا تستطيع مواكبة مثل هذه التغيرات البيئية السريعة. فالتطوُّر عملية بطيئة بالنسبة لمعظم الأنواع؛ لذلك إذا استمرَّ الاحتباس الحراري العالمي في هذا الاتجاه، فمن المُرجَّح أن معدل الانقراض سيتسارع.

وفي سبيل تعزيز الاستجابة العالمية لتهديد تغيُّر المناخ، تبنَّت ١٩٥ دولة اتفاقية باريس في ديسمبر عام ٢٠١٥، للحدِّ من ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية إلى ١٫٥ درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة. وإذا التزمت الدول المشاركة بالاتفاقيات بصِدق؛ بمعنى أن تخفض الانبعاثات على الفور، وتخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الصفر بحلول عام ٢٠٥٥، فمن المُتوقَّع أن تصِل درجة الحرارة العالمية إلى ١٫٥ درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة نحو عام ٢٠٤٠، ثم تصِل إلى حالة من الاستقرار النسبي أو تتجاوز الهدف قليلًا.

لماذا ١٫٥ درجة مئوية؟ لأن فرصة تجاوز «نقطة انقلاب» مناخي تزداد بصورة كبيرة مع ارتفاع درجة حرارة الأرض فوق هذا المستوى. وقد تحدث تغييرات لا رجعة فيها، وقد يتسارع الاحتباس الحراري العالمي إلى حدٍّ كبير بمجرد تجاوز نقطة التحول هذه. على سبيل المثال، يؤدي الاحتباس الحراري العالمي إلى تقليل كتلة الأنهار الجليدية، مما يُقلل بدوره من انعكاس أشعة الشمس عبر الأنهار الجليدية، ما يؤدي إلى مزيد من الاحتباس الحراري العالمي. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك، ذوبان الأراضي الرطبة في التربة الصقيعية في سيبيريا، التي تُطلق غاز الميثان وتزيد من تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي. وبعد تجاوز نقطة التحول، قد يتفاعل الاحتباس الحراري العالمي مع عواقبه، مثل ذوبان الأنهار الجليدية (انظر الشكل ١٤-٦)، وذوبان الأراضي الرطبة في القُطب الشمالي، وتدمير الغابات بسبب الجفاف والحرائق، وتباطؤ دوران المحيطات. وبمجرد بدء بعض هذه الأحداث، فقد لا يكون بالإمكان إبطال تأثير ما بدأه النشاط البشري.
fig45
شكل ١٤-٦: ما مدى قربنا من بلوغ ١٫٥ درجة مئوية؟ الشكل مستنسخ من جزء من تقرير «الاحتباس الحراري العالمي عند درجة ١٫٥ مئوية» لمايلز آر ألين وآخرين بعنوان «التأطير والسياق»، تحرير «في ميسون»-ديلموت وآخرين (كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج، ٢٠١٨)، صفحة ٨٢ (CC BY).
fig46
شكل ١٤-٧: فيضان دون أمطار. أدَّت موجة حرارة حطمت الرقم القياسي إلى تسريع ذوبان الأنهار الجليدية في باكستان في أبريل ٢٠٢٢، مما أدى إلى حدوث فيضان مفاجئ (يُطلَق عليه فيضان البحيرة الجليدية المتفجر) أدى إلى انهيار جسر حسن آباد على طريق كاراكورام السريع. الشكل منقول من مقال وسيم إسحاق ورضا تنوير ومُدثر مختار بعنوان «تغير المناخ وأزمات المياه في باكستان: تداعيات على جودة المياه والمخاطر الصحية»، دورية «إنفيرنمينتال آند بابليك هيلث» (نوفمبر ٢٠٢٢): 5484561 (CC).

ومع الأسف، ثمة مخاوف من أن الإجراءات المتخذة للوفاء بالتعهدات المقدمة بموجب اتفاق باريس غير كافية. على سبيل المثال، لم تفِ الدول الغنية بتعهدها بتقديم مائة مليار دولار سنويًّا للدول الأكثر فقرًا لتمويل المناخ. والأسوأ من ذلك أن الولايات المتحدة، وهي من أكبر مصادر انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي، انسحبت من اتفاق باريس في عام ٢٠٢٠ في عهد إدارة ترامب. وقد تكون معضلة تغيُّر المناخ الحالية مثالًا كلاسيكيًّا على «مأساة المشاع»، التي تُشير إلى موقف يستنفَد فيه مورد مُشترك من قبل الأشخاص (أو المنظمات) المعنيين بمصالحهم الذاتية، ممن لدَيهم القدرة على الوصول إلى هذا المورد. ومن دواعي الارتياح أن الولايات المتحدة عادت للانضمام إلى اتفاق باريس في عام ٢٠٢١ في عهد إدارة بايدن. ومع ذلك، لا يُمكننا استبعاد احتمالية تجاوز نقطة التحول، حتى لو التزمنا بصِدق بالتعهُّدات بموجب اتفاق باريس. وإذا فشلنا في القيام بذلك، فإن تجاوز نقطة التحول سيزداد بصورة كبيرة.

إن تغيرًا بمِقدار بضع درجات في درجات الحرارة العالمية قد لا يُشكل أهمية كبيرة في مقياس الزمن الجيولوجي. فقد شهدت درجة حرارة الغلاف الجوي العالمي تقلبات كبيرة منذ نشأة الحياة على الأرض. فكانت أعلى من الوقت الحاضر بنحو خمس إلى عشر درجات مئوية خلال العصر الجوراسي (قبل نحو ١٥٠ إلى ٢٠٠ مليون سنة) عندما ازدهرت الديناصورات، وكانت أكثر برودةً من الوقت الحاضر بنحو ست درجات مئوية خلال العصر الجليدي الأخير (قبل نحو عشرين ألف سنة).8 وعلى هذا فإن تغيرًا بمقدار درجة أو درجتَين في درجة حرارة الغلاف الجوي العالمي ليس حدثًا جللًا بالنسبة إلى الأرض. غير أنه كان سيشكل مصدر قلق كبير لبعض الأنواع المزدهرة حاليًّا على هذا الكوكب، مثل الإنسان العاقل. فقد صار أكثر من ٩٩ في المائة من جميع الأنواع التي عاشت على الإطلاق مُنقرضة الآن. لقد ظلَّت درجة حرارة الغلاف الجوي العالمي مُستقرة على مدى العشرة آلاف سنة الماضية، وخلال هذه الفترة حققت البشرية نجاحًا مذهلًا في زيادة تعدادها وتوسيع نطاق تواجُدها وبناء الحضارات. ولكن إذا استمر الاتجاه الحالي للاحتباس الحراري وتجاوز نقطة التحول، فقد تُضطر البشرية عما قريب إلى مواجهة مُستقبل شديد القسوة.

المنظور المتفائل

كانت نظرتنا للاتجاه الحالي للاحتباس الحراري العالمي حتى الآن نظرة متشائمة. ولننظر الآن إلى الجانب المشرق. أولًا: نحن مُدركون للعواقب الكارثية المحتملة للاحتباس الحراري العالمي. ثانيًا: لدَينا فهم علمي جيد للعوامل البشرية المُسببة للاحتباس الحراري العالمي. ثالثًا: نحن نتَّخذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من آثاره. من الصعب بطبيعة الحال التنبؤ بديناميكيات عمل المناخ والسيطرة عليها بسبب تعقيدها الشديد. غير أن ما يبعث على التفاؤل أن الناس يبذلون جهودًا لفهم الأحداث العالمية والتخفيف من عواقبها السلبية.

بعد أن أدرك العالم أن بعض المواد، مثل مركبات الكلوروفلوروكربون، التي كانت تُستخدم على نطاق واسع كمبرِّدات، من الممكن أن تُلحق الضرر بطبقة الأوزون في طبقة الستراتوسفير، أُقِرَّت معاهدة دولية، ألا وهي بروتوكول مونتريال، في عام ١٩٨٧ لحماية طبقة الأوزون من خلال التخلُّص التدريجي من إنتاج المواد المُستنفدة للأوزون. ولكن ما مدى فاعلية هذه المعاهدة؟ إن التأثير المُقدَّر لبروتوكول مونتريال منذ عام ١٩٨٧ يصِل إلى خفض درجة حرارة الغلاف الجوي العالمي بمقدار ٠٫٥ إلى ١ درجة مئوية، بحلول عام ٢١٠٠.9 وهذا نجاح هائل. وهكذا يبعث بروتوكول مونتريال رسالةً قوية ومشجعة بأننا قادرون على وقف المزيد من تغيُّر المناخ.

ثمة مصدر آخر للتفاؤل يتمثل في الوتيرة السريعة للتطوُّرات العلمية والتكنولوجية. فالتكنولوجيا تنمو بصورة أُسِّية لا خطيَّة. وقد تُوفر لنا هذه التطورات التكنولوجية السريعة الوسائل اللازمة لمكافحة القضايا البيئية الحالية. فقد نتمكن قريبًا من تطوير تقنيات أقوى كثيرًا من تلك المُستخدمة الآن. وقد نتمكن من مواجهة التحديات البيئية الحالية والمستقبلية بمساعدة هذه التقنيات.

لنتأمَّل الكيفية التي يتطوَّر بها الذكاء الاصطناعي. في ظل المعدل الحالي للتقدُّم العلمي، قد نتمكن قريبًا من فهم المبادئ العصبية الأساسية التي يقوم عليها الذكاء البشري، ثم استخدام هذه المعرفة لتطوير ذكاء اصطناعي يتفوَّق على الذكاء البشري. وهذا يحدث بالفعل في بعض النواحي. فقد ناقشنا، على سبيل المثال، كيف قد يكون عُمق الشبكة العصبية حاسمًا في تحديد درجة التجريد التي يمكن تحقيقها (انظر الفصل الحادي عشر). والآن يستخدم التعلم العميق شبكات عصبية من أكثر من مائة طبقة، وهو ما يتجاوز كثيرًا عمق الشبكة العصبية الموجودة في الدماغ البشري.

يتفوَّق الذكاء الاصطناعي بالفعل على البشر في كثير من المجالات. وتتمثل المرحلة الحاسمة التالية في تطوير ذكاء اصطناعي للأغراض العامة. وفي هذا الصدد، اقترح ديفيد سيلفر وزملاؤه في شركة دييب مايند، في ورقتهم البحثية بعنوان «المكافأة كافية»، أن المكافأة كافية لتطوير ذكاء اصطناعي للأغراض العامة.10 ووفقًا لفرضيتهم، فإن معظم أشكال الذكاء، إن لم يكن كلها، ومن ضمنها الإدراك والذاكرة والتخطيط والتحكُّم الحركي واللغة والذكاء الاجتماعي، تنشأ نتيجة للهدف العام الأشمل المُتمثل في تعظيم المكافأة. ويعزو ذلك إلى أن تعظيم المكافأة في بيئة مُعقدة يتطلب مجموعة متنوعة من القدرات. وبما أن التعلُّم المُعَزَّز يُحدد مشكلة الذكاء الساعي إلى تحقيق الأهداف في إطار منهجي، فإن وجود وكيل تعلُّم مُعَزَّز قوي بما فيه الكفاية يتفاعل مع بيئات معقدة، سوف يطور أشكالًا مختلفة من الذكاء اللازم لتعظيم المكافأة عبر بيئات متعددة.

لقد صدم برنامج ألفا جو العالم عندما هَزَمَ لي سيدول، وهو خبير ولاعب مُحترف في لعبة جو، في عام ٢٠١٦. وابتكرت شركة دييب مايند برامج إضافية، مثل ألفا زيرو ومو زيرو، على مدى السنوات التالية. وقد تمكن مو زيرو، وهو وكيل تعلم مُعَزَّز قوي، من إتقان العديد من ألعاب الطاولة (جو، والشطرنج، وشطرنج الشوجي) فضلًا عن عددٍ من ألعاب الأتاري دون معرفة مُسبقة بها. وتمكن مو زيرو من تعلم إتقان كل هذه الألعاب بهدفٍ واحد يتمثل في تعظيم المكافأة (على سبيل المثال، الفوز بلعبة)، على الرغم من حقيقة أن اختلاف الألعاب يقتضي أنواعًا مختلفة من المعرفة. وقد نشهد قريبًا ظهور الذكاء الاصطناعي العام إذا استمرَّ هذا المسار البحثي.

تنبَّأ المخترع وأحد مستشرفي المستقبل راي كرزويل، في معرض بيانه للطبيعة الأسيَّة للنمو التكنولوجي («قانون العوائد المتسارعة»)، بأن «التفرد التكنولوجي» (وهي النقطة التي يصبح عندها النمو التكنولوجي خارجًا عن السيطرة ولا رجعة فيه) سوف يحدُث في عام ٢٠٤٥.11 وبمجرد الوصول إلى نقطة التفرد، سوف يتجاوز الذكاء الاصطناعي الذكاء البشري ويستمر في التحسُّن بمعدل متسارع مستمر دون تدخل بشري، مما يُحفز ردَّ فعلٍ منفلتًا لتحسين الذات. وفي عام ١٩٦٦، تنبَّأ عالم الرياضيات إيرفينج جود بحدوث «انفجار للذكاء» وظهور الذكاء الاصطناعي الفائق على النحو التالي: «لنُعرِّف الآلة الفائقة الذكاء على أنها آلة يمكنها أن تتفوق على جميع الأنشطة العقلية لأي إنسان مهما بلغ ذكاؤه. ونظرًا لأن تصميم الآلات هو أحد هذه الأنشطة العقلية، فإن الآلة الفائقة الذكاء يُمكنها تصميم آلات أفضل؛ وعندئذٍ سيحدث «انفجار ذكاء» لا محالة، وهو ما سيؤدي إلى تخلف ذكاء الإنسان كثيرًا عن الركب. وهكذا فإن أول آلة فائقة الذكاء ستكون «آخر» اختراع يحتاج الإنسان إلى صُنعه على الإطلاق، شريطة أن تكون الآلة مُطيعة بما يكفي لإخبارنا بكيفية إبقائها تحت السيطرة.»12

من النتائج المأمولة لهذا الانفجار في الذكاء الاصطناعي تطوير تقنيات جديدة وقوية قادرة على وقف أو حتى إبطال تأثير المشاكل البيئية الحالية. قد لا يبدو هذا معقولًا من منظور التكنولوجيا المعاصرة. ولكن بمجرد أن تصل التطورات التكنولوجية إلى نقطة التحول، فقد تتخطَّى سرعة التقدم حدود توقعاتنا الحالية.

هل يمكن أن تستمر وتيرة التقدم التكنولوجي في التسارع إلى ما لا نهاية؟ ألا توجَد نقطة يعجز عندها البشر عن التفكير بسرعة كافية لمواكبة التقدم التكنولوجي؟ من الواضح أن هذا ما سيحدث للبشر غير المُعزَّزين تكنولوجيًّا. ولكن ما الذي سيحققه ألف عالم، يفوق ذكاء الواحد منهم ذكاء العلماء البشريين اليوم ألف مرة، ويعمل كل منهم أسرع ألف مرة من البشر المعاصرين (لأن معالجة المعلومات في أدمغتهم غير البيولوجية أسرع)؟ … عندما يصبح العلماء أذكى مليون مرة، ويعملون أسرع مليون مرة، فإن ساعة واحدة من العمل سيَنتُج عنها قرن من التقدم (بالمصطلحات المعاصرة).13
تنبأ كرزويل بوقوع عددٍ من الأحداث بعد نقطة التفرد، من بينها قدرة الروبوتات النانوية على إبطال تأثير التلوث الناجم عن حِقَب التصنيع السابقة.14 وآمُل ألا يكون ترقُّب تطوير تكنولوجيا قادرة على وقف الاحتباس الحراري العالمي الحالي ضربًا من التفاؤل الساذج. إن النمو الأُسي في المعرفة، والذي يشمل التقدم في العلوم والتكنولوجيا، وأيضًا في فهمنا للطبيعة البشرية والمجتمع، فضلًا عن تحسين الاستراتيجيات اللازمة لتنظيم وتعبئة الموارد الاجتماعية، قد يزوِّدنا بأدوات فعَّالة لمواجهة التحديات البيئية الحالية.
يبدو النمو الخطي والأسِّي متشابهين في المراحل المبكرة. ولا تظهر الاختلافات بينهما إلا عندما يصل النموُّ إلى حدٍّ مُعين (نقطة انحناء المنحنى الأسِّي، انظر الشكل ١٤-٨). ومن هذا المنظور، يبدو أننا نعيش حاليًّا في عصرٍ بدأ فيه النمو الأسِّي للتكنولوجيا يتسارع على نحوٍ يتجاوز نقطة حرجة.
fig47
شكل ١٤-٨: دالة النمو الخطِّي مقابل دالة النمو الأسِّي.
دعوني أوضح هذه الفكرة ببعض الأمثلة المستمدة من تجاربي الشخصية. في عام ١٩٨١، عندما كنت أدرس علم الأحياء، درست الوراثيات الجزيئية كجزء من المُقرر الدراسي. أتذكر الرهبة التي شعرت بها عندما علمت لأول مرة بالعمليات الجزيئية التي تقوم عليها العقيدة المركزية لعلم الأحياء الجزيئي (نقل المعلومات من الدي إن إيه إلى الآر إن إيه الرسول إلى البروتين)، وهو مبدأ أساسي تقوم عليه كل أشكال الحياة على الأرض. لم تُذْكَر إمكانات تقنية استنساخ الجينات (أو الحمض النووي المؤتلف أو المعاد التركيب) إلا بإيجاز في الفصل الأخير من الكتاب الدراسي. واستنساخ الجينات هو عملية صنع نُسَخ متعددة من جينٍ ما. باستخدام إنزيمات القطع (إنزيمات تقطع الحمض النووي عند تسلسلات نوكليوتيدية معينة)، يُقْطَع تسلسل معين من الحمض النووي، ويجري إدخاله في ناقل (قطعة صغيرة من الحمض النووي يُمكنها أن تتكاثر بمعزلٍ عن جينوم المضيف)، ثم إدخاله في خلية مُضيفة. وقد شكل هذا بداية الهندسة الوراثية. ومنذ ذلك الحين، تقدمت تقنيات الهندسة الوراثية بسرعة. وتُتيح تقنية كريسبر كاس (CRISPR-CAS) على وجه الخصوص، وهي تقنية جديدة نسبيًّا، التحرير الدقيق لتسلسُلات الحمض النووي في الكائنات الحية. وتَستخدِم هذه التقنيات الهندسية الوراثية الآن بالتزامن مع تقنيات أخرى، مثل علم البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، لتصميم وبناء أجزاء وأجهزة وأنظمة بيولوجية جديدة لا وجود لها في الطبيعة. فيمكن للمرء، على سبيل المثال، محاولة تصميم وخلق كائنات دقيقة جديدة تعمل على تحليل البلاستيك. وهذا مجال ناشئ يُعرَف باسم علم الأحياء التخليقي. وقد أكد العلماء في عام ١٩٤٤ أن الحمض النووي هو المادة الوراثية.15 وبعد أقل من مائة عام، حدد العلماء الشفرة الوراثية (مجموعة من ثلاثة نيوكليوتيدات تُحدد حمضًا أمينيًّا واحدًا)، والعمليات الجزيئية التي تكمن وراء العقيدة المركزية لعلم الأحياء الجزيئي، وتسلسل الجينوم البشري بأكمله، ويُمكنهم الآن تصميم وتصنيع أشكال حياة جديدة.

تشكل التطورات السريعة في تكنولوجيا الكمبيوتر مثالًا آخر. فقد درست برمجة الكمبيوتر في عام ١٩٨١. في ذلك الوقت، كان علينا أن نكتب أكواد البرمجة على ورقٍ مربع ونقدمها إلى موظف مسئول عن ثقب البطاقات المُثقبة. وبعد بضعة أيام، كنا نتلقَّى حزمةً سميكة من البطاقات المُثقبة، ثم نحملها إلى مركز للكمبيوتر حتى يقرأها الكمبيوتر الرئيسي ويولِّد المُخرجات. كان الكمبيوتر الرئيسي يقرأ البيانات من البطاقات المثقبة (بناءً على عدم وجود ثقب أو وجوده في مكانٍ معين) ويولد الناتج النهائي. وحتى البرامج القصيرة للغاية كانت تتطلَّب كومةً سميكة من البطاقات المُثقبة لإنجازها.

كان أول لقاء لي بالكمبيوتر الشخصي عندما ذهبتُ إلى الولايات المتحدة للالتحاق بالدراسات العُليا في عام ١٩٨٦. كانت تجربة جديدة تمامًا بالنسبة لي؛ إذ كانت مدخلاتي تنتج مُخرجات على شاشة الكمبيوتر على الفور. بل إنني تمكنت من كتابة وتشغيل برنامج دون استخدام البطاقات المُثقبة! كان لا بد من عمل نسخة احتياطية من القرص الصلب للكمبيوتر الذي كنت أستخدمه في ذلك الوقت — والذي أعتقد أنه كان من طراز IBM XT — في أحد الأيام؛ لأنه كان شِبه مُمتلئ. كان إجمالي مساحة تخزين قرص الكمبيوتر ١٠ ميجابايت. وقد استخدمت نحو عشرين قرصًا مرنًا (بمساحة تخزين ٥٢٥ كيلوبايت لكل قرص) لعمل نسخةٍ احتياطية من القرص الصلب. والآن، بعد نحو خمسةٍ وثلاثين عامًا، أمتلك هاتفًا ذكيًّا بمساحة ٢٥٦ جيجابايت، بزيادة ٢٥٦٠٠ مرة عن مساحة ذلك الكمبيوتر الذي كنت أستخدِمه في الثمانينيَّات. وفقًا لقانون مور، كانت سرعة وسَعة أجهزة الكمبيوتر تتضاعفان كل عامَين تقريبًا على مدار العقود القليلة الماضية. وهذا يعني أن أجهزة الكمبيوتر اليوم أقوى بنحو مائة مرةٍ من تلك التي كانت موجودة قبل أربعة عشر عامًا، ونحو عشرة آلاف مرة من تلك التي كانت موجودة قبل سبعةٍ وعشرين عامًا، ومليون مرة من تلك التي كانت موجودة قبل أربعين عامًا. ومن ثم، كان التقدُّم في تكنولوجيا الكمبيوتر أُسيًّا بشكل واضح خلال العقود القليلة الماضية.
ثمة مجال آخر يتقدم بسرعة وهو الذكاء الاصطناعي. فمنذ ثورة التعلم العميق، ظهر العديد من برامج الذكاء الاصطناعي القوية التي تتفوق على البشر في مجالات مختلفة. حتى في مجالات مثل الفن والموسيقى والأدب، كان يُعتقد يومًا ما أنها تتطلَّب قدراتٍ بشرية خاصة، أصبح لها برامج قوية للذكاء الاصطناعي متاحة الآن. يمكن لهذه البرامج إنشاء قِطَع موسيقية أو رسومات أو مقاطع فيديو أو حتى قصائد وروايات. فيما يلي قصيدة كتبها ChatGPT بعد أن طلبتُ منه «كتابة قصيدة عن الإبداع البشري»: (write a poem on human creativity).
Creativity flows like a river wild,
A force that cannot be tamed or reconciled.
It bursts forth from the depths of the mind,
A spark that sets the imagination aligned.
It dances in the brushstrokes of a painter,
It sings in the notes of a composer’s gainer.
It shapes the words of a poet’s pen,
And the designs of an engineer’s den.
It builds the bridges that span the divide,
And the skyscrapers that reach for the sky.
It brings to life stories that touch the soul,
And the inventions that make us whole.
Human creativity is a wonder to behold,
A reflection of the world, both young and old.
It is the light that guides us through the dark,
A reminder of the beauty in our hearts.
لقد نظم ChatGPT هذه القصيدة في غضون ثوانٍ. ربما يستغرق الأمر مني شهرًا أو أكثر لكتابة قصيدة بهذه الجودة.
إذا استمرت تقنيات الذكاء الاصطناعي القوية في هذا التقدم المطَّرد ودُمِجَت مع التطورات التكنولوجية في مجالات أخرى، فقد تصبح فعالة في مكافحة المشاكل البيئية التي نواجهها حاليًّا. فقد تمكَّنت شركة دييب مايند من توفير أربعين في المائة من إجمالي تكاليف التبريد من خلال تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي على التحكم في مراكز بيانات جوجل.16 ويعد هذا تحسنًا كبيرًا؛ نظرًا لأن مراكز بيانات جوجل كانت تُدار بالفعل بطريقة متطورة للغاية قبل تطبيق الذكاء الاصطناعي الخاص بشركة دييب مايند. ويوضح هذا المثال كيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة الطاقة وتقليل الانبعاثات.

مفترق طرق

قد نقترب من مفترق طرق حيث تبدأ التطورات التكنولوجية في الازدهار من ناحية، ويهدد الاستغلال المفرط للموارد الطبيعية استمرار وجود جنسنا البشري من ناحية أخرى. ولعل في جائحة كوفيد-١٩ دليل على كلا الاتجاهَين. لقد كان ظهور الوباء نتاجًا لانتشار فيروس سارس-كوف-٢، الذي يُعتقد أن منشأه الخفافيش قبل أن ينتشر إلى البشر. ومع استمرار الناس في غزو موائل الحياة البرية، سيزداد خطر الإصابة بالأمراض الحيوانية المنشأ (الأمراض المُعدية التي تنتقل عن طريق الحيوانات إلى البشر) حتمًا. إن احتمال ظهور مرض حيواني جديد — مثل كوفيد-١٩، وهو شديد العدوى ومُميت — يظل احتمالًا قائمًا. غير أن التقدم في العلوم والتكنولوجيا وفَّر لنا الوسائل اللازمة للتعامُل مع كوفيد-١٩. وتمكنت بعض البلدان من إبقاء أعداد حالات الإصابات والوفيات مُنخفضة نسبيًّا من خلال تطبيق إجراءات الإغلاق المبكر، والفحوصات الواسعة النطاق، وتتبُّع المُخالطين، والعزل، والاتصالات الفعالة مع المواطنين. ولعبت تقنيات مختلفة، مثل تشخيص المرض، والإنترنت، والهواتف الذكية، دورًا في هذه العملية. والأهم من ذلك أننا تمكنَّا من تطوير لقاحات فعالة في أقل من عامٍ بعد تفشِّي جائحة كوفيد-١٩، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية. وقد أصبح هذا مُمكنًا بفضل المجموعة الهائلة من التطوُّرات التكنولوجية والعلمية التي راكمتها البشرية على مدى قرونٍ في مجموعة من التخصُّصات، ومن ضِمنها علم الأحياء والكيمياء والهندسة.

تُشير التقديرات إلى أن جنس الإنسان (الهومو) قد ظهر منذ ثلاثة ملايين سنة تقريبًا. ومنذ ذلك الحين انقرض العديد من أنواع الإنسان، ولم يبقَ على قيد الحياة حتى الآن سوى نوع واحد فقط، وهو الإنسان العاقل. أما النياندرتال وإنسان دينيسوفا فقد بقيا لما يقرب من مائتي ألف إلى ثلاثمائة ألف سنة، في حين عاش الإنسان المُنتصِب (هومو إركتوس) ما يقرب من مليوني سنة.17 وماذا عن الإنسان العاقل؟ عاش الإنسان العاقل ما يقرب من ثلاثمائة ألف سنة حتى الآن. فإلى متى قد نستطيع أن نبقى على قيد الحياة؟ لا نستطيع أن نتوقع مستقبلًا مشرقًا إذا استمرت التغيرات البيئية العالمية في اتجاهها الحالي. ولا نستطيع أن نستبعِد احتمال انقراض الإنسان العاقل، وسائر الجنس البشري بالتبعية، في المستقبل غير البعيد. ومن ناحية أخرى، قد تُقدم لنا التطوُّرات السريعة في مجال العلوم والتكنولوجيا سبلًا فعَّالة لمحاربة عواقب التغيرات البيئية العالمية.

هل يستطيع البشر استخدام قدراتهم على الابتكار للتغلب على أزمة التغير البيئي العالمي والحفاظ على الحضارات؟ أم سيجدون أنفسهم في مواجهة الكارثة البيئية الوشيكة؟ قد تقودنا رحلتنا إلى حيث تمكِّن التطورات العلمية والتكنولوجية البشر من التغلُّب على التحديات الحالية والمستقبلية وتجاوز القيود البيولوجية (اليوتوبيا). على العكس من ذلك، قد يقودنا مسارنا إلى عواقب مُظلمة تؤدي لانقراض جماعي جديد؛ فقد ينتهي بنا الأمر إلى مواجهة ظروف قاسية للغاية، من ضمنها ندرة الغذاء، من شأنها أن تهدم البِنية التحتية للحضارات التي شيَّدتها البشرية عبر التاريخ (الديستوبيا). قد يشكل الباقي من القرن الحادي والعشرين مرحلةً حاسمة لمستقبل البشرية.

الخاتمة

استكشفنا في هذا الكتاب الأساس العصبي للقدرة البشرية على الابتكار، مع تركيز خاص على الآليات العصبية التي تدخل في الخيال والتجريد. بدأنا رحلتنا باكتشاف أن الحُصين، وهو بنية دماغية معروفة بدورها في التعلم والذاكرة، يلعب دورًا أيضًا في الخيال (الجزء الأول). بعبارة أخرى، الذاكرة والخيال تدعمها نفس بنية الدماغ، مما قد يفسر سبب قابلية ذكرياتنا للتغيير والتشكيل ولماذا نشكل أحيانًا ذكريات كاذبة لأحداث لم تقع من الأساس.

ثم استكشفنا العمليات التي تحدث في الدوائر العصبية الحُصينية التي تشكل أساس الخيال (الجزء الثاني). إن منطقة CA3 في الحُصين، التي ترتبط خلاياها العصبية بعضها ببعض من خلال تفرعات عصبية متكررة ضخمة، ومن ثم تكون عرضة للاستثارة الذاتية، تولد تسلسلاتِ نشاط مجربة وغير مجربة (جديدة) في أثناء النوم وحالات الخمول. ترتبط خلايا CA3 بعدد هائل من المشابك العصبية الضعيفة بشكلٍ فردي، مما يجعلها مثالية لتوليد تسلسلات نشاط متغيرة لا ثابتة. يبدو أن شبكة CA3 اكتسبت درجة من العشوائية أثناء التطور.
انتقلنا بعد ذلك إلى بحث نموذج المحاكاة والاختيار، الذي يفترض أن الشبكة العصبية CA3-CA1 تحاكي وتُعزِّز التمثيلات العصبية للأحداث والأفعال العالية القيمة استعدادًا للمستقبل بدلًا من مجرد تذكر ما حدث بالفعل. كما بحثنا الفرضية القائلة بأن وظيفة المحاكاة والاختيار في الحُصين قد تطورت لدى الثدييات البرية المتنقلة دون الطيور؛ بسبب ضرورة اختيار المسارات المُثلى بين موقعَين عشوائيَّين.

تشير الدراسات إلى وجود عمليات عصبية حُصينية مشابهة تدعم الذاكرة والخيال لدى البشر والثدييات الأخرى. يفترض نموذج المحاكاة والاختيار أن جميع الثدييات البرية المتنقلة لديها عمليات عصبية حُصينية مشابهة تدعم الخيال. بعبارة أخرى، يبدو أن القدرة على التخيل مشتركة بين جميع الثدييات. ما الذي يجعل البشر مبتكرين إلى هذا الحد إذن؟ لقد استكشفنا الأساس العصبي للتجريد العالي المستوى لدى البشر من منطلق افتراضٍ بأن قدرة البشر الخاصة على الابتكار نابعة من قدرتهم على التخيُّل بحريةٍ باستخدام مفاهيم مجردة عالية المستوى (الجزء الثالث). وفحصنا القشرة الجبهية الأمامية والطَّلَل كمناطق دماغية يُحتمَل أن تلعب دورًا غاية في الأهمية في التجريد العالي المستوى لدى البشر. كما تناولنا احتمالية أن يُحدد عمق (عدد طبقات) الشبكة العصبية مستوى التجريد.

ما مدى معرفتنا بالأسس العصبية التي يقوم عليها الإبداع البشري؟ وهل حددنا العمليات العصبية الأساسية التي يقوم عليها الخيال والتجريد العالي المستوى؟ مع الأسف، لم نحددها بعد. فما زلنا نخطو أولى خطواتنا نحو فهم الأساس العصبي لهذه المَلَكة العقلية البشرية العظيمة. علاوة على ذلك، فإن ما تناولناه في هذا الكتاب ليس سوى جزءٍ بسيط من الموضوع. أولًا: فيما يتصل بالأساس العصبي للخيال، لا يعمل الحُصين بمعزِل، بل يتفاعل مع عددٍ كبير من مناطق الدماغ أثناء التخيل. وفي هذا الكتاب، لم نتناول سوى العمليات العصبية الحُصينية فحسب. ثانيًا: الأساس العصبي للتجريد العالي المستوى غير مفهوم بشكل جيد مقارنة بالأساس العصبي للخيال. ونتيجة لهذا، فإن مناقشاتنا حول هذا الموضوع (الجزء الثالث) محدودة بالضرورة. ثالثًا: كما ناقشنا في الفصل الثالث عشر، فالخيال وحدَه غير كافٍ للإبداع والابتكار. فثمة عملية تقييمية تُقيِّد الأفكار لتلبية احتياج مُعين يجب أن تتبع عملية توليد الأفكار. لقد ركزنا على النوع الأول من الإبداع (الإبداع العفوي) بينما تجاهلنا الثاني (الإبداع المتعمَّد). لذا، أرجو أن تنتبهوا إلى هذه القيود.

تناول الجزء الرابع بعض الموضوعات المرتبطة بموضوع الكتاب الرئيسي (الأساس الدماغي للخيال والتجريد العالي المستوى) — برغم اختلافها عنه — مثل اللغة وكيف نصبح مُبدعين. وفي الفصل الأخير، قارنا بين منظورَين مختلفَين بشأن عواقب الابتكار، وهي مشكلة الاستدامة وانفجار الذكاء. ومن الجدير بالذكر أننا قد أحرزنا تقدمًا كبيرًا في مجال الذكاء الاصطناعي على الرغم من فَهمنا المحدود للأساس العصبي للابتكار البشري. فالشبكات العصبية الاصطناعية تتفوق على الدماغ البشري من حيث سرعة معالجة الإشارات العصبية (جيجاهرتز في مقابل أقل من ١٠٠ هرتز)، وعُمق الشبكة (أكثر من مائة طبقة في مقابل أقل من عشرين طبقة، انظر الفصل الحادي عشر)، وسرعة التطور (إذ يستغرق الأمر أيامًا أو أشهُرًا أو سنوات لبناء نسخةٍ جديدة من الشبكة العصبية الاصطناعية في مقابل أجيال عديدة لحدوث التطور الطبيعي)، وانتشار التكنولوجيا (الاستنساخ الفوري للأنظمة مقابل عدم القدرة على الاستنساخ في التطور الطبيعي). وقد مكنت هذه العوامل الشبكات العصبية الاصطناعية من التفوُّق على الذكاء البشري في كثير من المجالات. قد نتمكَّن من بناء شبكات عصبية اصطناعية أقوى بكثيرٍ في المستقبل القريب مع تطوُّر فهمنا للأساس العصبي للابتكار البشري وتطبيق هذه المعرفة على بناء شبكاتٍ عصبية اصطناعية من الجيل التالي. وعندئذٍ، وكما تنبَّأ كرزويل، قد يكون «التفرد» قريبًا.18

كما أوضحنا في الفصل الرابع عشر، قد نكون على وشك الوصول إلى نقطة تحول سوف تؤدي إما إلى يوتوبيا أو ديستوبيا. إن قُدرتنا على الابتكار سلاح ذو حدَّين. ونحن في حاجة إلى الاستفادة الكاملة من هذه القدرة لحل الأزمة الناجمة عن إساءة استخدامها بدلًا من تسهيل حدوثها. والأرجح أننا سنحتاج إلى اتباع نهج مُتعدد الأوجه. نحن في حاجة إلى تحقيق تطورات تكنولوجية قادرة على التخفيف بفاعلية من آثار تغيُّر المناخ. وفي الوقت نفسه، نحن في حاجة إلى فهم أنفسنا على نحوٍ أفضل بغرَض تعزيز التعاون العالمي. نحن بحاجة إلى تحقيق أفضل استفادةٍ من جميع الموارد الاجتماعية المتاحة من أجل مواجهة التحديات البيئية المُستمرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥