في استعمال المال
قال الشاعر برنس ما ترجمته:
وقال شكسبير ما معناه: لا أستدين ولا أدين فإنما الدين طريق للخراب.
وقال السر بلور لنون: إياك واحتقار المال؛ لأن المال كالصيت.
***
اكتساب المال وحسن القيام به وإنفاقه أمور تستدعي حكمة وافرة، ولا يليق بأحد أنْ يزدري بالمال كما يفعل كثيرون من المدَّعين الفلسفة، ولا يحسن أيضًا أنْ يعتبره كغايته العظمى، والمال أصل لكثير من الفضائل والرذائل؛ فيهِ الكرم والأمانة والاستقامة والإحسان والاقتصاد والتدبير، وبهِ أيضًا الطمع والبخل والرشوة ومحبة الذات والإسراف، قال الحريري:
وقال أيضًا:
وكل الناس جديرون بنوال الراحة في هذه الدنيا بشرط أنْ يستعملوا لذلك وسائط جائزة؛ لأنهم إذا نالوا راحتهم المادية تمكنوا من إصلاح شأنهم الأدبي والقيام بواجباتهم العائلية، ألا ترى أنَّ بولس الرسول قال: إنَّ من لا يعتني بأهل بيته شرٌّ من غير المؤمن. ومما يستحق الالتفات أنه بمقدار ما يستفيد الإنسان من فرصه ووسائطه يزداد اعتباره في عيون الناس. قال ابن كثير:
ومن سار واضعًا نصب عينيه اجتناء الفائدة من كلِّ فرصة تقوَّت قواه العقلية، وازدادت ثقته بنفسه وتعويله عليها، وتملكت فيه أفضل الصفات المعدة للنجاح كالاجتهاد والصبر والمواظبة وما أشبه، ومن كان عليه أنْ يهتمَّ بغيره، ويذخر لمستقبله يصير حريصًا مقتصدًا منكرًا على النفس لذَّاتها. قال جون سترلسن: عِلْم رديء يعلِّم إنكار الذات خيرٌ من علم جيد يعلم كلَّ شيء إلا إنكار الذات، ومنزلة إنكار الذات من القوى الأدبية منزلة الشجاعة من القوي الجسدية، ونريد بإنكار الذات تضحية اللذة الحاضرة لأجل نوال الخير المقبل.
والناس الذين يعملون الأعمال الشاقة مضطرون أنْ يعتبروا الدراهم اليسيرة التي يربحونها، ولكنهم بشرههم في المعيشة يصرفون حالًا ما يصل إلى يدهم، فيُمْسُون في غاية العوز وتضرسهم أنياب الحاجة، ومنهم من دخله يكفي لنفقته، ويزيد عليها إذا تدبره جيدًا، ولكنه يتوغل في الإسراف غير ناظر إلى المستقبل، فإذا حدث ضيق أو انقطع عمله أمسى في أسوأ حال. قيل: تشكَّى بعضهم إلى اللورد يوحنا روسل من الجزية التي وضعتها الدولة على الفعلة، فقال اللورد: يا هذا، إنَّ الدولة لا تأخذ من الفعلة ربع ما تأخذه منهم المسكرات.
وإصلاح شأن الفقراء معضلة، لم يهتد الناس إلى وجهها حتى الآن، ولكنهم مُجْمِعون على أنَّ علاجها تعليم الفقراء الاقتصاد والتدبير. قال صموئيل درو الفيلسوف الإسكاف: «الفطنة والاقتصاد والتدبير من خير مصلحات الأحوال، وهي تشغل حيزًا صغيرًا من المنزل، ولكنها أفعل من كلِّ لائحات الإصلاح، ولا إصلاح إلا إذا أصلح كلُّ امرئ نفسه، وهذا يخالف أميال البشر؛ لأنهم أميل إلى إصلاح غيرهم منهم إلى إصلاح نفوسهم.»
وكل من لا تلبث الدراهم أنْ تصل إلى يده حتى ينفقها يظل في الذل عرضة لصروف الزمان، قال مستر كبدن: «الناس رجلان مقتصد ومسرف أي موسر ومعسر، فالبيوت العظيمة والمعامل الوسيعة والسفن الكبيرة والقصور الشاهقة عملها المقتصد الموسر على كتف المسرف المعسر هذه هي شريعة طبيعية، وكل من يَعِد الناس بالتقدم بواسطة الإسراف والكسل فهو كذَّاب خدَّاع.» ويماثل ذلك ما قاله مستر برَيت وهو: «ليس إلَّا سبيل واحد لبقاء الإنسان في الحالة التي هو فيها إذا كانت حسنة ولارتقائه إلى أحسن منها إذا كانت رديئة، وهو ممارسة الاجتهاد والاقتصاد والنزاهة والاستقامة، هذا هو السبيل الوحيد للتقدم، وهذه هي الواسطة التي يتقدَّم الناس بها على الدوام.» وما من مانع يمنع الفقراء عن الجري بحسب ذلك، وبالنتيجة عن الارتقاء إلى أسمى المراتب، وقد ارتقى بعضهم إليها، وما كان ممكنًا للبعض فهو ممكن للكل؛ لأن الأسباب الواحدة نتائجها واحدة، ولا بدُّ من قوم يعيشون بتعبهم؛ لأن ذلك ضروري للهيئة الاجتماعية، وهو ترتيب إلهي، ولكنَّ بقاءهم في الجهل والاحتياج إلى الغير ناتج من ضعفهم وطمحهم وإعطائهم النفس هواها، ولا سيما لأن افتقارهم للكدح من الأسباب القوية التي يجب أنْ تربِّي فيهم قوة التعويل على النفس التي تتكفل بمساواتهم مع مَنْ هم أرقى منهم شأنًا. قال منتانيه: «كل إنسان حقيق بالجري بموجب قواعد الفلسفة الأدبية؛ لأنه حاوٍ كلَّ شروط الإنسانية.»
وعلى العاقل أنْ يستعد للقاء ثلاثة؛ العطلة، والمرض، والموت، أمَّا الأوَّلان ففي طاقته تجنبهما وليس كذلك الثالث، ولكنه على كلِّ حال يجب أنْ يعيش عيشة تمكنه من مقابلة كلِّ بلية من هذه البلايا الثلاث، حتى يحلِّي مرارتها ما أمكن، سواء كانت نتيجتها عائدة عليه فقط أو على عائلته معه، وبناءً على ذلك يكون اكتساب المال بالحق وإنفاقه بالقصد من أهم الأمور؛ لأن الأول عنوان الاجتهاد والاستقامة، والثاني عنوان سداد الرأي والنظر في العواقب، وما المال لسدِّ الحاجات من أكل وكسوة فقط، بل هو أساس عزة النفس والاستقلال.
والمال المذخور لطوارق الدهور حصن منيع، يُلجأ إليه عند الحاجة، فيسد الاحتياج ويزيل الهم إلى أن تنقضي أيام الشدة وتنفتح أبواب الفرج، وما أحسن ما قاله أحيحة بن الجُلَّاح:
وما قاله الآخر:
ومن كان غرضه ارتقاء المعالي، وشمَّر له ذيل الاجتهاد علت همته، وتقوت عزيمته، فيذل له الدهر، وتتمهد أمامه الصعاب، وأمَّا من كان دائمًا على حافة الفاقة فهو عبد وقَيْده بيد مستخدميه يشترطون عليه ما شاءوا، فيرونه أطوع من مطية الركاب، وإذا نزلت به طوارق الأيام اضطُر إلى التسول أو الموت جوعًا، والموت خير من سؤال بخيل، وإذا انقطع عمله من مكان لا يمكنه الرحيل إلى مكان آخر؛ لأن ليس بيده ما يقوم بنفقة سفره، فيتربَّص في مكانه كرهًا متجرعًا غصص الهوان.
ويدخل تحت مفهوم الاقتصاد ترك اللذة الوقتية لأجل إحراز الخير المقبل، الأمر الذي يمتاز به عقل الإنسان عن غريزة الحيوان الأعجم، وبين الاقتصاد والتقتير بَوْن شاسع؛ لأن المقتصد مستعد دائمًا للكرم، ولا يحسب المال معبودًا بل آلة لقضاء أغراضه، ولقد أصاب دِيَن سوفت؛ إذ قال: يجب أنْ نحمل الدراهم في رءوسنا لا في قلوبنا. ويمكننا أنْ نعد الاقتصاد ابنًا للحكمة وأخًا للنزاهة وأبًا للحرية وحافظًا للصيت والراحة العائلية والنجاح الأهلي وعنوانًا للتعويل على النفس. قال شبيب بن شية لبنيه: إنْ كنتم تحبون المروءة والفتوة فأصلحوا أموالكم. وقال أبو فرنسيس هرنر لابنه عند أول خروجه إلى الدنيا: إنني أودُّ من كلِّ قلبي أنْ أراك متمتعًا بالراحة والرفاهية، ولكن لا يمكنني إلا أنْ أحضَّك على الاقتصاد، وإن احتقره بعض سخفاء العقول؛ لأنه يقود إلى الاكتفاء، والاكتفاء غاية كلِّ شهم عزيز النفس، والأفضل لمن قصد الإثراء أنْ يتوقع نجاحه من التقدير لا من الربح الكثير، كما قال اللورد باكون؛ لأن الدراهم اليسيرة التي نصرفها يوميًّا لغير فائدة قد تصير ثروة وافرة تغنينا زمن الاحتياج. والمسرفون أعداء لِداد لنفوسهم، ومن لم يكن لنفسه صديقًا فكيف ينتظر صداقة الغير؟! والمقدِّرون لهم دائمًا ما يساعدون به غيرهم وأمَّا المسرفون فلا. على أن التقتير أخو الإسراف والكرم أفضل المناقب ومرقاة الفلاح، ولا حاجة لتعداد الشواهد على ذلك؛ لأنها أكثر من أنْ تُعَد.
وعلى كلِّ إنسان أنْ يجتهد لكي يعيش على قدر دخله، ولا يمكن أنْ يكون مستقيمًا إلا إذا فعل ذلك؛ لأن من لا يقصر نفقته على دخله، فهو عائش من دخل غيره، ولا يخفى ما بذلك من مخالفة الذمة والدين، ومن كانت هذه الحال حاله لا يلبث طويلًا حتى يرى لزوم المال، ولكن عندما يكون قد فات الوقت فيأخذ يستدين ويستعير بعد أنْ يكون قد بذَّر ماله، فيغرق في بحر من الدين لا خلاص له منه، ويفقد صيته وحريته ومروءته، قال المثل: «العدل الفارغ لا يستقيم.» وهذا حال المديون. ويصعب على المديون أنْ يتكلم بالصدق، لذلك يقال إنَّ الكذب راكب على متن المديون كيف لا، ودأْبه تلفيق الأعذار لدائنه لسبب تأخره عن دفع ما له عليه فضلًا عن مماطلته إياه. وكل أحد يستطيع أنْ يتجنَّب الدين أول مرة، ولكن سهولة استدانته في المرة الأولى تيسره عليه ثانية وثالثة، فلا يلبث أنْ يغرق فيه، فيُمْسي عاجزًا عن الوفاء، ومن يخطو الخطوة الأولى في هذا السبيل يتهافت إلى هوة لا خلاص له منها كمن يخطو الخطوة الأولى في الكذب. قال هيدن المصور: إنَّ انحطاطي ابتدأ في الوقت الذي استَعْرت فيه شيئًا من الدراهم، فصدق فيَّ قول المثل: العارية عار. ووُجد في الكتاب الذي كتب فيه حوادث حياته الكلام الآتي: «هنا ابتدأ ديني الذي لا يمكنني أنْ أتخلص منه مدة الحياة.» ومن يطلع على سيرة حياته يرَ مقدار ما يحدثه الاحتياج من ضعف العزم وقلق الفكر، قيل: طلب منه بعض الشبان نصيحة، فكتب إليه يقول: لا تبتع شيئًا لا تستطيع ابتياعه بلا اقتراض، ولا تستعر فالعارية عار. وقد ارتأى الدكتور جنصن أن الدين الباكر خراب، وكلامه بهذا الشأن جدير بالذكر قال: لا تعتبر الدين أمرًا غير لائق، بل مصيبة كبيرة، واجتنب الفقر بكل قوتك؛ لأن الفقر يمنع عن أعمال البر، ويعرِّض الإنسان لشرور كثيرة مادية وأدبية، ولْيكن اهتمامك الأول تجنُّب الدين والفقر؛ لأن الفقر عدو الراحة ومبطل الحرية ومزيل الفضائل، ومن يفتقر إلى مساعدة الناس له لا يقدر أنْ يساعد أحدًا، وقال بعضهم:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وعلى كلِّ أحد أنْ يلتفت إلى أعماله بعين التدقيق، ويكتب كلَّ ما يربحه وكلَّ ما ينفقه؛ لأن الحكمة تستدعي أنْ يعرف الإنسان مقدار دخله، ويجعل نفقته أقل منه، وما من سبيل إلى ذلك إلا بكتابة الدخل والخرج كما أشار يوحنا لوك. قيل إنَّ ديوك ولنتون الشهير كان يقيِّد كلَّ دخله ونفقته بالتفصيل، وقال مرة لمستر كليك: إنني كنت مخوِّلًا وفاء القوائم المطلوبة مني لخادم أركن إليه، وأمَّا الآن فأدفعها بيدي، وأشير على كلِّ أحد أن يقتدي بي، ومن كلامه على الدين قوله: «الدَّين يستعبد البشر، أمَّا أنا فلم أستدن قط مع أنني كنت محتاجًا إلى المال مرارًا.»
ومن الذين كانوا يدققون في هذا الأمر مثل ولنتون وشنطون الشهير الذي لم يستعب أن يتفقَّد كلَّ شيء في بيته؛ لكي يعيش ضمن دائرة دخله حتى لما كان رئيسًا على الولايات المتحدة الأميركانية.
قال الأدميرال جرفس — وهو المعروف بأرل سنت فنسنت: «كان أبي من المتوسطي الحال إلَّا أنَّ عائلته كانت كبيرة، ولذلك لما انطلقتُ من عنده إلى عملي (في البحر) لم يعطني إلا عشرين ليرة، وهذا كل ما أخذته منه من الأول إلى الآخر، إلا أنني بعد برهة من الزمان سحبت عليه سفتجة بمبلغ عشرين ليرة، فأرجعها مقيمًا الحجة عليَّ (بروتستو)، ولا يخفى كم تكدرتُ من ذلك إلا أنني حتمت على نفسي ألَّا أسحب سفتجة أخرى بدون أنْ أكون متأكدًا أنها تُقبَل حالًا، وللوقت غيَّرتُ شكل معيشتي، وتركت رفاقي الذين كنت أتناول الطعام معهم، وصرت آكل وحدي، وأخذت ما سُمح لي به من السفينة، فوجدته كافيًا وفائضًا، وصرت أغسل ثيابي وأرفَؤها بيدي، وعملت بعض الأكسية من غشاء فراشي، وما زلت على مثل ذلك حتى وفَّرت قيمة السفتجة المار ذكرها، ومن ذلك الوقت حتى الآن لم يزد خرجي على دخلي قط.» ا.ﻫ. وقد ارتقى هذا الرجل إلى أعلى المراتب باجتهاده، وتحمله ضنك المعيشة بالصبر الجميل.
وقال مستر هيوم: إنَّ نسق المعيشة في لندن شاطٌّ، فإن المتوسطين ينفقون كلَّ دخلهم أو أكثر منه، ولا سيما لأنهم يرفهون أولادهم ويلبسونهم كالأغنياء حاسبين ذلك شرطًا للكياسة مع أنه ما من آفة للكياسة والأمانة مثل التظاهر بما ليس في الواقع، فإن من لم يكن غنيًّا ولبس ما يوهم الناس أنه غني لا يفرق عن المزوِّر، أَوَ يخجل الإنسان أن يظهر بالحال التي هو فيها إرضاءً للزي؟! أَوَ لا يرى نتائج التظاهر بالغنى وشروره الطامية على هامة الأبرياء؟! فإن العالم بأسره يئنُّ من أثقالها.
لما استعفى السر تشارلس نبير من قيادة الجنود في الهند، أقام الحجة على رؤساء الجند الشبان على توغلهم في الإسراف والدَّين، وقال: إنهم ليسوا رجالًا؛ لأنهم — وإن كانوا لا يهابون الموت — يخافون أن ينكروا على نفوسهم لذاتها ولو تمتعوا بها دَينًا، فترى القائد الباسل يرافعه خادمه لأجل مال استدانه منه وعجز عن وفائه.
والشاب الشارع في خوض بحر هذه الحياة مُحاط من كلِّ ناحية بتجارب متنوعة، فإذا غلبت عليه حطته إلى أدنى دركات الهوان، وإذا جاراها نزعت منه قوة الدفاع رويدًا رويدًا، حتى تجعله غير قادر على تجنُّبها أصالةً، فعليه أن يبتعد عنها أوَّل ما تتصدى له غير مبال بما إذا كانت عواقبها شديدة الضرر أم قليلته، بل عليه ألَّا يقف ويتأمل في نتائجها؛ لأن التأمل في مثل ذلك الحين غير سليم العاقبة، ومن سلَّم للتجربة، ولو مرة واحدة، ضعف عن مقاومتها، وأمَّا من يقاوم التجربة حالما تعرض له، فتتخلص من طائلتها حياته بأسرها، ثم لا تلبث مقاومته للتجارب أنْ تصير عادة فيه، ولا يخفى أنَّ أكثر أعمال الإنسان مرجعها إلى العادة، فمن درَّب نفسه على العوائد الحسنة تملكت فيه ونجته من مخاطر كثيرة، وسهلت أمامه سبيل النجاح.
أخبر هيو ملر أنه حتم على نفسه مرةً أن يتجنب تجربة واحدة، فنجا من أكبر الشرور، وذلك أنه لما كان يعمل في صناعة البناء قُدِّمَ له مرة كأسان من الهوسكي (نوع من المسكرات)، فكرعهما، وانطلق إلى بيته، وفتح كتابًا كان يحب المطالعة فيه، فللحال أخذت الحروف ترقص أمام عينيه من فعل سورة المسكر برأسه، فحتم على نفسه من تلك الساعة أن لا يذوق مسكرًا فيما بعد، ولا يضحي قواه العقلية على مذبح اللذة الوقتية، فكان هذا الحتم كَدَفَّة أدَار بها سفينته في بحر هذه الحياة نحو المجد والشرف حالما رأى الصخر العظيم الذي اصطدمت به سفنٌ كثيرة فتكسَّرت، وتجربة السكر قائمة في طريق كلِّ شاب، وهي من أشد التجارب خطرًا، والسعيد من نجا منها. كان من عادة السر ولتر سكوت أنْ يقول: «لاشيء يحط شأن الإنسان مثل السكر.» والسكر آفة الاقتصاد، وعدو الاستقامة، ومخرب الصحة، والامتناع المطلق عنه أسهل من الاعتدال، قال ابن الوردي:
وعلى العاقل أنْ يتجنب كلَّ خلة ذميمية، ولكن لا يليق به أنْ يقف على هذا الحد، بل يجب عليه أنْ يجدَّ في طلب كلِّ منقبة حميدة. والوعود والعهود قد تنفع ولو بعض المنفعة، ولكن ما من شيء أنفع من الاجتهاد على بلوغ أعلى درجات المجد وإحراز أسمى المناقب، ولا يتم ذلك إلَّا بالسهر ومعرفة الذات والاحتراس من كلِّ زلة، والامتناع عن كلِّ لذة وقتية إذا كانت تمنع خيرًا مقبلًا؛ لأن من لا يقوى على كبح جماح نفسه فالعبد أكثر حرية منه.
ولقد أُلِّفِت كتب كثيرة تدَّعي أنها تعلم الناس سرَّ اكتساب الغنى، ولكن ليس في ذلك سرٌّ؛ لأن لغات البشر ملآنة من الأمثال التي تبين أنَّ الاجتهاد باب الغنى مثل: من جدَّ وجد، ومن سعى رعى، ومن جال نال، ومن تأنَّى نال ما تمنَّى، ومن حرص على الدراهم اجتمعت عنده الدنانير، ونحو ذلك من الأقوال الحكيمة التي جمعت خلاصة اختبار قرون عديدة، وجرت على ألسنة الناس قبل تأليف الكتب بزمان مديد، ومع تقادم عهدها لا تزال توافق اختبارنا، وهذا يزيدها ثباتًا، وأمثال سليمان مملوءة من الحكم التي تناسب موضوعنا، مثل قوله: «المتراخي في عمله أخو المسرف.» وقوله: «اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيمًا.» وقوله: «الكسلان يأتي فقره كساعٍ وعوزه كغازٍ.» وقوله: «العامل بيد رخوة يفتقر أمَّا يد المجتهد فتُغْني.» وقوله: «السكير والمسرف يفتقران، والنوم يكسو الخِرَق.» وقوله: «أرأيت رجلًا مجتهدًا في عمله أمام الملوك يقف.» وفوق كل ذلك قنية الحكمة خير من الذهب وقنية الفهم تُختار على الفضة، وهي أثمن من اللآلي، وكل جواهرك لا تساويها.
بالاجتهاد والاقتصاد يقدر كلُّ أحد أنْ يعيش مكتفيًا، ويذخر شيئًا لشيخوخته، وكلٌّ من الصانع والعامل يقدر أنْ يدبر نفقته حتى تمكنه من أنْ يذخر ولو شيئًا يسيرًا، واليسير يصير مع الزمان كثيرًا، ومن لم يتدبر اليسير لم ينل الكثير، وأمَّا من يذخر شيئًا قليلًا كلَّ يوم ويضعه في بنك أو عند صراف أمين، فلا تمضي عليه سنون كثيرة حتى يرى له سندًا يعتمد عليه في طلب الارتقاء، ويلتجئ إليه وقت الشدة، ويصير قادرًا على تعليم أولاده والاشتراك في الأعمال النافعة، وهذا الأمر ممكن لكل أحد ولو كان صانعًا أو فاعلًا، ودليله ما قيل عن توما ريط المنشستري الذي كان صانعًا في مسبك، وأمكنه في الوقت نفسه إصلاح شأن كثيرين من المجرمين المنقضي وقت سجنهم وغيرهم، فإنه حدث أمر اقتاده إلى الاهتمام بهذا الأمر الذي أشغل كلَّ قوى عقله، غير أنه كان يعمل في مسبك — كما تقدم — من الصباح حتى المساء، فلم يكن له إلا دقائق يسيرة من النهار مع أيام الآحاد، فخصصها لخدمة أولئك المجرمين الذين كان أمرهم مهملًا بالكلية في تلك الأيام، ومن المؤكد أنه لم يمضِ عشر سنوات حتى ردَّ أكثر من ثلاث مائة منهم إلى طريق الاستقامة والراحة، وصار يُعَدُّ طبيب السجون الأدبي، وكان ينجح في الأماكن التي تُعْجِزُ القسوس وغيرهم، وأرجع كثيرين من الفتيان والفتيات الضالين إلى والديهم، وجعلهم يتعاطون أعمالًا مفيدة، ولولاه لاتصلوا إلى أقصى دركات الشر، ولم تكن هذه الأعمال سهلة؛ لأنها تقتضي مالًا ووقتًا واجتهادًا وحكمة واستقامة، ومن العجب أنه أنقذ كثيرين من الضالين بما كان يذخره من أجرته، وكانت أجرته زهيدة لا تزيد على مائة ليرة في السنة، ومع ذلك كان يعول عائلته، ويذخر شيئًا من دخله إلى زمان الشيخوخة، ويُرْوَى أنه كان يجلس كلَّ أسبوع، ويقسم دخله على خرجه، فيعين قسمًا للطعام واللباس، وقسمًا أجرة للبيت الذي كان ساكنًا فيه، وقسمًا لمعلم المدرسة الذي يعلم أولاده، وقسمًا للفقراء والمحتاجين، وبهذه الواسطة أمكنه أنْ يعمل ما عمله من الخير العظيم، وحياته من أصدق الأمثلة لقوة العزم والتدبير، ولما يستطيعه الإنسان باليسير الذي يذخره، ولتأثير استقامة الإنسان واجتهاده في حياة غيره.
كلُّ عمل محلل شريف سواءٌ كان حراثة الأرض، أو عمل الأدوات، أو نسج النسيج، أو بيع الأثمار، ولا عار على الرجل إذا تعاطى هذه الأعمال، أو ما هو أدنى منها، بل إذا حصر أفكاره ضمن دائرتها الضيقة، قال فلر: «لا يخجل مَن يعمل في حرفة بل من لا يعمل.» وقال المطران هُل: «حبذا الصنائع ونتائجها.» والذين ارتقوا من احتراف الحرف الدنيئة إلى مناصب أعلى منها يجب أن لا يستحيوا بل يفتخروا بتغلبهم على المصاعب. قيل: سأل بعضهم أحد رؤساء أميركا قائلًا: ما شعار عائلتكم؟ وكان الرئيس مشقق حطب فقال: ردنان قصيران. وقيل: عيَّر بعضهم فلاشيه أسقف نسمس بدناءة أصله؛ لأنه كان شمَّاعًا، فأجابه: لو وُلِدْتَ شمَّاعًا مثلي لبقيتَ شماعًا مدى حياتك.
وكثيرون يجمعون المال، وليس لهم من غاية سوى جمعه، فمن كانت هذه غايته، وأكبَّ عليها بكليته يندر أن لا ينال مراده. والسبيل إلى جمع المال سهل جدًّا؛ لأنه يتم بجعل الخرج أقل من الدخل. قيل إنَّ استرولد رئيس البنك الباريزي كان في أول أمره فقيرًا جدًّا، وكان من عادته أنْ يأتي كلَّ مساء إلى بعض الحانات، ويشرب شيئًا من البيرة، ويلتقط كلَّ ما يجده من الفلين المرمي، فجمع في ثماني سنين مقدارًا من الفلين باعه بثماني ليرات، وهذه الثماني الليرات أساس ثروته الوافرة التي بلغت عند موته ثلاثة ملايين فرنك.
ذكر يوحنا فستر مثالًا لتحصيل الغنى بواسطة مثل هذه، فقال: إنَّ شابًّا باع ميراثه من أبيه، وصرف ثمنه في ارتكاب المعاصي، ولما شعر بما داهمه من الفاقة الشديدة خرج هائمًا على وجهه، عازمًا أنْ ينهي حياته التعيسة، فوصل إلى مكان يشرف على ما حوله من الأراضي التي كانت قبلًا ملكًا له، فجلس هنيهة يتأمل فيها، وعزم أنْ يجتهد على استرجاعها، فقام ورجع إلى المدينة، فرأى عدلًا من الفحم ألقته عجلة أمام بيت، فعرض نفسه على أهل البيت؛ لكي ينقله لهم إلى داخل البيت، فقبلوه وأعطوه أجرته، فطلب منهم شيئًا من الطعام، فأعطوه فأكله وأبقى الأجرة، وأخذ يعمل في مثل هذا العمل حتى صار معه دراهم كثيرة، فاشترى بها بعض المواشي، وباعها بربح كثير، واستمر يوسع دائرة أعماله حتى صار من الأغنياء، فاسترجع أملاكه وزاد عليها، وكان يمكنه أنْ يعيش مفيدًا لنفسه ولغيره، ولكنه صار شديد البخل، فعاش عيشة الذل، ومات غير مأسوف عليه، تطبيقًا لقول من قال:
والذخر للبنين وللشيخوخة محمود جدًّا، ولكن إذا لم يُقصَد به إلا ثراء المال فهو قبيح إلى الغاية، ولا يفعل ذلك إلا الحمقى والبخلاء، وعلى الحكيم أنْ يتجنب التطرف في الاقتصاد كلَّ التجنب؛ لأن الزائد أخو الناقص، ومتى زاد الاقتصاد صار شحًّا بل بخلًا، ومَن كان مقتصدًا في شبيبته لا يبعد أن يصير بخيلًا في شيخوخته، فيمسي المحمود مذمومًا. ومحبة المال أصل كلِّ الشرور، فإنها تعمي البصر، وتظلم الفكر، وتفسد الأخلاق، لذلك قال السر ولتر سكوت: إنَّ الدرهم يقتل نفوسًا أكثر مما يقتل السيف أجسادًا.
ومن الشوائب المعرض لها رجال العمل السارون في سبل النجاح تضييق أفكارهم بل حصرها في منفعتهم، فلا ينظرون إلى الغير إلا بما يعود إلى نفعهم، انزع ورقة من دفاتر هؤلاء الناس تزهق أرواحهم منهم.
والنجاح في ثراء المال يروق لنظر أكثر الناس، والمجتهد الدئب الحاذق العاري من صفات البذخ والإسراف ينال الغنى المادي، ولكن قد لا ينال من الغنى الأدبي شيئًا، بل يبقى جاهلًا خامل الذكر، ومن لا يضع نصب عينيه إلا الدينار يغتن غالبًا، ولكنه يبقى من أفقر الناس عقلًا وأدبًا، لأن الإنسان لا يُثَمَّن بماله بل كثيرًا ما يكون لمعان الذهب واسطة لإظهار دناءة مالكه كما أن لمعان الحُباحب يظهر شكلها الشنيع:
وإذا التفتنا إلى كثيرين من الناس الذين يضحُّون كل شيء على مذبح المال، رأينا ما يذكرنا بجشع طائفة من القرود. ذلك أنَّ أهالي الجزائر إذا أرادوا مسكها ربطوا يقطينة مجوفة إلى شجرة، ووضعوا فيها شيئًا من الأرز، وجعلوا لها ثقبًا يكفي لدخول يد القرد فارغة، فيأتي إليها ليلًا، ويدخل يده في ثقبها، ويحفن مِلأها من الأرز، فلا يعود قادرًا على إخراجها، ولا يترك الأرز جهلًا وجشعًا، فيتربص في مكانه حتى الصباح، فيأتون ويقبضون عليه.
والناس يعتبرون الغنى أكثر مما يحق له؛ لأن أكثر الأمور العظيمة التي عُملت في هذه الدنيا لم يعملها الأغنياء بل الفقراء، ألا ترى أنَّ الديانة المسيحية امتدت في المسكونة ودعاتها من أفقر الناس، أوَ لا ترى أنَّ المخترعين والمكتشفين والمصنفين كلهم رجال متوسطو الحال، وأكثرهم أناس يحصلون خبزهم اليومي بعرق جبينهم، وما كان فهو الذي سيكون. والغنى يصعِّب الأعمال أكثر مما يسهلها، وكثيرًا ما تكون مضاره أكثر من منافعه، فإذا ورث الشاب ثروة وافرة انقاد بها إلى حياة الكسل والتراخي؛ إذ ليس ما يدعوه إلى الاجتهاد، فتكرُّ عليه الأيام وهو لا يعرف قيمتها، ولا يكتسب منها حكمة، بل قد يجتهد على التخلص منها بأي واسطة كانت، فهو كحيوان حلميٍّ نامٍ في الهيئة الاجتماعية، يمص من دمها، ولا يجديها نفعًا، والتخلص منه أسلم. على أنَّ ذوي الثروة المبثوثة في قلوبهم روح الإنسانية الصحيحة يتجنبون الكسل كأمرٍ مخلٍّ بالمروءة وعزة النفس، ويشعرون أنهم مطالبون بكثير؛ لأن وسائطهم كثيرة، ويرون أنهم مضطرون إلى العمل أكثر من غيرهم، ولا أفضل من الصلاة التي صلاها أجور، وهي قوله: لا تعطني فقرًا ولا غنًى، أطعمني خبز فريضتي. قال الإمام الشافعي في هذا المعنى:
وقال أيضًا:
لم يقم غناي بكثرة ثروتي بل بقلة احتياجي.
وهذا الرجل ارتقى من أدنى الرتب إلى أعلى المناصب، فإنه كان صانعًا في معمل، فصار من أعضاء البرلمنت المكرمين باستقامته واجتهاده ومحافظته على وقته وإنكاره لنفسه، وكان حينما ينفض البرلمنت يخدم في إحدى الكنائس الصغيرة كقس لها، والذين يعرفونه يشهدون أنه لم يطلب مدح الناس على ما عمله، بل قام بكل واجباته إتمامًا لمقتضيات المحبة والشهامة.
لا لوم على من أراد أنْ يكون غنيًّا ليكون مكرمًا بين أقرانه، إلَّا أنه لا ينال الإكرام حقيقة إلَّا إذا كانت صفاته الأدبية تستحقه، وأمَّا إذا جاوز غناه غنى قارون ولم يكن ذا أخلاق حميدة فالفقير خير منه. والفقير العاقل المفيد أفضل من الغني الجاهل ولو كان مكرمًا بين أقرانه. وغاية الإنسان العظمى في هذه الحياة القيام بالأعمال التي يطلبها جسده وعقله وضميره، هذا هو الغرض العظيم من حياة الإنسان، وما بقي فوسائط معدَّة لذلك، فليس الناجح من ينال أفضل لذة وأوفر ثروة وأعظم سطوة وأبعد شهرة، بل من ينال أعظم نصيب من المروءة، ويتمم القدر الأعظم من الأعمال المفيدة، الغنى قوة — ولا يسعنا أنْ ننكر ذلك — ولكن العقل والأدب قوتان أيضًا، وهما أفضل من الغنى بما لا يُقدَّر. كتب اللورد كُلِنْوُد إلى صديق له يقول: دع الناس يطلبون الأرزاق من الدولة، فأنا لا أنحو نحوهم؛ لأنني أقدر أن أكون غنيًّا بتساميَّ عن الدنايا، ولا أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية، فإني أعمل في بستاني بيدي وأجتزي بالقليل من النفقة عن الكثير.
والثروة تمكن صاحبها من الدخول بين الناس على ما يقال، ولكن لا يمكن أن يكون صاحبها معتبرًا منهم ما لم يكن عاقلًا أديبًا ذا مناقب حميدة، ومن الناس من هم أغنى من قارون في زمانه ولكن لا يلتفت إليهم أحد، بل الجميع يعتبرونهم كأكياس من الذهب الصامت، وأمَّا الذين يُشار إليهم بالبنان المتقلدون زمام الإحكام وبيدهم الأمر والنهي فليسوا من ذوي الثروة ولا يلزم أنْ يكونوا أغنياء، بل أنْ يكونوا من ذوي الأخلاق والآداب الصحيحة والمعارف الوسيعة. والقليل المال المهذب الأخلاق الباذل ما في وسعه لنفع البشر، يتطلع على الأغنياء الذين ثروتهم في دنانيرهم ولا يحسدهم على شيء منها.