الفصل الثاني
الذاكرة الزائفة
من الواضح الآن أن البنية الدماغية نفسها، ونقصد
الحُصين، تدخل في الذاكرة والخيال أيضًا. وهنا
يُطرَح سؤال حول ما إذا كانت وظيفة الحصين فيما
يتعلق بالخيال قد تتداخل مع وظيفته في الذاكرة. ألن
يكون من الصعب الحفاظ على سلامة الذاكرة إذا تأثرت
بالخيال؟ ألا توجد خطورة من خلط ما تخيلناه بما
اختبرناه بالفعل؟ في الواقع، من المعروف في علم
النفس أن الذاكرة ليست ثابتة، ولكنها تتغير بمرور
الوقت، وقد نتذكر حتى أحداثًا لم تحدث قطُّ. وتثير
ظاهرة «الذاكرة الزائفة» (أي تذكر شيء مختلق
جزئيًّا أو كليًّا على الرغم من أنه يبدو حقيقيًّا)
احتمالية أن مناطق الدماغ المرتبطة بالذاكرة
والخيال قد تتفاعل على نحوٍ وثيق بعضها مع بعض.
والآن، يقدم اكتشاف أن الحصين يلعب دورًا في كلٍّ
من الذاكرة والخيال، تفسيرًا محتملًا للآليات
العصبية الكامنة وراء الذاكرة الزائفة.
ما أتذكره وما حدث بالفعل
نحن لا نتذكَّر الأحداث تمامًا كما عايشناها.
ففي أغلب الأحيان، يختلف تذكُّرنا لحدثٍ ما
اختلافًا جوهريًّا عن الحدث الفعلي. ويرجع
السبب في ذلك إلى أن الطريقة التي يُعالج بها
الدماغ المعلومات ويُخزنها تختلف عن طريقة عمل
الكمبيوتر. على سبيل المثال، عادة ما نستخلِص
الجوهر والمعنى من تجاربنا بحيث يختلط ما
نستنتِجه مع ما نختبره بالفعل. فإذا سمعنا
قائمةً من الكلمات المرتبطة بالنوم (على سبيل
المثال، سرير، راحة، استيقاظ، وما إلى ذلك)،
عادة ما نتذكَّر كلمة «النوم» على اعتبار أنها
مُدرجة ضمن القائمة، على الرغم من عدم
وجودها.
1 كذلك، وعلى عكس ما يحدُث عند
استعادة الكمبيوتر ملفًّا ما، يمكن أن تتداخل
بعض الذكريات مع استرجاع ذكريات أخرى.
2 إذا مرَّ وقت طويل على حدثٍ مُعين
عايشته، وإذا مررت بأحداثٍ مماثلة عدة مرات منذ
التجربة الأصلية، فمن المُحتمَل أنك ستجد
صعوبةً في تذكر الحدث الأصلي تمامًا كما حدث؛
إذ قد يختلط تذكرك للحدث الأصلي بذكريات
الأحداث ذات الصلة.
يميل الدماغ أيضًا إلى استيفاء المعلومات
المفقودة. لنفترِض أنك تعرضتَ لحادث مروري. من
المُحتمَل أنك ستفكر في الحادث من وقتٍ لآخر
لأنه حدث غير عادي. خلال هذه العملية، قد يُضيف
دماغك المعلومات المفقودة. على سبيل المثال،
على الرغم من أنك في البداية لا تتذكَّر لون
ملابس السائق الآخر لأنك لم تنتبِه إليه، فإن
دماغك قد يملأ فراغ هذه المعلومة عندما تتذكَّر
الحادث بعد ذلك. وسوف تترسخ المعلومات المضافة
مع تكرار هذه العملية. ونتيجة لذلك، قد تتذكَّر
بوضوح أن السائق الآخر كان يرتدي قميصًا أحمر
على الرغم من أنه في الواقع كان يرتدي قميصًا
برتقاليًّا. لماذا اختار دماغك اللون الأحمر؟
ربما تكون قد قابلتَ مؤخرًا العديد من الأشخاص
كانوا يرتدون قمصانًا حمراء. أو ربما شاهدتَ
فيلمًا كان فيه الشرير يرتدي قميصًا أحمر وهو
يقود سيارة. وكما في هذا المثال الافتراضي،
فإننا نميل إلى استيفاء المعلومات المفقودة
بأفضل تخميناتنا بناءً على توقعاتنا وتجاربنا
السابقة، وهو ما يُفسر لماذا يمكن أن تكون
شهادة شهود العيان غير موثوقة إلى حدٍّ
خطير.
3
قضية جورج فرانكلين
في بعض الأحيان، قد نكوِّن ذكرى لحدثٍ لم يقع
على الإطلاق. وهنا، سنتناول قضيتَين يُشتَبه
أنهما تندرجان تحت بند الذاكرة الزائفة، أثارتا
انتباه الرأي العام. الأولى هي قضية جورج
فرانكلين، ويرجع أصلها إلى جريمة قتل في فوستر
سيتي، كاليفورنيا، في عام ١٩٦٩.
4 تعرضت طفلة تبلُغ من العمر ثماني
سنوات، تُدعى سوزان نيسون، للاغتصاب والقتل،
وظلَّت القضية دون حلٍّ لسنوات. وبعد عشرين
عامًا، اتهمت إيلين فرانكلين، وهي صديقة لسوزان
نيسون، شخصًا ما بارتكاب الجريمة. والمُدهش أن
المتهم كان والدها جورج فرانكلين. شهدت إيلين
في المحكمة بأنها شاهدت جورج يسحق جمجمة سوزان
بصخرةٍ ثقيلة. وقالت إن ذكرى حية للمشهد
المروع، الذي ظل في طي النسيان عشرين عامًا،
ومضت فجأةً في ذهنها بينما كانت تلعب مع
ابنتِها الصغيرة جيسيكا.
أثارت شهادة إيلين فرانكلين جدلًا بين
الذاكرة «المكبوتة» والذاكرة «الزائفة».
والذاكرة المكبوتة هو مفهوم طرحه سيجموند فرويد
في الأصل كآلية دفاع نفسية ضد الأحداث الصادمة
والمؤلِمة. فقد يحول العقل، عن غير وعي منه،
دون الوصول إلى الذكريات المروِّعة التي عاشها
الفرد، والتي قد يستعيدها بعد سنوات. انتشرت
هذه الفكرة على نطاقٍ واسع بين علماء علم النفس
السريري والأشخاص العاديين في وقت محاكمة جورج
فرانكلين. ومع عدم وجود دليلٍ مادي سوى شهادة
ابنته، أدانته هيئة المُحلَّفين بارتكاب جريمة
قتلٍ من الدرجة الأولى، وحُكم عليه بالسجن مدى
الحياة.
وخلافًا لحكم هيئة المُحلَّفين، تؤيد
المناقشة التالية فكرة الذاكرة الزائفة وليس
الذاكرة المكبوتة. أولًا: لم تُثبَت فرضية
الذاكرة المكبوتة علميًّا. ثانيًا: الذكريات
تتغير مع الزمن. ولذلك فإن قدرة إيلين على
تذكُّر تفاصيل حدثٍ ما تمامًا مثلما حدث قبل
عشرين عامًا من عدمِها هو أمر محلُّ شك.
ثالثًا: جميع التفاصيل التي أدلت بها عن جريمة
القتل يمكن العثور عليها في مقالات الصحف.
علاوة على ذلك، فإن بعض التفاصيل لم تكن صحيحةً
سواء في المقالات الصحفية أو شهادة إيلين. على
سبيل المثال، ذكر أحد المقالات خطأً أن الخاتم
الذي كانت ترتديه سوزان في يدِها اليمنى كان
يحتوي على حجر (بينما الخاتم ذو حجر التوباز
كان في الواقع في يدها اليسرى)، وارتكبت إيلين
الخطأ نفسه في شهادتها. رابعًا: تبين لاحقًا أن
إيلين قد استرجعت ذكرى الحادث من خلال التنويم
المغناطيسي. ولا يُسمح بالشهادة القائمة على
ذكرى مُسترجَعة تحت تأثير التنويم المغناطيسي
في المحكمة؛ لأن ذاكرة الشاهد يمكن أن تُفْسَد
بالمعلومات الخاطئة. فقد تختلط المعلومات
الصحيحة والخاطئة لتُشكِّل معًا روايةً متماسكة
أثناء التنويم المغناطيسي، مما يزيد من ثقة
الشاهد بالذكرى المُسترجَعة. خامسًا: اتهمت
إيلين والدَها فيما بعد بواقعتَي اغتصابٍ وقتل
إضافيَّتَين (فيرونيكا كاسيو وبولا باكستر)،
لكن تحاليل الحمض النووي برَّأته من التُّهَم.
وأدى هذا إلى التشكيك في مصداقية شهادة إيلين.
وفي عام ١٩٩٦ أُطلق سراحه من السجن. وفي عام
٢٠١٨، حُكِمَ على رجل آخر، يدعى رودني لين
هالباور، بالسجن مدى الحياة لارتكابه جريمتَي
القتل هاتين.
5
قضية بول إنجرام
في عام ١٩٨٨، اتُّهِم بول إنجرام — الذي كان
آنذاك كبير نواب الشئون المدنية لمكتب قائد
شرطة مقاطعة ثورستون في أولمبيا بواشنطن — من
قِبل ابنتَيه إريكا، البالِغة من العمر اثنَين
وعشرين عامًا، وجولي البالغة من العمر ثمانية
عشر عامًا، بالاعتداء عليهما جنسيًّا لسنواتٍ
عندما كانتا طفلتَين. في البداية أنكر إنجرام
الاتهامات الموجهة إليه، لكنه اعترف في النهاية
بأنه اعتدى على ابنتَيه جنسيًّا خلال طقوسٍ
شيطانية. وباعترافه بجُرمه، بدا أن القضية قد
حُلَّت دون أي جدل.
ومع ذلك، تحولت هذه القضية التي تبدو بسيطة
إلى قصة مُعقدة. فقد ضُخِّمت اتهامات إريكا
تدريجيًّا إلى قصص مُبالَغ فيها عن طقوس إيذاءٍ
شملت قتل أطفالٍ رُضَّع لتقديمهم قرابين، فشلت
الشرطة في العثور على أدلة مادية عليها. على
سبيل المثال، أصرَّت إريكا على أنها شاهدت خمسة
وعشرين طفلًا يُضَحَّى بهم أثناء الطقوس، وأنهم
دُفنوا في الفناء الخلفي لمنزل العائلة. غير
أنه لم يُعثَر على عظامٍ بشرية (فقط جزء من
عظمة أيل) في المنزل. في الواقع، لم تُسفِر
أشهر من التحقيقات الشرطية، هي الأوسع في تاريخ
المقاطعة، عن أي دليلٍ مادي على الإطلاق على
الطقوس أو جرائم القتل المزعومة.
6
ماذا عن استرجاع بول لتلك الطقوس الشيطانية؟
تشير «تجربة صغيرة» أجراها ريتشارد أوفشي، خبير
علم النفس الاجتماعي من جامعة كاليفورنيا،
بمدينة بيركلي، إلى أن اعترافاته قد تكون
«اعترافات كاذبة مستحثة داخليًّا
بالإكراه».
7 انضمَّ أوفشي إلى التحقيق بوصفه
خبيرًا في الطوائف ومجموعات السيطرة على
العقول، لكنه كان مُهتمًّا أيضًا باستجوابات
الشرطة القسرية. قدَّم أوفشي ادعاءً كاذبًا بأن
بول أجبر ابنَه وابنته على ارتكاب زنا المحارم
معًا. أنكر بول في البداية هذا الاتهام، لكنه
في النهاية كتب اعترافًا تفصيليًّا عنه. بل إنه
رفض تصديق كذب الواقعة عندما كشف أوفشي أنه
اختلقها.
8 لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت
اعترافات بول تعكس ما حدث فعلًا، أم أنها
ذكريات زائفة، أو مزيج من الاثنين
معًا.
9 غير أن قضية بول إنجرام، إلى جانب
قضية جورج فرانكلين، ساهمتا في تعزيز الوعي
العام بأن المعلومات المُضللة والإيحاءات
الصادرة من شخصياتٍ سلطوية، مثل علماء النفس
الموثوقين أو ضباط الشرطة، قد تزرع ذكرياتٍ
زائفة في نفسية الأشخاص الأكثر عرضةً للتأثر
بذلك.
تائه في مركز تجاري
تشير القضيتان السابقتان إلى أننا قد نختلق
ذكريات لأحداثٍ لم تحدث في الواقع قط. وقد قدمت
إليزابيث لوفتوس، أستاذة علم النفس بجامعة
واشنطن، شهادة خبير حول هذا الاحتمال في محاكمة
جورج فرانكلين. وعلى الرغم من شهادتها، فقد
أُدين في عام ١٩٩٠. وقد أثبتت دراساتها حتى ذلك
الحين أن الذكريات يمكن أن تتغير من خلال
المعلومات التي يتلقَّاها الشخص بعد وقوع حدثٍ
ما (فيما يُعرف باسم «تأثير المعلومات
المضللة»)، ولكنها لم تُثبت إمكانية تلفيق
ذكريات كاملة.
10
وفي
سبيل إثبات إمكانية وجود ذكريات مفبركة بالكامل
لحدثٍ ما، أجرت لوفتوس بالاشتراك مع تلميذتها
جاكلين بيكريل تجربة — دراسة «تائه في مركز
تجاري» — ونشرت النتائج في عام ١٩٩٥.
11 في هذه التجربة، قُدِّمَت أربع
قصصٍ قصيرة لأربعةٍ وعشرين شخصًا حول أحداث من
طفولتهم وطُلب منهم تسجيل تفاصيل ذكرياتهم عن
تلك الأحداث. ثم أُجريَت مُقابلتان معهم، أجريت
كل منهما على مدى أسبوعٍ إلى أسبوعين. ثلاث من
القصص الأربع كانت حقيقية، لكن إحداها كانت
حدثًا زائفًا عن التيه. على سبيل المثال،
قُدِّمَ المُلخَّص التالي لامرأةٍ فيتنامية
أمريكية تبلُغ من العمر عشرين عامًا: «ذهبتِ
أنتِ وأُمك، تيان، وتوان جميعًا إلى مركز
بريميرتون كيه مارت التجاري. كنتِ في الخامسة
من عمرك تقريبًا في ذلك الوقت. أعطت والدتك بعض
المال لكلِّ واحدٍ منكما مثلجات التوت. وركضتِ
كي تصِلِي إلى الصف أولًا، وضللتِ طريقك
بطريقةٍ ما في المتجر. وجدتك تيان تبكين
لامرأةٍ صينية مُسنَّة. ثم ذهب ثلاثتكم معًا
للحصول على المثلجات.»
من ناحية، نفى معظم الأشخاص (١٨ من بين ٢٤
شخصًا، أو ٧٥ في المائة) تذكُّرهم أنهم ضلوا
الطريق وتذكروا بنجاح ٤٩ حدثًا حقيقيًّا من أصل
٧٢ (بمعدل نجاح ٦٨ في المائة). وكان كم
التفاصيل، وتصنيف وضوحها، وتصنيف موثوقيتها
أكبر بكثير أيضًا فيما يتعلق بذكريات الأحداث
الحقيقية، مما يشير إلى أن ذكرياتنا عن الأحداث
يمكن الاعتماد عليها إلى حد معقول.
على الجانب الآخر، قال ستة أفراد (٢٥ في
المائة) إنهم تذكَّروا، كليًّا أو جزئيًّا، حدث
ضلال الطريق في طفولتهم، مما يدل على إمكانية
زرع ذكرياتٍ زائفة للأحداث عن طريق المعلومات
المُضللة والإيحاءات. وفيما يلي مثال من إحدى
المُشارِكات، التي اعتقدَتْ خطأً أنها ضلَّت
طريقها حقًّا خلال المقابلة الثانية: «أتذكر
بالْتِباس شديد، أعني أن الأمر مُلتبس عليَّ
جدًّا، السيدة وهي تساعدني، بينما تيم وأمي
كانا يفعلان شيئًا آخر، لكنني لا أتذكر أنني
بكيت. أعني أنني أستطيع تذكُّر أنني بكيتُ مائة
مرة … لا أتذكر سوى تفاصيل صغيرة ومتفرقة عن
هذا الأمر. أتذكر أنني كنتُ مع السيدة. أتذكر
الذهاب للتسوُّق. لا أعتقد أنني … لا أتذكر
الجزء المتعلق بالنظارة الشمسية.»
الصورة تساوي ألف كذبة
جرى تكرار نتيجة دراسة «تائه في مركز تجاري»
في دراساتٍ لاحقة. لنتناول واحدة من تلك
الدراسات التي استُخدِمت فيها صورة بصرية
مُزيفة.
12 عُرِضَ على عشرين شخصًا لم يسبق
لهم ركوب منطاد الهواء الساخن من قبلُ صورة
فوتوغرافية مفبركة تُظهرهم وهم يستقلُّون منطاد
الهواء الساخن (انظر الشكل
٢-١). ثم أُجريت معهم ثلاث
مقابلات خلال الأيام السبعة عشر إلى الستة عشر
التالية. بحلول المقابلة الثالثة، ادَّعى عشرة
أشخاص (٥٠ في المائة) أنهم تذكَّروا على الأقل
بعض تفاصيل رحلة المنطاد (كان من الضروري تقديم
معلومات مُتسقة لا تظهر في الصورة المُزيفة
لتصنيف ما يُقال بأنه ذاكرة زائفة). وفيما يلي
جزء من المقابلة الثالثة مع شخصٍ جرى تقييمه
على أنه قد طور ذاكرةً زائفة جزئية:
المحاور: نفس الشيء مرةً أخرى، أخبرني بكلِّ
ما يمكنك تذكره عن الحدث الثالث دون ترك أي
تفصيلة.
الشخص الخاضع للدراسة: أحاول فقط استنباط عمر
أختي؛ أحاول تذكُّر الرقم الدقيق … عندما حدث
ذلك. لكنني ما زلتُ متأكدًا تمامًا من أن ذلك
حدث عندما كنتُ في الصف السادس في المدرسة
المحلية هناك … مقابل ما يقارب عشرة دولارات
يمكنك ركوب منطاد الهواء الساخن والارتفاع نحو
٢٠ مترًا … كان يوم سبت وأعتقد أننا ذهبنا …
نعم … مع والدَينا، وليس، ليس مع جدتي … لستُ
متأكدًا مَن كان هناك. وأنا متأكد تمامًا من أن
أُمي كانت بالأسفل تلتقِط صورة.
تؤكد هذه الدراسة الاستنتاج القائل بأننا قد
نكوِّن ذكريات زائفة للأحداث. لقد طور عدد أكبر
من أفراد العينة البحثية ذاكرةً كاذبة في دراسة
منطاد الهواء الساخن مقارنةً بدراسة مركز
التسوُّق. وربما يكون هذا بسبب أن الأشخاص رأوا
صورةً بصرية واضحة، وإن كانت مزيفة (انظر الشكل
٢-١). ألا تساوي الصورة
ألف كلمة؟ لقد أطلق المؤلِّفون على هذه الدراسة
مجازًا: «الصورة تساوي ألف كذبة».
الذاكرة البنَّاءة
بدأنا هذا الفصل بمسألة التفاعُلات المُحتملة
بين الذاكرة والخيال. وبالنظر إلى أن الحُصين
له دور في كلٍّ من الذاكرة والخيال، أليس من
المُمكن إذن الخلط بين ما تخيَّلناه وما
عايشناه بالفعل؟ الإجابة واضحة. يؤثر الخيال
بالفعل على الذاكرة؛ لذلك من المُمكن حتى غرس
ذكريات مفبركة في ظلِّ ظروفٍ معينة. لتتظاهر
بأنك أحد المشاركين في الدراسة؛ تبدو مسألة أنك
قد ضللتَ طريقك في أحد مراكز التسوق أثناء
طفولتك؛ لأن والدتك وأخاك قالا ذلك، حقيقية.
ليس لديك ذكرى واضحة لهذا الحدث، ولكن طُلب منك
أن تتذكَّر وتكتب تفاصيل عرضية عنه. هنا، قد
ينزلق الخيال إلى عملية التذكُّر، ليستوفي
تدريجيًّا التفاصيل العرضية للذكرى
الزائفة.
وخلافًا للمنطق السليم، قد لا تكون الذاكرة
والخيال عمليتَين مستقلتَين؛ فمن الواضح أن
ذاكرتنا تعتمد على العمليات البناءة التي
أحيانًا ما تكون عرضة للخطأ والتشويه. وقد أطلق
دانييل شاكتر، عالم النفس في جامعة هارفارد،
على هذا الجانب من الذاكرة «الذاكرة البناءة»:
«عندما نتذكَّر، نقوم بتجميع أجزاء من
المعلومات المُخزَّنة تحت تأثير معرفتنا
ومواقفنا ومعتقداتنا الحالية».
13 الخيال أيضًا هو عملية تجميع
لأجزاء من معلومات مُخزَّنة. وإذا كان الأمر
كذلك، فسيكون الأكفأ للدماغ أن تكون هناك عملية
بناء مشتركة بين الذاكرة والخيال معًا، بدلًا
من عمليتَين مُستقلَّتَين. ومن هذا المنظور، لن
يكون من المُستغرَب أن نعرف أن الحُصين يلعب
دورًا في كلٍّ من الذاكرة والخيال. إن هذه
العملية المشتركة لا تُفيد في تذكُّر حدث ما
تمامًا كما وقع، إلا أنها عملية تكيفية؛ لأنها
«تُتيح استخدام المعلومات السابقة بمرونةٍ في
محاكاة سيناريوهات مُستقبلية بديلة دون
الانخراط في سلوكيات فعلية.»
14
ما زلنا لا نملك بعد فهمًا واضحًا للعمليات
العصبية الدقيقة التي تقِف وراء الجانب
البنَّاء من الذاكرة. ولكن من منظور الحُصين،
قد يكون كلٌّ من الذاكرة والخيال مظهرًا
للعمليات العصبية الأساسية نفسها. وفي الفصول
اللاحقة، سنستكشف العمليات العصبية الحُصينية
الكامنة وراء الذاكرة والخيال.