الفصل السابع

تطور الخيال

يمكن تفسير الظواهر البيولوجية من خلال الأسباب المباشرة والأسباب البعيدة المتعلقة بالتطور. تتعلق التفسيرات المباشرة بالآليات البيولوجية الأساسية للظاهرة، في حين تتعلق التفسيرات البعيدة أو التطورية بالأصول التطورية والمنافع الوظيفية. على سبيل المثال، لماذا نشعر بالعطش بعد تناول الطعام المملح؟ قد تكون إحدى الإجابات المحتملة أن تناول كميات كبيرة من الملح يزيد من الضغط الأسموزي في الدم، والذي ترصده مستشعرات الضغط الأسموزي في الأوعية الدموية، التي تعمل بعد ذلك على تنشيط الدائرة العصبية التي تحفز سلوك البحث عن الماء (سبب مباشر). من الإجابات الأخرى المحتملة أن الآلية البيولوجية التي ترصد تركيز الملح المرتفع وتخفضه قد تطوَّرت؛ لأنها ضرورية للبقاء (سبب بعيد). ولقد ركزت تفسيراتنا لنموذج المحاكاة والاختيار حتى الآن على السبب المباشر؛ أي الآليات العصبية للمحاكاة والاختيار. ما هو إذن التفسير التطوري البعيد لوظيفة المحاكاة والاختيار في الحُصين؟ لماذا تطوَّرَ أداء المحاكاة والاختيار؟ في هذا الفصل، سنُحاول أن نجد إجابة على هذا السؤال، من خلال مقارنة تشريح وفسيولوجيا الحُصين عبر أنواعٍ حيوانية مختلفة.

حُصين الثدييات في مقابل حُصين الطيور

إيجازًا، تشير عمليات إعادة التشغيل في حُصين الجرذان إلى أنه يحاكي مسارات مكانية متنوعة أثناء الراحة والنوم. بالإضافة إلى ذلك، يُشير النشاط المعتمد على القيمة لخلايا شبكة CA1 العصبية، إلى أن المسارات المكانية التي تُولِّدها شبكة CA3 يجري اختيارها في شبكة CA1 وفقًا للقيم المرتبطة بها. وتُشير هذه النتائج مجتمعةً إلى أن حُصين الجرذان يؤدي عملية محاكاة واختيار لمساراتٍ مكانية متنوعة، سواء كانت مُجرَّبة أو غير مُجرَّبة، أثناء الراحة والنوم حتى يتمكَّن الجرذ من اختيار المسار المكاني الأمثل بين موقعَين عشوائيَّين في المستقبل.

إذن ما السبب التطوُّري لعملية المحاكاة والاختيار؟ كان سؤالي الأول بخصوص هذه المسألة هو ما إذا كان الحُصين لدى الطيور يؤدي أيضًا المحاكاة والاختيار. ويرجع هذا إلى أن الطائر، الذي يستطيع الطيران، قد لا يحتاج إلى بذل جهدٍ للاستعداد لمسارات مكانية مُحتملة مسبقًا. فقد ينتقل الطائر عبر أقصر مسار من موقعه الحالي إلى وجهته.

ومن المؤسف أن الدراسات التي أجريت على حُصين الطيور قليلة مقارنةً بالدراسات العديدة على حُصين القوارض. ولعل أشهر النماذج الحيوانية للحُصين هي الفئران والجرذان. يسمح استخدام نفس النموذج الحيواني للباحثين بمقارنة النتائج من دراسات مُختلفة، مما يُتيح فهمًا أكثر اكتمالًا لظاهرة بيولوجية أو وظيفة ذات أهمية. علاوةً على ذلك، نظرًا لأن التطوُّر في العموم هو عملية تعديل للآلية البيولوجية القائمة وليس اختراع شيءٍ جديد تمامًا من الصفر، فمن المُحتمَل أن تكون النتائج المُستمدة من نوع حيواني واحد ساريةً على نوعٍ آخر. على سبيل المثال، غالبًا ما ترتبط الوظائف البيولوجية لجينٍ معين في ذبابة الفاكهة، وهو نموذج حيواني يُستخدَم على نطاقٍ واسعٍ في علم الأحياء، ارتباطًا مباشرًا بالأمراض الوراثية البشرية. غير أن هناك حاجة أيضًا إلى دراسات مقارنة؛ إذ تُتيح لنا فهم مدى عمومية آلية بيولوجية مُعينة عبر الأنواع، وكيف تختلف وفقًا للاحتياجات البيئية للأنواع.

fig13
شكل ٧-١: مقاطع عرضية لأدمغة العديد من الأنواع الثديية. تُظهِر المقاطع العرضية للحُصين (المشار إليها بالأسهم) التلفيف المُسنن المميز بوضوح، وشبكتَي CA3، وCA1 في جميع الأنواع. الشكل منقول من دراسة لجعفر بسمة وآخرين بعنوان: «النمو التطوري للدماغ وعلاقته بجراحة الأعصاب»، دورية «كيوريس»، مجلد ١٢، العدد ١ (يناير ٢٠٢٠): e6748 (CC BY).
fig14
شكل ٧-٢: مقاطع عرضية لأدمغة سمكة ذهبية، وإيجوانا، وحمامة، وجرذ. لا يَظهَر الهيكل المقطعي المُميز للحُصين الثديي (السهم) في الأنواع غير الثديية (بإذنٍ من فيرنر بينجمان).
تتشابه بِنية الحُصين تشابهًا مدهشًا بين مختلف أنواع الثدييات، ومن ضمنها البشر.1 وكما هو موضح من خلال المقاطع العرضية لأدمغة كثيرٍ من الأنواع الثديية (انظر الشكل ٧-١)، يتميز الحُصين في جميع الثدييات بِبِنًى تشريحية كبيرة متشابهة مع تلفيف مُسنن، وشبكتَي CA3 وCA1 مُميزتَين بوضوح. في المقابل، وكما هو موضح من خلال المقاطع العرضية لأدمغة الفقاريات غير الثديية (الأسماك والزواحف والطيور؛ انظر الشكل ٧-٢)، لا تمتلك هذه الأنواع الحيوانية مناطق فرعية مُحددة بوضوح في الحُصين تماثل التلفيف المُسنن، وشبكتَي CA3 وCA1 في حُصين الحيوان الثديي. وقد حددت الدراسات التشريحية اختلافات بارزة إضافية بين حُصين الحيوان الثديي وحُصين الطائر.2
تمتلك الثدييات والطيور، التي تنتمي إلى الفقاريات ذوات الدم الحار، ذاكرة مكانية أفضل بكثير مقارنةً بالفقاريات ذوات الدم البارد (الأسماك والبرمائيات والزواحف). قد يكون هذا أمرًا مثيرًا للسخرية للغاية؛ نظرًا لأن وصف شخصٍ ما بأن له «دماغ عصفور» يعتبر إهانة. في الواقع، يتمتع كثيرٌ من أنواع الطيور التي تُخَزِّن الطعام بذاكرة مكانيةٍ رائعة إلى حدٍّ يُثير الدهشة. فمن إجمالي نحو ١٧٠ فصيلة من الطيور، تخزن ١٢ فصيلة الطعام. على سبيل المثال، تخزن طيور كسار كلارك الطعام، مثل حبَّات الصنوبر، في آلاف المواقع وتستعيد معظمها في الشتاء.3 ونظرًا لأن هذه المواقع تصبح مُغطَّاة بالثلوج في الشتاء، فيجب أن تتذكَّرها على خريطة مكانية لمنطقة تخزين الطعام لا أن تتذكَّر السِّمات المحلية الفريدة لكل بقعة. وعلى الرغم من أن الحُصين مسئول عن الذاكرة المكانية في كلٍّ من الثدييات والطيور، فإن هناك اختلافًا جذريًّا في البنية التشريحية للحُصين في الثدييات والطيور. وهذا يُنبئنا بأن الطريقة التي يتعامل بها الحُصين مع المعلومات المكانية قد تختلف اختلافًا جذريًّا بين المجموعتَين.

خلايا المكان في الحَمَام

زرع فريق بقيادة فيرنر بينجمان، من جامعة بولينج جرين في أوهايو، أقطابًا كهربائية دقيقة في حُصين الحمام لدراسة الإطلاق المكاني للخلايا العصبية الحُصَينِيَّة في الطيور. وبسبب مشكلات فنية، سجلوا النشاط العصبي للحمام أثناء وضع السير وليس أثناء الطيران. ومع ذلك، قدمت دراساتهم بياناتٍ نادرة وقيمة حول الإطلاق المكاني للخلايا العصبية الحُصَينِيَّة. هل يحتوي حُصين الحمام على خلايا مكان شأنه شأن حُصين الثدييات؟ الإجابة المُختصرة هي لا.4 لقد درَّبوا الحمام على السير في متاهةٍ على شكل علامة الزائد للحصول على الطعام في نهاية كلِّ مسار. ومن المُثير للاهتمام أن أنماط النشاط المكاني اختلفت بين الحُصين في نصف الدماغ الأيسر ونظيره في النصف الأيمن. كان بعض الخلايا العصبية في الحُصين الأيمن ينشط على نحوٍ تفضيلي في كثير من مواقع المكافآت (المعروفة باسم «خلايا الهدف») وكان بعضها في الحُصين الأيسر ينشط على نحوٍ تفضيلي على طول المسارات التي تربط بين موقعَين للمكافآت («خلايا المسار»). وهذا يشير إلى أن حُصين الحمام قد يكون معنيًّا فقط بمواقع الهدف النهائية (أي مواقع المكافآت) والمسارات المباشرة بينها.

توصل هذا البحث إلى نتيجةٍ أخرى مثيرة للاهتمام؛ وهي أن أنماط إطلاق الإشارات المكانية هذه تتضاءل بقدْر كبير إذا كانت مكافآت الطعام مُتناثرة عشوائيًّا في المتاهة. على النقيض من ذلك، تُظهِر الخلايا العصبية في حُصين الجرذ إطلاقًا مُحددًا بالمكان، بغضِّ النظر عما إذا كانت مكافآت الطعام متناثرة عشوائيًّا أو متوفرة فقط في مواقع مُحددة. وتُشير هذه النتائج أيضًا إلى الاختلاف بين الثدييات والطيور في الطريقة التي يُعالج بها الحُصين المعلومات المكانية ويمثلها.

يمكننا توليد عدد لا نهائي من المسارات المكانية، من خلال ترتيب خلايا المكان الموجودة في حُصين القوارض ترتيبًا تسلسُليًّا. في المقابل، سيكون من الصعب إنشاء مساراتٍ مكانية، بناءً على الإطلاق المتسلسل للخلايا العصبية المكانية الموجودة في حُصين الحمام. وهذا يلقي بظلال الشكِّ على تنفيذ عملية المحاكاة والاختيار في حُصين الحمام.

تطوُّر عملية المحاكاة والاختيار

يوضح الشكل (٧-٣) النقطة الأساسية في فرضيَّتنا وهي أن وظيفة المحاكاة والاختيار في الحُصين قد تطوَّرت لدى الثدييات البرية المُتنقلة؛ لأنها تحتاج إلى اختيار مساراتٍ مثالية بين موقعَين عشوائيَّين. غير أن هذه الحاجة لا تنطبق على الطيور؛ فهي تستطيع الطيران مباشرةً إلى موقع مُستهدف. وكثيرًا ما تواجِه الحيوانات البرية المتنقلة عقبات، مثل الأنهار والأشجار والصخور، تسدُّ المسار المُستقيم نحو موقع مُستهدف. ولذلك تحتاج إلى تذكر المسارات التي تتلافى هذه العقبات للوصول بطريقةٍ بارعة إلى الموقع المستهدف. غير أن معرفة جميع المسارات المثالية بين موقعَين عشوائيَّين في كل بيئة من خلال الخبرة تتطلب الكثير من الوقت والجهد. وإحدى الطرق لحل هذه المعضلة تتمثل في تعلُّم المسارات المثالية دون تنقل فعلي؛ أي إجراء محاكاة واختيار. وهذا من شأنه أن يفسر لماذا تطورت عملية المحاكاة والاختيار في الثدييات البرية المتنقلة دون الطيور.
fig15
شكل ٧-٣: التنقل الموجه نحو الهدف في الثدييات والطيور. تحتاج الثدييات البرية المتنقلة، دون الطيور، إلى تذكر المسارات المكانية. الشكل مستنسخ بتصريح من مين جونج وآخرين، «صورة الغلاف»، دورية «هيبوكامبوس» المجلد ٢٨، العدد ١٢ (ديسمبر ٢٠١٨).

قد يذهب البعض إلى أن حساب المسار الأمثل حسبما تقتضي الضرورة، بدلًا من إنفاق الوقت والطاقة مقدمًا لمعرفة عدد هائل من المسارات التي قد تُستخدَم أو لا تُستخدم في المستقبل؛ سيكون أكثر كفاءة. غير أن مثل هذه الاستراتيجية قد تكون قاتلةً في حالات الطوارئ، على الرغم من أنها ستكون فعَّالة من حيث الطاقة. على سبيل المثال، لنفترض أنك أرنب ترعى في حقلٍ بعيدًا عن جُحرك. عندما تدرك أن ثعلبًا يعتزم مهاجمتك، يجب أن تركض عائدًا إلى جحرك باستخدام أقصر طريقٍ متاح. قد يستغرق حساب المسار الأمثل وقتًا أطول من اللازم في ظرفٍ كهذا. وقد يُكلفك تأخير ثانية أو ثانيتَين حياتك. من شأن عملية محاكاة واختيار متقدمة أن تُحضِّرَك لتحديد مسارات التنقل المُثلى بين موقع انطلاق عشوائي وبين جحرك. لذلك، ورغم أن الأمر قد يستنزف الوقت والطاقة، فقد يكون تمثيل مساراتٍ مثالية من موقع انطلاق عشوائي إلى بضعة مواقع مستهدفة في كل بيئة؛ مفيدًا للبقاء. علاوة على ذلك، قد تتغير البيئة تغيرًا مستمرًّا. فقد يختفي العشب الوارف الكثيف الذي دائمًا ما يعوق طريقك في الشتاء، أو قد تظهر حفرة مياه عميقة على طريقك المُفضل بعد هطول أمطار غزيرة. ومن ثَمَّ، سيكون من المُفيد للبقاء أن تستمر في تحديث استراتيجياتك المُثلى. وإلا، فقد لا تتمكن الأنواع التي تتنقل عبر اليابسة من البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل.

بافتراض ذلك، ما أفضل وقت لأداء عملية المحاكاة والاختيار؟ بالطبع ليس عندما يطاردك حيوان مفترس. سيكون منطقيًّا أكثر أن يتم ذلك أثناء الراحة أو النوم عندما لا تكون بحاجةٍ إلى الانتباه إلى العالم الخارجي. ولعل هذا هو السبب في أن الحُصين، باعتباره جزءًا من شبكة الوضع الافتراضي، ينشط أثناء حالات الراحة. وبالنظر إلى أن الحُصين بِنية قديمة من الناحية التطورية، وأن نشاطه يتزامن عمومًا مع نشاط بقية الدماغ أثناء تموُّجات الموجة الحادة، فربما كانت عملية المحاكاة والاختيار عاملًا بالِغ الأهمية في تطوُّر شبكة الوضع الافتراضي. وكما استعرضنا في الفصل الأول، فإن شبكة الوضع الافتراضي تنشط بالتزامُن مع أنواع مختلفة من العمليات العقلية الداخلية، مثل استرجاع ذكريات من السيرة الذاتية، وأحلام اليقظة، واتخاذ القرارات الأخلاقية، ونظرية العقل، والتفكير التبايُني؛ ويُعتَقَد أن المحاكاة هي الأساس لكل هذه العمليات العقلية الداخلية.5

الحيتان والخفافيش

بالنظر إلى ما أذهب إليه من أن وظيفة المحاكاة والاختيار في الحُصين ربما تطوَّرت في الثدييات بسبب الحاجة الفريدة للتنقل لدى الثدييات البرية، فسيكون من المُثير للاهتمام فحص حُصين الثدييات التي تخلَّت عن التنقل الأرضي. لقد عادت الحيوانات من الرتبة الحوتية، مثل الحيتان، إلى البحر واكتسبت الخفافيش أجنحةً تُمكنها من الطيران. قد تكون احتياجات هذه الحيوانات لتخزين عددٍ كبير من مسارات التنقل المُحتملة أقل، مقارنةً بالثدييات البرية المُتنقلة. ما مدى تطور الإطلاق في خلايا المكان العصبية الحُصينية في الحوتيات؟ على حدِّ علمي، لم يسجل أحد أي بياناتٍ بشأن ذلك. ولكن هناك دراسات تبحث في تشريح حُصين الحوت. وقد وجدت هذه الدراسات أن حجمه النسبي أصغر كثيرًا مقارنةً بالثدييات الأخرى، مما يُشير إلى حدوث ضمور في حُصين الحوت في أثناء التطور.6 ومما يدعم هذا الاكتشاف احتمالية أن يكون حُصين الثدييات التي تجوب اليابسة قد تطور، للعثور على مساراتٍ مكانية مثالية بين موقعَين عشوائِيَّين يمكن استخدامها في المستقبل وتذكرها. وبالمقارنة، نجد أن الحوت نادرًا ما يواجِه عقباتٍ أثناء التنقل.
على الجانب الآخر، تمتلك الخفافيش حُصينًا متطورًا إلى حدٍّ كبير. علاوة على ذلك، وجدت الدراسات الفسيولوجية خلايا مكانية ثلاثية الأبعاد في حُصين الخفافيش.7 وهذا لا يدعم تفسيرنا التطوري لوظيفة المحاكاة والاختيار في الحُصين. لماذا تمتلك الخفافيش خلايا مكان واضحة، على عكس الحمام، على الرغم من قدرتها على الطيران؟ قد يكون السبب هو اختلاف نمَط حياة الخفاش عن نمط حياة الحمام؛ بحيث يكون من المفيد للخفافيش معرفة مسارات التنقل المُحتملة. على سبيل المثال، غالبًا ما تسكن الخفافيش أماكن مغلقة مثل الكهوف، وقد يكون الإلمام بمسارات تنقل متنوعة أمرًا تكيفيًّا في مثل هذه البيئة. ومن المعروف أيضًا أن الخفافيش أكثر تخصصًا في المناورة من الطيران مقارنةً بالطيور. ولذلك، قد تختلف سلوكيات التنقل لدى الخفافيش اختلافًا كبيرًا عن سلوكيات الطيور، مما يُشير إلى أن وظيفة المحاكاة والاختيار في حُصين الثدييات قد حُفِظَت في الخفافيش أثناء التطوُّر.

ثمة احتمال آخر يتمثل في وجود انفصال بين تمثيل الخريطة المعرفية وتمثيلات المسار. لم يُرصَد بعد حدوث إعادة تشغيل للمسارات المكانية في الحصين في أثناء فترات الراحة والنوم لدى الخفاش. ولذلك، من الممكن أن يمثل حُصين الخفاش خرائط معرفية للعالم الخارجي، تتجلَّى من خلال خلايا مكان واضحة، لكنها لا تؤدي وظائف المحاكاة والاختيار. أخيرًا، لا يُمكننا استبعاد احتمال أن خلايا المكان في حُصين الخفاش تؤدي وظائف أخرى غير رسم الخريطة المعرفية أو تمثيل المسار. فعادة ما تتحوَّل وظيفة قائمة إلى أخرى في أثناء التطور. على سبيل المثال، تطورت عظام السمع (العظام الصغيرة في الأذن الوسطى) لتؤدي وظيفة سمعية (تضخيم الإشارات الصوتية) من عظمة الفك الذي يؤدي وظيفةَ تغذية. ولا تزال الوظائف الدقيقة للخلايا المكانية الموجودة في حُصين الخفاش بحاجة إلى استجلائها.

القرقف المُعنقد، طائر مُخزن للطعام

على النقيض من الخفافيش والحيتان، تحتاج بعض الطيور إلى ذاكرة مكانية فائقة للغاية للبقاء على قيد الحياة. فالطيور المُخزِّنة للطعام، مثل كسار كلارك الذي ذكرناه في بداية الفصل، تخزن الطعام في آلاف الأماكن في الخريف وتستعيده بنجاحٍ في الشتاء. ومن المشكلات المرتبطة باسترجاع الطعام المُخزن من مواقع متعددة تسلسل زيارة هذه المواقع. وهذه مشكلة معروفة في مجال الذكاء الاصطناعي: مشكلة البائع المتجول، حيث يزداد عدد تسلسُلات الزيارات المُحتملة ازديادًا هائلًا مع زيادة عدد المواقع. لذا من المُمكن أن يكون الضغط التطوُّري قد نَفَّذ آليةً عصبية لحساب تسلسُلات الزيارة المُثلى في الطيور المخَزِّنة للطعام. وفي هذا الصدد، أظهرت دراسة أُجرِيَت على طائر قرقف المُستنقعات، وهو نوع آخر من الطيور المخَزِّنة للطعام، أنه يسترجع الطعام المُخَزَّن بالتسلسُل الذي خُزِّن به وليس عشوائيًّا.8 ويُشير هذا الاكتشاف إلى أن طائر قرقف المُستنقعات يسترجع الطعام المُخَزَّن ليس فقط بالنظر إلى المواقع المخزنة، ولكن أيضًا بالنظر إلى تسلسلات التنقل. ولكن كيف تحلُّ الطيور هذه المشكلات؟
على الرغم من أننا لا نعرف الإجابة بعد، فإن دراسة حديثة تُقدم مفتاحًا لهذه المسألة. فقد قارن فريق بقيادة ديميتري أرونوف، من جامعة كولومبيا، النشاط العصبي الحُصيني بين نوعَين من الطيور: الطيور المُخَزِّنة للطعام وغير المُخَزِّنة للطعام. أظهرت الخلايا العصبية الحُصينية في طائر القرقف المُعنقد المُخَزِّن للطعام نشاطًا محددًا بالمكان، يُضاهي نشاط خلايا المكان في حُصين الجرذ. في المقابل، كان نشاط الخلايا العصبية الحُصينية المُحدد بالمكان في طائر الحسُّون المُخطط، وهو طائر غير مخزن للطعام؛ أضعف كثيرًا.9 كذلك فشلت دراسة مُستقلة في العثور على خلايا المكان في حُصين السمان (علمًا بأن السمان يستطيع الطيران على الرغم من أنه يُفضل المشي على الأرض).10 وتشير هذه النتائج إلى أن حُصين طائر القرقف ربما تطوَّر ليقوم بتمثيل دقيق لتخطيط الحيِّز الخارجي المُحيط به؛ لتلبية المطلب البيئي (تخزين الطعام) بطريقةٍ مُماثلة للتمثيل المكاني في حُصين الثدييات. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن الطيور والثدييات يفصل بينها ٣١٠ ملايين سنة من التطوُّر، وأن خلايا المكان الواضحة نادرًا ما نجِدها في الطيور غير المُخَزِّنة للطعام (الحمام، والعصافير، والسمان)، فمن المرجَّح أن يكون هذا مثالًا على حدوث تطور تقارُبي (حيث تتطوَّر سمات متشابهة في أنواع مختلفة) وليس سِمة تطورية محفوظة بعمق. بعبارة أخرى، ربما تطوَّر حُصين القرقف لإظهار نشاطٍ مُحدد بالمكان بمعزل عن تطور حُصين الثدييات.

ومن الجدير بالذكر أنه لأول مرةٍ في الطيور، اكتشف فريق أرونوف تموُّجات موجية حادة في كلا النوعَين (طائر الحسون المُخطط والقرقف المُعنقد) أثناء النوم العميق. ما وظائف تموُّجات الموجة الحادة في الطيور؟ هل تطلق خلايا المكان إشارات عصبية في حُصين القرقف عبر مساراتٍ مكانية في أثناء النوم مثل خلايا المكان لدى الثدييات، مما قد يساعد الطائر في استعادة الطعام المُخبأ في تسلسلات الزيارة المُثلى؟ إذن كيف تطلق الخلايا العصبية في الحُصين لدى طائر الحسون المُخطط أثناء تموجات الموجة الحادة؟ ليس لدَينا حاليًّا إجابات على هذه الأسئلة. ولا نستطيع أن نستبعِد احتمال أن يكون حُصين طائر القرقف قد تطور لأداء عملية المحاكاة والاختيار في أثناء النوم، من خلال الاستفادة من تموُّجات الموجة الحادة الموجودة. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يكون هذا مثالًا على التطوُّر التقاربي لعملية ذهنية معقدة للغاية.

التطوُّر والتنوع الحيوي

تلخيصًا لما سبق، ليس من الواضح تمامًا كيف تطوَّر حُصين مجموعتَين حيوانيَّتَين متباعدتَين تطوريًّا، هما الطيور والثدييات، للتعامل مع المعلومات المكانية خلال التكيف مع البيئات الإيكولوجية المتنوعة. فالتطور ليس نظامًا يسير في اتجاهٍ واحد؛ بل هو نظام يُشجع التغييرات في أي اتجاه يساعد الأنواع على تدعيم قدرتها على البقاء. فقد يفقد نوع ما وظيفةً قائمةً أو يكتسب وظيفةً جديدةً في خضمِّ هذه العملية. وتاريخ مثل هذه العمليات المُستمرة يُمثل التنوع الحالي للحياة. فيوجد نحو خمسٍ وثلاثين شعبة في مملكة الحيوان. ونحن ننتمي إلى شعبة الحبليَّات، التي تتألف من ثلاث شُعَب فرعية. وتُمثل الفقاريات واحدةً منها. ومن بين الشعبتَين المُتبقيتَين، تعتبر الحبليات أقرب إلى الفقاريات على صعيد التطوُّر السلالي. وهكذا تكون الحبليَّات أقرب جار للفقاريات من حيث التاريخ التطوري.

fig16
شكل ٧-٤: بَخَّاخات البَحْر. الشكل مستنسخ من مقال نيك هوبجود، «بَخَّاخات البَحْر»، ويكيميديا كومنز، تم التحديث في ٢٠ أبريل ٢٠٠٦، https://commons.wikimedia.org/w/index.php?curid=4590928 (CC BY-SA 3.0).
يوضح الشكل (٧-٤) مثالًا لأحد أنواع شعبة الحبليات، وهي بَخَّاخات البَحْر (الزقيات البحرية). من المدهش في هذه الكائنات أنها لاطِئة (ثابتة في مكانٍ واحد) وتبدو أقرب إلى شقائق النعمان البحرية، وهي حيوانات تقع في مرتبةٍ أدنى بكثير في شجرة تطور السلالات من الفقاريات. تظهر بخاخات البحر جميع خصائص الحبليات (أي الحبل الظهري، والحبل العصبي الظهري، والفتحات الخيشومية، والذيل خلف الشرجي) في أثناء النمو، ولكنها تفقد هذه الخصائص والقدرة على الحركة في أثناء النمو. يوضح مثال الحبليات إلى أي مدًى يمكن أن تتغير السمات البيولوجية ومدى التنوع الذي يمكن أن تبلغه في أثناء التطور. ربما تكون وظيفة المحاكاة والاختيار للمسارات المكانية المُحتملة قد فُقِدَت أو اكتُسِبَت في أثناء التطور. وحتى الآن، تقتصر دراساتنا عن التمثيل المكاني وإعادة التشغيل في الحصين على عددٍ قليل من الأنواع الحيوانية. وسوف تتضح الصورة أكثر مع توسيع نطاق أبحاثنا حول الحُصين لتشمل مزيدًا من الأنواع الحيوانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥