هناك شخصٌ مجهول

بعد يومٍ مُرهِق، استسلم الأصدقاء جميعًا للنوم … ولكن «نبيل» قضى اللَّيلَ مُؤرَّقًا؛ فقد كانت مشكلة اختفاء «عم سالم» تؤرِّقه … هذا الرجل الشجاع العجوز آخر الأحياء من بحارة جَدِّه، وحارس الميناء القديم والفيلَّا، كيف اختفى؟! وما هي علاقة الأسماك الحية على الشاطئ باختفائه؟ أيكون قد انساق وراء سمكةٍ كبيرة في الماء فغرق؟ ولكن كيف يغرق بحَّارٌ قديم؟

هكذا أخذَ يفكِّر، وينام ويصحو، حتى نظر إلى ساعته، فوجدها قد أشرفَت على الثالثة بعد منتصف الليل، فلم يبقَ على الفجر إلا نصف ساعة، فقام بهدوء وذهب إلى المطبخ، ليُعدَّ لنفسه كوبًا من الشاي … وبينما كان الماء يغلي على النار وهو واقف ينظر إليه ساهمًا إذ أَحسَّ بحركةٍ خلفه، وعندما نظر ناحيةَ الباب شاهَد «تختخ» متجهًا هو الآخر إلى المطبخ.

نبيل: صباح الخير.

تختخ: صباح الخير.

نبيل: ماذا أيقظَك؟

تختخ: إنني أفكِّر في مسألة اختفاء «عم سالم» … إنها لا يمكن أن تمرَّ بهذه البساطة، يجب أن نبذلَ جهودًا أكبر للعثور عليه!

نبيل: هذا ما فكَّرتُ فيه طول الليل، ولكن من أين نبدأ؟

تختخ: أتصوَّر أن هذه البئر التي سقطَت فيها «لوزة» تُخفي سرًّا هامًّا … إن عملية ملئها بالماء ثم تفريغها بنظامٍ معين يؤكدان أن ثمة شخصًا أو أشخاصًا يقومون بعملٍ مجهول لا يريدون أن يعرفه أحدٌ … ولا بد أن «عم سالم» عرف شيئًا عنهم … فمن غير المعقول أن يكون موجودًا هنا طول الوقت ولا يرى أو يُحس أن شيئًا غير عادي يحدُث في المكان؛ لهذا فإنني أعتقد أن اختفاء «عم سالم» له علاقة بهؤلاء المجهولين!

نبيل: لقد حكَيتُ لكم قصة السفينة «النجمة الخضراء» … آخر سُفن جدي، والتي كانت تحمل ثروته … هذه السفينة التي غرقَت عند نهاية حبل الرمال … إن «عم سالم» ما زال يعتقد أن السفينة لم تغرق بالمصادفة، أو بالقضاء والقدَر … ولكنها غرقَت بفعلِ فاعلٍ … وقد ظل مُصِرًّا برغم مرور الأعوام على حل لغز غرق السفينة.

تختخ: إن الخيوط كلها تتجمَّع لتشير إلى هذه القصة الحقيقية … ففي مثل هذا المكان لا يمكن أن يعيش أحدٌ إلا إذا كان يقوم بعمل لا يريد أن يعرفه أحد، عملٍ سري، عملٍ ضد القانون، ربما تهريب مخدراتٍ مثلًا!

نبيل: أو الاستيلاء على شيء ليس من حقه!

تختخ: هذا ممكن، وهذا ممكن!

كانا يرتشفان الشاي مع بعض قطع البسكويت ويتحدَّثان، وقال «تختخ»: إنني أتصوَّر أن نشاط أي شخصٍ خارج على القانون لا بد أن يتم تحت جُنح الظلام … لهذا فإنني أفكِّر أن نذهب الآن ونرقُب البئر، لعلنا نعثُر هناك على شيءٍ غير عادي. وافق «نبيل» بحماس، وقال «تختخ»: سنكتب ورقة لبقية الأصدقاء حتى لا يظنُّوا أننا اختفَينا أيضًا.

كتب «تختخ» ورقةً بأنهما ذاهبان إلى البئر، وعلَّقها في مكانٍ بارز في الصالة، ثم ارتديا ثيابهما وخرجا. كان «زنجر» ينام أمام الفيلا، ولم يكد يُحس بفتح الباب حتى وقف، وحيَّاه «تختخ» ثم ربت رأسَه … وبدون دعوةٍ منهما تَبِعَهما «زنجر»، ثم تجاوَزَهما وسار أمامهما. أدرك الكلب الذكي حبل الرمل وهما خلفه … كانت خيوط الفجر الأول تُطلُّ من السماء وتُحيلُ التلال والرمال والأعشاب إلى منظرٍ يموج بالأضواء والظلال.

ظلا يسيران خلف «زنجر» الذي كان يعرف طريقه جيدًا بين تلال الرمال المتشابهة كأنها حبَّات المسبحة، حتى وصلا إلى المنحنى الأخير لحبل الرمال، وصَعِد «زنجر» التل، فناداه «تختخ» بصوتٍ خافت؛ فقد أدرك أنهم قد وصلوا إلى المكان.

توقَّف «زنجر» مكانه، وأحنى «تختخ» و«نبيل» رأسَيهما، وأخذا يزحفان بهدوء على الرمال حتى وصلا إلى قمة التلِّ ونظرا إلى حيث البئر … وكانت مفاجأةً كاملة … كان ثَمَّةَ رجلٌ قد خرج حالًا من حافة البئر … ووقف وهو يرتدي ملابس الغوص ينظُر حوله في حذَر، ثم خلع غطاء الرأس، وأخذ ينثُر المياه، ومدَّ يده فشد حَبلًا كان متدليًا في البئر، خرج الحبل وفي نهايته صندوقٌ حديدي صغير. حلَّه الرجل ثم عاد يتلفَّت حوله، وعندما اطمأن إلى عدم وجود أحدٍ دفَن الصندوق في الرمال، ثم سار متجهًا إلى قلب الصحراء.

أشار «تختخ» ﻟ «نبيل» أنهما سيتبعانه، وكان «زنجر» مستعدًّا فسار هو الآخر، وظل الرجل يسير حتى أشرف على المستنقعات الكبيرة المحيطة بحبل الرمال … حيث ترتفع غابات البوص والأعشاب، وتغطِّي المياه الراكدة مساحاتٍ كبيرة من الأرض … تلفَّت الرجل حولَه لحظات، ثم دخل إلى أحد تجمُّعات البوص، وأخذ يُزيح أعواد البوص الضخمة بيدَيه، ثم اختفى خلفها.

قال «نبيل» هامسًا: كما قلتُ لكم من قبلُ … هذه المنطقة لا يمكن الدخول إليها عن طريق الصحراء، لا بد أن يكون ذلك عن طريق البحر، ويبدو أن هذه البئر هي الطريق من البحر إلى المكان المجهول.

تختخ: لقد استنتجتُ ذلك … إنهم يفتحون الباب العُلوي الكبير حيث تتدفَّق المياه من البحر … من فتحة على الشاطئ، ويدخل الشخص من خلال الفتحة ويظل مندفعًا مع المياه خلال سردابٍ يمر تحت حبل الرمال حتى يصل إلى البئر، ثم يصعد منها إلى سطح الأرض ويمشي كما رأينا … وفي الإمكان تجفيفُ البئر بإغلاق الباب العُلوي الكبير، ثم فَتْح الباب السفلي الصغير، فتتسرَّب المياه إلى المستنقعات.

نبيل: هذا استنتاجٌ مدهش، ولكن هل تظنُّ أن أشخاصًا هم الذين حفَروا السرداب والبئر؟

تختخ: لا … إنها من مخلَّفات العصر الروماني، وعصور القراصنة … إن ما فعلوه هو اكتشاف هذه الطريقة المثلى والقصيرة للوصول من البحر إلى الواحة، وهم بهذا يتجنَّبون عيون الفضوليِّين!

نبيل: وماذا تظُن في هذا الصندوق؟

تختخ: لو كان به شيءٌ هام لَمَا تركه تحت الرمال … في الأغلب به بعض أدواتٍ ميكانيكية!

نبيل: وما هي خطَّتكَ الآن؟

تختخ: سنتقدَّم لنرى الفتحة التي دخل منها الرجل إلى المستنقعات … لعلنا بعد أن نراها نستطيع أن نكتشف المكان الذي يُقيم به الأشخاص المجهولون!

تقدَّما بحذَر ومعهما «زنجر» حتى وصلا إلى غابة البوص … وأزاح «تختخ» أعواد البوص الكثيفة كما فعل الرجل، وكم كانت دهشتُه حين وجد أنها تُخفي بابًا من البوص الجافِّ قد أُخفي بمهارةٍ وسط أعواد البوص الخضراء.

تقدَّم «تختخ» وانحنى على الباب، وأخذ ينظُر في الفتحات التي به … ومرةً أخرى أصابَتْه الدهشة … كان هناك طريقٌ طويل ممهَّد في قلب غابة البوص قد أحاطت به الأعشاب المتكاثفة … وكان الطريق ضيقًا وطويلًا ومتعرجًا، ولم يكن في إمكان «تختخ» أن يرى نهايته … ولكنه سمع دويًّا منتظمًا يصدُر من مكانٍ بعيد … ربما في نهاية الطريق … صوت يشبه ماكينة تدور.

همس «تختخ»: لقد وصلنا إلى معلوماتٍ هامة … بالتأكيد هناك عملٌ سري يتم في هذا المكان.

نبيل: وماذا تقترح؟

تختخ: إن ما يهمني الآن هو العثور على «عم سالم» لنسمع قصَّته ونعرف ماذا جرى له … إن حديثه والمعلومات التي لدينا ستضع أمامنا صورةً شاملة عن الموضوع كله … وعلى ضوء هذا الشكل المتكامل نستطيع التصرُّف.

فجأةً قفز «زنجر» من الخلف … واجتاز الباب دون أن ينتظر تعليماتٍ من «تختخ» الذي وقف مندهشًا لتصرُّف «زنجر» … وانزوى جانبًا ينظر إلى «نبيل» الذي لم ينطق بكلمةٍ واحدة.

غاب «زنجر» نحو خمسِ دقائقَ ثم ظهر مرةً أخرى وقد وقف شَعره، وبدا عليه الاهتياج الشديد … وأخذ يتمسَّح في «تختخ» ويحاول أن يتحدَّث إليه على طريقته …

قال «تختخ» ﻟ «نبيل»: إن «زنجر» وجد شيئًا يريد منَّا أن نراه!

نبيل: وما هو هذا الشيء يا تُرى؟

تختخ: أظن أنه من الممكن أن يكون «عم سالم» … إن «زنجر» يدرك بالضبط ما نُريد، ولعله تنسَّم رائحة «عم سالم» في الفيلَّا، ثم تنسَّمها مرةً أخرى هنا!

نبيل: إن ذلك يكون شيئًا عظيمًا.

تختخ: هل نعبُر الباب؟

نبيل: بالطبع … لا بد من إنقاذ «عم سالم»، فبدونه لن نستطيع حل هذا اللغز العجيب … لغز الأشخاص المجهولين الذين يعيشون في هذا المكان … والعمل السري الذي يقومون به!

وبدون كلمةٍ أخرى اجتاز «تختخ» الباب وخلفه «نبيل»، وسارا في الطريق الضيق خلف «زنجر» الذي انحرف فجأةً في وسط الطريق إلى طريقٍ آخر رفيعٍ جدًّا بين البوص … وفي نهايته شاهَد الصديقان كوخًا صغيرًا جدًّا من البوص يشبه البرميل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤