في الفصل السابع، تناولنا فكرة أن حُصين الثدييات
قد تطوَّر لمحاكاة (أي تخيُّل) مسارات مكانية جديدة
لتلبية المُتطلبات البيئية الفريدة للتنقل البري.
لا يقتصر الخيال البشري، بطبيعة الحال، على استكشاف
مسارات مكانية جديدة. قد نتخيَّل قصة طبيب وقع في
حُب امرأتَين أثناء اضطرابات الثورة الروسية، أو
نتخيل حلًّا جديدًا لفرضية ريمان، أو نتخيل
تعبيراتٍ فنية تُجسِّد الوحدة الوجودية، أو نتخيَّل
أنفسنا نُراقب ساعةً أثناء الانتقال بسرعة الضوء،
وما إلى ذلك. ولعلَّ قُدرتنا غير المحدودة على
التخيل باستخدام مفاهيم شديدة التجريد هي العنصر
الأهم في قُدرتنا العقلية التي تجعلنا مُبتكرين
للغاية.
التفكير المجرد
كيف اكتسب البشر، تحديدًا الإنسان المبتكر
(هومو إينوفاتيكوس)، هذه القدرة؟ لقد جادلتُ
بأن الحُصين لدى الثدييات البرية المُتنقلة قد
تَطَوَّر لمحاكاة مسارات تنقُّل متنوعة. وإذا
كان الأمر كذلك، فإن الخيال في حدِّ ذاته ليس
ملَكةً عقلية ينفرد بها البشر. كذلك إذا أخذنا
في الاعتبار أن الحُصين لا يُعالج المعلومات
المكانية فحسب، بل أيضًا المعلومات غير
المكانية حتى في الجرذان، فإن محتوى خيال
الحيوانات ربما يشمل كِلا المكونَين.
1 لذا من المُحتمَل أن تكون القدرة
على تخيل الأحداث المستقبلية، سواء المكانية أو
غير المكانية، وظيفة مشتركة بين أغلب الثدييات.
وإن كان الأمر كذلك، فإن قدرتنا الفائقة على
الإبداع لا يُحتمَل أن يكون مرجعها قُدرتنا
الفريدة على تخيُّل الأحداث المستقبلية.
والاحتمال الأرجح أنها ترجع إلى قدرتنا
الاستثنائية على التجريد العالي المستوى.
بعبارة أخرى، ربما يكون تفوق الإبداع البشري هو
نتاج الجمع بين التفكير المجرد العالي المستوى
ووظيفة التخيُّل القائمة بالفعل.
يشير التفكير المجرد إلى القدرة المعرفية على
استخلاص مفاهيم أو مبادئ عامة من حالات فردية.
فهو يُتيح لنا تشكيل ومعالجة مفاهيم لا ترتبط
مباشرةً بأشياء أو أحداث مادية ملموسة، مثل
الحب، والأعداد التخيلية، والديمقراطية،
والإرادة الحرة. وهو ليس ملَكة عقلية ينفرد بها
البشر؛ فالتفكير المجرد مُتغلغل في المملكة
الحيوانية. والطبيعة ليست عشوائية. فحيوانات
كثيرة تتوصَّل إلى أنماط ثابتة ودائمة في
بيئتها، وتُمثلها في صورة قواعد عامة، وتتصرَّف
وفقًا لها من أجل تعظيم فُرَص البقاء والتكاثر.
كما أن حيوانات كثيرة تستوعب المفاهيم المجردة
مثل الأرقام، ولديها القدرة على الاستدلال
الانتقالي (على سبيل المثال، إذا كان «أ» أكبر
من «ب» و«ب» أكبر من «ج» فإن «أ» أكبر من «ج»)،
وتُظهِر سلوكياتٍ تُوحي بالوعي الذاتي ونظرية
العقل (القدرة على عزو الحالات العقلية، مثل
المعتقدات والنوايا، إلى الآخرين؛ على سبيل
المثال، «أنا أعرف ما تُفكر فيه»؛ انظر الفصل
الأول).
2 كذلك وجدَت دراسات عصبية فسيولوجية
نشاطًا عصبيًّا مرتبطًا بالتصنيفات والعلاقات
المعرفية المتطورة المُعقدة والقواعد السلوكية
والتفاعُلات الاجتماعية في الجرذان
والقرود.
3 وسيُعرَض مثالٌ مُحدَّد للتمثيل
العصبي لمفهوم مجرد (الإدراك العددي) في الفصل
التاسع.
إذا
نظرنا في كيفية تخزين شبكة عصبية للتجارب
باعتبارها ذكريات، فيُمكننا الاعتراف بأن
التجريد أمر لا مفرَّ منه حتى في الحيوانات.
ويعتقد الباحثون عمومًا أن الشبكات العصبية
تُخزن ذكريات مُتعددة بطريقةٍ متداخلة
ومُوزَّعة (انظر الشكل
٨-١
وأيضًا الشكل
٤-٣). إذا
تعرضت شبكة عصبية للعديد من المُثيرات
المُتشابهة (مثل عدد كبير من السيارات)، فإن
تلك المشابك العصبية (أي الوصلات العصبية) التي
تنشط بفعل السِّمات المشتركة بين هذه المُثيرات
(على سبيل المثال، «كونها سيارة») سوف تُعزَّز
أكثر مِن المشابك العصبية الأخرى؛ لأنها سوف
تُنشَّط على نحوٍ متكرِّر. بعد ذلك سوف
تُنَشَّط الخلايا العصبية التي تحتوي على عددٍ
كبير بما فيه الكفاية من المَشابك المُعزَّزة
على نحوٍ تفضيلي بواسطة أيٍّ من هذه المُثيرات.
بعبارة أخرى، سوف تستجيب بعض الخلايا العصبية
لأي سيارة، سواء كانت مألوفة أو جديدة؛ لأنها
سوف تستجيب للسِّمات المشتركة للسيارات بعد
التعرُّض لخبرات كافية. وهذا يُمَكِّننا من
تعرُّف شيء لم نرَه من قبل قطُّ باعتباره
سيارة. وكما يوضح هذا المثال، يُعتقَد أن
التعميم، الذي يُعَد شكلًا من أشكال التجريد،
خاصية تنشأ تلقائيًّا للشبكة العصبية في
الحيوانات والبشر.
التجريد الفطري
يشكِّل مثال السيارة حالةً من حالات «التجريد
التجريبي». كذلك وجدت الدراسات العصبية
الفسيولوجية أدلةً على «التجريد الفطري» لدى
الحيوانات. فقد زعم الفيلسوف الألماني إيمانويل
كانط في القرن الثامن عشر أن البشر يُولَدون
بمبادئ إدراك فطرية. وهذا يتناقَض مع منظور
الفلسفة التجريبية، التي تعود إلى أرسطو؛ حيث
تأتي المعرفة في المقام الأول من الخبرات
الحسِّية وليس الإدراك الفطري. وزعم كانط، في
معرض مقارنته لفرضيته الفلسفية بالثورة
الكوبرنيكية، أنَّنا نفهم العالم الخارجي ليس
فقط على أساس الخبرات، ولكن أيضًا على أساس
«المفاهيم القبلية»؛ أي الأشياء التي يُمكن
فهمها بمعزِل عن الخبرة.
4 وذهب إلى أن المكان والزمن هما محض
«حدس» وليسا من خصائص الطبيعة.
5 ونحن نعتبر المكان والزمن كيانَين
مادِيَّين يمتدَّان بشكلٍ مُوحَّد ولا نهائي في
إحداثيات ديكارتية؛ لأن هذه هي الطريقة التي
نختبر بها الطبيعة (أي البِنية الفطرية
للإدراك).
بعد مرور أكثر من قرنَين منذ نشْر كانط
لكتابه المؤثِّر «نقد العقل الخالص» في عام
١٧٨١، وجد علماء الأعصاب أدلةً على حدس الإدراك
المكاني لدى الجرذان. فقد وجد عالِما الأعصاب
النرويجيَّان إدفارد موزر وماي بريت موزر،
اللذان تقاسَما جائزة نوبل مع جون أوكيف في عام
٢٠١٤، «خلايا شبكية» في القشرة الشمِّية
الداخلية لدى الجرذان، التي تُعَد البوابة
الرئيسة للحُصين (إذ يتصل الحُصين ببقية القشرة
المخية في الغالِب عبر القشرة الشمِّية
الداخلية؛ انظر الشكل
٤-١).
6 تُطلِق خلية شبكية واحدة إشارات
دورية في مواقع مُتعددة لتُشكِّل نمطًا شبكيًّا
سُداسيًّا من نشاط النبضات بينما يتجول الجرذ
في كلِّ حيِّز (انظر الشكل
٨-٢). ويُشير هذا الاكتشاف
إلى حدوث تمثيلٍ متري للحيز الخارجي المُحيط في
القشرة الشمِّية الداخلية.
والأمر
المُهم هو أن أي خلية شبكية تحافظ على نفس نمَط
الإطلاق الشبكي السُّداسي في جميع المساحات.
فإذا سجلتَ نشاط خلية شبكية واحدة في غرفتَين
مختلفتَين، فسيُلاحَظ النمط نفسه في كلتَيهما
(فيما يعرف بعمومية الإطلاق في الخلايا
الشبكية). الفرق الوحيد هو اتجاه النمط العام
للإطلاق في الخلايا الشبكية عبر الغرفتَين
(انظر الشكل
٨-٣)، مما
يدلُّ على أن بِنية التمثيل المكاني في القشرة
الحسية الداخلية متطابقة بغض النظر عن مكان
وجودك. علاوة على ذلك، إذا سجَّلتَ خلايا شبكية
متعددة في وقتٍ واحد، فستجد أن علاقاتها
المكانية محفوظة عبر بيئاتٍ متعددة. بعبارة
أخرى، تدور جميع أنماط الإطلاق في الخلايا
الشبكية بالدرجة نفسِها عندما يُنقَل حيوان من
بيئةٍ إلى أخرى. وتؤكد هذه الملاحظة بشكلٍ أكبر
الاستنتاج القائل بأن القشرة الشمِّية الداخلية
تُمثل جميع الأحياز الخارجية المُحيطة بالبِنية
نفسها، وهو ما يتَّفق مع فكرة وجود قاعدة
قبْلية للإدراك المكاني.
تتكوَّن القشرة الشمِّية الداخلية من قسمَين:
أوسط وجانبي. وتوجَد الخلايا الشبكية في القسم
الأوسط فقط. في القسم الجانبي، تستجيب الخلايا
العصبية للأشياء التي تُواجهها في كل بيئة، مثل
معْلَمٍ بصري، مما يُشير إلى أنها تُشفر تفاصيل
البيئة.
7 تتجمَّع المدخلات من القشرة الشمية
الجانبية والوُسطى في الحُصَين. وهكذا، يبدو أن
الحُصَين يجمع بين نوعَين مختلفَين من المدخلات
فيما يتعلق بالإدراك المكاني؛ أحدُهما يحمِل
تمثيلًا متريًّا عامًّا للحيِّز الخارجي
المُحيط (القشرة الشمِّية الداخلية الوسطى)،
والآخر يحمل معلوماتٍ حول تفاصيل بيئةٍ ما
(القشرة الشمِّية الداخلية الجانبية). وهذا
يُشير إلى أن الحُصين يجمع بين نوعَين مختلفَين
من المعلومات: المعرفة البنيوية المُجرَّدة
والتجارب الحسِّية الفردية التي تُوفِّرها
القشرة الشمِّية الداخلية الوسطى والجانبية على
الترتيب (انظر الشكل
٨-٤).
وقد أظهرت دراسات أُجرِيَت على البشَر أن
الخلايا الشبكية قد لا تُشفر المعلومات
المكانية فحسب، وإنما أيضًا المعرفة المفاهيمية
في نمط نشاطٍ يُشبه النشاط الشبكي.
8 وقد دفعت هذه النتائج تيموثي
بيرينس وزملاءه إلى افتراض أن القسمَين الأوسط
والجانبي للقشرة الشمِّية الداخلية، على
الترتيب، يحمِلان معرفةً بنيوية مجردة وتجارب
حسِّية فردية بما يتجاوز المجال
المكاني.
9 وتتوازى هذه الفكرة مع فرضية كانط
بأننا نفهم العالم من خلال التفاعُل بين
التجارب والمفاهيم القبلية المُسبقة.
10
التفكير المجرد عند البشر
يمتلك البشر، إلى جانب حيواناتٍ أخرى أيضًا،
القدرة على التفكير المجرد. وقد عرف الباحثون
الكثير عن العمليات العصبية التي تدعم التجريد
عند الحيوانات. غير أنه لا يُوجَد حيوان آخر
قادر على التفكير المجرد العالي المستوى الذي
يتمتع به البشر. فقُدرتنا على التجريد العالي
المستوى مذهلة مقارنةً بالحيوانات الأخرى.
واللغة مثال رئيسي على ذلك. فنحن نُعالج الرموز
وفقًا للقواعد النحوية في استخدامنا اليومي
للغة. يمكن للحيوانات الأخرى، بالطبع، التواصُل
فيما بينها. غير أنه ما من أي نظام تواصُل
حيواني يقترب بأي حالٍ من تعقيد اللغة البشرية
ومرونتها. مُجمل القول أن الحيوانات قادرة على
التفكير المجرد، وأغلب الظنِّ أنها قادرة على
التخيُّل في المجال المجرد. غير أن التفكير
المجرد والخيال لدَيها سيكونان أكثر محدوديةً
بكثيرٍ منَّا.
عادة ما تتخطَّى عملية التفكير لدينا
المجالات المادية والمُجردة. لقد وُلِدنا
بقُدرة فطرية على التفكير المجرد؛ لذلك لا
نحتاج إلى بذْل جهد لفعل ذلك. ولتوضيح هذه
النقطة، دعونا نتناول «خطأ التصنيف» الذي طرحه
الفيلسوف الإنجليزي الشهير جيلبرت
رايل.
11 قدم رايل الفكرة في إطار دحضه
للثنائية الديكارتية، التي تزعم أن العقل
والجسد كيانان مُنفصلان. فما هو خطأ التصنيف
إذن؟ لنفترض أن صديقك يأخذك في جولة في أرجاء
جامعته. فيُريك المكتبات والكافيتريات ومساكن
الطلاب والمُختبرات وقاعات المحاضرات. الآن
تسأله: «ولكن أين الجامعة؟» إن الجامعة تتألَّف
من مجموع هذه الأشياء معًا بطبيعة الحال.
فالجامعة هي مجموعةٌ من المؤسسات التي قد تكون
أو لا تكون موجودة داخل مَبانيها. يوضح هذا
المثال خطأً دلاليًّا، حيث تُعامَل أشياء تنتمي
إلى فئتَين وجوديتَين مختلفتَين (الجامعة في
مقابل مبانيها) كما لو كانت تنتمي إلى الفئة
نفسِها. ما الخطأ في قول: «هناك ثلاثة أشياء في
الحقل: بقرتان وزوج من الأبقار»؟
12 إنه خطأ تصنيفي بالطبع. بالمِثل،
فإن وضع «العقل» و«الجسد» في الفئة نفسها
وافتراض وجودهما ككيانَين منفصلَين سيكون
مثالًا على وجود خطأ تصنيفي.
في اعتقادي، تكشف هذه الأمثلة عن ميلِنا
الفطري إلى خلط المفاهيم المادية والمجردة
واعتبار الكيانات المجردة (مثل «الجامعة»
و«العقل») وكأنها موجودة بوصفها كياناتٍ مادية
(مثل «المكتبة» و«الجسد»). ربما كان هذا نتيجة
قُدرتنا على التفكير بسلاسةٍ باستخدام كلٍّ من
المفاهيم المادية والمجردة. وقد لا تختلف
التمثيلات العصبية للكيانات المادية والمجردة
وفقًا للدماغ. فهذه التمثيلات، في نهاية
المطاف، تُنَفَّذ ببساطةٍ من خلال تغيُّرات في
الروابط العصبية (انظر الشكل
٤-٢) وأنماط النشاط العصبي.
ومما يُعزِّز هذا المنظور ذلك الرأي القائل بأن
القدرة البشرية على الابتكار هي نتاج طبيعي
لإضافة القدرة على التجريد العالي المستوى،
التي ينفرد بها البشر، إلى القدرة على التخيل،
المشتركة بين جميع الثدييات.
كم عدد الخلايا العصبية في القشرة
المخية؟
كيف اكتسب البشر القدرة على التجريد العالي
المستوى؟ من السِّمات المميزة للدماغ البشري
حجمه. فنحن نمتلك أدمغةً كبيرة مقارنة بأدمغة
الحيوانات الأخرى، من ضِمنها الرئيسيات غير
البشرية. على سبيل المثال، يبلغ حجم دماغ
الإنسان ثلاثة أضعاف حجم دماغ الشمبانزي. وكلما
كان حجم الدماغ أكبر ووظَّف عددًا أكبر من
الخلايا العصبية، أتاح ذلك قوة معالجة أعلى.
بعبارة أخرى، يُشكل الحجم عاملًا مُهمًّا في
العلاقة بين الدماغ والذكاء.
ولكن الحجم ليس كل شيء. فالأفيال والحيتان
تمتلك أدمغةً أكبر وعددًا أكبر من الخلايا
العصبية مقارنةً بالإنسان. ومع ذلك فإن ذكاءنا
يفوق ذكاء تلك الحيوانات. كيف يمكن هذا؟ أمضت
عالِمة التشريح العصبي المُقارن سوزانا
هيركولانو-هوزيل سنواتٍ في حصر أعداد الخلايا
العصبية في مناطق مختلفة من الدماغ على مستوى
مجموعةٍ كبيرة من الأنواع الحيوانية. وتُشير
دراساتها إلى أن طريقة توزيع الخلايا العصبية
في الدماغ تختلف إلى حدٍّ كبير بين الأنواع
الحيوانية. على سبيل المثال، تمتلك الأفيال
دماغًا أكبر ثلاث مراتٍ من أدمغتنا؛ ولذلك
لديها عددٌ أكبر من الخلايا العصبية في الدماغ
مقارنةً بنا. وفي المُخيخ، الذي يلعب دورًا
بالِغ الأهمية في التحكُّم في الحركة والوضعية،
تمتلك الأفيال عددًا أكبر بكثيرٍ من الخلايا
العصبية (٢٥١ مليارًا) مقارنةً بالبشر (٦٩
مليارًا).
13 غير أن الصورة تتغير إذا فحصنا
القشرة المخية. فالبشَر لديهم نحو ثلاثة أضعاف
عدد الخلايا العصبية (١٦ مليارًا) الموجودة لدى
الأفيال (٥٫٦ مليارات).
14 بل إن البشر يملكون خلايا عصبية في
القشرة المخية أكثر من أي حيوانٍ آخر على هذا
الكوكب. وبينما يحوي المخيخ لدى البشر نحو ٨٠
في المائة من الخلايا العصبية في الدماغ، فإنه
يُشكل ١٠ في المائة فقط من كتلة الدماغ. من
ناحية أخرى، تحتوي القشرة المخية على أقلَّ من
٢٠ في المائة من جميع الخلايا العصبية، ومع ذلك
تُشَكِّل نحو ٨٠ في المائة من كتلة الدماغ.
ويرجع هذا إلى أن القشرة المخية تحتوي على
خلايا عصبية أكبر، وروابط عصبية أكثر، وعدد
أكبر من الخلايا الدبقية مقارنة
بالمخيخ.
15 ونتيجةً لذلك، تحتوي القشرة المخية
على دوائر عصبية مُعقَّدة بشكلٍ لا يُصدَّق.
وبالنظر إلى الدور المحوري للقشرة المُخِّية في
دعم الوظائف المعرفية المُتقدمة، يبدو أن
البشَر في غاية الذكاء ومُتقدِّمون معرفيًّا
نتيجةً لقشرتهم المخيَّة المتطورة إلى حدٍّ
كبير.
تشير دراسات هيركولانو-هوزيل إلى ميزتَين
ساعدتا البشر على امتلاك أكبر عددٍ من الخلايا
العصبية في القشرة المخية.
16 الأولى أننا ننتمي إلى الرئيسيات.
وكثافة تعبئة الخلايا العصبية في القشرة المخية
أعلى كثيرًا لدى الرئيسيات عنها لدى الثدييات
الأخرى. فالشمبانزي، الذي هو أصغر حجمًا بكثير
من الفِيَلة، لدَيه نفس العدد تقريبًا من
الخلايا العصبية القشرية (٦ مليارات مقارنة ﺑ
٥٫٦ مليارات). كما أن إنسان الغاب والغوريلا،
الأصغر حجمًا بكثير من الفيلة، لديهما عدد أكبر
من الخلايا العصبية القشرية (٩ مليارات). ومن
ثَمَّ، يبدو أن الرئيسيات قد وجدت طريقة
فعَّالة لتعبئة عدد أكبر بكثير من الخلايا
العصبية في القشرة المخية مقارنةً بالمجموعات
الحيوانية الأخرى في أثناء التطور.
الميزة الثانية هي أننا نمتلك الدماغ الأكبر
بين جميع الرئيسيات. وهذا الدماغ الكبير الحجم،
مُقترنًا بتلك الخلايا العصبية القشرية
المضغوطة للغاية، يسمح لنا بامتلاك أكبر عددٍ
من الخلايا العصبية في القشرة المخية (١٦
مليارًا) مقارنةً بأي حيوان على وجه الأرض
(انظر الشكل
٨-٥).
توسُّع القشرة المخية الحديثة
يمكن تصنيف القشرة المخية إلى أقسامٍ تطورية
مُتمايزة. وتشمل هذه الأقسام القشرة البدائية
(الحُصين)، والقشرة القديمة (القشرة الشمِّية)،
والتي تُمثل أقسامًا أقدم، بالإضافة إلى القشرة
الحديثة، التي تُمثل قسمًا أحدث (تجدُر الإشارة
إلى أن مصطلح «القشرة المخية» يُستخدَم عادةً
للإشارة إلى القشرة الحديثة، كما في الفصل
الرابع). هل الحرية التي نحظى بها في التخيُّل
باستخدام مفاهيم مجردة عالية المستوى ترجع إلى
أن الحُصين (القشرة المخية البدائية) لدَينا
يتمتَّع بسماتٍ خاصة غائبة في الحيوانات
الأخرى؟ كما بحثنا في الفصل السابع، تتشابَه
بِنية الحُصين تشابُهًا ملحوظًا في جميع
الثدييات، ومن ضِمنها البشر (انظر الشكل
٧-١). كذلك، وكما ناقشنا في
الفصل الأول، الضرر الذي يلحق بالحُصين لا
يمسُّ معظم وظائف المخ الأخرى بخلاف الذاكرة
والخيال إلى حدٍّ كبير. علاوة على ذلك، تعمل
إصابات الحُصين على تغيير محتوى العقل في حالة
الشرود من أفكار واضحة ومُتقطعة إلى أخرى
دلالية ومجردة.
17 ومن ثَمَّ، فمن غير المُرجَّح أن
تكون طبيعة الحُصين البشري المميزة وراء القدرة
البشرية الفريدة على التخيُّل باستخدام
المفاهيم المجرَّدة العالية المستوى.
من أبرز الفروق بين أدمغة البشر وأدمغة
الحيوانات الأخرى هو الحجم النسبي للقشرة
المخِّية الحديثة. تشكل مساحة سطح الحُصين ما
بين ٣٠ و٤٠ في المائة من إجمالي مساحة سطح
القشرة المخية لدى الفئران، ولكنها لا تُشكل
سوى ١ في المائة لدى البشر. ويرجع هذا إلى أن
القشرة المخية الحديثة اتَّسعت إلى حدٍّ كبير
لدى الرئيسيات، وخاصةً البشر. فقد تطوَّرت
الرئيسيات منذ أكثر من ٦٠ مليون سنة؛ وتطوَّرت
القردة العُليا من القردة الأفريقية منذ أكثر
من ٣٠ مليون سنة؛ وتباعدت القردة العُليا عن
قردة الجِبَّوْن منذ أكثر من ٢٠ مليون سنة؛
وانفصل البشر (أشباه البشر) وقردة الشمبانزي عن
آخر أسلافهم المُشتركين منذ ٦ إلى ٨ ملايين
سنة.
18 ولم تنْمُ أدمغة أسلافنا (أشباه
البشر) كثيرًا لبضعة ملايين من السنين بعد
الانفصال عن الشمبانزي. غير أن دماغ البشر
اتَّسع توسعًا هائلًا، من نحو ٣٥٠ جرامًا إلى
١٣٠٠–١٤٠٠ جرام، خلال المليونَين إلى الثلاثة
ملايين سنة الماضية. وهذا يُعَد نموًّا سريعًا
على نحوٍ غير عادي في المقياس الزمني
الجيولوجي. فثلاثة ملايين سنة لا تُمثل إلا ٥
في المائة من تاريخ تطوُّر الرئيسيات، ولكن حجم
أدمغة البشر تضاعف أربع مراتٍ خلال هذه الفترة
القصيرة نسبيًّا.
19 ويرجع هذا النموُّ إلى حدٍّ كبير
إلى توسُّع القشرة المخية الحديثة، التي تشغل
نحو ٨٠ في المائة من حجم الدماغ البشري. وكانت
الثدييات الأولى تمتلك قشرةً مخيَّة حديثة
ضئيلة ونحو عشرين منطقة قشرية متمايزة، ولكن
البشر في الوقت الحاضر لديهم نحو مائتي منطقةٍ
قشرية حديثة.
20 وهذا يُشير إلى أن التوسُّع السريع
للقشرة المُخيَّة الحديثة كان القوة الدافعة
الأساسية للتخصُّص المعرفي البشري.
وعلى الرغم من أن حجم القشرة المخية الحديثة
يتباين تبايُنًا واسعًا بين الثدييات، فإن
بِنية الدوائر العصبية الأساسية مُتشابهة إلى
حدٍّ كبير في جميع مناطق القشرة المخية الحديثة
لدى الثدييات (انظر الشكل
٨-٦). وتدعم هذه الدوائر
العصبية المُشتركة الخاصة بالقشرة المخية
الحديثة مجموعة كبيرة من وظائف الدماغ مثل
البصر والسمع وإحساس اللمس والتحكُّم في الحركة
وفهم اللغة والتفكير. وهذا يُشير إلى أن
البِنية المشتركة للدوائر العصبية الخاصة
بالقشرة المخية الحديثة هي وحدة معالجة فعَّالة
مُتعددة الأغراض يمكن استخدامها بمرونةٍ
لمجموعة متنوِّعة من الأغراض. وفي هذا الصدد،
أوضح برادلي شلاجار ودينيس أوريلي أن شريطًا من
القشرة البصرية (الضرورية للرؤية) مزروعًا في
القشرة الحسِّية الجسدية (الضرورية لإحساس
اللمس) في الجرذان الحديثة الولادة يتطوَّر إلى
قشرة حسِّية جسدية وظيفية.
21 وهكذا، يظلُّ هناك احتمال أن
القشرة المخية الحديثة البشرية تتمتَّع بسِماتٍ
فريدة، مثل وجود خلايا عصبية متخصِّصة تساهم في
قدراتنا المعرفية المتقدمة، إلا أن الاحتمال
الأرجح أن يكون السبب في تطوُّر القشرة الحديثة
البشرية هو تكرار الدوائر العصبية الموجودة
وليس اختراع أخرى جديدة. تنظم بعض الجينات نشاط
جيناتٍ غيرها. وبعضها يُنَشِّط أو يوقِف نشاط
جيناتٍ أخرى في أوقاتٍ مُحددة أثناء نموِّ
الدماغ. ويمكن أن تؤدي الطفرات في هذه الجينات
إلى تغييراتٍ جذرية في التنظيم العام للدماغ.
ربما كان الضغط التطوُّري خلال الثلاثة ملايين
سنة الماضية لصالح اختيار الطفرات التي وسَّعت
القشرة الحديثة من خلال تعزيز تكرار الدوائر
العصبية القشرية الحديثة المشتركة.
ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن كِبر حجم
الدماغ له ثمن. إنه يمنحك المزيد من قوة
المعالجة، ولكنه يحتاج إلى المزيد من الطاقة
لصيانته، وهو أمر إشكالي بالنظر إلى أن الدماغ
عضو مُكلف من الناحية الأيضية. ووفقًا لإحدى
النظريات المؤثرة، وهي فرضية الأنسجة المُكلفة،
حَلَّ البشر هذه المشكلة من خلال اتباع نظامٍ
غذائي عالي الجودة ومن ثَمَّ تقليل حجم عضوٍ
آخر يحتاج إلى طاقة، وهو الأمعاء.
22 يتَّفق علماء كثيرون على أن نظامًا
غذائيًّا عالي الجودة أو زيادة كفاءة البحث عن
الطعام ربما ساعدا في زيادة حجم الدماغ، ولكنهم
يختلفون حول كيفية تحقُّق ذلك بالضبط. ووفقًا
لإحدى الفرضيات المؤثرة، فإن استخدام النار (أي
الطهي) أدَّى إلى زيادة محتوى السعرات الحرارية
الموجود في الطعام.
23 غير أن حجم الدماغ ازداد زيادةً
مُطَّردة في سلالة أشباه البشر على مدى الثلاثة
ملايين سنة الماضية أو نحو ذلك، في حين أن أقدم
الأدلة المُتاحة على استخدام النار تُرجِع
تاريخه إلى مليون سنة فقط. ومن غير الواضح
أيضًا ما إذا كان الطهي يُعزِّز بقدْر كبير من
توافر السعرات الحرارية في اللحم.
24 ومن ثَمَّ، فإن القوة الدافعة
الدقيقة لتوسُّع القشرة المخية الحديثة في
سلالة أشباه البشَر لا تزال بحاجةٍ إلى
توضيح.
حوار الحُصين والقشرة المخية
الحديثة
لا يعمل الحُصين والقشرة المخية الحديثة
أحدهما بمعزِل عن الآخر، بل يتفاعلان عن كثب.
يُعَد الحُصين من بين أرقى قشرات الارتباط،
ويقع بعيدًا عن القشرتَين الحسِّية والحركية
الأولَيَين. يتفاعل الحُصين مع العالم الخارجي
في المقام الأول من خلال تفاعلاته مع القشرة
المخية الحديثة. ولذلك، فمحتوى الذاكرة والخيال
الذي يتعامل معه الحُصين لا بد أن يتحدَّد من
خلال المعلومات التي توفرها القشرة المخية
الحديثة. لذا من المنطقي أن يكون توسع القشرة
المخية الحديثة قد أدى إلى ارتقاء القدرة
المعرفية بحيث أصبح البشَر قادرين على التخيُّل
في المجالات المكانية وغير المكانية، من ضمنها
تلك التي تتعامَل مع المفاهيم المُجرَّدة
العالية المستوى.
فيما يلي مُلخص لأفكاري حول كيفية اكتساب
البشر للقدرة على التخيُّل بحُرية باستخدام
المفاهيم المجردة العالية المستوى. لقد تطوَّرت
وظيفة التخيُّل في الحُصين؛ أي وظيفة المحاكاة
والاختيار، لدى الثدييات البرية المُتنقلة
لتلبية الحاجة إلى تمثيل طرُق التنقُّل المُثلى
بين نقطتَين عشوائيتَين في منطقةٍ ما. بعد ذلك
اتَّسع محتوى الخيال من مساراتٍ مكانية إلى
وقائع عامة مع توسع القشرة المخية الحديثة.
وعلى وجه الخصوص، سمح التوسع الهائل للقشرة
المخيَّة الحديثة للدماغ البشري بالتفكير
والتخيُّل باستخدام مفاهيم مجردة عالية المستوى
(التفكير الرمزي). وأدى هذا إلى ابتكاراتٍ
ثقافية وتكنولوجية من ضِمنها تنظيم مُجتمعات
كبيرة.
25 ومن أبرز ما يُميز تطوُّر الدماغ
فيما يتَّصل بالتفكير المجرد قدرته اللغوية.
فاللغة تسمح للبشر بالتعبير عن الأفكار
المُجردة مثل النظريات والمشاعر. وسرَّعَت
اللغات المكتوبة، على وجه الخصوص، وتيرة
الابتكار من خلال تسهيل تراكم المعرفة (انظر
الشكل
١). ومن المُحتمَل
أن هذه العواقب المُترتبة على التفكير المجرد
العالي المستوى قد تآزرت وعملت على تسريع
الابتكارات التي أدَّت إلى حضاراتٍ إنسانية غير
مسبوقة في تاريخ الحياة على الأرض.
خلاصة القول، ربما كان الابتكار البشري نتيجة
لاكتساب القدرة على التجريد العالي المستوى
بسبب توسُّع القشرة المخية الحديثة. وإضافة هذه
القدرة إلى وظيفة الخيال الموجودة بالفعل،
والتي تشترك فيها جميع الثدييات، سمحت للبشر
بأن يكونوا مُبتكرين حقًّا. ولكن أي جانبٍ من
جوانب التوسع القشري الحديث هو الأهم للتجريد
العالي المستوى؟ سنستكشِف هذه المسألة في
الفصول التالية.