على افتراض أن قدرة الإنسان على التجريد العالي
المستوى ترجع إلى توسُّع القشرة المخية الحديثة،
فما هي الجوانب من القشرة المخية الحديثة البشرية
التي تُعتبر جوهريةً لهذه القدرة؟ هل تتميز بأنواع
خاصة من الخلايا العصبية أو دوائر عصبية خاصة؟ هل
هناك منطقة مُميزة في القشرة المخية الحديثة
البشرية غائبة في الحيوانات الأخرى؟ أم أن القدرة
على الإبداع تنشأ من تنظيمها العام؟ ليس لدينا
إجابات واضحة عن هذه الأسئلة، على الرغم من
الاعتقاد السائد بأن الوظائف الدماغية العُليا هي
نتاج لخصائص ناشئة للدوائر العصبية وليس خصائص
الخلايا العصبية الفردية. من الأسباب الرئيسة
لجهلِنا بهذا الأمر هو غياب نموذج حيواني مُنَاسِب.
لقد عزَّزت الدراسات التي تستخدم الحيوانات بقدْرٍ
كبير من فهمِنا للأُسس العصبية للذاكرة والتخيُّل.
بل إن فهمنا للآليات العصبية الأساسية لمُعظم وظائف
الدماغ يُعزَى إلى حدٍّ كبير إلى الدراسات التي
أُجريت على الحيوانات. بالطبع لا ينسحب هذا على
وظائف الدماغ التي ينفرِد بها البشر، مثل مهارات
الإدراك المُجرد العُليا. ولكننا لا نفتقر إلى
الأدلة في هذا الصدد. وهنا سندرُس بعضًا من هذه
الأدلة كنماذج بدلًا من استعراضها جميعًا باستفاضة.
سندرُس ثلاثة أدلة: واحدًا مُستمدًّا من أبحاث علم
الأعصاب (في هذا الفصل)، وآخر مُستمدًّا من الأبحاث
في عِلم تطور الإنسان القديم (في الفصل العاشر)،
والأخير مُستمَدٌّ من نمذجة الشبكات العصبية (في
الفصل الحادي عشر).
الوظيفة التنفيذية
أي بِنية دماغية يمكن لعلماء الأعصاب أن
يقولوا إنها من المرجَّح أن تضطلع بدورٍ حاسمٍ
في الإدراك المجرد العالي المستوى لدى البشَر؟
إن أغلب علماء الأعصاب سوف يتردَّدون في الرهان
على وجود بنيةٍ دماغية واحدة. ولكن إذا ما
أُجبِروا على فعل ذلك، فربما يختار عدد كبير
منهم القشرة الجبهية الأمامية، أو الجزء
الأمامي من القشرة المخية (انظر الشكل
٩-١). تقع بجوار القشرة
الجبهية الأمامية قشرتان حركيَّتان: القشرة
الأمام حركية والقشرة الحركية الإضافية،
المعروف أنهما تلعبان دورًا حاسمًا في التخطيط
للحركة. وترتبط هاتان القشرتان بقوةٍ بالقشرة
الحركية الأولية، التي تُشرِف على التحكُّم
المباشر في الحركة الإرادية. وكما قد يُخمِّن
المرء من هذا التنظيم، فإن القشرة الجبهية
الأمامية تُشكِّل بنيةً دماغيةً مهمَّة
للتحكُّم في السلوك. غير أن القشرة الجبهية
الأمامية لا تدخل بصورةٍ مباشرة في التحكُّم في
حركةٍ مُعينة في حدِّ ذاتها. بل تتحكَّم القشرة
الجبهية الأمامية في السلوك بمرونةٍ وفقًا
للأهداف الداخلية والسياقات السلوكية.
قد تُعزز القشرة الجبهية الأمامية سلوكًا
معينًا في ظرفٍ ما، ولكنها تُثبطه في ظرف آخر.
على سبيل المثال، في نيويورك، يجب أن تنظر جهة
اليسار قبل عبور الشارع للتحقُّق من وجود
مركبات عابرة. ولكن، في لندن، يجب أن تنظر جهة
اليمين قبل النزول من فوق الرصيف. ولذلك، عند
الوجود في لندن، يجِب على سكان نيويورك كبت
سلوكهم المُعتاد المُتمثل في النظر إلى اليسار
للتحقُّق من وجود سيارات قبل عبور الشارع. يوضح
هذا المثال البسيط أهمية التحكُّم في السلوك
المعتمد على السياق في حياتنا اليومية.
إن التحكم في السلوك بمرونة وفقًا لهدفٍ
داخلي ليس بالمُهمة السهلة في عالمٍ دائم
التغير. فالأمر يتطلَّب مجموعةً متنوعة من
الوظائف حتى نتمكَّن من القيام بذلك. وليس من
المُستغرَب أن الدراسات السابقة قد وجدت أن
القشرة الجبهية الأمامية تؤدي مجموعةً كبيرة من
الوظائف المعرفية، ومنها: الذاكرة العاملة،
والتفكير المنطقي، والتخطيط، واتخاذ القرار،
والتحكُّم في المشاعر؛ ويُعَد مصطلح «الوظائف
التنفيذية» وصفًا جماعيًّا لوظائف القشرة
الجبهية الأمامية.
تعمل القشرة الجبهية الأمامية على التحكُّم
في وظائف أخرى في الدماغ والتنسيق بينها بحيث
تخدم سلوكياتنا، أو كبتها، الدور المُتمثل في
تحقيق أهدافنا الداخلية. ولولا القشرة الجبهية
الأمامية، لاستحال أن تعمل ليل نهار لتحقيق
هدفك الطويل الأجل، مثل الحصول على درجة
الدكتوراه في علم الأعصاب في غضون خمس سنوات.
وكما قد تكون خمَّنت، فإن القشرة الجبهية
الأمامية مُتطورة بشكلٍ جيد في الرئيسيات،
وخاصة في البشر.
1 ويمكن الزعم بأن القشرة الجبهية
الأمامية تُميز البشر عن الحيوانات الأخرى.
وعندما ننظر إلى سلوكيات الأشخاص الذين تضرَّرت
قشرتهم الجبهية الأمامية بطريقةٍ ما، يُصبح هذا
واضحًا تمامًا.
فينياس جيج
كان فينياس جيج كبير العمَّال في طاقم عمل
يُمهد الطريق لشقِّ مسار للسكة الحديدية في عام
١٨٤٨ في فيرمونت. كان في الخامسة والعشرين من
عمره في ذلك الوقت. كان العمَّال يُفجرون
الصخور عن طريق حفر حفرةٍ عميقة في الصخر،
وإضافة مسحوق مُتفجر، ثم تعبئة مادة خاملة، مثل
الرمل، في الحفرة باستخدام قضيب دكٍّ حديدي.
وفي يوم ١٣ سبتمبر، انفجر المسحوق بسبب شرارة
اندلعت بين قضيب الدكِّ الحديدي والصخرة ربما
لأن جيج أغفل عن غير قصدٍ إضافة الرمل. مرَّ
قضيب الدكِّ الحديدي، الذي يزيد طوله عن ثلاثة
أقدامٍ ونصف القدم بقليل، عبر رأس جيج وهبط على
بُعد أكثر من ثمانين قدمًا. ونجا من الحادث
بأعجوبة، ومما يُثير الدهشة أنه تمكن من
التحدُّث والمشي بعد بضع دقائق. فما الآثار
التي ترتَّبت على هذا الحادث إذن؟ لم يُواجِه
جيج أي مشكلةٍ في الرؤية أو السمع أو التحدُّث
أو الحركة. لقد أدى القضيب الحديدي إلى إتلاف
المنطقة الأمامية من الدماغ، وهي القشرة
الجبهية الأمامية (انظر الشكل
٩-٢)، مما يُشير إلى أن هذه
المنطقة من الدماغ ليست ضروريةً لأداء وظائف
الدماغ مِثل دعم الحياة، أو الإحساس، أو
التحكُّم في الحركة، أو اللغة.
ومع ذلك، تغيَّرت شخصية جيج بصورةٍ جذرية بعد
الحادث. فلطالما كان شابًّا ذكيًّا ونشيطًا
وبارعًا له مُستقبل واعد، واعتُبِر الرجل
الأكفأ والأقدر في الشركة. ولكن لم يعُد جيج
كما كان بالنسبة إلى أصدقائه بعد الحادث. وقد
سجَّل الدكتور جون هارلو، الذي عالج جيج على
مدار بضعة أشهر، الملاحظات التالية:
يبدو أن الاتزان أو التوازن، إذا جاز
التعبير، بين قُدراته الفكرية ونزعاته
الحيوانية قد دُمِّر. فقد أصبح
مُتقلِّب المزاج، وقحًا، وينغمِس
أحيانًا في أشد أشكال البذاءة التي لم
تكن من عاداته من قبل، ولا يُظهِر سوى
القليل من الاحترام لزملائه، ولا يطيق
القيود أو النصيحة عندما تتعارَض مع
رغباته، وشديد العناد في بعض الأحيان،
ولكنه مُتقلب ومتردِّد، ويضع كثيرًا من
الخُطط المستقبلية للعمل، سرعان ما
يتخلَّى عن تنفيذها بمجرد ترتيبها …
إنه طفل في قدراته العقلية ومظاهرها
السلوكية، بينما يملك الرغبات والدوافع
الحيوانية لرجلٍ قوي. قبل إصابته، على
الرغم من عدم ارتياده المدارس، كان
يتمتع بعقلٍ متزن، وكان من يعرفونه
يرَونه رجل أعمال ماهرًا وذكيًّا، وفي
غاية النشاط والمثابرة في تنفيذ جميع
خُططه الخاصة بالعمل. وفي هذا الصدد،
تغيَّر عقله تغيُّرًا جذريًّا حاسمًا
للغاية لدرجة دفعت أصدقاءه ومعارفه
للقول إنه «لم يعُد جيج».
2
المثابرة والمرونة
لتحقيق هدفٍ طويل الأمد، يجب أن يكون المرء
مثابرًا ومرنًا في نفس الوقت، وليس «عنيدًا
ومُتقلبًا في نفس الوقت»، على حدِّ وصف هارلو
لجيج. لنفترِض أنك بحاجة إلى شراء بقالة لإعداد
العشاء لصديق. تتمثل خُطتك في شراء شرائح لحم
وثوم؛ لأن الطبق المُفضَّل لصديقك هو شرائح
اللحم بالثوم. تصل إلى المتجر وتجِد العديد من
الأطعمة اللذيذة الجاذبة — مثل الخبز
والمعكرونة والأسماك والفواكه — في طريقك إلى
قسم اللحوم. يجب أن تكون مثابرًا وتتجاهل كل
هذه المُثيرات المُشتِّتة للانتباه وتُحقِّق
هدفك الأصلي (ألا وهو الحصول على مكوِّنات طبق
شرائح اللحم بالثوم). لن يكون هذا صعبًا على
الأشخاص الطبيعيِّين، ولكنه سيكون صعبًا على
أولئك الذين يعيشون بتلفٍ في القشرة الجبهية
الأمامية؛ لأن المُثيرات المتداخِلة مع تركيزهم
تُشتِّت انتباههم بسهولة. وفي هذا المثال، قد
يشترون أي سلَعٍ تلفت انتباههم، مثل السلمون
والمعكرونة، بدلًا من شرائح اللحم والثوم. بل
إن البعض منهم قد لا يتمكن حتى من الوصول إلى
المتجر من الأساس. فقد يستقلُّون حافلةً
عشوائية تصادَف أن توقَّفَت أمامهم في طريقهم
إلى المتجر. وفي هذا المثال توضيح لأهمية
القشرة الجبهية الأمامية في منحنا روح المثابرة
لتحقيق هدفٍ طويل الأمد.
إن القشرة الجبهية الأمامية ليست مُهمة فقط
للمثابرة، وإنما للمرونة أيضًا. فإذا لم يعُد
سلوك بعينِه فعَّالًا في تحقيق هدفك الحالي،
فعليك التحوُّل إلى سلوكٍ من نوع آخر. فإذا
تمسَّكت بسلوكٍ لم يعُد فعَّالًا، فسوف تُعتبَر
عنيدًا وليس مثابرًا. ويواجه الأشخاص المُصابون
بتلَف القشرة الجبهية الأمامية صعوبةً في تغيير
سلوكهم وفقًا للتغيرات في البيئة. ويمكن اختبار
ذلك باستخدام اختبار ويسكونسن لتصنيف البطاقات،
وهو اختبار نفسي عصبي يُستخدَم كثيرًا لقياس
السلوكيات النمطية المتكررة (الإصرار على
السلوك الخاطئ). في هذه المهمة، يجب على الشخص
تصنيف بطاقة مُثير وفقًا لقاعدة خفية تتغيَّر
بمرور الوقت. يوضح الشكل (
٩-٣) نموذجًا لشاشة كمبيوتر
توضح المهمة. يجب على الشخص أن يُطابق نموذج
البطاقة المعروضة في الزاوية اليُمنى السفلية
من الشاشة (البطاقة ذات المُربَّعين الأخضرَين)
مع إحدى البطاقات الأربع الموجودة في أعلى
الشاشة. من القواعد المختفية المُحتملة لون
وكمية وشكل الأشكال الموجودة في البطاقة. ولا
يُكْشَف عن القاعدة الخفية للشخص. ولا يجري
إخباره إلا بِكَوْن مطابقته صحيحة أم خاطئة. في
المثال الموضح، قد تكون البطاقة الثانية
(القاعدة المخفية: العدد) أو البطاقة الثالثة
(القاعدة المخفية: اللون)، أو الرابعة (القاعدة
المخفية: الشكل) هي البطاقة الصحيحة. يُسارع
الأشخاص الذين لا يُعانون من تلَف في القشرة
الجبهية الأمامية إلى تغيير استراتيجيتهم في
المطابقة بناءً على الملاحظات (أي «خطأ»
المطابقة) التي يتلقَّونها عندما تتغيَّر
القاعدة المختفية الحالية. ولكن بعد الحصول على
هذه الملاحظات (أي عندما تتغيَّر القاعدة
المختفية)، عادة ما يتمسك الأشخاص الذين
يُعانون من تلَف في القشرة الجبهية الأمامية
باستراتيجية المُطابقة القديمة التي لم تعُد
تفرز تطابقًا صحيحًا.
القشرة الجبهية الأمامية والتجريد
يُعد التجريد عنصرًا أساسيًّا في توجيه
السلوك وفقًا لهدف داخلي بعيد المدى، وتغيير
السلوك بمرونة وفقًا لقواعد مخفية، والتفكير
والتخطيط، وكل هذا من وظائف القشرة الجبهية
الأمامية. في الواقع، يُظْهِر المرضى الذين
يُعانون من تلَف في القشرة الجبهية الأمامية
قصورًا في قدرتهم على التجريد في العديد من
الاختبارات السريرية.
3 على سبيل المثال، قد يواجه المرضى
مشكلةً في فهم عبارة بمعناها المجرد عند
تكليفهم بمهمة تفسير قول مأثور. فيمكن لهؤلاء
المرضى تفسير القول المأثور «روما لم تُشَيَّد
بين عشيةٍ وضحاها»، بالمعنى الحرفي (على سبيل
المثال، الوقت المطلوب لإتمام البنية التحتية
للإمبراطورية الرومانية)، وليس بالمعني المجرد
(الوقت المطلوب لتحقيق إنجازاتٍ
عظيمة).
4
وتوافقًا مع هذه النتائج من الأبحاث العصبية
النفسية، توصلت الدراسات الفسيولوجية التي
أُجريت على القشرة الجبهية إلى وجود نشاطٍ عصبي
مُرتبط بالتجريد حتى في الحيوانات. ويُشبِّهُه
علماء وظائف الأعصاب الذين يدرسون القشرة
الجبهية الأمامية بالمَتجر الشامل على سبيل
المزاح؛ بمعنى أنك تستطيع عادة العثور على أي
إشاراتٍ عصبية تبحث عنها إذا أدخلت فيها قطبًا
كهربائيًّا دقيقًا. ولكن لماذا؟ كما رأينا مع
فينياس جيج، فالقشرة الجبهية الأمامية ليست
مُتخصِّصة في معالجة إشارات حسِّية أو حركية
محددة. بل إنها تمثل المعلومات اللازمة لإكمال
مهمةٍ معينة بنجاح. وتختلف هذه المعلومات على
نطاقٍ واسع تبعًا للهدف الحالي ولا تشمل فقط
إشاراتٍ حسِّية حركية مُحدَّدة، بل تشمل أيضًا
المفاهيم المجردة، مثل قواعد المهمة، اللازمة
لتحقيق الهدف. بعبارةٍ أخرى، يبدو أن القشرة
الجبهية الأمامية هي وحدة تحكُّم للأغراض
العامة تُمثل على نحوٍ مرن وانتقائي المعلومات
الأساسية للتحكُّم في سلوكٍ موجَّهٍ نحو هدف
مُعين. ومن ثم، فإنك إذا دَرَّبت حيوانًا على
أداء مهمة سلوكية مُعينة، فمِن المُحتمَل أن
تجد إشاراتٍ عصبية مادية وأخرى مجردة ضرورية
لأداء المهمة في القشرة الجبهية
الأمامية.
أظهرت دراسات عديدة وجود أشكالٍ متنوعة من
النشاط العصبي المرتبط بالتجريد في القشرة
الجبهية الأمامية للحيوانات. وفي هذا المقام،
سنتناول تمثيل الإدراك العددي في القشرة
الجبهية الأمامية للقرد على سبيل المثال.
العددية، أو عدد العناصر في مجموعةٍ ما، هي فئة
مجردة مُستقلة عن الخصائص المادية للعناصر. على
سبيل المثال، «الثلاثية» هي مفهوم مجرد ينطبق
على أي مجموعةٍ تحتوي على ثلاثة عناصر بغضِّ
النظر عن الشكل المَصوغة عليه. وقد وجدت
الدراسات العصبية الفسيولوجية التي أُجريت على
القردة خلايا عصبية في القشرة الجبهية الأمامية
مضبوطة بصورة انتقائية على فَهم عدد العناصر.
في إحدى الدراسات، درَّب أندرياس نيدر قردة
المكاك الريسوسي على التمييز بين عدد العناصر
المعروضة على نحوٍ متسلسل للحصول على مكافأة.
عُرِضَت العناصر في شكلَين مختلفَين: نبضات
صوتية (سمعية) أو نقاط سوداء (بصرية). وجد نيدر
خلايا عصبية في القشرة الجبهية الأمامية مضبوطة
على تمييز عدد العناصر بغضِّ النظر عن شكل
المُثيرات. تستجيب كل خلية عصبية تُشَفِّر
الأعداد استجابةً تفضيلية لرقم مُعين بحيث يمكن
لمجموعة من الخلايا العصبية في القشرة الجبهية
الأمامية أن تقدم معلومات لا لبس فيها حول عدد
المثيرات المتعاقبة المعروضة أمام
القرد.
5 وفي هذه الدراسة وغيرها من
الدراسات ذات الصلة بيان واضح أن القشرة
الجبهية الأمامية للقرد تمثل الإدراك العددي،
وهي فئة مجردة تتجاوز الخصائص المادية
للعناصر.
6
وقد اكتُشِف وجود نشاط عصبي مرتبط بالمفاهيم
المجردة، مثل قواعد المهام، وبِنية المهام،
والسياق السلوكي، حتى في القشرة الجبهية
الأمامية لدى الجرذان والفئران.
7 إن القشرة الجبهية الأمامية لدى
القوارض ضئيلة الحجم مقارنةً بالبشر. وليس
الحجم المُطلق فحسب، وإنما أيضًا الحجم بالنسبة
إلى الدماغ ككلٍّ أصغر كثيرًا لدى القوارض من
الإنسان. ومع هذا، فالقوارض تظهِر مُستويات
كبيرة من التحكُّم السلوكي المُتطور اللازم
لتحقيق هدفٍ بعيد الأمد. على سبيل المثال،
تُضعف الأضرار التي تلحق بالقشرة الجبهية
الأمامية المرونة في نُسخة القوارض من اختبار
ويسكونسن لتصنيف البطاقات.
8 وتُظهِر هذه الدراسات التي أُجريت
على الحيوانات بوضوح أن القشرة الجبهية
الأمامية لدى القوارض، التي لم تتطوَّر كثيرًا
مقارنة بالقشرة الجبهية الأمامية لدى البشر،
تدعم التحكُّم المرن في السلوك وتُمثل المفاهيم
المجردة. وهكذا يكون من الوارد أن القشرة
الجبهية الأمامية المُتطورة لدى البشر قد تُمثل
مفاهيم مجردة أرقى كثيرًا من تلك الموجودة لدى
الحيوانات.
أحد مجالات التحكُّم في السلوك حيث يكون
التجريد العالي المستوى ضروريًّا هو السلوك
الاجتماعي البشري. كان سلوك جيج بعد الحادث
المأساوي الذي تعرَّض له بعيدًا كل البُعد عن
السلوك المتوقع من شخصٍ بالِغ طبيعي. سيكون من
الصعب للغاية على رجلٍ يوصف بأنه «طفل في
قدراته العقلية» أن يتصرف على نحوٍ لائق في
مجتمعٍ بشري مُعقد. فسلوكياتنا الاجتماعية هي
نتاج لاعتباراتٍ متأنية لأعراف اجتماعية دقيقة
تتباين على نطاقٍ واسع وفقًا للسياقات
الاجتماعية؛ وهذا ما يجعل التفكير المجرد
ضروريًّا. على سبيل المثال، عادة ما نستخدِم
مفاهيم مجردة عالية المستوى مثل النظام العام،
والوقاحة، والسمعة الاجتماعية لاتخاذ القرار
بشأن ما ننتهِجه من سلوكياتٍ يوميًّا. وربما
تدين القدرة البشرية على التفكير المجرد العالي
المستوى بالكثير للضغوط التطوُّرية، من بين
أمور أخرى، في تشكيل وتمثيل المفاهيم المجردة
العالية المستوى لاكتساب تحكُّمٍ مناسب في
السلوك في مجتمعٍ بشري مُعقد.
باختصار، توجَد أسباب وجيهة للاشتباه في أن
القشرة الجبهية الأمامية البشرية المُتطورة
منطقة أساسية في النظام العصبي؛ إذ تُشكل
وتُمثل المفاهيم المجردة العالية المستوى.
بطبيعة الحال، من المُستبعَد أن يكون توسع
القشرة الجبهية الأمامية مسئولًا وحدَه عن
قُدرتنا المعزَّزة على التفكير المجرد. فثمة
تغيرات أخرى في الدماغ من المُرجَّح أن تكون
بالِغة الأهمية في هذا الصدد. على سبيل المثال،
تنشَط القشرة الجدارية مع القشرة الجبهية
الأمامية أثناء مهام التجريد
المختلفة.
9 ومن ثم، فإن فهم كيفية تفاعل
القشرة الجبهية الأمامية مع مناطق الدماغ
الأخرى أمرٌ مُهم أيضًا لفهم الأساس العصبي
للتجريد لدى البشر.
القشرة الجبهية القطبية
من المسائل الأخرى المُهمة تحديد أي منطقة من
المناطق الفرعية بالقشرة الجبهية الأمامية تلعب
الدور الأهم في التجريد. إن القشرة الجبهية
الأمامية هي منطقة كبيرة تتألَّف من مناطق
فرعية مُتعدِّدة تؤدي وظائف مختلفة، وكيفية
توزيع وظيفة التجريد عبر هذه المناطق الفرعية
ليس واضحًا.
تُشير الدراسات التي تجرى بالتصوير الدماغي
إلى أن الأجزاء الأمامية من القشرة الجبهية
الأمامية تخدم أكثر التفكير المُجرد، بينما
تخدُم الأجزاء الخلفية أكثر التفكير
المادي.
10 وإذا كان الأمر كذلك، فالدراسات
المُستقبلية التي تركز على القشرة الجبهية
القطبية (انظر الشكل
٩-٤)،
وهي المنطقة الأمامية القصوى من القشرة الجبهية
الأمامية، قد تُقدم خيوطًا مهمَّةً في سعينا
إلى توضيح الأساس العصبي للابتكار
البشري.