الفصل الرابع
الدوائر العصبية في الحُصين
في الفصول السابقة، تناولنا الأدوار الوظيفية
للحُصين؛ أي «ما» يفعله الحُصين. وفي هذا الفصل،
سنستكشِف «كيف» يفعل الحُصين ما يفعله. يهتم كثير
من علماء الأعصاب بفهم وظائف الدماغ من حيث عمليات
الدائرة العصبية، من خلال الآليات العصبية لهذه
الوظائف. لنفترِض أنك تريد فهم آليات استخدام
السيارة للبنزين أثناء القيادة. إحدى الطرق البسيطة
لشرح ذلك هي أن قوة احتراق البنزين تسمح بقيادة
السيارة. هل ستقنع بهذه الإجابة؟ ربما لا. الإجابة
الأكثر إقناعًا هي أن اشتعال البنزين داخل مُحرك
الاحتراق يُجبر المكبس على التحرك إلى أعلى وإلى
أسفل، ويُترجم العمود المِرفَقي الحركة الخطِّية
للمكبس إلى حركة دورانية، وتحرك قوة دوران العمود
المرفقي عجلات السيارة. وعلى نحوٍ مُماثل، لا يقنع
علماء الأعصاب بمجرد معرفة أن الحُصين يخدم وظائف
الذاكرة والتخيُّل. إنهم يريدون الذهاب إلى ما هو
أبعدُ من ذلك وفهم كيف يخدم الحُصين هذه الوظائف من
حيث عمليات الدوائر العصبية التي تقِف وراء
ذلك.
وبفضل التطوُّرات التكنولوجية السريعة في العقود
القليلة الماضية، أصبح علماء الأعصاب الآن مُجهزين
بأدوات قوية لدراسة عمليات الدوائر العصبية التي
تُشكل الأساس للوظائف الإدراكية العُليا بصورةٍ
مباشرة، مثل اتخاذ القرار والتخيُّل. ونظرًا
للتقدُّم المُتسارع للتكنولوجيا، فإن العلماء
متفائلون تفاؤلًا حذرًا بشأن مُستقبل هذا المسعى؛
ألا وهو تفسير الوظائف الإدراكية العُليا من ناحية
العمليات الأساسية للدوائر العصبية (المعروفة باسم
علم الأعصاب المعرفي الآلي).
في هذا الفصل، سنفحص تشريح الحُصين إلى جانب
نظريةٍ كلاسيكية تتعلَّق بكيفية عمل الشبكة العصبية
الحُصينية، لبناء أساسٍ لاستكشاف العمليات الأساسية
للدوائر العصبية التي تُشكل الأساس لوظائف الذاكرة
والخيال في الحُصين.
الدائرة الثلاثية المشبك
الحُصين عبارة عن بِنية على شكل قطعة سجق تقع
في عُمق الفص الصدغي الأوسط. يوضح الشكل (
٤-١) رسمًا يدويًّا للمقطع
العرضي للحُصين رسَمه سانتياجو رامون كاخال،
وهو عالم إسباني مُتخصِّص في التشريح العصبي
وحائز على جائزة نوبل (١٩٠٩). التلفيف المُسنن،
و
CA3،
و
CA1 هي
المناطق الفرعية الرئيسية الثلاث في الحُصين.
وتُعرف الدائرة التي تحوي هذه البِنى (التلفيف
المُسنن، و
CA3،
و
CA1) باسم
«الدائرة الثلاثية المشبك الحُصينية». ترمز
CA إلى قرن
آمون، الذي سُمِّي على اسم الإله المصري آمون،
الذي له رأس كبش. تمد الخلايا العصبية في
التلفيف المُسنن تفرعات عصبية إلى شبكة
CA3
العصبية (قرن آمون ٣)، وتمد الخلايا العصبية في
CA3
بدَورها تفرعات عصبية إلى
CA1 (قرن
آمون ١).
اعتُبرت هذه الدائرة (التلفيف المُسنن >
CA3 >
CA1) لوقتٍ
طويل المسار العصبي الأبرز في الحُصين؛ ولذا
كانت الهدف الأساسي لأبحاث تشفير الذاكرة
الحُصينية واسترجاعها. ولكن تجدُر الإشارة إلى
وجود مسارات اتصالٍ بديلة في الحُصين (انظر
الصورة الصغيرة داخل الشكل
٣-٣). علاوة على ذلك، تُشير
الدراسات الحديثة إلى
CA2، وهي
بِنية صغيرة نسبيًّا، لها وظائفها الخاصة، مثل
ذاكرة التعرُّف الاجتماعي (تذكر الأحداث
المتعلقة بأفرادٍ من نفس النوع).
1 غير أنه نظرًا لوجود عدد قليل
نسبيًّا من الدراسات حول
CA2، وعدم
وضوح مساهمة
CA2 في
وظائف الحُصين إجمالًا، فلن نتناول
CA2
بالدراسة هنا. وبغرَض التبسيط أيضًا، سنُركز
فقط على شبكتي
CA3
و
CA1، ولن
نتطرَّق إلى التلفيف المُسنن؛ إذ يبدو أنهما
البِنيتان الأساسيتان المُرتبطتان مباشرة
بالخيال، وهو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب. يمكن
العثور على مناقشاتٍ موجزة حول دور التلفيف
المُسنن في الفصل السادس والملحق الأول.
شبكة CA3
العصبية
كانت شبكة
CA3 لمدة
طويلة محورَ الجدل النظري حول عمليات الدائرة
العصبية التي تُشكل الأساس لذاكرة الحُصين.
ويُعتقد أيضًا أنها البِنية المركزية لوظيفة
الخيال في الحُصين. لماذا؟ لأن الخلايا العصبية
في شبكة
CA3
قادر بعضها على تحفيز بعض. كيف؟ لا تمد الخلايا
العصبية في
CA3
تفرعاتها العصبية إلى مناطق أخرى، مثل
CA1، فحسب،
بل تمد هذه التفرعات إلى نفسها مرةً أخرى أيضًا
عبر «تشعبات ثانوية عصبية متكررة» ضخمة، وهي
فروع للمحور العصبي تتشعَّب بالقُرب من جسم
الخلية (انظر الشكل
٤-٢).
تسمح هذه التفرعات العصبية المتكررة، التي
تُوجَد عادةً في القشرة المخية، بالتفاعلات
الداخلية داخل مجموعةٍ من الخلايا العصبية.
وتُتيح مثل هذه التفاعلات للشبكة العصبية
الحفاظ على المعلومات ومعالجتها من خلال آليات
داخلية في غياب المدخلات الخارجية، وهي عملية
يُعتقَد أنها ضرورية لدعم الوظائف الإدراكية
العُليا في القشرة المخِّية. وإلا فإن الشبكة
العصبية ستتصرَّف مثل آلة لا إرادية لا تفعل
شيئًا سوى الاستجابة لوجود مدخلات خارجية،
وبخلاف ذلك تكون خاملة.
من السمات المُميزة لشبكة
CA3 وجود
عددٍ كبير بصورة غير عادية من التفرعات العصبية
المتكررة التي تربط بين خلاياها العصبية. ففي
المتوسط، تتلقى خلية عصبية واحدة من خلايا
CA3 نحو
اثني عشر ألف مدخلٍ من خلايا
CA3
العصبية الأخرى في حُصين الجرذ. وهذا يعادل
ثلاثة أرباع إجمالي المدخلات الاستثارية التي
تتلقاها الخلية الواحدة في شبكة
CA3 (انظر
الشكل
٤-٢)!
2 والواقع أن هذا العدد الهائل من
التفرعات المتكررة في شبكة
CA3 مُذهل
حقًّا. ما الذي يتبادر إلى ذهنك عندما ترى مثل
هذه الروابط المتبادلة الضخمة؟ مثلما تكون قد
خمَّنت، تميل شبكة
CA3
العصبية بقوة إلى الاستثارة الذاتية. فمن
الآثار الجانبية لمِثل هذه البنية الشبكية
العصبية الميل إلى الاستثارة المُفرطة؛ أي
نوبات الصرع، التي تحدُث عندما لا يجري
التحكُّم في نشاط الشبكة على نحوٍ صحيح. فالصرع
هو اضطراب عصبي يتَّسم بنوباتٍ متكررة. ونظرًا
للروابط العصبية المتبادلة الضخمة بين خلايا
CA3
العصبية، فليس من المُستغرب أن يكون صرع الفص
الصدغي هو الشكل الأكثر شيوعًا للصرع البؤري.
وقد عانى هنري موليسون (انظر الفصل الأول) من
شكلٍ حادٍّ من صرع الفص الصدغي؛ لدرجة أنه خضع
لعملية جراحية لشقِّ الفص الصدغي
الأوسط.
الذاكرة المعنونة بالمحتوى
النوبات
الصرعية هي نتيجة لعملياتٍ غير طبيعية في
الدائرة العصبية. فما الوظيفة الفسيولوجية
لشبكة
CA3
العصبية؟ إن النظرية الأكثر تأثيرًا في هذه
المسألة في الوقت الحالي هي تلك التي طرحها
ديفيد مار في عام ١٩٧١.
3 وفقًا لهذه النظرية، تخزن شبكة
CA3
العصبية الذكريات عن طريق تغيير قوة الروابط
المشبكية بين خلايا
CA3
العصبية (أي عن طريق تغيير الفاعلية المشبكية
لتفرعات شبكة
CA3
المتكررة). وبشكلٍ أكثر تحديدًا، تُعَزَّز
الروابط المشبكية بين خلايا
CA3
العصبية التي تُمثل تجربةً بعينها، ممَّا يُشكل
«تجمعًا خلويًّا» وظيفيًّا لخلايا
CA3
العصبية التي تُمثل تلك التجربة.
4 إذا نُشِّطَ جزء من التجمُّع
الخلوي الوظيفي لاحقًا، تُنَشَّط بقية خلايا
CA3
العصبية في التجمع الخلوي الوظيفي أيضًا (لأن
روابطها معززة)؛ ومن ثم تستعيد نمط النشاط
العصبي الأصلي للتجربة (استرجاع الذكرى). ويوضح
شكل (
٤-٣) هذه العملية
بيانيًّا.
يعتقد العلماء عمومًا أن أي شبكةٍ عصبية
تُخزِّن المعلومات وتسترجعها بهذه الطريقة، وهي
تختلف عن الطريقة التي تخزن بها أجهزة
الكمبيوتر الرقمية المعلومات وتسترجعها. يُخزن
الكمبيوتر الرقمي المعلومات (الذكرى) في عنوانٍ
مُعين (على سبيل المثال، موقع مادي بعينِه على
القُرص الصلب) ويسترجع المعلومات المخزنة عن
طريق استخراج المعلومات من هذا العنوان. على
النقيض من ذلك، تخزن الشبكة العصبية المعلومات
بطريقة موزعة عن طريق تغيير قوى الربط بين
الخلايا العصبية النشطة، كما هو موضح في الشكل
(
٤-٣). وتُسترجَع
المعلومات المخزنة عن طريق استعادة نمط النشاط
الأصلي من خلال تنشيطٍ جزئي، وهي العملية التي
تُعرف باسم «استكمال النمط». بعبارة أخرى، يُعد
التنشيط الجزئي للذكرى المُخزنة ضروريًّا
لاسترجاع نمط النشاط العصبي الأصلي. ويُطلق على
هذا النوع من الذاكرة أحيانًا «الذاكرة
المعنونة بالمحتوى» بمعنى أن محتوى ذاكرة معينة
يُستخدم لاسترجاعها، مثل عنوان ذاكرة الكمبيوتر
الرقمي.
تتبادر إلى أذهاننا ذكرى ما عندما نواجه
مدخلات حسية ذات صلة بها أو أثناء التفكير في
أشياء مرتبطة بهذه الذكرى. ونستعيد الذكرى
بناءً على النشاط العصبي المرتبط بالذكرى
المخزنة لا عن طريق استكشاف مكان معين في
الدماغ (عنوان) حيث تكون الذكرى مخزنة فيه.
ويوضح الشكل (
٤-٤) هذه
النقطة. افترض أنك شَفَّرت معلومات بصرية تتعلق
بوجهِ شخصٍ ما كذكرى. عندها يمكنك تذكُّر الوجه
بسهولة عندما تقدَّم لك معلومات بصرية جزئية أو
حتى متردية عن هذا الوجه.
الذاكرة التسلسلية
تبنى علماء لاحقون نظرية عالم الأعصاب ديفيد
مار وطوروها. كانت الفكرة الأساسية، ألا وهي أن
شبكة CA3
العصبية تخزن الذكرى من خلال تعزيز قوى الربط
بين خلايا CA3
العصبية التي تنشط معًا، فكرة مؤثرة للغاية على
مدى السنوات الخمسين الماضية. غير أن نظرية مار
تتعامل مع تخزين الأنماط الثابتة، وليس
التسلسلات. عندما تناولنا عمليات إعادة التشغيل
في الحصين في الفصل الثالث، رأينا أن الحُصين
لا يخزن لقطات من تجاربنا فحسب، بل يخزن أيضًا
تسلسلات الأحداث التي تتكشف بمرور الوقت.
بالإضافة إلى ذلك، نحن نعلم الآن أن الحُصين لا
يلعب دورًا في الذاكرة فحسب، وإنما في الخيال
أيضًا. أما نظرية مار، فهي محدودة في تفسير هذه
الجوانب من وظائف الحُصين.
أثار اكتشاف عمليات إعادة التشغيل في الحصين
اهتمامًا بالعمليات العصبية التي تكمن وراء
تخزين واسترجاع تسلسلات الأحداث التي مر بها
الإنسان (الذاكرة العرضية) وتوليد تسلسلات
الأحداث التي لم تُعَش (الخيال). مرة أخرى،
تحتل شبكة
CA3
العصبية مركز الصدارة في هذا المسار البحثي.
فنظرًا لارتباط خلايا
CA3
العصبية من خلال التفرعات العصبية المتكررة
الضخمة، فإن التنشيط الجزئي لخلايا
CA3
العصبية قد يُنشِّط خلايا أخرى من خلايا
CA3
العصبية تنشيطًا متسلسلًا. كذلك أظهرت الدراسات
الفسيولوجية أن تموجات الموجة الحادة، التي
ترصد خلالها معظم عمليات إعادة التشغيل في
الحصين، تبدأ في خلايا
CA3
العصبية.
5 لذا توجد أسباب وجيهة للاعتقاد بأن
شبكة
CA3 تلعب
دورًا حاسمًا في تخزين واسترجاع تسلسلات
الأحداث المُختبرة وفي تخيل تسلسلات الأحداث
غير المُختبرة.
شبكة
CA1
تتلقى شبكة
CA1، وهي
المرحلة الأخيرة من الدائرة الثلاثية المشبك،
تتلقى مدخلات هائلة من شبكة
CA3، وترسل
مخرجات إلى مناطق الحصين المحيطة. ومن هذا
المنطلق، قد نعتبر
CA1 بنية
استقبال للمخرجات للحُصين. فما وظيفة شبكة
CA1 إذن؟
لقد طرحت نظريات كثيرة متعلقة بدورها، إلا أن
الأدلة التجريبية عليها ضعيفة، ولم تلقَ أي
نظرية قَبولًا واسعًا مثل نظرية مار عن شبكة
CA3
العصبية. من الناحية التشريحية، تختلف شبكة
CA1 عن
شبكة
CA3 في
افتقارها إلى وجود تفرعات عصبية متكررة
قوية؛
6 إذ توَجَّهت غالبية محاور خلايا
CA1
العصبية إلى خارج نطاق الحُصين. وهكذا، وعلى
عكس خلايا
CA3
العصبية، من المرجح أن تعالج خلايا
CA العصبية
المعلومات مع وجود القليل من التفاعل الاستثاري
المباشر بينها. وهذا يشير إلى أن آليات الشبكة
العصبية والأدوار الوظيفية لشبكة
CA1 من
المرجح أن تختلف اختلافًا شاسعًا عن نظيرتها في
شبكة
CA3.
يمكنك بناء على ذلك أن تخمن أن الخصائص
العصبية الفسيولوجية، مثل إطلاق الإشارات
المتعلق بمكان محدد، قد تختلف اختلافًا كبيرًا
بين CA3
وCA1. ولكن
على النقيض من هذا التوقع، فشل العلماء في
العثور على اختلافات فسيولوجية عصبية جوهرية
بين الخلايا العصبية في شبكتي
CA3
وCA1.
فهناك خلايا مكان في كل من
CA3
وCA1
بخصائص متشابهة إلى حد كبير. وهذا يشير إلى أن
طبيعة المعلومات المعالجة، وخاصة المعلومات
المكانية، تتشابه بين
CA3
وCA1.
فلماذا إذن تُعالِج بنيتان مختلفتان تشريحيًّا
معلومات متشابهة؟ ولماذا تعد شبكة
CA1 ضرورية
إذا كانت تعالج معلومات متشابهة؟ سنبحث هذه
المسألة بالتفصيل في الفصل التالي. أما الآن،
فإجابتي المختصرة على هذا السؤال هي أن شبكة
CA1 ربما
تختار وتعزز التسلسلات العالية القيمة التي
تولدها شبكة
CA3
العصبية.
قبل اختتام هذا الفصل، أود أن أعرب عن
احترامي وتقديري لديفيد مار (١٩٤٥-١٩٨٠). لقد
قدم مار إسهامات هائلة في مجال علم الأعصاب.
فهو من طرح أول نموذج واقعي للشبكة العصبية
للحُصين في الوقت الذي كانت فيه معرفتنا
بالشبكات العصبية للحُصين محدودة. وما يثير
الدهشة أكثر أن أبحاثه عن الحُصين لا تمثل إلا
جزءًا ضئيلًا من إسهاماته في علم الأعصاب. كما
طرح أيضًا نظريات مؤثرة تتعلق بالقشرة المخية
الحديثة والمخيخ، وهو معروف بأبحاثه على
الرؤية. وفي العموم، يُعتبر مار رائدًا ومؤسسًا
لعلم الأعصاب الحوسبي الحديث. أعتقد أن
الباحثين الذين يدرسون الحُصين يمكنهم إظهار
احترامهم له على أفضل نحوٍ من خلال تطوير
نظريته القديمة عن الحُصين. ولعل جميع العلماء،
ومن بينهم مار نفسه، سيسعدون برؤية أعمال الجيل
الذي يَليهم تحلُّ محلَّ نظرياتهم. فهكذا يتقدم
العِلم.