في الخزافين الثلاثة العظام وهم بالِسي وبُتْغَر ووَدْجود
قال يوحنا رسكن: الصبر أفضل ما في العزم، وما من لذة ولا قوة إلَّا والصبر أساس لها، والرجاء نفسه لا تطيب به النفس إذا صحبه الضجر، وقال الشاعر العربي:
***
في تاريخ صناعة الخزف أمثلة على الصبر والمواظبة من أشهر ما جاء في سير البشر، وقد انتخبنا من بينها ثلاثة، وهي: ترجمة برنارد بالسي الفرنساوي، وجوان فردريك بُتغَر الجرماني، ويوشيا وَدْجود الإنكليزي.
إنَّ عمل الآنية الفخارية البسيطة كان معروفًا ومشهورًا من قديم الزمان عند أكثر الشعوب القديمة، وأما عمل الآنية المدهونة بالمينا فأقلُّ قدمية واشتهارًا على أنه كان معروفًا عند قدماء الترسكانيين، الذين كانت تُباع مصنوعاتهم في عهد أوغسطس قيصر بثقلها ذهبًا، ولم يزل شيء منها محفوظًا في محلَّات التحف في أوروبا.
ومن الأمم التي اشتُهرت بهذه الصناعة عرب الأندلس، وكان لهم معامل في جزيرة ميورقا حينما استولى عليها أهل بيزا سنة ١١١٥، وقيل إنَّ البيزيين أخذوا من جملة الغنيمة بعضًا من الآنية المدهونة، ووضعوها في جدران كنائسهم القديمة في بيزا علامة لظفرهم، ولم تزل فيها إلى يومنا هذا، وبعد ذلك بنحو قرنين أخذ الإيطاليون يمثلون صناعة العرب، وسموا مصنوعاتهم ماجولكا نسبةً إلى محلِّ معامل العرب، ومحيي هذه الصناعة في إيطاليا هو لوقا دلَّا روبيا النقاش الفلورنسي، قال فزاري في وصفه: إنه رجل لا يملُّ من العمل يقضي النهار وإزميله في يده، ويحيي الليل في رسم ما يريد نقشه، وإذا خاف على رجليه من برد الليل القارس وضعهما في سلة ملآنة من النشارة. وما ذلك بعجيب؛ لأني أرى الناس الذين لا يتعوَّدون احتمال مشقة البرد والحر والجوع والعطش وما أشبه لا يمكنهم أنْ ينجحوا، والذين يظنون أنه يمكنهم أنْ ينجحوا ويشتهروا إذا كانت كلُّ أمورهم مسهلة يخدعون أنفسهم؛ لأن النجاح والشهرة لا يُنالان بالنوم والراحة، بل بالسهر والتعب، وما أحسن ما قالهُ أبو الطيب المتنبي:
إلَّا أنَّ لوقا هذا لم يقدر أنْ يكسب من صناعة النقش ما يقوم بحاجاته مع كلِّ ما كان عليه من الاجتهاد، فخطر له أنْ يجد مادة أقل ثمنًا وأسهل مراسًا من الرخام لعمل الرسوم التي كان يعملها فأخذ يصطنعها من الطين، وكان همه الأكبر أنْ يشويها ويدهنها دهنًا ثابتًا لكي تقوم مقام الرخام، وبعد تعبٍ شديد وتجارب كثيرة اكتشف مادةً إذا دَهَن الطين بها وعرَّضه لحرارة شديدة جدًّا ذابت، وصارت دهانًا ثابتًا، ثم اكتشف طريقة لتلوين هذا الدهان بألوان مختلفة وبذلك ازداد جماله جمالًا، فامتد صِيته في كلِّ جهات أوروبا، وانتشرت مصنوعاته في أقطار فرنسا وإسبانيا وغيرهما، وكانت تُباع بأثمان فاحشة، ولم يكن يُصنع في ذلك العصر في فرنسا إلَّا جرار وقدور بسيطة خالية من الدهان، ودام الحال على هذا المنوال إلى أنْ ظهر فريد عصرِه ونابغة دهره الشهير بالسي، الذي حارب الصعوبات بعزم وهمة تستفز كلَّ مُطَّلِع على حياته إلى العجب والانذهال، كيف لا وهو رجل:
وسنورد هنا طرفًا من ترجمة هذا الرجل، وما احتمله من المتاعب وكابدهُ من المشقات إلى أنْ نال الغاية التي شمَّر لها الذيل.
وُلد برنارد بالسي في جنوبي فرنسا، نحو السنة العاشرة بعد الخمس مائة والألف للميلاد، من أبوين فقيرين جدًّا، لم يمكنهما أنْ يعلماه في مدرسة، ويشهد بذلك ما قاله بعدئذٍ وهو: «ليس لي كتب سوى كتابي السماء والأرض، اللذين يشترك فيهما الجميع.» وكانت صناعة أبيه عمل الزجاج على ما يُظَن، فتعلمها منه وزاد عليها علم تلوين الزجاج وعلم الرسم والقراءة والكتابة. ولما بلغ الثامنة عشرة كسدت صناعة الزجاج، فاضطرَّ أنْ يترك بيت أبيه ويحمل وطابه، ويسعى في طلب رزقه من مكان آخر، فسار نحو غسكوني، وكان يعمل في صناعته حيثما وجد عملًا، وأحيانًا كان يعمل في مساحة الأراضي، وجال مدة طويلة في فرنسا وهولندا وجرمانيا، ودام على ذلك نحو عشر سنين، ثم رجع إلى وطنه وتزوج واستقر في مدينة سنتس، وأخذ يعمل في تلوين الزجاج ومساحة الأراضي، ولم يمضِ عليه وقت طويل حتى عال وزادت نفقاته، فأخذ يُعمِل فكرته في إيجاد وسيلة لتكثير دخله، فلم يجد أفضل من دهان الخزف وتلوينه إذا استطاع إليه سبيلًا، وكان يجهل هذه الصناعة كلَّ الجهل حتى إنه لم يكن يعرف كيفية جبل الطين؛ فلذلك اقتضى له أنْ يتعلم كلَّ شيء بلا معلم، ولكن علوَّ همته وشدة أمله هوَّنا عليه كلَّ أمر عسير.
روى بعضهم أنَّ بالسي رأى ذات يوم كأسًا إيطالية بديعة (ولعلها من عمل لوقا المتقدم ذكره)، فأعجبه منظرها ورغب في تمثيلها رغبة شديدة. ولا يبعد أنَّ ألوفًا من البشر قد رأوا تلك الكأس فلم تؤثر فيهم كما أثرت فيه، وما ذلك إلَّا لأنه كان مهتمًا حينئذ بإبدال صناعته بصناعة أخرى، حتى إنه لو كان عزبًا لترك وطنه وذهب إلى إيطاليا، وتعلَّم سرَّ صناعتها، ولكنه كان مقيَّدًا بزوجة وأولاد. فاستحضر جميع العقاقير التي ظنَّ أنها تسيل على الخزف فتدهنه كدهان الكأس التي رآها، واشترى آنية خزف وكسَّرها كسرًا صغيرة، ورشَّ عليها من تلك العقاقير، وبنى لها أتونًا وشواها فيه مدةً من الزمان، فلم يذب الدهان عليها، بل كانت النتيجة تكسير الآنية وإضاعة الحطب والعقاقير والوقت والتعب، ومن المعلوم أنَّ النساء اللواتي لا يهمهنَّ إلَّا تحصيل الدراهم لاشتراء القوت والكسوة لأولادهنَّ، لا يعبأنَ بالامتحانات العلميَّة، وكانت امرأة بالسي كذلك، فلم تسلِّم له باشتراء آنية أخرى زاعمة أنها إنما تُشتَري لتُكسَّر، فقام بينهما النزاع، ولكن لما رأته منشغفًا في التفتيش عن هذه الصناعة التي أخذت منه كل مأخذ تركته إلى هواه، فبنى أتونًا آخر، وأتلف فيه مقدارًا وافرًا من الوقود والعقاقير والآنية، وبعد تجارب كثيرة يطول شرحها دهمه الفقر الشديد، ومما قاله بصدد ذلك: إنني انعكفت عدة سنين على التفتيش عن المينا بحزن وتنهُّد. وكان عندما تسمح له الفرصة يعود إلى حرفته الأولى؛ أي تلوين الزجاج ورسم الصور ومساحة الأراضي، غير أنَّ ما يربحه منها كان يسيرًا جدًّا، وأخيرًا لم يعد يستطيع الامتحان في أتونه؛ بسبب غلاء الوقود فاشترى مقدارًا وافرًا من الآنية المكسَّرة، وكسَّرها نحو أربع مائة شقفة، ودهنها بمواد كيماوية مختلفة، ومضى بها إلى معمل خزف يبعد عن سنتس نحو غلوة ونصف وشواها فيه، ولما تمَّ الشواء وجدها كما كانت، فصمَّم من ساعته على إعادة التجارب من جديد.
قلنا قبلًا إنه كان خبيرًا بفن المساحة، ففي ذلك الوقت صدر أمر الدولة بمسح الممالح التي في جوار سنتس فعينته لذلك، فكسب ما مكنه من مراجعة امتحاناته، فاشترى نحو ثلاثين إناءً وكسَّرها شقفًا صغارًا، ودهنها بمواد مختلفة، وشواها في أتون زجاج بالقرب من سنتس، فذاب بعض هذه المواد من حرارة الأتون، وانفتح أمامه باب الأمل، إلَّا أنَّ الدهان الأبيض كان لم يزل محجوبًا عنه، فلبث سنتين أُخريين يمتحن ويجرِّب على غير فائدة، إلى أنْ نفد كلُّ ما كسبه من مساحة الممالح، فعزم على أنْ يمتحن الامتحان الأخير، فكسر مقدارًا وافرًا من الآنية نحو ثلاث مائة شقفة، ودهنها بالمواد المختلفة، وشواها في أتون الزجاج، ولما فتح الأتون وجد الدهان ذائبًا على واحدة منها فقط، وكان لما بردت أبيض صقيلًا لامعًا جميلًا، فحملها وهرول إلى بيته، وهو يكاد يطير فرحًا وأراها لزوجته، ولكن لم يكن ذلك الدهانُ الدهانَ الحقيقي، بل واسطة لإثارة رغبته وتحميله مشقات يعجز القلم عن وصفها؛ لأنه لما رأى نجاحه هذه المرة بنى لنفسه أتون زجاج بجانب بيته؛ لكي يجري امتحاناته سرًّا، وقضى على عمله نحو ثمانية أشهر؛ لأنه كان يعمل فيه وحده ولم يستخدم إنسانًا ولا بهيمة، ولما أتمه عمل آنية خزف بيده، وشواها ودهنها بالمركَّبات التي ظن أنها تأتي بالمطلوب، ووضعها في الأتون، وأضرم النار النهار بطوله، ولم يذب شيء من الدهان، فأحيا الليل كله وهو يوقد، ولكن على غير نتيجة، فأتته زوجته في الصباح بشيء من الطعام؛ لأنه لم يمكنه أنْ يفارق الأتون، ثم مرَّ اليوم الثاني ولم يذب شيء من الدهان، وخيَّم الظلام، ومضى الليل، وأشرقت الشمس، ولم يذب منه شيء، ومرَّ اليوم الثالث والرابع والخامس والسادس مع لياليها، ولكن على غير نتيجة.
وإذ أعوزني الوقيد التزمت أنْ أحرق سياج جنينتي، ثم موائد بيتي، وكنت في ضيقة لا أستطيع وصفها من شدة ما اعتراني من التعب وحرارة الأتون، ومضى عليَّ شهر لم يجف قميصي فيه، وعوضًا عن أن أُعزَّى كنت أعيَّر، حتى إنَّ الذين كان يجب عليهم أنْ يساعدوني كانوا يجولون في المدينة، ويقولون إنه أحرق أثاث بيته، فثلموا صيتي وحمَّقوني في عيون القوم، وقد اتهمني البعض بسك النقود الزائفة فآلمني ذلك كثيرًا، حتى كنت إذا مشيت في الشوارع أمشي مطرق الرأس كمن ارتكب نقيصة … ولم يُعنِّي أحد من الذين حولي بل استهزءوا بي، قائلين: لا بأس إذا مات جوعًا فإنه أهمل صناعته. وكنت أسمع هذه الأقوال وأنا مارٌّ في الشوارع.
ومع كلِّ ذلك لم ينثنِ عن عزمه، بل دام على هذه الحال عدة أشهر إلى أنْ أخذ التعب والأرَق منه كلَّ مأخذ، وكاد يهلك جوعًا. وحينئذٍ ذاب الدهان، فأخرج الآنية سنجابية اللون، وتركها حتى بردت فإذا بها مكسوَّة قشرة زجاجية بيضاء، فصدق فيه المثل القائل: «من تأنَّى نال ما تمنَّى.»
فاستأجر حينئذٍ فخاريًّا؛ ليصنع له آنية خزفية بحسب إرشاده، وصنع بيده صُوَرًا من الخزف قاصدًا أنْ يدهنها بالدهان الذي اكتشفه، فبقي عليه أنْ يجد من يعوله هو وعائلته ريثما تكمل الآنية وتباع، ولحسن الاتفاق بقي له في سنتس صديق واحد يعتقد باستقامته، ولو لم يعتقد بسداد رأيه، وهو صاحب فندق، فاتفق معه على أنْ يعوله ستة أشهر. وأمَّا الفخاري الذي استأجره فأعطاه قسمًا من ثيابه بدلًا عن أجرته، فعرَّى جسده من الثياب، كما عرَّى بيته من الأثاث.
ثم بنى أتونًا على شكل منتظم، ولسوء حظَّه بطَّن قسمًا منه بحجارة صوانية، فحالما أضرم النار فيه تشظَّى الصوان وطارت شظاياه إلى الآنية، وحينما تمَّ شيُّها وأُخرجت من الأتون، كان الدهان ذائبًا عليها حسب بغيته، إلَّا أنه كان مخمشًا ومشققًا مما لحقه من الصوان، فخسر تعب ستة أشهر، لكنَّ الناس أقبلوا عليه راغبين في ابتياعها فلم يبعهم إياها؛ زاعمًا أنَّ ذلك يثلِم صيته.
ومما قاله في وصف حالته حينئذٍ الكلام الآتي: «إني مع كل ما ألمَّ بي لم يزل رجائي قويًّا وأملي وطيدًا، أبشُّ في وجوه الناس إذا زاروني، وأطايبهم في الكلام وقلبي ملآن كآبة وغمًّا، وأصعب ما قاسيت تهكم أهل بيتي عليَّ وازدراؤهم بي، وكانت أُتني مكشوفة سنوات عديدة، وأنا واقف أمامها تحت رحمة العواصف والأمطار بلا معين ولا مسلٍّ، سوى مواء القطاط وهرير الكلاب، حتى إذا ثارت الزوابع ولم أعد أطيق القيام أمامها، هرولت إلى بيتي مبللًا بالأمطار، ملطخًا بالأوحال، مترنحًا من النعاس ترنح السكران، فلا أرى فيه غير الملامة والتعيير، وإني حتى الساعة لأعجب من بقائي حيًّا مع كلِّ ما قاسيت.»
ويقال إنه أصيب حينئذٍ بمالنخوليا شديدة، فهام على وجهه في القفار القريبة من سنتس بثياب أخلاق كأنه هيكل من عظام، وما زال أهله وجيرانه يعيِّرونه ويستهزئون به، حتى رجع إلى صناعته الأولى ولازمها بجدٍّ نحو سنة من الزمان، فأصلح شأنه وسكَّت عن ألسنة الناس، ثم عاد إلى دهن الخزف، ولم يزل يجرب فيه ويمتحن، حتى أتقنه غاية الإتقان في مدة ثماني سنوات، بعد أنْ أضاع في اكتشافه عشر سنوات، وبرع فيه بكثرة المزاولة والاختبار، جامعًا ثمار المعرفة من فيافي الفشل، فتعلَّم في مدرسة الاختبار ماهية الدهان والأتربة المناسبة، وكيفية بناء الأُتُن، وبعد أنْ مضى عليه ست عشرة سنة يتعلم في مدرسة الاختبار اجترأ أنْ يدعو نفسه خزافًا، وصار يبيع مصنوعاته بقيمتها، ويعول عائلته بالسعة، ولكنه لم يكتف بما وجده، ولم يفتُر عن بذل الهمة في تحسين هذه الصناعة وإيصالها إلى أسمى درجاتها، فدرس الكائنات الطبيعيَّة؛ لكي يرسم أشكالها على مصنوعاته، وقد شهد له بيفون الشهير أنه كان من البارعين في علم التاريخ الطبيعي، ومصنوعاته تُعَدُّ الآن من الجواهر النادرة، وتباع بأثمان تكاد تفوق التصديق، فإنه بيع في لندن منذ بضع سنين صحفة من عمله، قطرها اثنتا عشرة عقدة بمائة واثنتين وستين ليرة إنكليزية، وجميع النقوش التي على مصنوعاته منقولة عن صور الحيوانات والنباتات التي في جوار سنتس، وهي في غاية من الإتقان في الرسم والوضع.
وألف بالسي في أواخر حياته كتبًا كثيرة في صناعة الخزف؛ لكي يعلِّم أبناء وطنه هذه الصناعة، ويرشدهم إلى تجنُّب الأغلاط التي وقع هو فيها، وألف أيضًا في الزراعة وبناء الحصون والتاريخ الطبيعي، وقدَّم خطبًا في هذا العلم الأخير، وكتب ضد التنجيم والكيميا (بمعناها القديم)، والسحر وما أشبه ذلك من الخزعبلات، فأهاج عليه خصومًا كثيرين فاتهموه بالهرطقة، وأودعوه السجن وهو في الثامنة والسبعين، وهددوه بالموت إذا لم يرتد عن مذهبه، لكنه كان متمسكًا به كتمسكه بالتفتيش عن دهان الخزف، فأتى الملك هنري الثالث إلى سجنه، وطلب منه أنْ يرتد عن مذهبه بقوله: أيها الرجل الصالح، إنك خدمت أمي وخدمتني خمسًا وأربعين سنة، وقد حميناك في وسط النيران والمذابح، والآن قد ألزمني الشعب وحزب كيز أنْ أتركك في قبضة أعدائك، وغدًا تُحرَق ما لم ترتد عن مذهبك. فأجابه: أيها المولى، أنا مستعد أنْ أسلم حياتي لأجل مجد الله، ولقد قلتَ لي مرارًا كثيرة إنك تشفق عليَّ، وأنا أقول لك الآن إني أشفق عليك أنت الذي قلتَ قد ألزمني الشعب، فإن كلامك هذا ليس كلام ملك، أما أنا فلا أنت ولا شعبك ولا أحد يقدر أنْ يثني عزمي، وإني أعلم كيف أموت. وحسبما قال مات، مات شهيدًا ولكن ليس حرقًا، بل في السجن بعد أنْ حُبس فيه نحو سنة، وهكذا انقضت حياة هذا الرجل الذي لا يضارعه أحد في الهمة والإقدام والاستقامة.
الرجل الثاني جون فردريك بُتغر مكتشف صناعة الخزَف الصيني الصلب، وُلد هذا الرجل في شليتز سنة ١٦٨٥، ولما بلغ الثانية عشرة وُضع عند صيدلاني في برلين، فأظهر من صغره رغبة شديدة في الكيمياء، فكان يقضي أكثر أوقات العطلة في الامتحانات الكيمياوية، وجل مقصده اكتشاف الإكسير الذي يُزعَم أنه يحيل كل المعادن إلى ذهب، وبعد مضي بضع سنين ادَّعى أنه اكتشف هذا الإكسير واصطنع به ذهبًا، ويقال إنه امتحن ذلك أمام معلمه الصيدلاني وعدد من الشهود، واحتال عليهم حتى أقنعهم جميعهم أنه صيَّر النحاس ذهبًا.
وانتشر خبره في الآفاق، وتقاطر إليه الناس من كلِّ فجٍّ عميق، ملقبين إياه «بطابخ الذهب»، حتى إنَّ الملك نفسه رغب في رؤيته والتكلم معه، وعُرِضت قطعة من الذهب التي زعم أنه حوَّلها من النحاس على فردريك الأول، فحدثته نفسه باصطناع ما لا يحصى منها ولا سيما؛ لأن خزينة بروسيا كانت محتاجة إلى النقود حينئذٍ، فعزم على وضع بتغر في حصن سبندو؛ ليعمل له الذهب فيه، ولما بلغ بتغر ذلك خاف من الفضيحة، وهرب إلى سكصونيا، فعيَّن الملك ألف ريال لمن يأتي به، ولكن مسعاه خاب؛ لأن بتغر دخل سكصونيا وطلب حماية منتخبها فردريك أوغسطس الأول، الملقب بالقوي ففرح به جدًّا؛ لأنه كان محتاجًا إلى النقود احتياجًا شديدًا، وأرسله سرًّا إلى درسدن مصحوبًا بحرس ملكي، وعندما خرج من وتنبرج جاءت فرقة من الأبطال البروسيانيين وطلبت أنْ يُسلَّم صانع الذهب ليدها، فأُوصل إلى درسدن وأُنزل في البيت الذهبي، وعُومل بكلِّ نوع من الإكرام إلَّا أنه كان عليه حرس شديد.
ونحو ذلك الوقت اضطرَّ المنتخب أنْ يذهب إلى بولونيا، فكتب إلى بُتغَر يطلب منه أنْ يفشي له سرَّ عمل الذهب، فبعث إليه بتغر بخنجر ملآن من سائل يضرب إلى الحمرة زاعمًا أنه يصير كلَّ المعادن ذهبًا إذا كانت ذائبة، فأخذ البرنس فرست فن فرستنبرغ هذا الخنجر ومعه كتيبة من الحرس، وأتى به إلى ورسو، فعزم المنتخب أنْ يجرب ذلك على الفور، ودخل هو والبرنس إلى غرفة سرية وائتزرا بمئزرين من الجلد، وأخذا في صهر النحاس، فلما ذاب سكبا عليه من سائل بتغر فلم يتغير، وكان بتغر قد سبق، فقال: إنَّ ذلك لا يتم إلَّا بنقاوة القلب. أمَّا المنتخب فكان قد قضى ليله مع أناس أشرار، فنسب عدم نجاحهما إلى ذلك، فاعترف ونال الحلة، ثم عاود الامتحان في اليوم الثاني فلم ينجحا، فغضب غضبًا شديدًا، وعزم أنْ يجبر بتغر على إفشاء هذا السر له ظنًّا منه أنَّ ذلك هو السبيل الوحيد لتخلصه من الإفلاس، ولما بلغ بتغر قصد المنتخب عزم على الفرار فتغفَّل الحراس وفرَّ هاربًا، وبعد مسير ثلاثة أيام وصل إلى أنس في النمسا؛ حيث ظن نفسه آمنًا، فتأثَّره رجال المنتخب، وقبضوا عليه وهو نائم، ورجعوا به إلى درسدن رغمًا عن مقاومته واستغاثته بالنمسا، ومن ثمَّ أُقِيم عليه حرس شديد.
ثم نُقل إلى حصن كونجستين المنيع، وقيل له إنَّ الخزينة فارغة من النقود، وإنَّ عشر كتائب من البولونيين لم يُدفَع لها شيء من رواتبها وهي بانتظار ذهبه، ثم زاره المنتخب بنفسه، وتكلم معه بشأن الذهب، وهدده بالقتل إنْ لم يعمل له ذهبًا.
ولكن مرت السنون، ولم يعمل ذهبًا ولم يُقتَل، بل حُفِظَت حياته لكي يكتشف شيئًا أنفع من تحويل النحاس إلى ذهب، وهو تحويل التراب إلى خزف صيني، فإن البرتوغاليين كانوا قد جلبوا آنية صينية من بلاد الصين، وكانت تُباع في أوروبا بأكثر مما يعادل ثقلها ذهبًا، وقد وجَّه أفكار بتغر إلى هذا العمل العظيم كيماوي شهير يُسمَّى ولترفون تشرنهس، وكان هذا الرجل معتبرًا جدًّا في عيني البرنس فرستنبرغ وفي عيني المنتخب، فقال ذات يوم لبتغر: إذا لم تقدر أنْ تصنع الذهب فاصنع شيئًا آخر. اصنع خزفًا صينيًّا. فكان لكلامه وقعٌ عند بتغر، فأخذ من تلك الساعة يجرب ويمتحن عساه أنْ يجد المواد التي يصنع منها الخزف الصيني، ودام على ذلك زمانًا طويلًا على غير نتيجة، وأخيرًا أتاه رجل بقليل من الطين الأحمر ليعمل منه بواتق، فوجد أنه إذا عُرِّض لدرجة عالية من الحرارة تحوَّل إلى مادة شبيهة بالزجاج، وصار كالخزف الصيني إلَّا في اللون والشفافية.
وهذا هو الخزف الصيني الأحمر وقد اكتشفه اتفاقًا، ومن ثمَّ أخذ يصطنعه بكثرة، ويبيعه كالخزف الصيني، إلَّا أنه كان يعلم أنَّ اللون الأبيض ضروري له، ولذلك لم ينفك عن الامتحان أملًا بالعثور عليه، فمضى سنون كثيرة ولم يبلغ مراده، وأخيرًا أعانته الصدفة فاكتشف الصيني الأبيض، وذلك أنه كان يلبس لمَّة من الشعور العارية حسب عادة تلك الأيام، فوجد ذات يوم أنَّ لمته أثقل من المعتاد، فسأل خادمه عن السبب، فأجابه: إنَّ ذلك من ثقل المسحوق الموضوع بين الشعر. وكان هذا المسحوق نوعًا من التراب، فخطر على باله حينئذٍ أنه ربما كان نفس التراب الذي يُصنَع منه الصيني، وهكذا كان لأن هذا التراب كان محتويًا على الكاولين، الذي هو جزء جوهري من الخزف الصيني، وكانت النتيجة من هذا الاكتشاف أنفع من اكتشاف الإكسير بما لا يُقدَّر.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) من سنة ١٧٠٧، أهدى للمنتخب أول قطعة من الخزف الصيني، فسرَّ بها المنتخب سرورًا جزيلًا، وأمر أنْ يُقدَّم له كل ما يلزمه لإتقان اختراعه هذا، فاستخدم خزَّافًا ماهرًا وشرع في عمل الخزف الصيني، وحينئذٍ أهمل الكيمياء، واستعاض عنها بصناعة الخزف، وكتب على باب معمله البيت الآتي:
إلَّا أنه كان لم يزل تحت الحفظ الشديد مخافة أنْ يفشي سره لآخر أو يفرَّ من قبضة المنتخب، وكانت معامله وأُتنه محروسة بالجنود ليلًا ونهارًا، وعُيِّن لحفظه ستة من القواد كانوا مطالبين به.
إنني أوقف نفسي لصناعة الخزف، وسأفعل أكثر مما فعل أيُّ مخترع كان ممَّن تقدَّمني، ولا أطلب منك إلَّا الحرية، فأدار إليه الملك أذنًا صماء، بل كان يريد أنْ يعطيه كلَّ الأموال التي يقترحها عليه، والألقاب التي يطلبها منه، أمَّا الحرية فبخل عليه بها؛ لأنه اعتبره عبدًا لا يُعتَق.
ودام بتغر على ذلك مدة طويلة إلى أنْ سئم الحياة، فانكب على المسكر واقتدى به أكثر العَمَلة، فقامت بينهم الخصومات والمنازعات، حتى ألزم الأمر أنْ تأتي الجنود مرارًا كثيرة وتفصل بينهم، ولما لم يرتدعوا سُجِنوا كلهم في البرختسبرغ، وعُومِلوا معاملة الأسرى، وفي غضون ذلك مرض بتغر مرضًا شديدًا وأشرف على الموت، فأشفق الملك أنْ يفقد هذا العبد النافع، فأذن له أنْ يتنزه في مركبة، ومعه عدد من الجنود لحراسته فتعافى قليلًا، ثم أذن له أنْ يذهب أحيانًا إلى درسدن، ووعده بالحرية التامة في كتابٍ كتبه له في نيسان (أبريل) سنة ١٧١٤، ولكن هذا الوعد أتى بعد وقته؛ لأن بتغر عاش بعد ذلك سنين قليلة في الذل والهوان عقلًا وجسدًا من تأثير السكر والمرض والحبس، وفي الثالث عشر من آذار (مارس) سنة ١٧١٩ وافته المنية فحرَّرتهُ من سجنه، وله من العمر خمس وثلاثون سنة، فدُفِن ليلًا في مقبرة جونيس في ميسن كأنه كلب. هذه هي سيرة أعظم مسببي غنى سكصونيا، وهذه هي المعاملة التي عُومل بها والنهاية التي وصل إليها.
أمَّا معامل الخزف الصيني فكانت سببًا لاتساع ثروة سكصونيا ومنتخبها، فاقتدى به أكثر ملوك أوروبا، وكان الصيني غير الصلب يُعمَل في سنت كلود قبل اكتشاف بتغر بأربع عشرة سنة، إلَّا أنَّ الصيني الصلب الذي اكتشفه بتغر أفضل منه كثيرًا، فأنُشِئت له معامل في سفر سنة ١٧٧٠، وهو الآن من أعظم ينابيع ثروة فرنسا؛ لأنه أفضل من كلِّ ما يُصنَع في بقية الممالك.
الرجل الثالث يوشيا ودجود، الخزَّاف الإنكليزي، الذي لم تصبه مصائب شديدة بمقدار ما أصاب بالسي وبتغر، ولكنه نجح أكثر منهما ولا سيما لأن الزمان الذي نشأ فيه كان موافقًا لنجاحه كما سترى.
بقيت البلاد الإنكليزية حتى أواسط القرن الماضي دون أكثر البلدان الأوروبية صناعة، وكان في ستفوردشير كثيرون من الخزَّافين، ومن جملتهم عائلة ودجود هذا، إلَّا أنَّ مصنوعاتهم كانت بسيطة إلى الغاية، فكانت البلاد تجلب خزفها المتقن من دلفت ومن كولون، ثم أتاها خزَّافان من نورمبرج، وبعد أنْ أقاما مدةً في ستفوردشير انتقلا إلى شلسي واقتصرا على عمل الآنية المزخرفة، ولم يكن يُصنَع في كلِّ إنكلترا شيء من الخزف الصيني، وأمَّا الآنية البيضاء التي كانت تُعمَل في ستفوردشير فلم تكن بيضاء تمامًا، بل ذات لون ترابي يضرب إلى الصفرة. فهذه كانت حالة صناعة الخزف في إنكلترا لما ولد يوشيا ودجود، وذلك سنة ١٧٣٠ إلَّا أنه لم يمُت حتى غيَّرها تغييرًا تامًّا مع أنه لم يعش أكثر من أربع وستين سنة، وباجتهاده ومهارته قامت هذه الصناعة على أسس وطيدة، أو كما قيل في رثائه: إنه حول عمل الخزف من حرفة خشنة غير معتبرة إلى صناعة بديعة، ذات قدر وطائل في تجارة البلاد.
لا يبعد أنَّ مرض رجله كان سببًا لشهرته؛ لأنه منعه عن استعمال كلِّ أعضائه، وبالنتيجة عن أنْ يكون عاملًا نشيطًا كغيره من العمَّال الإنكليز، فاضطرَّ أنْ ينصبَّ على أمر آخر، فأعمل فكرته في سر صناعته، فبلغ ما لو بلغه خزاف آثيني لحسدته عليه المسكونة.
ولما تعلَّم ودجود هذه الصناعة من أخيه اشترك مع إنسان آخر وأخذا يصنعان نُصُبًا للسكاكين وصناديق وغيرها من الأدوات، ثم تركه واشترك مع إنسان آخر يصنع قناديل وعلبًا للسعوط وما أشبه، ولكنه لم ينجح كثيرًا، وسنة ١٧٥٩ فتح معملًا خاصًّا به في برسلم، وأخذ يعمل في صناعة الخزف بنشاط، وكان جلُّ مقصده أنْ يصنع آنية أفضل من الآنية المصنوعة في ستفوردشير؛ هيئة ولونًا ودهانًا ومتانة، ولذلك أكبَّ على درس الكيمياء في أوقات العطلة، وامتحن امتحانات كثيرة في الدهان والمذوبات وأنواع الأتربة، وكان له حذاقة شديدة ونظر دقيق، فلاحظ أنَّ نوعًا من التراب الأسود المحتوي على السلكا يبيضُّ بالتكليس في الأتون، وبعد أنْ لاحظ هذا الأمر ودقَّق فيه النظر، استنتج أنه إذا مُزِجت السلكا بتراب الخزف الأحمر ابيضَّ مزيجهما بالتكليس، وهكذا كان. فلم يبقَ عليه سوى أنْ يدهن هذا الخزف بدهان إذا ذاب صار شفافًا، فيحصل على ما يماثل الصيني، أو على الصيني نفسه، أو ما سُمي فيما بعد بالخزف الإنكليزي، وفُضِّل على كلِّ ما سواه.
ووجد صعوبات كثيرة في أُتُنه مثل بالسي، إلَّا أنها لم تطُل كما طالت صعوبات ذاك، بل تغلب عليها سريعًا، وذلك بالامتحانات المتتابعة، والمواظبة الدائمة، والفشل المتواتر لأنه كثيرًا ما كان يضيع تعب شهر في يوم واحد، وبعد امتحانات كثيرة وإضاعة الكثير من الوقت والمال والتعب، عرف نوعًا مناسبًا من الدهان.
ثم أخذ في تحسين هذه الصناعة وانشغف قلبه بذلك، وما زال واضعًا نصب عينيه إيصالها إلى الدرجة العليا، حتى بعد أنْ صار يصنع كثيرًا من الآنية البيضاء والحمراء، وراجت مصنوعاته في إنكلترا وأوروبا، فأنشأ فرعًا عظيمًا من الصناعة الإنكليزية وأقامه على دعائم راسخة، وكان يقول: إنَّ ترك عمل الشيء أفضل من عمله عملًا غير متقن. فذاع صيته في الآفاق واقتدى به كثيرون.
وكان لودجود مساعدون كثيرون من أولي المقام والسيادة، ومن الصنَّاع الحاذقين أيضًا، فعمل للملكة تشرلوت آنية المائدة الملكية الأولى من الخزف الذي لُقِّب فيما بعد خزف الملكة، فلُقِّب خزَّافًا ملكيًّا، واعتبر هذا اللقب أكثر مما لو لقب أميرًا، وكثيرًا ما كان يُسلَّم آنية صينية فيصنع مثلها تمامًا الأمر الذي أدهش الجميع، وأعاره السر وليم هملتون آنية قديمة من هركولانيوم فعمل مثلها، ولما عُرِضَت القارورة البربرينية للمبيع دفع بها ألفًا وسبع مائة ليرة إنكليزية، فدفعت أميرة بُرتلند ألفًا وثماني مائة ليرة وابتاعتها بهذا الثمن الفاحش، ولكنها لما علمت أنَّ قصده تمثيلها أعارته إياها، فصنع خمسين قارورة مثلها أنفق عليها ألفين وخمس مائة ليرة إنكليزية وباعها بأقل من ذلك ولكنه نال غايته؛ إذ أثبت أنَّ كلَّ ما عملته الأمم لا تعجز عنه الحذاقة الإنكليزية، وكأنه كان يتمثل بقول المتنبي القائل:
وكان لودجود مشاركة في الكيميا وعلم الآثار القديمة، ومهارة تامَّة في صناعة الأيدي، فاستخدم كلَّ ذلك لصناعة الخزف، واستخدم أيضًا نقَّاشًا ماهرًا لعمل الأشكال والصور الجميلة، فصارت أشكال مصنوعاته وسيلة لإحياء صناعة النقش القديمة بين قومه، وتمكَّن أيضًا بواسطة الدرس والامتحان من كشف صناعة تلوين الخزف التي كانت مفقودة حينئذ، بل كانت قد نفدت من أيام بلونيوس، وخدم العلم خدمة نصوح وخلَّد ذكره بالبيرومتر الذي اخترعه، وكانت له يد طائلة في كلِّ مصلحة تئول إلى خير البلاد. فهو السبب في فتح ترعة ترنت ومرسي من شرقي الجزيرة إلى غربيها، وفي تمهيد طريق بطرس، وما زال يزداد شهرة واعتبارًا في عيون الناس، حتى صارت معامله في برسلم وإتروريا ناديًا يتقاطر إليه مشاهير الزوار من كلِّ أقطار أوروبا.
ونتيجة أتعاب هذا الرجل أنَّ الصناعة التي شرع فيها وهي في حالة دنيئة جدًّا، صارت من أهم صنائع إنكلترا، وصارت إنكلترا تصنع من الخزف ما يزيد عنها، فترسله إلى البلدان البعيدة التي كانت تجلب خزفها منها، وراج خزفها في تلك البلدان رغمًا عن المكوس الباهظة التي كانت تُضَرب عليه. وأثبت للبرلمنت بعد أنْ ابتدأ في عمله بنحو ثلاثين سنة، أنه بعد أنْ كانت هذه الصناعة في حالة دنيئة جدًّا، وكان يعمل فيها رجال قلائل فقراء الحال، وأكثرهم في حالة يرثى لها من الغباوة والمسكنة، صار نيف وعشرون ألف شخص يتعيشون منها مباشرة، هذا فضلًا عن عدد لا يُحصَى من الحفَّارين والفحَّامين، والذين ينقلون الآنية برًّا وبحرًا، والذين يتجرون بها، وكان يرتئي أنَّ هذه الصناعة لم تزل في طفوليتها، وأنَّ ما أصلحه فيها لا يحسب شيئًا في جنب ما تحتمله من الإصلاح بتقدُّم صنَّاع الانكليز واجتهادهم وتنشيط دولتهم لهم. وقد تمَّ قوله تمامًا، والشاهد على ذلك أنه صدر من بلادهم سنة ١٨٥٢ ما ينيف على أربعة وثمانين ألف ألف إناء خزف، وهذا التقدم العظيم لا يُحسَب شيئًا بالمقابلة مع تقدم الصنَّاع أخلاقًا وآدابًا؛ لأنه لما باشر ودجود عمله في ستفوردشير كانت ستفوردشير في الحالة الهمجيَّة، وكان أهلوها قلال العدد، فقراء أغبياء، وحالما تثبتت معامله صار فيها عمل كافٍ لثلاثة أمثالهم بأجرة عالية، وتحسنت أخلاقهم وآدابهم بانعكافهم على عملهم.
فهؤلاء الرجال؛ أي بالسي وبتغر وودجود وأمثالهم خليقون بأن يُدعَوا قادة أهل الصناعة بل جبابرة التمدن؛ لأن صبرهم وثباتهم في وسط التجارب والمصاعب، وشجاعتهم وجَلَدهم في مساعيهم المجيدة ليست أقل من بسالة الجنود الذين يقوم مجدهم بالمدافعة عمَّا عمله أرباب الصنائع.