الفصل الثالث
خلايا المكان وإعادة العرض في الحُصين
أظهرت
الدراسات على البشر أن البنية الدماغية نفسها
(الحُصين) تدخل في كلٍّ من الذاكرة والخيال، وهو ما
قد يُفسر سبب قيامِنا أحيانًا بتكوين ذكرياتٍ
لأحداثٍ لم نُعايشها من قبل (ذكريات زائفة). وفي
هذا الفصل، سنستعرِض دراسات أجريت على الحيوانات،
وقدَّمت رؤًى مهمة حول العمليات العصبية الحصينية
التي تقف وراء الذاكرة والخيال.
الدراسات على البشر مقارنة بالدراسات على
الحيوانات
ثمة مساران بحثيَّان — أحدهما يستخدِم البشر،
والآخر يستخدِم الحيوانات، وخاصة القوارض —
كانا بمنزلة القوة الدافعة لتقدُّم معرفتنا
بالحُصين. تقدم الدراسات على البشر بياناتٍ ذات
صلةٍ مباشرة باهتمامنا الأساسي، ألا وهو وظائف
الحُصين البشري والعمليات العصبية التي تقف
وراءها. غير أنه من الصعب دراسة العمليات
العصبية الحُصينية مباشرة لدى البشر؛ لأن الطرق
الباضعة، مثل تسجيل نشاط الخلايا العصبية
باستخدام إليكترود مجهري، غير مسموح باستخدامها
على البشر. ولا تُجْرى دراسات تتضمن طرقًا
باضعةً على المرضى من البشر إلا نادرًا، وعادةً
ما تتم قبل جراحات المخ؛ لتحديد مصدر نوبات
الصرع.
تعتبر الدراسات على الحيوانات مفيدة في هذا
الصدد؛ لأن بإمكاننا إجراء مجموعة متنوعة من
التجارب التي تنطوي على أساليب باضعة، تستهدف
الحصين. على سبيل المثال، يمكننا زرع أقطاب
كهربية مجهرية في حصين حيوان يتصرف بحُرية،
ورصد أنشطة إطلاق جهد الفعل للخلايا العصبية
الفردية في الوقت الفعلي لحدوثها. يمكننا أيضًا
التلاعب بنشاط الخلايا العصبية في الحصين، مثل
إسكات مجموعة معينة من الخلايا العصبية وفحص
تأثيراتها على سلوك الحيوان. توفر مثل هذه
الدراسات على الحيوان معلومات قيمة لمحور
اهتمامنا الأساسي — فهم الوظائف والعمليات
العصبية للحصين البشري — لأن هذه البنية
التطورية القديمة تتشابه بصورةٍ ملحوظة في
كثيرٍ من النواحي بين البشر والثدييات الأخرى.
ولذلك، فالدراسات التي تُجرى على الحصين في
كلٍّ من البشر والحيوانات يُكمل بعضُها
بعضًا.
لقد علمتنا الدراسات التي أُجريت على الحيوان
الكثيرَ عن كيفية تخزين الحُصين للذكريات. على
سبيل المثال، أدى اكتشاف التغيرات الطويلة
الأمد التي تطرأ على فاعلية التشابُك العصبي
(أي التغيرات في قوة الاتصال بين الخلايا
العصبية؛ المشابك العصبية هي الروابط بين
الخلايا العصبية) إلى تقدُّم كبير في فهمنا
للعمليات العصبية الكامنة وراء تخزين الذكريات
في الحصين.
1 يُمكننا تفسير تكوُّن الذكريات في
الحصين في إطار العمليات الكامنة وراءه، وذلك
من خلال التغييرات التي تعتمِد على النشاط في
فاعلية التشابُك العصبي والتي تؤدي إلى تغيير
ديناميكيات الشبكة العصبية (سأشرح هذه الفكرة
بالتفصيل في الفصل الرابع). لدينا أيضًا فهمٌ
جيد للعمليات الجزيئية الكامنة وراء تغيُّر
فاعلية التشابك العصبي. بل إنه صار بالإمكان
الآن التعبير عن بروتينات اصطناعية في خلايا
عصبية مُحددة في الحُصين وتنشيطها لزرع ذكرياتٍ
زائفة لدى الحيوان.
2 وهكذا، ومن بين جميع وظائف الدماغ
العُليا، تُعَد الآليات العصبية للذاكرة هي
أكثر الآليات المفهومة لنا، ويرجع ذلك إلى حدٍّ
كبير إلى النتائج التي توصَّلت إليها الدراسات
على الحيوانات.
ولكن ماذا عن الدراسات التي أجريت على
الحيوانات حول دور الحُصين في الخيال؟ هل يمكن
دراسة هذا الموضوع باستخدام الحيوانات؟ قطعًا.
فقد أسفرت الدراسات التي أُجريت على الفئران
خلال العقدَين الماضيَين عن أدلة وافرة على أن
الحُصين في القوارض يدخل في تذكُّر الماضي
وكذلك في تخيُّل المُستقبل. وخلصت الدراسات على
البشر والحيوانات، كلٌّ على حدة، إلى أن الحصين
يلعب دورًا في الخيال والذاكرة أيضًا. والأهم
من ذلك أن الدراسات التي أجريت على الحيوانات
قدمت رؤًى مهمة حول عمليات الدائرة العصبية
التي تقوم عليها وظيفة الحُصين فيما يتعلق
بالخيال، لا تستطيع الدراسات على البشر
تقديمها.
ماذا يُقصَد بإعادة التشغيل العصبي؟
كيف اكتشف العلماء دور الحُصين لدى الفئران
في الخيال؟ من خلال زرع أقطاب كهربية مجهرية
دقيقة ورصد نشاط الخلايا العصبية الحصينية
آنيًّا لدى فئران تتصرَّف بحُرية. يقوم علماء
الفسيولوجيا العصبية بزراعة أقطاب كهربية
مجهرية دقيقة في منطقةٍ مُعينة من الدماغ، ورصد
نشاط الخلايا العصبية في هذه المنطقة، ومن ثم
محاولة فهم كيفية معالجة هذا الجزء من الدماغ
للمعلومات عن طريق تحليل النشاط العصبي
المُرتبط بالسلوك. وباستخدام هذا النهج، وجد
العلماء عمليات «إعادة تشغيل» للنشاط العصبي
المُصاحب للخبرات تحدُث في الحصين، مما أتاح
لهم فَهم عمليات الدائرة العصبية التي تكمن
وراء الخيال في الحُصين.
تُشير إعادة التشغيل العصبي في الحُصين إلى
إعادة تنشيط نفس تسلسُل النشاط العصبي المُرتبط
بتجربة سابقة أثناء حالة الخمول. فيتكرَّر (أو
يُعاد تشغيل) تسلسل النشاط العصبي الذي رصد
أثناء التنقُّل النشط للفأر أثناء نومه أو في
وقت الراحة والهدوء. وفيما تبقَّى من الفصل،
سندرُس عن كثَب إعادة التشغيل العصبي في
الحُصين وكيف يمكن أن يكون مرتبطًا
بالخيال.
خلايا المكان
إن السمة الأبرز للخلايا العصبية الحُصينية
في القوارض التي تتحرك بحرية (مثل الجرذان
والفئران) هي أنها تنشط وتُرسل إشارات عصبية
عند وجود الحيوان في مكانٍ مُحدد. عادة ما تنشط
الخلايا العصبية الحُصينية على نحوٍ انتقائي
عندما يكون الحيوان داخل موقعٍ مُقيد في ساحة
تسجيل التجربة. وقد أشار جون أوكيف — عالم
الفسيولوجيا العصبية الذي أفاد بهذه النتيجة في
الفئران بالاشتراك مع جوناثان دوستروفسكي في
عام ١٩٧١ — إلى هذه الخلايا العصبية باسم
«خلايا المكان».
3 كما نشر مع لين نادل في عام ١٩٧٨
الكتاب المؤثر «الحصين كخريطةٍ معرفية»، الذي
اعتبر أن الحصين هو البِنية الدماغية التي
تُمثل تصميم الحيز الخارجي المحيط
بنا.
4
وقد
وجدت دراسات لاحقة خلايا المكان في الحصين
البشري أيضًا.
5 ويُعتقد أن خلايا المكان هذه هي
مظهر من مظاهر التمثيل العقلي للحيِّز الخارجي
(أو «خريطة معرفية»). من المُحتمل أن تكون بعض
خلاياك العصبية الحصينية نشطة أثناء جلوسك على
الأريكة في غرفة معيشتك. وعندما تنهض وتسير نحو
المطبخ، ستنشط مجموعات مختلفة من خلايا المكان
في تسلسُل في مواقع مُحددة على طول مسارك إلى
المطبخ. وقد حصل أوكيف على جائزة نوبل في عام
٢٠١٤ لاكتشافه خلايا المكان التي تُشكل «نظامًا
لتحديد المواقع، أو نظام «جي بي إس» داخليًّا
في الدماغ، يُمكننا من توجيه أنفسنا في الحيز
المكاني».
6
التسجيل المُتوازي باستخدام الصِّمام
الرباعي القطب
ركزت الدراسات المبكرة المتعلقة بخلايا
المكان على كيفية تمثيل الحيز الخارجي في
الحصين. على الرغم من أن الذاكرة العرضية
تتضمَّن عنصرًا زمنيًّا، فإن عددًا قليلًا فقط
من الباحثين هم مَن حاولوا فهم كيفية تخزين
الحُصين لسلسلةٍ متتابعة من الأحداث.
7 وهكذا، ركزت معظم الدراسات المبكرة
على العمليات العصبية الحُصينية لتمثيل الأنماط
الثابتة بدلًا من تسلسلات الأحداث. وأدى اكتشاف
إعادة تشغيل النشاط العصبي في الحُصين في أوائل
العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى
تغيير هذا الاتجاه البحثي بصورة جذرية. فقد
اكتشف الفريق البحثي بقيادة مات ويلسون في معهد
ماساتشوستس للتكنولوجيا أن النشاط المتسلسل
لخلايا المكان الحُصينية أثناء التنقل النشط
يتكرَّر أثناء نوم الفئران. وشكَّل هذا
الاكتشاف اتجاهًا جديدًا في الأبحاث التي تدرس
ديناميكيات عمل خلايا المكان التي تُمثل
المسارات المكانية.
لقد
عمِلنا أنا ومات معًا على مدار أربع سنوات في
مختبر بروس ماكنوتون كباحثين في مرحلةِ ما بعد
الدكتوراه في جامعة أريزونا. وقد طور مات تقنية
تسجيل جديدة أتاحت فيما بعد اكتشاف عملية إعادة
التشغيل في الحصين، ولحُسن الحظ شهدتُ عملية
التطوير بأكملها بحُكم زمالتنا. في ذلك الوقت،
كان علماء الفسيولوجيا العصبية يُسجلون عادةً
خلية عصبية واحدة أو عددًا قليلًا من الخلايا
العصبية على أقصى تقدير في المرة الواحدة.
ولذلك كان من الصعب رصد أنماط النشاط المتسلسل
للعديد من الخلايا العصبية، وهو أمر ضروري
لدراسة ديناميكيات الشبكة العصبية آنيًّا.
طوَّر مات تقنيةً جديدة، وهي نظام تسجيلٍ
متوازٍ باستخدام الصمام الرباعي القطب الكهربي،
وهو ما أتاح إعداد تسجيلاتٍ متزامنة لنشاطٍ ما
يصل إلى مائة خلية عصبية حُصينية لدى فئران
تتحرك بحرية. ويُتيح التقدم السريع في تقنيات
البحث الآن تسجيلاتٍ من آلاف الخلايا العصبية
في وقتٍ واحد. ولكن في تسعينيات القرن العشرين،
كان التسجيل المُتزامِن لما يصل إلى مائة خلية
عصبية بمنزلة قفزةٍ كبيرة إلى الأمام، فتَحَت
الباب أمام دراسة ديناميكيات الشبكة العصبية
آنيًّا. وقد واصل مات هذا المسار البحثي واكتشف
وجود عمليات إعادة تشغيل في الحصين في أوائل
العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
إيقاعات ثيتا، والنشاط الكبير غير المُنتظم،
وتموُّجات الموجات الحادة
لفهم عمليات إعادة التشغيل في الحصين على
نحوٍ أفضل، دعونا أولًا نفحص وضعَين مختلفين
لنشاط الحصين. إذا زرعت قطبًا كهربائيًّا
مجهريًّا وراقبت النشاط الكهربي لحصينِ جُرَذ،
فستتعرف بسهولة على وضعَين مختلفين تمامًا
للنشاط اعتمادًا على الحالات السلوكية التي
يُظهرها الجرذ. يُظهر الحُصين نشاطًا إيقاعيًّا
قويًّا عند نحو ٦ إلى ١٠ هرتز (إيقاعات ثيتا)
عندما يكون الجرذ في حالة نشاط. في المقابل،
عندما يكون الجرذ في حالة راحة، يُلاحَظ نشاط
إيقاعي بطيء وغير مُنتظم (نشاط كبير غير
مُنتظم) إلى جانب «موجات حادة» تظهر من حينٍ
إلى آخر (انظر الشكل
٣-١).
8
تُمثل الموجات الحادة تفريغات متزامنة هائلة
لكثيرٍ من الخلايا العصبية الحصينية. تظهر
الموجات الحادة جنبًا إلى جنبٍ مع تذبذبات
سريعة تُعرف باسم «التموُّجات» (يتراوح
تردُّدها من ١٤٠ إلى ٢٠٠ هرتز)؛ ومن ثَم، يُشار
إليها عادة باسم «تموُّجات الموجة الحادة».
والجدير بالذكر أن إيقاعات ثيتا وتموجات
الموجات الحادة تُرصد أيضًا في أثناء النوم.
ويُعتقَد أن مرحلة نوم ثيتا لدى الجرذان توازي
مرحلة «نوم حركة العين السريعة»
(REM) لدى
البشر، وهي المرحلة التي تحدُث فيها معظم
الأحلام، ويكون نشاط الدماغ مُشابهًا لمستويات
نشاطه أثناء الاستيقاظ. وقد رصدت تموُّجات
الموجة الحادة في النشاط غير المُنتظم الكبير
أثناء مرحلة نوم الموجة البطيئة في الجرذان،
والذي يُعتقَد أنه يوازي مرحلة النوم العميق
عند البشر.
إعادة التشغيل أثناء نوم حركة العين
السريعة
بحث مات أولًا فيما إذا كان التنشيط
المُتسلسل لخلايا المكان أثناء التنقل النشط
يتكرَّر أثناء نوم ثيتا لدى الفئران. واستند
هذا إلى فكرة أن الأحلام، التي تحدُث في الغالب
أثناء مرحلة نوم حركة العين السريعة لدى البشر
— وربما تحدث بالتبعية أثناء نوم ثيتا لدى
الجرذان — قد تُمثل عملية نقل الذكريات
الحُصينية إلى أماكن أخرى في الدماغ. كما
وُضِّحَ في الفصل الأول، فإن نظرية توطيد
الذاكرة على مستوى الأنظمة العصبية تفترض أن أي
ذكرى جديدة تُخزَّن بسرعة في الحُصين ثم تمر
بعملية توطيد بحيث تُخزَّن في نهاية المطاف في
مكانٍ آخر في الدماغ.
9 بموجب هذه النظرية، كان من الطبيعي
أن نشك في أن الحلم هو عملية إعادة تنشيط
للذكريات المخزنة في الحُصين لتعزيز الذاكرة
على مستوى الأنظمة الدماغية. وبالفعل، وجد مات
وتلميذه كينواي لوي، بما يتفق مع هذه الفرضية،
أن الإطلاق المتسلسل لخلايا المكان (أي إطلاق
الإشارات العصبية) أثناء التنقل النشط يتكرَّر
أثناء نوم ثيتا. وقد نُشر هذا الاكتشاف الرائد
في عام ٢٠٠١.
10 إن سرعة الإطلاق المتسلسل لخلايا
المكان أثناء نوم ثيتا تُماثل سرعتها أثناء
التنقل النشط (وإن كانت أبطأ قليلًا في
الواقع). وهذا يُشير إلى أن تطور الأحداث في
الأحلام قد يكون مطابقًا لتطورها في
الواقع.
إعادة التشغيل المقترن بتموجات الموجة
الحادة
يشكل
نوم حركة العين السريعة نحو ٢٥ في المائة من
النوم الليلي لدى البشر. أما في الجرذان، فيمثل
نوم ثيتا أقل من ١٠ في المائة من إجمالي فترة
النوم، والباقي معظمه عبارة عن نوم الموجة
البطيئة، الذي يُرصَد في أثنائه النشاط الكبير
غير المُنتظم والتموجات الموجية الحادة. إذن،
ماذا يحدث أثناء نوم الموجة البطيئة؟ إذا كان
الافتراض القائم هو أن توطيد الذاكرة يحدث
أثناء نوم ثيتا، فهل لا يحدث أي توطيد أثناء
نوم الموجة البطيئة؟ هل يأخذ الدماغ قسطًا من
الراحة ببساطة دون معالجة المعلومات؟ ماذا يحدث
أثناء تموجات الموجة الحادة عندما ينشط عدد
كبير من الخلايا العصبية الحُصينية على نحوٍ
متزامن؟
قدمت دراسة متابعة لاحقة أجراها طالب آخر من
طلاب مات، وهو ألبرت لي، إجابات واضحة عن هذه
الأسئلة.
11 فقد كشف فحص دقيق للنشاط العصبي
الحُصيني في أثناء تموجات الموجة الحادة أن
الخلايا العصبية الحُصينية ترسِل الإشارات على
نحوٍ متتابع على مقياسٍ زمني بالملِّي ثانية
وليس بتزامُن دقيق. والأهم من ذلك أن تسلسل
النبضات (أو جهود الفعل) العصبية الحُصينية
أثناء تموُّجات الموجة الحادة ليس عشوائيًّا،
وإنما مرتبط بإطلاق متسلسل أثناء التنقُّل
النشط. تميل خلايا المكان إلى الإطلاق أثناء
التموُّجات الموجية الحادة بالتسلسُل نفسه الذي
اتبعته في إطلاق الإشارات أثناء التنقُّل النشط
قبل النوم (انظر الشكل
٣-٢).
12 وتكون سرعة الإطلاق المتتابع أكبر
بنحو خمسين مرة أثناء تموُّجات الموجة الحادة
مقارنة بالتنقل الفعلي أثناء اليقظة، مما يُشير
إلى أن تجارب التنقل السابقة يُعاد تشغيلها
بطريقة مضغوطة زمنيًّا أثناء تموجات الموجة
الحادة. وقد مهَّد هذا الاكتشاف الضخم الطريق
أمام الأبحاث اللاحقة على ديناميكيات عمل
الدائرة العصبية الحُصينية التي تُشكل الأساس
للذاكرة والتخطيط والخيال. وتبع ذلك ازدهار
للدراسات الخاصة بعمليات إعادة التشغيل
المُرتبطة بالتموُّجات الموجية الحادة في حُصين
الجرذان. والآن، تُشير عمليات إعادة التشغيل في
الحُصين عمومًا إلى حدوث إعادة تنشيط مضغوطة
زمنيًّا لتفريغات الخلايا العصبية الحُصينية
المُتسلسلة التي تحدُث مقترنة بالتموُّجات
الموجية الحادة.
لقد ذكرت بالفعل أن الموجات الحادة تظهر
أثناء مرحلة النوم البطيء وكذلك في أثناء
الراحة التامة الواعية (انظر الشكل
٣-١). ماذا يحدث إذن أثناء
إطلاق تموُّجات الموجة الحادة في حالة اليقظة؟
هل تحدث إعادة تشغيل أثناء تموجات الموجات
الحادة في اليقظة أيضًا؟ أظهرت دراسات لاحقة أن
إعادة التشغيل في الحُصين تحدث بالفعل تزامنًا
مع إطلاق التموُّجات الحادة في أثناء السكون
وفي أثناء اليقظة أيضًا.
13 وبناء عليه، وبغضِّ النظر عن
الحالة (سواء النوم أو اليقظة)، يبدو أن إعادة
التشغيل في الحُصين تحدث عند رصد انطلاق
لتموُّجات الموجة الحادة.
يجدُر بنا ملاحظة أن تموجات الموجة الحادة في
الحُصين شائعة ومتكررة. فهي تحدث بضع مرات كل
دقيقة لدى البشر وبوتيرةٍ أكبر لدى الجرذان في
أثناء النوم وأثناء الراحة.
14 بعبارة أخرى، من المرجَّح أن تكون
إعادة تشغيل التجارب الماضية مستمرة أثناء
الراحة أو النوم على حدٍّ سواء. وبالأخذ في
الاعتبار أن النشاط العصبي غالبًا ما يؤدي إلى
تغيُّرات في ديناميكيات الشبكة العصبية من خلال
إحداث تغيرات طويلة الأمد في فاعلية التشابُك
العصبي (التي يشار إليها باسم اللدونة
التشابكية المُعتمدة على النشاط)، فمن
المُحتمَل أن يكون لإعادة التشغيل في الحُصين
أثناء تموجات الموجة الحادة تأثيرات عميقة على
تمثيل الذكريات المُكتسبة حديثًا. وهذا يُشير
إلى أن توطيد الذاكرة قد يكون مستمرًّا ليس فقط
في أثناء النوم، وإنما في فترات اليقظة أيضًا.
كذلك يُشير حدوث إعادة التشغيل في الحصين أثناء
حالة اليقظة إلى أن عمليات إعادة التشغيل قد
تخدم وظائف أخرى خلاف توطيد الذاكرة، مثل
تذكُّر مسارات التنقل الماضية (استرجاع ذكرى)
والتخطيط لمسارات التنقل المستقبلية (التخطيط
للمستقبل).
إعادة التشغيل والخيال
ركزت الدراسات المبكرة الخاصة بعمليات إعادة
التشغيل في الحُصين على إعادة تنشيط تسلسلات
نشاط خلايا المكان التي سبق تجربتها. غير أن
ثمة دراسة نُشرت في عام ٢٠١٠ أوضحت أن الأمر لا
يقتصر على هذا فحسب.
15 فقد درب ديفيد ريديش وزملاؤه في
جامعة مينيسوتا جرذانًا جائعة على الجري في
متاهةٍ على شكل رقم 8 (انظر الشكل
٣-٣) للتردُّد على المسارات
اليسرى واليمنى بالتناوب للحصول على حبات
الطعام (انظر الأسهم في الشكل لمعرفة مسارات
التنقل المكانية للجرذان). ثم أعادوا بناء
المسارات المكانية للجرذان وفقًا للتفريغات
المتسلسلة لخلايا المكان (إعادة التشغيل) أثناء
انطلاق تموجات الموجة الحادة. فوجدوا أن بعض
المسارات المعاد بناؤها تطابقت مع تلك التي
سلكتها الجرذان. والأهم من ذلك أنهم وجدوا كذلك
أن بعضها يتوافق مع مساراتٍ لم تختبرها الجرذان
من قبل. بعبارة أخرى، تُمثل عمليات إعادة
التشغيل في الحُصين أثناء تموجات الموجة الحادة
مساراتٍ مكانية مُجرَّبة وغير مُجرَّبة (ولكنها
مُحتمَلة).
كانت هذه الدراسة إثباتًا واضحًا أن عمليات
إعادة التشغيل في الحُصين هي أكثر من مجرد
إعادة تنشيط لتجارب الماضي. ضع هذه النتيجة في
الاعتبار إلى جانب ما تناولناه في الفصل الأول
بخصوص دور الحُصين في الخيال. تتوافق هذه
النتيجة في الجرذان جيدًا مع النتيجة التي تمَّ
التوصُّل إليها لدى البشر، من أن الحُصين يلعب
دورًا مهمًّا في الخيال. لقد توصل مساران
بحثيان مُستقلان أحدهما يدرس البشر والآخر يدرس
الفئران إلى النتيجة نفسها، ألا وهي أن الحُصين
لا يلعب دورًا في الذاكرة فحسب، بل في الخيال
أيضًا.
إعادة التشغيل لدى البشر
تناولنا حتى الآن عمليات تكرار الإطلاق
المتسلسل لخلايا المكان التي اكتُشفت في حُصين
الجرذان. ولكن هل اكتُشفت هذه العمليات في
البشر أيضًا؟ هل يدعم الحُصين عمليات تكرار
التسلسلات غير المكانية؟ هل تتزامن عمليات
إعادة التشغيل مع تنشيط شبكة الوضع الافتراضي؟
تقدم الدراسات الحديثة على البشر إجاباتٍ
إيجابية على هذه الأسئلة.
من الصعب قياس النشاط العصبي المتسلسل بمقياس
الملِّي ثانية (إعادة التشغيل) من مناطق الدماغ
العميقة (الحُصين والبِنى ذات الصلة) باستخدام
أساليب غير باضعة. ومع ذلك، تمكَّن العلماء من
اكتشاف البصمات العصبية الخاصة بإعادة التشغيل
في الدماغ البشري من خلال التحليل الدقيق
لإشارات الدماغ المَقيس بأساليب غير باضعة.
تشمل بعض الأساليب التي يُشاع استخدامها في هذا
الصدد تخطيط كهربية الدماغ (الذي يقيس الإشارات
الكهربية الضعيفة)، والتصوير بالرنين
المغناطيسي الوظيفي (الذي يقيس التغيرات
البطيئة في تدفق الدم؛ انظر الفصل الأول)،
وتخطيط مغناطيسية الدماغ (الذي يقيس الإشارات
المغناطيسية الضعيفة الصادرة من الدماغ). ولكل
تقنيةٍ منها مزاياها وعيوبها. على سبيل المثال،
يتفوق تخطيط مغناطيسية الدماغ على تخطيط كهربية
الدماغ في تسجيل النشاط العصبي من بِنى الدماغ
العميقة (مثل الفص الصدغي الأوسط) وعلى التصوير
بالرنين المغناطيسي الوظيفي في الدقة
الزمنية.
في دراسات حديثة باستخدام تقنية تخطيط
مغناطيسية الدماغ، عُرض على الأشخاص الخاضعين
للدراسة سلسلة متعاقبة من الصور البصرية. ومن
خلال تحليل الإشارات المغناطيسية الضعيفة
للدماغ بعناية أثناء فترة الراحة، تمكن العلماء
من إعادة بناء تسلسُلات المثيرات الصحيحة بدقة
زمنية بلغت ٥٠ ملِّي ثانية. والجدير بالذكر أن
إعادات التشغيل تلك سُجِّلت بالتزامن مع حدوث
تموجات موجية حادة في الفص الصدغي
الأوسط.
16 وهذه الإعادات البشرية تحدث في
قشرة الدماغ (أي مسجَّلة من القشرة الصدغية
الوسطى) وليست إعادات حُصينية. ولكن إذا أخذنا
في الاعتبار أنها تزامنت مع انطلاق تموجات
الموجات الحادة في الفص الصدغي الأوسط وأن
كلًّا من إعادة التشغيل في القشرة والحُصين
موجودتان لدى الجرذان، فإن هذه النتائج تشير
إلى وجود آليات عصبية مشتركة لإعادة التشغيل
لدى القوارض والبشر على حد سواء.
17
في دراسة أخرى أجريت باستخدام التصوير
بالرنين المغناطيسي الوظيفي، عُرض على أفراد
الدراسة سلسلة صور لمنازل ووجوه أثناء أداء
مهمة تنطوي على اتخاذ قرار. وتمكن العلماء من
إعادة بناء التسلسلات الصحيحة بدقة زمنية بلغت
نحو ١٠٠ ملِّي ثانية على أساس الإشارات
الديناميكية الدموية (التغيرات في تدفق الدم)
المَقيسة من الحُصين أثناء الراحة
الواعية.
18 تُظهِر هذه الدراسات مجتمعة أنه
يمكن اكتشاف عمليات إعادة التشغيل في الدماغ
البشري باستخدام أساليب غير باضعة. ويجدُر بنا
أن نشير إلى أن هذه الدراسات على البشر قاست
عمليات إعادة تشغيل التسلسلات غير المكانية.
ولذا، فإن عمليات إعادة التشغيل في الحُصين لدى
البشر لا تقتصر على النطاق المكاني.
ومن الجدير بالملاحظة أن شبكة الوضع
الافتراضي تنشط في حالة البشر مقترنة بعمليات
إعادة التشغيل في القشرة وتموجات الموجة الحادة
في الفص الصدغي الأوسط.
19 وهذا يُشير إلى أن النتيجتَين
المستقلتَين اللتين توصلت إليهما الدراسات على
الحيوانات والبشر، وهما إعادة التشغيل في
الحُصين وتنشيط شبكة الوضع الافتراضي، قد
تكونان وجهَين لعملةٍ واحدة. وهكذا فإن النتائج
التي توصلت إليها الدراسات على الحيوانات
والبشر حتى الآن تتوافق معًا بصورة جيدة، مما
يُشير إلى أن عمليات إعادة التشغيل في الحُصين
هي تجسيد للعمليات العصبية الكامنة وراء
العمليات العقلية الداخلية، مثل تذكر الماضي
وتخيل المستقبل، وتحدث أثناء تنشيط شبكة الوضع
الافتراضي.
تموُّج الموجة الحادة كعملية شاملة
قبل اختتام هذا الفصل، لنستعرِض ما يحدث في
بقية الدماغ عند ظهور تموُّجٍ مَوجي حادٍّ في
الحُصين. للتحقق من هذه المسألة، سجل نيكوس
لوجوثيتيس وزملاؤه في معهد ماكس بلانك نشاط
حُصين القرد باستخدام قطبٍ كهربي مجهري دقيق
وراقبوا النشاط العام للدماغ (تدفُّقات الدم
الموضعية) باستخدام تقنية غير باضعة (التصوير
بالرنين المغناطيسي الوظيفي) في نفس
الوقت.
20 ومن المدهش أن جميع مناطق الدماغ
تقريبًا أظهرت تغيرات في النشاط العصبي تزامنت
مع حدوث تموُّج موجي حاد في الحُصين. فقد زاد
نشاط معظم مناطق القشرة المخية، في حين انخفض
نشاط معظم المناطق تحت القشرية تزامنًا مع
تموُّجات الموجات الحادة. على سبيل المثال،
ينخفض نشاط المهاد، وهو بنية تحت قشرية تنقل
المعلومات الحسِّية الخارجية إلى القشرة
المُخِّية، مع حدوث تموجات الموجة الحادة.
علاوة على ذلك، فرغم زيادة نشاط معظم مناطق
القشرة المُخية، فإن القشرة البصرية الأوَّلية
تُقلل من نشاطها مع انطلاق تموُّج موجي حاد،
مما يُشير إلى أن الدماغ ينسحب من معالجة
الإشارات الحسِّية الخارجية في وقتِ حدوث تموج
الموجة الحادة.
لنضع هذا جنبًا إلى جنبٍ مع النتائج التي تم
التوصُّل إليها بشأن شبكة الوضع الافتراضي.
عادة ما تحدث تموُّجات الموجة الحادة عندما
تكون شبكة الوضع الافتراضي نشطة؛ أي ونحن غير
مُنتبِهين إلى العالم الخارجي. ففي هذا الوقت،
تكون مناطق الدماغ المرتبطة بالمعالجة الحسِّية
(مثل القشرة البصرية الأوَّلية والمهاد)
مُعَطَّلة، ويحدث تبادل معلومات شامل بين
الحُصين والقشرة المُخية. يبدو أن مناطق الدماغ
المختلفة تؤدي وظائفها عندما نكون بحاجةٍ إلى
الاستجابة للعالم الخارجي، كما يحدث أثناء
مطاردة فريسة. ولكن عندما تُتاح لنا الفرصة
للاسترخاء ونستطيع تحمُّل عدم الانتباه الشديد
إلى العالم الخارجي، يبدو أن أدمغتنا توقف
عملية معالجة الإشارات الحسِّية الخارجية وتسمح
بدلًا من ذلك بتبادُل المعلومات الشامل بين
مناطق الدماغ المختلفة. يحدث هذا عندما ننخرِط
في العمليات العقلية الداخلية، مثل تذكُّر
الماضي، وتخيُّل المستقبل، واتخاذ القرارات
الأخلاقية، والتفكير في أفكار الآخرين،
والتفكير التبايُني.
لقد كان محور التركيز التقليدي لعلم الأعصاب
هو كيفية معالجة الدماغ للمعلومات عندما يتجاوب
الشخص بنشاطٍ مع العالم الخارجي. غير أن
الدراسات التي أُجريت على شبكة الوضع الافتراضي
وإعادة التشغيل تُشير إلى أن هذه الأساليب
التقليدية لا يمكن أن تُخبرنا إلا بجزءٍ من
الطريقة التي يعمل بها الدماغ. فتشير النتائج
الحديثة إلى أن فَهم مبادئ عمل الدماغ يتطلَّب
منا فهم كيفية تزامن نشاط أجزاء مختلفة من
الدماغ وكيف تتبادل هذه الأجزاء المعلومات فيما
بينها أثناء حالات الراحة، وكيف تؤثر هذه
الأحداث على معالجة الإشارات أثناء حالات
النشاط اللاحقة. والخبر السار أن الدراسات في
هذا الخصوص جارٍ العمل عليها بقوة. وقد تغير
النتائج الجديدة، التي ستتوصَّل إليها هذه
الدراسات، الإطار المفاهيمي التقليدي لدراسة
الدماغ.