في المزاولة والثبات
قال دافانان: من إذا انكبت ساعته الرملية انحنى وجمع رملها حبة حبة، كأنه يزر الكواكب فهو إنسان غني.
وقال ده لمبر: تقدمْ والإيمان يتبعك.
***
أكثر الأعمال العظيمة تمت بالوسائط البسيطة، وباستخدام القوى الاعتيادية، وفي سبيل الحياة العام فُرَص كثيرة للاختبار، بل إنَّ طرق الحياة المطروقة أكثر من غيرها تولي المجتهد قوة كافية ليسعى في إصلاح شأنه، والنجاح منوط بناصية الثبات والإقدام، فأكثر الناس ثباتًا وإقدامًا أكثرهم نجاحًا.
وكثيرًا ما لام الناس السعد، وعدُّوه أعمى وما العُمْي إلَّا هم، فإنَّا إذا أمعنا النظر في أحوال أهل الأعمال رأينا أنَّ السعد لأكثرهم اجتهادًا، كما أنَّ الرياح والأمواج توافق الناخُذاة الماهر، بل إنَّ أسمى مطالب البشر يمكن البلوغ إليها باستخدام القوى الاعتيادية، كالانتباه والاجتهاد والمواظبة، ولا لزوم لما يسمونه قريحة أو موهبة فائقة، على أنَّ القريحة وإنْ كانت من أسمى القرائح لا تنافي القوى الاعتيادية ولا تزري بها، وأعظم الناس شأنًا أقلهم إركانًا إلى القرائح، وأكثرهم مزاولة لأعمالهم، ومنهم مَن عرَّف القريحة بأنها ملكة قوية من الملكات الاعتيادية، قال أحد رؤساء المدارس: إنها قوة السعي. وقال جون فُسْتَر: إنها قوة يضرم بها الإنسان ناره. وقال بيفون الشهير: إنها هي الصبر.
لا يخفى أنَّ إسحاق نيوتن كان من ذوي العقول السامية، ولكنه سُئل مرة بماذا اكتشفت كلَّ هذه الاكتشافات الغريبة؟ فأجاب: «بالتأمل المستمر فيها.» ووَصَف في مكان آخر أسلوب بحثه، فقال: «إني أضع الموضوع نصب عيني وأنتظر حتى يبزغ فجره ويصير نورًا كاملًا.» ولم ينل ما ناله من الشهرة إلَّا بالاجتهاد والمواظبة كشأن غيره من المشاهير، بل إنه كان إذا تعب من الدرس في علم من العلوم يرتاح بإبداله بدرس علم آخر، وقال مرة للدكتور بنتلي: «إنْ كنتُ قد خدمت الجمهور بشيء فباجتهادي وجَلَدي.» فما أشبه ذلك بما قاله الفيلسوف كبلر الفلكي المشهور باكتشاف القواعد الثلث المؤسس عليها علم الهيئة، وهو أنَّ تمعُّني في دروسي يجعلني أواصل التفكر في مواضيعها إلى أنْ أغوص في لججها بكل قوى عقلي.
وبما أنَّ الاجتهاد والثبات قد أنتجا نتائج خارقة العادة، ارتاب بعض المشاهير بوجود ما يُسمَّى قريحة أو موهبة خاصة. قال فُلتير: إنَّ الحد الفاصل بين مَن له قريحة ومن ليس له يكاد لا يُرى. وقال بكَّاريا: إنَّ كل الناس يمكنهم أنْ يكونوا شعراء وخطباء. وقال رينلدز: إنه يمكن لكل إنسان أنْ يصير مصورًا ونقَّاشًا. وقال لك وهلفيتيوس وديدرو: إنَّ كل الناس قابلون لأن يَسمُوا بالقرائح على حدٍّ سوى، وإنَّ ما يفعله البعض بواسطة قوى عقولهم يقدر أنْ يفعله غيرهم، إذا استخدموا نفس الوسائط التي استخدمها أولئك، إلَّا أنه وإنْ يكن كلُّ شيء منوطًا بالاجتهاد حتى إنَّ أُولي القرائح هم أكثر الناس اجتهادًا وسعيًا، فلا يسعنا أنْ ننكر أنه ما لم يكن للإنسان موهبة فائقة لا يقدر أنْ يبلغ مبلغ شكسبير، أو نيوتن، أو بيتوفن، أو ميخائيل أنجلو مهما جدَّ واجتهد.
إنَّ دَلتون الكيماوي أنكر أنَّ له شيئًا من المواهب الفائقة، ونسب كلَّ ما حصَّله إلى السعي والاجتهاد، وجون هنتر قال: «إنَّ عقلي كقفير النحل يظهر مملوءًا من الطنين والارتباك، ولكنه مملوءٌ أيضًا من الهدوء والنظام، والطعام المجلوب من أفخر منتجات الطبيعة باجتهاد جزيل.» وإذا التفتنا إلى ترجمات مشاهير المخترعين والمؤلفين والصنَّاع من كلِّ نوعٍ ولو لفتة واحدة، رأينا أنهم بلغوا ما بلغوا بجدهم واجتهادهم، وحوَّلوا كلَّ شيء ذهبًا حتى الوقت نفسه. وقد ارتأى دزرائيلي الكبير أنَّ نجاح الإنسان يقوم بتغلبه على الموضوع الذي يبتغي النجاح فيه، ولا تحصل هذه الغلبة إلَّا بالدرس والانصباب الدائمَينِ، فينتج مما تقدم أنَّ الرجال الذين حرَّكوا الدنيا بأسرها لم يكونوا من ذوي المواهب الفائقة، بل كانت قواهم العقلية معتدلة، ولكنهم كانوا من أهل الجد والثبات، وكثيرًا ما سبق البلداء النبلاء في ميدان الحياة؛ لأنهم كانوا أكثر منهم مواظبة. قال المثل الإيطالي: مَن يسر متمهلًا يسر طويلًا.
فالثبات من أول دلائل النجاح، وهو الذي يكمل الأعمال كلها. بالثبات نال السر روبرت بيل ما جعله زينةً وفخرًا لمجلس السنات الإنكليزي؛ فإنه لما كان صبيًّا كان من عادة أبيه أنْ يقيمه على المائدة ليتكلم ارتجالًا، وعوَّده على إعادة كلِّ ما يحفظه من المواعظ التي يسمعها نهار الأحد، وكان نجاحه قليلًا في أول الأمر إلَّا أنَّ المواظبة على ذلك قوَّت فيه قوتي الانتباه والذاكرة، حتى صار يمكنه أنْ يعيد موعظة كاملة حرفًا بحرف، ثم لما دخل البرلمنت وكان يفند أدلة أضداده واحدًا فواحدًا ببلاغة تفرَّد فيها، قلَّ مَن ظن أنَّ تلك الحافظة الفريدة التي فاق بها أقرانه قد اكتسبها بإرشاد أبيه له وهو حدَث.
وما أعجب ما تفعله المزاولة حتى في الأمور البسيطة، فاللعب على الكمنجة يظهر في بادئ الرأي أمرًا سهلًا، لكنه يستدعي مزاولة طويلة متعبة جدًّا. قيل إنَّ شابًا قال لجِيَرْديني في كم من الزمان أتعلم اللعب على الكمنجة؟ فأجابه: في عشرين سنة إذا مارسته اثنتي عشرة ساعة كلَّ يوم. ومن يجهل مقدار التعب الذي يتعبه الممثلون قبلما يتمكنون من التمثيل. قيل إنَّ تَغْلِيوني الشهيرة كانت قبلما تمثل شيئًا تمارسه ساعتين متواليتين، وعندما تنتهي الساعتان يغمى عليها من شدة التعب، فتجرَّد من ثيابها وترشُّ بالماء والمنعشات، وكان يصيبها مثل ذلك أيضًا عندما تنتهي من التمثيل.
والارتقاء في سلَّم النجاح أمر بطيء جدًّا، والنتائج العظيمة لا يبلغها الإنسان دفعة واحدة، فعلى كل أحد أنْ يقنع بالارتقاء المتدرج. قال ده مايستر: إنَّ سر النجاح هو أنْ يعرف الإنسان كيف يتوقع النجاح بالصبر. فعلى الإنسان أنْ يزرع قبل أنْ يحصد، وكثيرًا ما يضطرُّ أنْ يصطبر وقتًا طويلًا قبلما يصل إلى الحصاد، وأفضل الأثمار أبطؤها نضجًا. قال الشاعر:
وقال الآخر:
ولا يستطيع الإنسان أنْ يتوقع بلوغ أمانيه بالصبر ما لم يجتهد في بلوغها عن طيب نفس، والاجتهاد وطيب النفس تسعة أعشار الحكمة، وهما حياة النجاح وروحه، وما من لذة في الدنيا أتم من لذة العامل بعمله إذا كان عمله عن طيب نفس. قيل: إنَّ سدني سمث الشهير لما كان كاهنًا في إحدى القرى لم يحسب نفسه عاملًا في العمل المناسب له، لكنه أخذ فيه بسرور عازمًا أنْ يبذل فيه جهده، فقال: «قد صممتُ على أنْ أحب هذا العمل وأوفق نفسي له، فذلك خير من الترفع عليه والتذمر منه.» ومما يماثل ذلك قول الدكتور هوك عندما انتقل إلى عمل جديد، قال: «حيثما أكون فإني سأفعل بقوتي كل ما تجده يدي، وإنْ لم أجد عملًا أوجدت عملًا لنفسي.»
والمشتغلون بصالح العموم عليهم أنْ يشتغلوا مدة طويلة بالصبر؛ لأن كثيرين منهم قد زرعوا زرعهم فغمرته ثلوج الشتاء، وقبلما جاء الربيع وافتهم منيَّتُهم فمضوا ولم يروا نتيجة تعبهم، وفي مثل هذه الأحوال لا شيء أفضل من الرجاء ولا شيء يقوم مقامه، فالرجاء أو الأمل هو الذي يشجع الإنسان ويقويه على اقتحام المصاعب، قال الشاعر:
وكان من جملة مبادئ الدكتور يَن الفيلسوف أنَّ كل إنسان يقدر أنْ يصنع كل ما صنعه إنسان آخر، وما أحسنَ ما قاله ابن الوردي في هذا المعنى، وهو:
ومن المعلوم أنَّ ين هذا لم يأخذ في عملٍ وأَلَا عنه جهدًا. روى بعضهم أنه أول ما ركب الخيل ركب فرسًا جموحًا وسار بصحبة فارس شهير، فوصلا إلى جدار رفيع فوثب الفارس بجواده من فوقه، فأراد ين أنْ يقتدي به فسقط عن ظهر جواده، فركب وحاول ثانيةً فسقط، ولكنه نهض قبلما وصل إلى الأرض وحاول ثالثة فنجح.
ومما يماثل ذلك الحادثة التي صارت لأوديبون العالم بالطيور، وقد أخبر عنها بقوله: «أصابتني مصيبة أتلفت مائتي رسم من رسوم الطيور التي رسمتها، ولاشت كل أتعابي في هذا الفن، فإنني وضعت هذه الرسوم في صندوق، وائتمنت عليه رجلًا من معارفي بعد أنْ طلبتُ منه أنْ يحترس عليه كلَّ الاحتراس؛ لأني ضمَّنته نتيجة أتعاب سنين عديدة، ثم مضيت لأمرٍ ما وبعد بضعة أشهر رجعت وافتقدت الصندوق الذي كنت أسميه كنزي، ولما فتحته وجدت ما تتفتَّت له الأكباد؛ لأن كلَّ أتعابي أضحت فريسة لجرذين كبيرين دخلا الصندوق من أحد جوانبه، وقضما كلَّ ما فيه من الأوراق وطحناها طحنًا، وولدا بينها عائلة كبيرة. فصعد الدم إلى رأسي وأصابتني رجفة ورعدة، وانطرحت على ظهري ومضى عليَّ أيام عديدة وأنا في سبات عميق، ولما رجعت إلى نفسي أخذت بندقيتي وقلمي وانطلقت إلى الغابات، كأن لم يكن من الأمر شيء، بل كنت مسرورًا بأني صرت أقدر أنْ أرسم رسومًا أفضل من الأولى. وهكذا كان؛ لأنه لم يمضِ عليَّ إلَّا ثلاث سنوات حتى عوَّضتُ عن كلِّ ما خسرته.»
ومن قبيل ذلك ما أصاب أوراق السر إسحاق نيوتن، وذلك أنَّ كلبه رمى عليها شمعة مشتعلة فأحرقتها، ولاشت حسابات كبيرة كان ذلك الفيلسوف قد تعب سنين عديدة على استخراجها، ويقال إنه حزن من جَرْي ذلك حزنًا مفرطًا أثَّر في صحته تأثيرًا بليغًا وأضعف فهمه. ومثل ذلك ما أصاب المجلد الأول من كتاب كارليل في الثورة الفرنسوية، فإن رجلًا استعاره ليطَّلع عليه فحدث أنه ألقاه في أرض القاعة ونسيه، وبعد مدة أرسل كارليل في طلبه ليطبعه، فرد إليه الجواب أنَّ الخادمة وجدته ملقًى على الأرض، فظنته رزمة ورق لا منفعة منها، وأخذت تضرم النار به. فما أشد الانزعاج الذي أصاب كارليل عندما سمع هذا الجواب ولا سيما لأنه لم يكن عنده شيء من أصله، فالتزم أنْ يجهد ذاكرته ويؤلفه ثانية، وتعب في ذلك تعبًا لا يوصف ولا يصدق، ولكنه ألَّفه ثانية، وتأليفه له في مثل تلك الأحوال يشهد له بما تفرد به من العزم وعلو الهمة.
ومما يظهر قوة الثبات بأكثر إيضاح سلوك المخترعين. روى بعضهم أنه كان من عادة جورج ستفنسن أنْ يقول للشبان عندما ينصح لهم: «افعلوا كما فعلت؛ أي اثبتوا.» قيل إنه بقي يحسِّن في المركبة البخارية التي اخترعها خمس عشرة سنة قبلما فازت بالسبق، وجمس وط قضى على عمل آلته البخارية ثلاثين سنة قبلما أتمها، وللثبات أمثلة كثيرة مدهشة في كلِّ نوع من العلوم والصنائع، ومن ألذها الحوادث المتعلقة باستخراج آثار نينوى، واكتشاف قراءة الكتابات السفينية أو المسمارية المرسومة عليها، بعد أنْ فُقِدَت قراءتها منذ عصر الإسكندر، أما طريقة اكتشافها فكانت كما يأتي:
كان في قرمان شاه من بلاد فارس جندي إنكليزي اسمه رولنصن من شركة الهند الشرقية، فرأى كتابة سفينية قديمة في جوار قرمان شاه فنسخها، وكان من جملة ما نسخه الكتابة المرسومة على صخر بهستون، وهو شاهق يبلغ ارتفاعه ألف وسبع مائة قدم، وعلى سفحه كتابات بالفارسية والصقلبية والآشورية، ومن مقابلته المجهول بالمعلوم من هذه الكتابات عرف شيئًا من مجهولها وركَّب حروفه الهجائية، ثم أرسل رسم ما نسخه إلى إنكلترا؛ لكي يطَّلع عليه رجال العلم ويجيلوا فيه نظرهم، ولم يكن حينئذٍ أحد من أساتيذ المدارس الأوروبية يعرف شيئًا من أمر هذه الكتابة، إلَّا أنَّ رجلًا اسمه نورس كان قبل ذلك كاتبًا في محل الشركة المتقدم ذكرها، وقد انتبه إلى هذه الكتابة وأمعن النظر فيها، ونجح في حلها بعض النجاح، فلما اطَّلع على الرسم الذي رسمه رولنصن وأعمل فيه نظره، قال: إنَّ في نسخه بعض الخطأ، مع أنه لم ينظر صخر بهستون قط، وكان رولنصن لم يزل بجوار ذلك الصخر، فراجع الرسم فرأى أنَّ نورس مصيب في تخطئته فأصلحه، ثم قام رجل ثالث اسمه لَيَرْد وأحضر لهما شيئًا كثيرًا من هذه الكتابات لكي يتسع بحثهما.
وكان ليرد المذكور كاتبًا عند فقيهٍ بلندن، ولما كان له من العمر اثنتان وعشرون سنة طاف المشرق قاصدًا أنْ يقطع الأراضي الواقعة عبر الفرات، ولم يكن معه سوى رفيق واحد، فمرَّ في وسط قبائل كثيرة متحاربة، ونجا من بينهم سالمًا بقوة ذراعه، وطلاقة وجهه، وأنس محضره، وعلو همته، وسداد رأيه، ومضاء عزمه، وشدة صبره، فوصل إلى أطلال نينوى ونقبها، واستخرج منها كنوزًا تاريخية جزيلة الفائدة، لم يستخرج مقدارها إنسان واحد قط، ولو وُضِعَت قطعها الواحدة حذاء الأخرى لأشغلت مساحة ميلين مربعين، فنُقلَت نُقاية هذه الآثار إلى لندن، ووُضِعت في محل التحف البريطاني وقُرئت، فإذا بها تتفق اتفاقًا غريبًا مع نص التوراة في حوادث جرت من مضي ثلاثة آلاف سنة وأكثر، كأنها وحي جديد هبط على البشر، ولم يكتف ليرد باستخراج هذه الآثار، بل ألَّف فيها كتابًا جليلًا صادق الرواية، حسن الانسجام، يشهد له بعلو الهمة وعظم الثبات.
ومن الذين كانوا مثالًا على الصبر والاجتهاد بيفون الشهير الذي قال: إنَّ الموهبة الفائقة هي الصبر، فقد كانت قواه العقلية في حداثته متوسطة بل ضعيفة، وكان كسلان طبعًا عرضة لأن يعيش عيشة الترف؛ إذ كان من ذوي الثروة والوجاهة، إلَّا أنه اجتنب الترف في حداثته، ولم يعطِ نفسه هواها، بل أنكر عليها لذاتها وعكف على الدرس حاسبًا الوقت كنزًا محدودًا، ولما رأى أنه يضيع ساعات عديدة بعدم قيامه باكرًا، عزم أنْ يعتاد على القيام الباكر، وحاول ذلك مرارًا فقصر عنه، ولم يقدر على القيام في الساعة التي عينها، فاستعان بخادمه ووعده بأن يعطيه ريالًا في كلِّ يوم يُقِيمه فيه قبل الساعة السادسة صباحًا، إلَّا أنه كان عندما يدعوه الخادم للقيام يدَّعي أنه مريض أو يظهر الغضب، فلما رأى الخادم أنه لم يربح شيئًا سوى التوبيخ، عزم على أنْ يكسب الريال على أي وجه كان، فألح عليه يومًا أنْ يقوم فلم يقم، فأتى بماء مثلج وسكبه في فراشه فنهض حالًا، فلما رأى الخادم أنه نجح بهذه الواسطة، واظب على استعمالها إلى أنْ اعتاد سيده على القيام الباكر، وكان يقول إنه مديون لخادمه بثلاثة أو أربعة مجلدات من كتابه في التاريخ الطبيعي.
وكان هذا العلَّامة يشتغل في الدرس والتأليف إحدى عشرة ساعة كلَّ يوم مدة أربعين سنة، إلى أنْ صار الشغل ملكة راسخة فيه، قال مؤرخ حياته: «إنَّ الشغل من لوازمه والدرس من لذات حياته.» ولم يكن يتعب من تهذيب كتاباته، فكان ينقحها مرارًا كثيرة؛ لكي يجعل عبارته بسيطة طلية، ومن كتبه ما كتبه إحدى عشرة مرة قبلما حسبه أهلًا للنشر، وكان مع علوِّ همته كثير الترتيب والتدقيق، ومن قوله: إنَّ القريحة بلا ترتيب تخسر ثلاثة أرباع قوتها، وكل ما حصَّله إنما حصله بتعبه واجتهاده، قالت مدام نكر: إنَّ بيفون كان يقول إنَّ ما يُدعَى قريحة ليس إلَّا حصر الفكر في موضوع واحد، وإنه كان يمل عندما يؤلف شيئًا، ولكنه كان يلزم نفسه ويعيد نظره على ما ألفه، ثم يعيده ثانية وثالثة، فيجد في تنقيحه وتهذيبه لذَّة عوضًا عن التعب. ومن المعلوم أنه ألف كلَّ ما ألفه وبه داءٌ أليم من أشد الأدواء المُعرَّض لها الجسم الإنساني:
وبين الشعراء والأدباء رجال كثيرون يُتَّخذون أمثلة على الثبات والمواظبة، منهم السر ولتر سكوت الشاعر الأسكتسي الشهير الذي تمرن على الشغل وهو كاتب بل ناسخ، وكان عمله على نسق واحد فسئمه، ولكنه كان مرتبطًا به في النهار فقط، وكان حرًّا يعمل ما يشاء في المساء، فعكف على الدرس والمطالعة، وكان إذا أراد ابتياع كتاب يجهد نفسه بنسخ مائة صفحة أو أكثر فوق المطلوب منه فيشتري بأجرتها الكتاب المذكور.
وبعد أنْ تقدم في السن والشهرة كان يفتخر بكونه كثير العمل، ويناقض القائلين: إنَّ أهل المواهب الفائقة لا يُضطَرون إلى إتمام الواجبات اليومية، وجزم أنَّ القوى العقلية تقوى بتعاطي الأعمال، ولما دخل مجلس أيدنبرج كان يؤلف كلَّ ما يريد تأليفه من نظم ونثر قبل الغداء، ويقيم بقية النهار في المجلس، والظاهر أنه كان يشتغل نصف وقته فقط في التصنيف، والنصف الآخر في القيام بواجبات منصبه؛ لأنه حكم على نفسه أنْ يحصل معيشته مما يعمله لا مما يؤلفه، وقال ذات مرة: إني عقدت قلبي على أنْ أجعل التأليف قضيبًا أمسكه بيدي، والعمل عكازًا أتوكأ عليه، وأن لا أعتمد في معيشتي على ما أربحه من التأليف ولو كان كثيرًا.
وكان التدقيق في حفظ الوقت ملكة راسخة فيه، ولولاه ما أمكنه أنْ يصنِّف كلَّ ما صنفه، فقد آلى على نفسه أنْ يجيب كل كتاب يرد إليه في اليوم الذي يرد فيه ما لم يكن فيه شيء يقتضي تأخير الجواب، ولولا ذلك ما أمكنه أنْ يجيب الرسائل الكثيرة التي كانت تَرِد عليه، فكان ينهض من فراشه الساعة الخامسة؛ أي قبل الظهر بسبع ساعات، فيقضي ساعة في الحلاقة واللبس، ويجلس في مكتبه الساعة السادسة وأوراقه وكتبه مرتبة أمامه أكمل ترتيب، فيأخذ في أشغاله إلى أنْ يجتمع أهل بيته للغداء بين الساعة التاسعة والعاشرة، ومع كلِّ جده واجتهاده وعلمه الجزيل الذي هو نتيجة درس سنين عديدة، كان ينسب إلى نفسه قصر المعرفة وضعف القوى العقلية، وقد قال بفمه: إنَّ جهله كان يعربسه في كلِّ عمل أخذ فيه.
وهذه هي الحكمة الحقيقية والاتضاع الحقيقي؛ لأنه كلما زاد الإنسان معرفة قلَّ اعتداده بنفسه. قيل إنَّ أحد الطلبة ذهب إلى أستاذه واستأذنه في الانصراف بناءً على أنه أكمل علمه، أجابه الأستاذ: إني أرى عجبًا فيما تقول؛ لأنني أنا أراني قد ابتدأت في العلم الآن. ومن لم يرتشف إلَّا اليسير من بحار المعارف يعد نفسه قد بلغ من الحكمة أقصاها، وأمَّا الحكيم الحقيقي فيقر على رءوس الأشهاد أنه لا يعرف شيئًا، أو يقول كما قال نيوتن إنه جامع أصداف على شاطئ بحر الحقائق.
وبين المؤلفين الذين يُعَدُّون من الطبقة الثانية كثيرون يُضرَب بهم المثل في الثبات والاجتهاد، منهم جون برتون مؤلف كتاب «بدائع إنكلترا وولس»، فإنه ولد في كوخ حقير في كنستون، وكان أبوه خبَّازًا فجُنَّ بسبب خسارة مالية لحقته حينما كان ابنه برتون صغيرًا، فوضع برتون عند عمه وكان فاتحًا حانًا، فبقي عنده أكثر من خمس سنوات، وصناعته فتح القناني وصب المسكرات، فتركه عمه ليهيم على وجهه وفي جيبه ديناران فقط، وهما أجرة السنوات الخمس التي خدمه فيها، فمضى عليه وهو على هذه الحال سبع سنوات قاسى فيها مشقات لا تُوصَف، إلَّا أنه سعى وراء المعرفة فنال منها الحظ الأوفر، قال في تاريخ حياته: «إنني كنتُ نازلًا في منزل حقير، ولم يمكني أنْ أشتري وقودًا في ليالي الشتاء فكنتُ أدرس في فراشي.» ثم سافر إلى باث ماشيًا، وبعد أنْ أقام فيها برهة رجع إلى لندرا حافيًا عاريًا، ثم وجد عملًا في حان لندن، وكان هذا العمل في دهليز تحت الأرض، فأثَّر في صحته تأثيرًا شديدًا؛ لأنه كان يعمل فيه عملًا شاقًّا ثماني عشرة ساعة كلَّ يوم، فتركه ودخل كاتبًا عند رجل فقيه، وكان يأخذ خمسة عشر شلنًا كلَّ أسبوع؛ لأنه كان قد أتقن الكتابة، فصار يمكنه أنْ يتردد على مخازن الكتب في ساعات الفراغ، ويقرأ ما لا يستطيع ابتياعه من الكتب، فاقتطف كثيرًا من ثمار المعرفة، ولما دخل في الثامنة والعشرين من العمر كتب كتابًا سماه «مساعي بيزارو»، ومن ثمَّ عكف على التأليف والتصنيف ودام على ذلك خمسين سنة إلى أنْ أدركته الوفاة، ومؤلفاته المطبوعة تنيف عن سبعة وثمانين كتابًا، أشهرها كتاب «آثار كنائس لندن» في أربعة عشر مجلدًا، وهو تذكار لا يضمحل لاجتهاده ومواظبته.
ومنهم لودُن البستاني الذي كان يدرس ليلتين كاملتين كلَّ أسبوع، وهو صانع عند بستاني، فتعلم اللغة الفرنسوية وترجم سيرة أبيلرد قبل أنْ بلغ الثامنة عشرة، وكان — مما ذُكر — ذا رغبة شديدة في النجاح، حتى إنه لما بلغ العشرين من عمره كتب في مفكرته: «الآن قد بلغت السنة العشرين، وربما كان ثلث حياتي قد مضى، فما هو العمل الذي عملته لإفادة بني نوعي؟» أليس ذلك بمستغرب من شاب في هذا السن؟! وبعد أنْ أتقن الفرنسوية درس الجرمانية وأتقنها في برهة وجيزة، واقتنى أرضًا واسعة، واستعمل فيها الإصلاحات الأسكتسية في فن الزراعة فنجح وأثرى في وقت قصير، ثم ساح في ممالك أوروبا مرتين؛ لكي يطَّلع على أحوالها الزراعية، وكتب نتائج سياحته في إنسكلوبيدياه الشهيرة التي تتضمن ما جمعه باجتهاده العديم النظير.
ومنهم صموئيل درو، وهو ابن فاعل فقير، وكان له أخ أكبر منه يُدعَى جابز، فوضعهما أبوهما في مدرسة صغيرة، وكان يدفع عليهما أربعين بارة كل أسبوع، فأفلح جابز في دروسه وكان هادئًا لبيبًا، وأمَّا صموئيل فلم يفلح، بل كان مشهورًا بطيشه ومحبته للَّعب، فلما بلغ الثامنة من عمره أخرجه أبوه من المدرسة، ووضعه في معدن قصدير بأجرة ثلاثين بارة كلَّ يوم، ولما بلغ العاشرة وُضِع عند سكَّاف؛ ليتعلم صناعة السكافة فلقي ما لا يُقدَّر من التعب، حتى إنه عزم مرارًا كثيرة على الهرب واتِّباع القرصان، وكان يتقدَّم في الطيش بتقدمه في السن، فاشتُهر بسرقة الجنائن وتهريب الأمتعة، ولما بلغ السابعة عشرة هرب من معلمه؛ عازمًا أنْ يدخل خادمًا في سفينة حربية، ولكنه لم يبلغ مأْربه، ثم انتقل إلى جوار بليموث وشرع يعمل في حرفة السكافة، وبينما هو هناك وشك أنْ يفقد حياته بسبب التهريب من الجمرك، وقد حمله على ارتكاب هذا الأمر القبيح محبة اقتحام المخاطر والأمل بالربح؛ لأنه لم يكن يحصِّل بحرفته أكثر من ثمانية شلنات في الأسبوع، أمَّا تفصيل هذه الحادثة فكما ترى؛ بلغه مرة أنَّ سفينة تهريب أقبلت وقاربت البر، فهرع جميع الرجال الذين صناعتهم تهريب البضائع في فريقين؛ فريق بقي على الشاطئ لينذر بالخطر ويقتبل البضائع، وفريق ركب القوارب التي كانت هناك، وبينهم درو وكانت الظلمة حالكة جدًّا، وقبل أنْ أنزلوا قسمًا كبيرًا من الشحن عصفت الرياح وتعالت الأمواج، إلَّا أنهم كانوا متعوِّدين اقتحام المخاطر فلم يرعهم ذلك، بل عزموا على تفريغ الشحن كله، وفيما هم كذلك أطارت الريح قبعة أحد رجال القارب الذي فيه درو فمال لكي يمسكه، ففُقدَت موازنة القارب وقُلِب، فغرق ثلاثة من رجاله والتصق الباقون به، ولكنهم وجدوا أنه أخذ في التوغل بهم في البحر فتركوه وشرعوا في السباحة، وبينهم وبين الشاطئ نحو ميلين، وبعد ثلاث ساعات وصل درو إلى صخر بجانب الشاطئ مع ثلاثة من رفاقه، وبقوا عليه إلى الصباح حتى كادوا يموتون بردًا، فعلم بمكانهم بعض رفقائهم، فأتوا إليهم وسقوهم شيئًا من العرق الذي هربوه فأفاقوا، ثم إنَّ هذا الإسكاف الذي شبَّ على السرقة وتهريب البضائع صار مبشرًا فاضلًا ومؤلفًا بارعًا، وهذا تفصيل ذلك: لمَّا سمع أبوه بما هو عليه أرجعه إلى بيته، فصار يسمع مواعظ الدكتور آدم كلرك، فأثَّرت فيه تأثيرًا بليغًا، ثم مات أخوه فزاد موته في تحويل أفكاره عن الجهل والطيش إلى التعقل والرزانة، وكان قد نسي ما تعلمه في صغره من القراءة والكتابة، فأخذ يدرس باجتهاد وثبات، وبعد تعب سنين عديدة أتقن القراءة والكتابة بعض الإتقان، ثم أخذ يطالع الكتب الكثيرة ويقتبس ما فيها من الفوائد، وممَّا قاله عن حاله حينئذٍ: إنني كلما أكثرت المطالعة كثر شعوري بجهلي، واشتدت رغبتي في المطالعة، فكنت استغنم كلَّ فرصة للدرس، وكان الوقت الذي يمكنني أنْ أدرس فيه قصيرًا جدًّا؛ لأني كنت مضطرًّا أنْ أعمل كلَّ النهار لأجل تحصيل ما يقوم بمعيشتي، فكنت أفتح كتابًا أمامي وقت الأكل، فأقرأ في وقت كلِّ وجبة نحو خمس صفحات، ونحو ذلك الوقت قرأ مقالة الفيلسوف لوك في الذهن، فكانت أول باعث على توجيه أفكاره إلى علم ما وراء الطبيعة (المتافيزيك)، وتجريده عما فيه من شوائب الأوهام.
ثم شرع يعمل في حرفته وحده؛ لأنه كان كل هذه المدَّة صانعًا عند سكاف، وكان رأس ماله دريهمات قليلات، إلَّا أنَّ أحد جيرانه وكان طحَّانًا عرض عليه مبلغًا من المال قرضةً فقبله منه، واشترى الأدوات اللازمة وأخذ في عمله، ولم يمضِ عليه سنة حتى وفَّاه، وكان قصارى رغبته الاستقلال في العمل والاقتصاد، فكان ينام أحيانًا بلا عشاء مخافة أنْ يصبح وعليه دين، ولم ينسَ تهذيب عقله، فأكثر من المطالعة ودَرَس علم الفلك والتاريخ، وما وراء الطبيعة، وعكف بالأكثر على هذا العلم الأخير؛ لأن كتبه أقل من كتب الفلك والتاريخ، وقال: إنني أعلم أنَّ هذا المسلك وَعِر لا يسلكه من كان مثلي، ولكني عازم على الولوج فيه، ثم زاد على السكافة وما وراء الطبيعة الوعظ والبحث في المسائل السياسية، فأضحى حانوته ناديًا لرجال السياسة من أهل قريته، حتى إذا انقطعوا عن المجيء إليه ذهب إليهم، فانهمك في ذلك أي انهماك، وأضاع قسمًا كبيرًا من وقته، حتى كان يضطر أنْ يعمل إلى نصف الليل؛ لكي يعوض عما يضيعه في النهار، فحدث ذات ليلة أنه كان يطرِّق نعلًا في حانوته، فمرَّ به ولد صغير ووضع فمه في ثقب المفتاح، وصرخ قائلًا: «يا سكَّاف يا سكَّاف اشتغل في الليل ودُر في النهار.» قال درو فيما بعد إنه لو أُطْلِقَت طبنجة حينئذٍ بجانب أذني ما كنت انتبهت إليها أكثر مما انتبهت إلى صوت ذلك الولد، فطرحت النعل من يدي وقلت في نفسي لقد أصاب، فلا بُدَّ من أنْ أترك هذه العادة حتى لا أدعه يقول مثل ذلك مرة أخرى ما دمت حيًّا، ولا ريب عندي أنَّ هذا الصوت من الله، فتعلمت منه أن لا أترك للغد ما يمكنني عمله اليوم، ولا أتكاسل في عملي أبدًا، ومن تلك اللحظة طرح السياسة جانبًا، وعكف على عمله محييًا أوقات العطلة في الدرس والمطالعة، ثم تزوَّج ومال إلى نظم الشعر بعض الميل، وكان مكتبه المطبخ ومكتبته المنفخ.
وفي ذلك الوقت انتشر كتاب باين المعنون بعصر العقل، ووقع عند البعض موقعًا حسنًا، فألف درو رسالة ردًّا عليه نقض فيها كلَّ أدلته، وكان يقول بعد ذلك: إنَّ عصر العقل صيَّرهُ مؤلفًا.
ثم كتب عدة كتب ورسائل ونشرها، منها كتابه الشهير في جوهرية النفس وخلودها، كتبه وهو يعمل في حرفة السكافة، وباعه للطبع بعشرين ليرة حاسبًا ذلك ثمنًا كبيرًا، وقد طُبِع هذا الكتاب مرارًا عديدة، ولم يزل معتبرًا إلى يومنا هذا، ولم يغترَّ بما صادفه من النجاح، ولم ينتفخ ككثير من المؤلفين الأحداث، بل بقي يعمل في حرفته إلى ما بعد اشتهاره بالتأليف، وكان يكنس أمام باب دكانه بيده، ولم يتوقع أنْ يعيش من قلمه، بل من مِخْرَزه وإبرته على أنه عزم أنْ يحيي كلَّ أوقات العطلة بالقراءة والتأليف، ولكنه زاد علمًا وشهرة حتى استُخدم منشئًا لإحدى الجرائد، ومحررًا لبعض الكتب، وكان يكتب في جريدة الأكلكتك، وألَّف تاريخًا لوطنه وكتبًا أخرى، وكان يقول إلى آخر دقيقة من حياته: إني ابتدأت من أدنى الدرجات واجتهدت دائمًا على البلوغ إلى أعلاها بالمواظبة والاقتصاد والاستقامة، وقد وفَّقتني العناية الإلهية وكلَّلت مساعيَّ بالنجاح.
ولم يكن ممن يتمتعون بنتيجة أتعابهم بالكسل والتراخي، بل كانت لذته العظمى في انصبابه على العمل، فطاف كل المدن الصناعية في المملكة؛ لكي يطَّلع على حالتها الأدبية والمادية، ثم طاف البلدان الأجنبية؛ لكي يطلع على أحوال صنائعها ومعاملها، ورجع إلى بلاده ودخل البرلمنت سنة ١٨١٢، وبقي فيه نحو أربع وثلاثين سنة، وأول خطبة ألقاها في البرلمنت كانت في التعليم العمومي، وكان في كلِّ مدة عضويته مهتمًّا بهذه المسألة، وغيرها من المسائل التي تئول إلى رفع شأن الأمة، كإصلاح السجون والعقاب، وإقامة بنوك للمقتصدين، وحرية التجارة، والاقتصاد في النفقات، وامتداد العلاقات وما أشبه، ولم يتعرض لموضوع إلَّا أفرغ فيه جهده، ولم يكن فصيح اللسان إلَّا أنه كان لكلامه وقع عظيم؛ لأن السامعين رأوا فيه كلام رجل مستقيم مدقِّق، وكثيرًا ما كانوا يضحكون عليه ويهزءون به، ويغلبونه بأكثرية الأصوات، ولكنه كان يدافع عن آرائه بحماسة شديدة، فتحصل الفائدة من كلامه ولو كان الحكم ضده.
وكانت أعماله كثيرة جدًّا، فكان يقوم قبل الظهر بست ساعات، ويكتب تحاريره ويهيِّئ أوراقه للبرلمنت، ويتناول غداءه ويقابل نحو عشرين ممَّن لهم أشغال معه، ثم يذهب إلى البرلمنت، وكثيرًا ما كان اجتماع البرلمنت يمتد إلى الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فكان يلازمه من أوله إلى آخره، والخلاصة أنه باشر أعمالًا عظيمة وواظب عليها سنين كثيرة، وكثيرًا ما كان يقوم كلُّ أعضاء البرلمنت ضده ويهزءون به ويغلبونه، ولكنه لم ينثنِ عن عزمه، ولا خارت قواه، ولا ضعفت آماله، وعاش حتى رأى الجميع يسلِّمون بأكثر مبادئه ويعملون بها، وهذا من أعظم ما جاءت به ترجمات البشر وأكبر الأدلة على قوة الثبات.
ولا يحسن بنا أنْ نختم هذا الفصل قبل أنْ نضيف إليه شيئًا مما جمعناه بعد البحث والتنقيب عن الذين اشتُهروا في البلاد الشرقية وكانوا مثالًا في الثبات والمواظبة، فزهير بن أبي سلمى كان ينظم القصيدة الواحدة في أربعة أشهر، وينقحها أربعة أشهر، ويعرضها على الشعراء أربعة أشهر، ثم يشهرها فسمِّيت قصائده بحوليَّات زهير، والأخطل الملقَّب بأشعر الشعراء بقي سنة كاملة يهذب قصيدته التي يقول فيها:
قبلما بلغ كلَّ ما أراد.
وابن الجوزي ألَّف كتبًا أكثر من أنْ تعد، والناس يغالون في ذلك على ما قاله ابن خلكان، ويقولون إنه جُمِعَت الكراريس التي كتبها مدة عمره وقُسمَت على المدة، فكان ما خصَّ كلَّ يوم تسع كراريس. قال وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل.
وجلال الدين السيوطي كتب في كلِّ مسألة مصنفًا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسيَّة، وبلغت مصنفاته نحوًا من أربع مائة مصنف.
وعبد اللطيف البغدادي لم يخلِ وقتًا من أوقاته النظر في الكتب والتصنيف والكتابة، ومصنفاته عديدة تنيِّف على المائة والستين، وكان يُقرئ الناس في النهار بالجامع الأزهر، وفي الليل يشتغل على نفسه، وكتبه تشهد له بدقة البحث، وسعة الاطلاع، وغزارة المادة، وصدق الرواية.
وأبو الفرج الأصبهاني جمع كتاب الأغاني في خمسين سنة، وحُكِي عن الصاحب بن عباد أنه كان في أسفاره وتنقلاته يستصحب حمل ثلاثين جملًا من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعد ذلك يستصحب سواه استغناءً به عنها، ولم يقتصر أبو الفرج على هذا الكتاب، بل ألَّف كتبًا أخرى كثيرة، ككتاب الإماء الشواعر، وكتاب الديارات، وكتاب الحانات وآداب الغرباء، وكتاب أيام العرب، وكتاب التعديل والانتصاف في مآثر العرب ومثالبها.
وابن الأثير صاحب المثل السائر والوشي المرقوم، حفظ من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا يُحصَى كثرة، ثم اقتصر على شعر أبي تمام الطائي، وأبي عبادة البحتري، وأبي الطيب المتنبي، وكان يكرر عليها بالدرس مدة سنين حتى تمكَّن من صوغ المعاني، وصار الإدمان له خلقًا.
وحنين بن إسحاق المترجم المشهور ألَّف أكثر من سبعين كتابًا عدا الرسائل الكثيرة، ويعقوب بن إسحاق الكندي ألَّف خمسة عشر كتابًا ومائتين وخمسين رسالة في مواضيع شتَّى، وثابت بن قرة الصابي ألَّف اثنين وسبعين كتابًا ما عدا الرسائل المختلفة، وقسطا بن لوقا البعلبكي ألَّف سبعة وثلاثين كتابًا عدا الرسائل الكثيرة، والرازي ألَّف نحو ثمانين كتابًا، وابن سينا ألَّف نحو أربعين كتابًا في مائة وعشرين مجلدًا عدا غيرها من الرسائل، والفارابي ألَّف أكثر من ثمانين كتابًا، وكان في أول عمره ناطورًا (غفيرًا) في بستان بدمشق، وهو على ذلك دائم الاشتغال بالحكمة والنظر فيها، والتطلُّع على آراء المتقدمين وشرح معانيها، وكان ضعيف الحال يسهر للمطالعة والتصنيف، ويستضيء بالقنديل الذي للحارس، وبقي على ذلك مدة، ثم عظم شأنه، وظهر فضله، واشتُهرت تصانيفه، وكثرت تلاميذه، واجتمع به الأمير سيف الدولة وأكرمه إكرامًا كثيرًا، وعظُمت منزلته عنده، ويُذكَر أنه لم يكن يتناول من سيف الدولة سوى أربعة دراهم فضة في اليوم يخرجها فيما يحتاجه من ضروري عيشه، ويُذكَر عنه أيضًا أنه قال: قرأت السماع لأرسطو أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودته. وهذا يماثل ما ذكره ابن سينا عن نفسه، قال: إني قرأت كتاب ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه، وأيست من نفسي، وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا إنه يومًا حضرت وقت العصر في سوق الوراقين وبيد دلَّال مجلَّد ينادي عليه، فعرضه عليَّ فرددته ردَّ متبرم، معتقد أنْ لا فائدة في هذا العلم، فقال لي: اشترِ مني هذا فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، فرجعت إلى بيتي وأسرعت إلى قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب؛ بسبب أنه قد صار على ظهر القلب، وقال — أي ابن سينا — واصفًا كيفية انكبابه على الدرس: «كنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة حتى إذا غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إليَّ قوتي، ومتى أخذني النوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إنَّ كثيرًا منها انفتح عليَّ وجوهها في المنام.» وهذا شأن كلِّ العلماء العظام، فإن العلم لا يهبط عليهم بالوحي، والشهرة لا تأتيهم عفوًا، بل لا بُدَّ لهم من الدرس الكثير نهارًا وليلًا.
وأكثر الذين ألَّفوا في التاريخ والجغرافية من علماء الإسلام كانوا ينزعون إلى الارتحال والتجول؛ طلبًا لأسباب العلم، والتقاطًا لدرره، ويجمعون في أسفارهم شتات الأخبار ونوادر الآثار، ويتفحصون خواص البلدان وأمزجة الأقاليم، فالمسعودي لم يؤلف كتبه النفيسة حتى طاف أكثر الممالك الإسلامية، ودخل الهند وتفحص أقطارها، وجاب سواحل أفريقية الشرقية، واجتاز منها إلى جزيرة العرب.
وابن حوقل كان تاجرًا من تجار بغداد، فأقبل على التجوُّل في البلدان، واستمر في حلٍّ وارتحال ثمانيًا وعشرين سنة، ثم دوَّن أخبار رحلته في كتاب المسالك والممالك، ووصف فيه الأقطار والأصقاع التي طافها ومدنها، وأنهارها، ومناهلها، وغدرانها، وسباسبها، وقفارها، وألمع في ثروتها وتجارتها.
والهروي جاب بلاد الشام، ومصر، والمغرب، وجزائر البحر، وبلاد الروم، والجزيرة، والحرمين، واليمن، وبلاد العجم، والهند قبلما ألف كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات.
وياقوت الحموي الرومي كان يشتغل في التجارة، فقضى سنين كثيرة في الرحلة والتجول في بلاد العرب، ومصر، والشام، والجزيرة، وخرسان حتى تمكن من تأليف كتابه «معجم البلدان»، وهذا الكتاب من أجلِّ الكتب الموضوعة في فن الجغرافية لأنه «أحاط بجميع أقسام المعمورة، وذكر أسماء البلدان والجبال والأودية، والغيطان والقرى، والمحال والأوطان، والبحار والأنهار والغدران، والأصنام والأوثان، وتعرَّض للكلام على صفة الأرض وما فيها من الجبال والبحار، وذكر أمزجة البلدان وأهواءها، ومطالع نجومها وأنواءها.» ولقد لقي في تأليفه من المشقة والعناء ما يحله في المحل الأول بين رجال الإقدام والثبات.
وابن بطوطة الرحَّالة الشهير، صاحب تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، خرج من طنجة مسقط رأسه عام ٧٢٥ للهجرة، وله من العمر اثنتان وعشرون سنة، وتجوَّل في المغرب، وأفريقية، وطرابلس، وبرقة، ومصر، والشام، والعراق، واليمن، وسواحل أفريقية الشرقية، وجزائر بحر فارس، ودخل الأناضول وتجوَّل فيها، وقدَّم بلاد القرم وتسوَّح في جنوبي روسيا، ورحل إلى بلاد البلغار والقسطنطينية، ثم جال في البلاد الواقعة شرقي بحر الخزر، ودخل خوارزم، وبخارى، وخراسان، وقندهار، ووادي السند، وأقام بدلهي حاضرة ملك الهند ونُصِب على القضاء فيها، ثم ساح في الأقطار الصينية والتترية، ودخل سيلان، وسمطرة، وجاوة، وباكين قاعدة الصين، ثم انقلب إلى المغرب وكان قد بارح بلاده منذ ٢٤ سنة، وما لبث أنْ وصل طنجة حتى عاد إلى الرحلة، فدخل الأندلس وتطوَّف فيها، ثم ذهب رسولًا من سلطان مراكش إلى بلاد السودان، ثم عاد إلى فاس وألف رحلته المشهورة، ووصف فيها ما شاهده في رحلته من الأمصار، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار.