في المصورين والنقَّاشين
قال الشاعر ملنس ما معناه:
وقال جوبر: ارتقِ تحيَ.
***
كلُّ من يقصد أنْ يمهر في التصوير أو في أي صناعةٍ كانت يجب أنْ يوجه كلَّ انتباهه إلى تلك الصناعة من ساعة قيامه إلى ساعة منامه.
إنَّ الذين يقصدون أنْ يمهروا يجب أنْ يأخذوا في عملهم نهارًا وليلًا إن اختيارًا وإن قسرًا، إلا أننا لا ننكر أنَّ الاجتهاد والتعب لا يُصيِّران الإنسان مصورًا إذا لم يكن ذا قريحة للتصوير، ولو كانا ضروريين لجعلِه مصورًا ماهرًا؛ لأن القريحة أمر طبيعي، ولكنها تتقوَّى بالتهذيب الشخصي الذي هو أقوى من كل تهذيب المدارس.
والبعض — وهم من أعظم المصورين — نبغوا من وسط الفقر والمسكنة، ونجحوا رغمًا عن الصعوبات الكثيرة المحيقة بهم؛ مثل: كلودلورين الحلواني، وتِنْتورِتو الصباغ، وكَرَفدجيو ساحق الأصباغ، وكرفدجيو حمَّال الطين، وسَلفاتور روزا رفيق اللصوص، وكِتو الفلاح، وزنكارو النوري، وكافَدونا الشحاذ، وكَنوفا القطاع، فهؤلاء — وكثيرون غيرهم — برعوا بواسطة الاجتهاد والتعب تحت أشدِّ المصاعب.
والذين اشتهروا في التصوير في البلاد الإنكليزية أكثر من غيرهم، لم تكن أحوالهم أفضل من أحوال هؤلاء كثيرًا، فإن كنسبرو وباكون ابنا خياطين، وبَري بن بحري أيرلندي ومكليز كان صانعًا عند بنكي وأوبي ورُمني وأنيكو جونس كانوا نجارين ووست ابن فلَّاح، ونُرثكوت كان صانع ساعات، وجكسن خياطًا، وإتي طباعًا، ورينلدز وولسن وولكي أولاد قسوس، ولورنس ابن عشَّار، وترنر ابن حلَّاق، وفلكسمن كان أبوه يبيع تماثيل جبسين، وبرد كان ينقش صواني الشاي، ومرتن كان يدهن المركبات، ورَيت وكلبن كانا يدهنان المراكب، وتشنتري كان حفارًا ومذهبًا، وداود كوكس وستنفيلد وروبرتس كانوا يصورون صور المراسح، فلم يتقدم هؤلاء الرجال كلهم، ويمهروا في التصوير بالصدفة ولا بالاتفاق، بل بالجهد الجهيد والتعب والنصب والسهر والأرق، والبعض منهم أَثْرَوا ولكنهم قلائل جدًّا بالنسبة إلى البقية، بل لا يمكن أنْ ينكر الصانع نفسه، ويعكف على صناعته إذا كان طامعًا بالربح، وما من جزاء انتظره هؤلاء الصناع أو نالوه إلا اللذة التي يجدها كلُّ عامل بعمله، أما ما كان يتبع ذلك من الغنى، فأمر ثانوي لا يُعْتَدُّ به فضلًا عن كونه نادرًا، وقد آثر كثير من الصناع اتباع ميلهم في إتقان صناعتهم على مساومة الناس، قيل: سُئل ميخائيل أنجلو ذات يوم عن رأيه في مُصوِّر صوَّر صورةً وتعب فيها تعبًا جزيلًا قَصْدَ الربح، فقال: سيبقى فقيرًا ما دام راغبًا في الربح.
وتيتيان الشهير كان لا يمل من العمل، وقد عمل في صورة بطرس الشهيد ثماني سنوات، وفي صورة العشاء الأخير سبع سنوات، وقال في كتاب أرسله إلى الملك كارلوس الخامس: إنني مرسل إلى جلالتكم صورة العشاء الأخير، بعد أنْ عملت فيها سبع سنوات كاملات.
وقليلون يعرفون مقدار الصبر والجلد والمزاولة الطويلة التي يصرفها المصور حتى يتمرن على صناعته، وتصير فيه ملكة، أو حتى تسهل عليه، قال بعضهم لنقاش: «أتطلب مني خمسين دينارًا بتمثال عملته في عشرة أيام.» فأجابه النقاش: «ألا تعلم أنني تعلمت ثلاثين سنة حتى أمكنني عمل هذا التمثال في عشرة أيام.» وقيل إنَّ السر أوغسطس كلكوت صنع أكثر من أربعين رسمًا قبلما أكمل صورته الشهيرة بصورة روشستر ولا عجب؛ لأن التكرار الكثير شرط لازم للنجاح في الصناعة وفي غيرها.
ولا بدَّ من التعب والعناء في إتقان الصناعة، ولو مهما كانت مواهب الإنسان عظيمة وقريحته متوقدة، وكثيرون من الصناع كانوا نبهاء من صغر سنهم، ولكن الذين لم يجتهدوا منهم لم تنفعهم نباهتهم شيئًا، قيل إنَّ المصور الشهير وست رأى وهو في السابعة من عمره ابن أخته نائمًا، فأخذ قلمًا وقرطاسًا، ورسم صورته بحبر أسود وأحمر، ثم عكف على الرسم والتصوير حتى لم يعد ممكنًا صرفه عنهما، ولكن نجاحه وهو صغير أضر به كثيرًا؛ لأنه لم يصادف صعوبات كثيرة، ولم تعلمه التجارب بل اكتفى بما وصل إليه بغير تعب.
ورتشرد ولسن كان وهو ولد صغير، يمسك فحمة، ويرسم بها صور الرجال والحيوانات على جدران بيت أبيه، وكان مغرمًا برسم الأشخاص، ولكن حدث مرة، وهو في رومية، أنه أتى بيت زُكارلي وكان زكارلي غائبًا، فأخذ يصور الأراضي الواقعة تجاه كوة الغرفة التي كان فيها، ثم أتى زكارلي ورأى تلك الصورة، فاندهش من حسن منظرها، وقال له: هل تعلمتَ تصوير الأراضي؟ فأجابه كلَّا، فقال له: إذن أنصحك أنْ تتعلمه، وأؤكد لك أنك مصيب نجاحًا عظيمًا، فانتصح بهذه النصيحة، وتعلم هذا الفن، وتعب على إتقانه تعبًا جزيلًا، فصار رأس مصوري الإنكليز في تصوير الأراضي.
ولما كان السر يشوع رينلدز صغيرًا كان يترك دروسه ويلتهي بالرسم، وقد نهاه أبوه عن ذلك مرارًا كثيرة، فلم يزدد إلَّا ولعًا وانشغافًا، وبقي على ذلك حتى صار مصوِّرًا شهيرًا، وكنسبرو كان يمضي إلى الغابات وهو ولد صغير، ويمارس التصوير، ولم يبلغ الثانية عشرة حتى صار مصورًا ماهرًا، قيل إنه لم يرَ منظرًا يستحق التصوير إلا صوَّره، ووليم بلاك كان أبوه يبيع الجوارب، وكان هو يسلي نفسه وهو صغير برسم صورٍ على ظهر قوائم أبيه وعلى مائدته، وإدوارد برد كان يصعد على كرسي وهو ابن أربع سنوات، ويرسم على الحائط ما دعاه صور الجنود الفرنساوية والإنكليزية، ولما كبر قليلًا وضعه أبوه عند رجل يصنع صواني الشاي، فتعلم هذه الصناعة، ثم ارتقى بدرسه واجتهاده حتى صار من أعضاء مدرسة التصوير الملكية، وهوغرث لما كان في المدرسة كان مشهورًا بالكسل، وكان متأخرًا في دروسه، إلا أنه كان متقدمًا على كلِّ التلامذة في الكتابة وفي تجميل ما يفرض عليه المعلم كتابته، ثم وضعه أبوه عند صائغ حيث تعلم الرسم على الملاعق والنقش عليها.
وأُولع بنقش صور الغيلان والتنانين، وما أشبه مما كان يستعمله أهل الفروسة سمةً لهم، ومن ثَمَّ تقدم إلى رسم الصور البشرية وإظهار ما فيها من الأمارات، فبلغ في ذلك شأوًا بعيدًا بواسطة اجتهاده وتدقيقه، وكان إذا رأى صورة غريبة رَسَخَتْ في ذهنه بكلِّ تفاصيلها حتى يرسمها على القرطاس حينما يريد، ومرَّن هذه العادة وقوَّاها بالممارسة الطويلة حتى صارت فيه ملكة، وكان إذا رأى صورة بديعة أو هيئة نادرة يرسمها حالًا على ظفر إبهامه؛ لكي ينقلها على القرطاس عندما تمكنه الفرصة، وكان يجد لذة خاصة في كلِّ شيء جديد أو غريب حتى لم يفت نظرَه شيء، وكثيرًا ما كان يعرج عن الطريق؛ لكي يرى المناظر الجديدة، فخزن في ذاكرته عددًا عظيمًا من الرسوم والأوصاف التي ظهرت أخيرًا في مصنوعاته، فلذلك ترى في تصاويره رسمًا واضحًا لعوائد أهل عصره وأخلاقهم وأفكارهم، ولقد كان من رأيه أن لا مدرسة لتعليم التصوير إلا مدرسة الطبيعة. غير أنه لم يكن متضلعًا من العلوم والمعارف؛ لأنه لم يدرس في المدرسة أكثر من القراءة والكتابة، ولم يكن ذا ثروة، لكنه كان مقتصدًا، وكان يفتخر بذلك حتى بعد أنْ صار من ذوي الشهرة واليسار، وقال من جملة كلام له: إنني لم أنس الزمان الذي كنت أطوف فيه الأسواق منكسر الخاطر، صفر اليدين، ولكنني كنت إذا حصلت بضعة دنانير تقلدت سيفي، ومشيت بين الناس كمن في جيبه ألف دينار.
قيل إنَّ النقاش بَنكس الشهير جعل شعاره هاتين الكلمتين: «الاجتهاد والمواظبة»، وجرى بموجبهما وحث الغير على ذلك، ولقد اشتُهر أمره باللطف والأنس وسداد الرأي وإخلاص النصح؛ حتى كان يقصده الشبان ليستنصحوه ويستعينوا به.
رُوِيَ أنَّ فتًى قصده ذات يوم لهذه الغاية، فقرع الباب شديدًا، فخرجت إليه الخادمة مغضبة وانتهرته، وأوشكت أنْ تطرده، فسمعها بنكس وخرج بنفسه، وقال للفتى: ماذا تريد يا ابني؟ فقال يا مولاي: أرغب في أنْ تدخلني إلى مدرسة التصوير، وكان بيده بعض الصور التي صورها، فقال بنكس — بعد أن أفهمه أنَّ إدخال التلاميذ غير منوط به: أرني هذه الصور، فأخذها وتَرَوَّى فيها ثم التفت إليه، وقال له: لا تستعجل في الدخول إلى المدرسة، بل اذهب الآن إلى بيتك، وواظب على دروسك واجتهد؛ لكي تصور صورًا أحسن من هذه وتعال إليَّ بعد شهر وأرني تصويرك، فذهب وعكف على التصوير باجتهاد شديد ورجع إليه بعد شهر، فرأى بنكس أنَّ تصويره صار أحسن إلا أنه نصحه؛ لكي يداوم على الدرس والتصوير، فرجع إليه بعد أسبوع وإذا بتصويره قد تحسن كثيرًا فطيَّب قلبه، وقال له: إذا فسح الله لك في الأجل صرت من المصورين العظام وهكذا كان.
إنَّ سبب شهرة كلود لورين اجتهاده العظيم، فإنه وُلِد في شمبانيا من والدين فقيرين، ووضع في صباه عند حلواني ليتعلم صناعته، وكان له أخ أكبر منه، حرفته نقش الخشب، فنقله إلى حانوته ليتعلم هذه الحرفة، فأظهر فيها حذاقة شديدة، وحدث أنَّ رجلًا مسافرًا مرَّ به، وطلب من أخيه أنْ يسمح له باستصحابه معه إلى إيطاليا، فقبل طلبه، وأرسله معه، فوصلا إلى رومية، ودخل كلود في خدمة أغستينوتسي مصور الأراضي، فتعلم منه هذه الصناعة، وطاف إيطاليا وفرنسا وجرمانيا، وكان ينفق مما يصوره في طريقه من المناظر الطبيعية، ثم رجع إلى رومية، فتقاطر الناس عليه يطلبون صوره، فحاز شهرة عظيمة انتشرت في كلِّ أوروبا، وكان يصرف قسمًا كبيرًا من وقته في تصوير الأبنية والأراضي والأشجار والأوراق وما أشبه، ويبقي صورها إلى حين الحاجة؛ لكي يدخلها في ما عساه أن يصوره، وكان يراقب الجو أيامًا كثيرة من الصباح إلى المساء، ويلاحظ تغيراته بمر السحاب واختلاف النور، وبمواظبته على ذلك مهر في صناعته مهارة فائقة، فنال الاسم الأول بين مصوري الأراضي.
وتُرنَر الذي لُقب كلود الإنكليز لم يكن دون كلود هذا جدًّا واجتهادًا، قيل إنه كان من قصد أبيه أنْ يعلمه حرفته الحلاقة، ولكن حدث أنه رسم صورة على صينية من الفضة، فرآها واحد من زبائن أبيه، وأعجبه منظرها، فعزم أبوه أنْ يدعه يتعلم التصوير حسب ميله وفعل، فصادف ترنر صعوبات كثيرة كغيره من الصناع، ولاسيما لضيق ذات يده، إلَّا أنه كان يحب العمل، ولا يستعفي منه مهما كان حقيرًا؛ لأنه كان يربح به شيئًا من المال ويمهر في صناعته، ومما اشتُهر به أنه لم يتهامل قط في إتقان عمل من الأعمال، ولو كانت أجرته بخسة، بل كان يعمل كلَّ شيء بكل ما يمكنه من الإتقان، حتى إنه لم يترك رسمًا إلا بعد أنْ أجاده أكثر من سلفه، ومن يا تُرى يشك في نجاح شخص هذا حاله، فنجح نجاحًا عظيمًا، وخلد اسمه فيما صنعه، ولاسيما في الصور التي وهبها للأمة.
ولطالما كانت بغية المصورين والنقاشين زيارة رومية؛ لأنها مركز أرباب هاتين الصناعتين، والسفر إليها يقتضي نفقة عظيمة والصناع غالبًا فقراء، إلا أنهم كثيرًا ما كانوا يأتونها رغمًا عن كلِّ الموانع كما فعل فرنسوا بَرْيه المصور الفرنساوي الذي تمكن من بلوغها بجعله نفسه قائدًا لشحاذ أعمى، وكما فعل جكي كالو الذي كان أبوه من أكبر مضاديه ومُمانِعيه عن معاطاة التصوير، إلا أنَّ ذلك لم يكن ليثني عزمه؛ لأنه هرب إلى إيطاليا، وإذ لم يكن معه نفقة السفر اختلط بقوم من النور، وجال معهم من مكان إلى آخر مشتركًا في سرَّائهم وضرَّائهم، ودرس في غضون ذلك هيئات البشر وأطوارهم، وظهرت نتيجة درسه في الصور التي حفرها بعدئذٍ، ولما وصل إلى فلورنسا راقت حذاقته في عيني رجل من أعيانها، فوضعه صانعًا عند نقاش، إلا أنه لم يقنع بالإقامة هناك، بل طلب البلوغ إلى رومية، فسدد خطواته إليها، ولم يلبث أنْ دخلها حتى تعرف ببوريجي وثومسين اللذين تنبأا أنه سيكون مصورًا ماهرًا لمَّا رأيا الرسوم التي رسمها بالكربون، وصادفه هناك أحد أصحاب عائلته، فألزمه أنْ يرجع معه إلى بلاده وأهله، وكان قد أُولع بالجولان، فترك البيت ثانية، وضرب في البلاد، فذهب أخوه في طلبه، وأرجعه قسرًا، ولما رأى أبوه منه ذلك سلم له مكرهًا بالذهاب إلى رومية والدرس فيها، فمضى إليها وأقام فيها مدة طويلة، وهو يدرس التصوير والنقش على مهرة المصورين، ولما كان راجعًا إلى فرنسا شجعه كسمو الثاني على الإقامة في فلورنسا، فأقام فيها سنين عديدة ممارسًا التصوير، ولما تُوفِّي كسمو المذكور عاد كالو إلى بيت أبيه في نَنْسي، فاشتُهر فيها شهرة عظيمة، وأثرى إثراءً وافرًا بقلمه وإزميله، ثم لما أُخذت ننسي في مدة الحروب الأهلية طلب منه رشليه أنْ ينقش رسم تلك الحادثة فلم يجبه إلى طلبه؛ لأنه لم يرد أنْ يُبقي ذكرًا لما أصاب وطنه من البلايا، فلم ينثن رشليه عن عزمه، ولذلك طرحه في السجن فوجد في السجن بعضًا من أصحابه النوَر الذين سافر معهم، ولما بلغ أمر سجنه الملك لويس الثالث عشر أمر بإطلاقه ووعده بأن يعطيه مهما اقترح عليه، فلم يقترح سوى أن يُطلَق سبيل أصحابه النور ويؤذن لهم بالاستعطاء في باريس فأُعطِي طلبه بشرط أن ينقش تماثيلهم فنقشها وطبعها في كتاب سماه الشحاذين، وقد عرض هذا الملك على كالو ثلاثة آلاف ليرة جُعلًا سنويًّا بشرط ألَّا يباين باريس، فلم يرتض محبة بوطنه بوهيميا، فرجع إلى ننسي، وواظب على حرفته إلى أنْ أدركته الوفاة، فترك وراءه ما ينيف على ألف وستمائة صورة منقوشة، وهذا يدل على أنه كان من أحذق النقاشين وأكثرهم جلدًا وانصبابًا، هذا فضلًا عما في أعماله من الدقة والإتقان العظيمين.
وهاك سيرة مَن فاق كلَّ مَنْ ذكرناهم في اقتحام المخاطر، وهو بنفنيتو سليني الصائغ والمصور وصانع التماثيل والنقاش والمهندس والمؤلف، كان أبوه جوفاني سليني من اللاعبين على آلات الطرب في بلاط لورنزودي مديشي في فلورنسا، وكان يأمل أنْ يعلم ابنه لعب الفلوت، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى أُخرج من منصبه، فاضطُر أنْ يعلمه حرفة أخرى، فوضعه صانعًا عند صائغ، وكان له رغبة طبيعية في الرسم والتصوير، فأظهر حذاقة شديدة في صناعة الصياغة، وحدث ذات مرة أنه دخل في خصام حدث في المدينة، فنُفي من وطنه سنة فذهب إلى سينَّا، وكان يعمل عند صائغ فيها، فازداد خبرة في فنَّي الصياغة والجوهرية.
وكان لم يزل من عزم أبيه أنْ يعلمه الغناء، فبقي يمارس التغني بالفلوت كرهًا؛ لأنه لم يكن يلتذ إلا بالنقش، ثم رجع إلى فلورنسا، ودرس أعمال ليونردو دافنشي وميخائيل أنجلو، ومن ثَمَّ قصد رومية؛ ليتقن صناعة الصياغة، فأتقنها ورجع إلى فلورنسا بشهرة عظيمة، ولكنه كان نَزِقًا سريع الغضب، فوقع فيما ألجأه إلى الهرب من فلورنسا بزي راهب، فأتى إلى سينَّا ومنها إلى رومية، وصادف في رومية حظًّا وافرًا، وأُدخل في خدمة البابا بصفة صائغ ومغنٍّ، وكان يدرس مصنوعات أحذق الصناع، ويرصع بالجواهر، وينقش الخواتم، ويحفر الذهب والفضة والنحاس، ففاق كلَّ معاصريه، ولم يسمع بصائغ مشهور في عملٍ من أعمال الصياغة إلَّا عزم أنْ يفوقه فيه، ولم يترك فرعًا من صناعته إلا حاز فيه قصَب السَّبْق، وكان مع اجتهاده الجزيل سريع التنقل؛ لأننا نراه مرة في فلورنسا، وأخرى في رومية وأخرى في منتوا ثم في رومية ثم في نابولي ثم في فلورنسا ثم في باريس، وكان يسافر من مكان إلى آخر على ظهر الخيل، فلم يمكنه أنْ يأخذ معه أمتعة كثيرة ولا آلات، ولكن كان حيثما حلَّ ابتدأ في اصطناع الأدوات اللازمة له، ولم تخرج من يده قطعة من الحُلِي كبيرة كانت أو صغيرة إلا وهي في غاية الإتقان في شكلها وصوغها ونقشها؛ لأنه كان يصنع كلَّ شيء بيده، وكان سريعًا في أعماله وحاذقًا جدًّا، قيل إنه دخل جراح ذات يوم دكان صائغ؛ ليعمل عملية جراحية في يد ابنته، فالتفت سليني (وكان في جملة من حضر) إلى آلة الجراح، وإذا بها ضخمة عديمة الإتقان، فطلب منه أنْ يتمهل بضع دقائق، ثم هرع إلى دكانه، وأخذ قطعة من الفولاذ الجيد، واصطنعها سكينًا جميلة المنظر بديعة الإتقان، وأعطاها للجراح فعمل العملية بها.
ومن التماثيل العظيمة التي صنعها هذا الرجل تمثال جوبيتر من الفضة، صنعه في باريس للملك فرنسيس الأول، وتمثال برسيوس من النحاس صنعه للكران دوق كسمو الفلورنسي، وصنع ثماثيل من المرمر لأبلُّو وهياسنثوس ونرسِسْوس ونبتون، أما تمثال برسيوس فإنه صنعه أولًا من شمع وأراه للكران دوق، فقال: إنه لمن المحال أنْ يُسبَك تمثال من نحاس مثل هذا، فدبَّت الحمية في رأس سليني، وقال: لا بد من أنْ أسبكه هكذا. ومضى من ساعته، وصنع تمثالًا من خزف وشواه ثم غطاه بالشمع، وجعل ظاهر الشمع بهيئة التمثال تمامًا، ثم غطى الشمع بطبقة أخرى من الخزف وشواه ثانية في حفرة محفورة تحت الأتون الذي ذوَّب فيه النحاس فذاب الشمع وترك خلاءً بين الخزفين؛ لكي يسكب فيه النحاس المصهور، ولكنه أوقد حطبًا من الصنوبر والصنوبر كثير المواد القلفونية، فاحتدمت النار حتى احترق المكان الذي كان العمل فيه، ثم عصفت الرياح، وهطلت الأمطار، فأخمدت النار ولم يُصهَر المعدن، فمضى عليه ساعات كثيرة وهو يحاول إبقاءها محتدمة، وقاسى في ذلك تعبًا شديدًا، فأعيا من شدة التعب حتى خاف أنْ يقضي نحبه قبل أنْ يكمل سبك التمثال، فترك العمل إلى معاونيه ومضى إلى سريره، ولكن لم يمض إلا برهة يسيرة حتى دخل واحد، وقال له: قد فسد كلُّ عملك. فهرع لساعته إلى الأتون، وإذا بالنار قد خمدت والمعدن قد جمد، فاستحضر حطب سنديان يابس من عند جارٍ له، وأخذ يوقد بكثرة فاحتدمت النار وصهر المعدن، إلَّا أن الرياح كانت لم تزل تعصف شديدًا والأمطار تهطل غزيرة، فأقام سترة من الموائد والنُّسُج، وجلس تحتها يزج بالوقود ثم رمى في الأتون قطعة من اللحام فوق المعدن، وحرَّكه جيدًا، فذاب كله، وحان الوقت لسبكه في القالب، وإذا بصوت عظيم أشبه بالرعد القاصف ووميض برق لاح أمام عينيه، فالتفت وإذا بسدادة الأتون قد انفتحت وانبثقت منها الصهارة، ولكنها لم تجر بالسرعة المطلوبة، فأسرع إلى المطبخ وأخذ كل آنيته النحاسية، وكانت تنيف على مائتي إناء وطرحها في الأتون، فاستقام جريان الصهارة، وهكذا سبك تمثال برسيوس الشهير، وإسراع سليني إلى المطبخ وتعريته إياه من آنيته يذكرنا بما فعله بالسي لما حرق أثاث بيته كما تقدم في الفصل الثالث.
وممن لهم المقام الأول بين المصورين نيقولاوس بوسن الشهير ذو العقل الثاقب والمناقب الحميدة، وهاك طرفًا من سيرته. ولد في أندليس بقرب روان، وكان أبوه يُعلِّم في مدرسة صغيرة، فتعلم فيها إلَّا أنه كان يتغاضى عن دروسه، ويصرف أكثر وقته في التصوير على حواشي كتبه، فحدث أنَّ مصورًا رأى رسومه فأعجبته كثيرًا، فطلب من والديه ألَّا ينهياه عن التصوير، ثم أخذ يتعلم عند هذا المصور، فنجح نجاحًا عظيمًا حتى إنه فاق معلمه، وكان قد زاد ولعه بهذه الصناعة، فترك معلمه ومضى إلى باريس، وهو إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة، وكان يحصل ما يقوم بمعيشته من تصوير أعلام (أرمات) الحوانيت، فصادف في باريس ميدانًا واسعًا للتصوير والنقش، ووجد فيها ما أذهله، فدخل مجامع التصوير، ونقل صورًا عديدة، ولم يلبث طويلًا حتى عزم على زيارة رومية، أم المدائن ومرضعة المصورين، فحرك ركابه نحوها، ولكنه عجز عن البلوغ إليها، وأبعد مكان وصل إليه فلورنسا، فأقام فيها برهة يسيرة، ثم قفل راجعًا إلى باريس، وبعد قليل سدد خطواته مرة أخرى نحو رومية، فلم يمكنه أنْ يتخطى ليون إلا أنه لم يدع بابًا يُستفاد منه إلَّا قرعه، ولم يترك ينبوعًا يُستقَى منه إلا ورده، ومضى عليه اثنتا عشرة سنة يتعب في إتقان هذه الصناعة، وهو بين تصويب وتصعيد إلى أنْ ساعدته التقادير، فأتى رومية العظمى وأجال طرفه مليًّا في أعمال أرباب الصناعات، ولاسيما في التماثيل القديمة العهد، وأقام عند دوكانوا النقاش الشهير، وساعده في تمثيل أشهر أصنام رومية القديمة.
ودرس في غضون ذلك التشريح ومارس تصوير الأشخاص، وطالع مؤلفات كثيرة في صناعة التصوير، استعارها من أصحابه، وكان كل هذه المدة في غاية الفقر إلَّا أنه لم يضجر من ذلك؛ لأنه كان يتقدم في إتقان صناعته، وكان يبيع صوره بأيِّ ثمن كان، فباع صورة نبي بثماني ليرات، وباع صورة الوباء الذي أصاب الفلسطينيين بستين ريالًا، وقد بيعت هذه الصورة ثانية للكردينال ده رشليه بألف ريال، ثم اعتراه مرض شديد فوق ما أَلَمَّ به من المتاعب، فأنهك جسمه، ولكن رزقه الله من اعتنى به، وهو الكافليه دل بُسُّو فلما نقِه صوَّر له صورة الراحة في البرية مجازاة له على اعتنائه به فوفَّاه وأوفى، ولم يكتف بما حازه من النجاح، فانطلق إلى فلورنسا وفينيسيا ووسع دائرة معارفه، فظهرت أثمار أتعابه في صور كبيرة أخذ في تصويرها نحو ذلك الوقت، منها صورة موت جرمانيكس وصورة المن وغيرهما من الصور الشهيرة، فاشتهر صيته ولكن بطيئًا؛ لأنه كان مائلًا إلى الانفراد ومجانبة الناس حتى وصفه بعضهم بالتأمل أكثر مما وصفه بالتصوير، فإنه كان يقضي أوقات العطلة جائلًا في البراري متأملًا في كيفيات جديدة للتصوير، وكان يحب رومية ويفضلها على ما سواها؛ لأن ليس فيها تغيرات كثيرة تزعج البال، فعهد على نفسه أنه إذا حصَّل فيها ما يقوم بمعيشته لا ينتقل إلى غيرها، وكان في هذا الوقت قد امتد صيته إلى خارج رومية، وعُرِض عليه أنْ يرجع إلى باريس، ويكون رأس مصوري الملك، فتردد في أول الأمر في قبول هذه الدعوة، قائلًا إنه عاش خمس عشرة سنة في رومية، وتزوج فيها، ولم يعد ينتظر إلا دنوَّ الأجل، ولكن كَثُر الإلحاح عليه حتى إنه ترك رومية، وعاد إلى باريس، فصادف فيها الجم الغفير من الحاسدين، وصوَّر مدة إقامته في باريس صورًا عديدة مثل صورة القديس زفير، وصورة المعمودية، وصورة العشاء الأخير، وكان يصور كلَّ ما يُطْلَب منه مثل صور الكتب الملكية، ورسوم البلاط والقاعات وغير ذلك، فتشكى إلى دوشنتالوب قائلًا: «إنني لا أستطيع القيام بهذه الأعمال كلها؛ لأن ليس لي إلا يدان ورأس ضعيف، ولا أحد يساعدني ويخفف أتعابي.»
قلنا إنَّ نجاحه في باريس أهاج عليه كثيرًا من الحاسدين، فلم تطب له الإقامة فيها؛ ولذلك تركها حالما سنحت له الفرصة، ورجع إلى رومية، وسكن في بيته القديم على تل بنشيو، وواظب على صناعته باجتهاد، وكان يعيش بالبساطة، ويصرف القسم الكبير من وقته في المطالعة، وقال من جملة كلام له: إنني كلما أتقدم في السن تزيد رغبتي في إحراز الدرجة العليا بين المصورين. فدام على اجتهاده إلى أنْ حضرته الوفاة سنة ١٦٦٥ ولم يخلف أولادًا، وكانت زوجته قد تُوفِّيت قبله، فأُرْسِلَت تركته إلى أقربائه في أندليس، وكانت تبلغ عشرة آلاف ريال.
ومن المتأخرين الذين تستحق سيرهم أنْ تُدوَّن في بطون التاريخ أري شفر الذي وقف نفسه على خدمة التصوير، وُلِد هذا الرجل في درترخت من والد جرماني حرفته التصوير، فأظهر في حداثته ميلًا لهذه الصناعة، ومات أبوه وهو حدَث، فانتقلت به أمه إلى باريس؛ لكي تمكنه من الدرس فيها مع أنها لم تكن من ذوي اليسار، فباعت كلَّ حلاها، وأنكرت على نفسها كلَّ تنعُّم؛ لكي يمكنها أنْ تقوم بتعليم أولادها، فوضعته عند كارن المصور، ولكن لم يمكنها أنْ تسمح له بتخصيص كلِّ وقته لتعلُّم التصوير. فلما بلغ الثامنة عشرة شرع يصور صورًا صغيرة، ويبيعها بأثمان معتدلة، فراجت رواجًا عظيمًا، ومارس أيضًا تصوير الأشخاص فربح وتقدَّم في إتقان صناعته، وأول صورة أشهرها واشتهر بها هي صورة المعمودية، وما زال يتقدم في صناعته إلى أنْ بلغ صيته الدرجة العليا، وذلك عند إشهاره صورة الفوست وصورة فرنسيسكا ده ديميني وصورة يسوع المعزي، وصورة النساء القديسات، وصورة القديس أوغسطينوس وغيرها.
قال المستر كروت: إنَّ مقدار التعب والتأمل الذي تكبده شفر في عمل صورة فرنسيسكا يفوق الوصف؛ وذلك لأن معرفته بأصول العلوم كانت نزرة جدًّا، حتى إنه اضطر أنْ يتسلق في عراقيبها الشاهقة، وليس له دليل سوى عقله الثاقب، وكان عليه أنْ يجرب أمورًا كثيرة في تركيب الألوان قبل أنْ يصل إلى المطلوب، وكثيرًا ما كان يصور الشيء ثم يمحوه ويصوره ثانيًا وثالثًا حتى يوافق ذوقه، فكأن الطبيعة قد وهبته قوة الصبر والمزاولة تعويضًا عن نقص معارفه.
ومن الصنَّاع الذين كان شفر يُعْجَب بهم فلكسمن. قال مرة لأحد أصحابه: إذا كنتُ قد اقتبست شيئًا في صورة فرنسيسكا، وإن يكن عن غير قصد، فمن صور فلكسمن. أما فلكسمن هذا فهو ابن رجل فقير، حرفته بيع صور الجبسين، وكان في صغره نحيف الجسم حتى إنه كان يُوضَع في دكان أبيه ويُسنَد بالمساند، وكان إذ ذاك يتسلَّى بالقراءة والرسم. وحدث ذات يوم أنْ زار دكان أبيه الفاضل القس متيوس، فرأى هذا الولد عاكفًا على قراءة كتاب، فتطلع وإذا الكتاب نسخة من كُرنيليوس نبوس، اشتراها له أبوه من بعض المكاتب، فتحدث معه قليلًا، ثم قال له: إنَّ هذا الكتاب لا تناسبك قراءته، ولكني سآتيك بكتاب أفضل منه. فأتاه في اليوم الثاني وبيده نسخة من أومرس ونسخة من دون كوِزوت، فقرأهما بلذة وللحال شغفت قلبه حماسة أومرس، وكان في دكان أبيه كثير من التماثيل التي تشخص أجكس وأكلس، فعزم أنْ يصور صور الأبطال الذين قرأ سيرهم، فكانت هذه الصور خالية من كلِّ إتقان مثل صور غيره من الأحداث المبتدئين، وفي أحد الأيام أخذ أبوه هذه الصور، وأراها لروبلياك النقاش، فتأفَّف من رؤيتها، ولكن ما كان ذلك ليوهن عزم فلكسمن بل زاده رغبة، وما لبث أنْ صار يصنع تماثيل من الجبسين والشمع، وبعض هذه التماثيل باقٍ تذكارًا لأول أثمار قريحته.
ثم إنَّ القس متيوس، المتقدم ذكره، دعاه إلى بيته، فقرأ على امرأته أومرس وملتون، ودرَّساه كلاهما اليونانية واللاتينية، وكان تصويره قد تحسن في هذا الوقت، حتى إنَّ إحدى السيدات طلبت منه أنْ يصور لها ست صور تشخص أمورًا مذكورة في أومرس، فصنعها وأجاد، فدفعت له أجرة حسنة، وأثنت عليه ثناءً جميلًا، وكانت هذه الأجرة باكورة ما كسبه من التصوير.
ولما بلغ الخامسة عشرة تتلمذ في المدرسة الملكية، وفي وقت قصير اشتُهر أمره بين الطلبة مع أنه كان يحب العزلة، فانتظروا منه أمورًا كثيرة، ولم يخب انتظارهم؛ لأنه نال الجائزة الفضية وهو في الخامسة عشرة، وكان في السنة التالية بين المستحقين الجائزة الذهبية، وظن الجميع أنه سينالها، ولكن نالها تلميذ آخر لم يُعرَف عنه شيء بعد ذلك. واستفاد فلكسمن كثيرًا من خيبته هذه؛ لأن الفشل لا يوهن عزم أولي الهمة، بل يزيدهم حزمًا وإقدامًا، فاسمع ما قاله لأبيه حينئذٍ، قال: «أعطني وقتًا، فأصنع أعمالًا تفتخر بها مدرسة التصوير.» ثم أخذ يرسم ويصور باجتهاد لا يفوقه اجتهاد، ولكن كان في بيت أبيه في ضنك عظيم؛ لأن تجارة التماثيل الجبسينية لم يكن منها ربح كافٍ، فطرح أومرس جانبًا، وأخذ يسعف أباه في عمله، فتدرب على احتمال المشقات واستقبالها بالصبر الجميل.
وحدث أنَّ شهرته في الرسم طرقت أذني يوشيا ودجود الخزاف — المار ذكره في الفصل الثالث — فاستدعاه لكي يصنع له رسومًا للخزف الصيني الذي كان يصنعه، وربما ظهر أنَّ هذا العمل لا يليق بمصور ماهر كفلكسمن، وليس الأمر كذلك؛ لأن الآنية التي يقع نظر الناس عليها دائمًا تفيدهم رؤيتها ماديًّا وأدبيًّا أكثر من الصور الثمينة، التي تُباع بألوف من الدنانير لتعلق في بيت رجل غني، حيث لا يراها إلا قليلون، وكانت رسوم الآنية الخزفية قبل أيام ودجود بل قبل أن استخدم فلكسمن شنيعة إلى الغاية، فأبدلها فلكسمن برسوم جديدة تشخص أشخاصًا وحوادث مذكورة في كتب الأقدمين، واقتبس أمثلة من الكئوس الأترسكانية ونقشها نقشًا جميلًا، وحينئذٍ نشر ستورت كتابه في أثينا، وفيه رسوم الآنية اليونانية، فاقتبس فلكسمن أجملها منظرًا، وتفنَّن في رسمها ونقشها، فوضح له أنه عامل عملًا ذا طائل، لا يقل عن تهذيب الجمهور كله، وكان يفتخر عندما تقدم في السن أنه هذب ذوقه بهذا العمل، وبثَّ محبة التصوير والرسم في أذهان العامة، وكسب مالًا غير قليل، وأغنى مستخدمه ودجود.
وسنة ١٧٨٢ ترك بيت أبيه، واستأجر بيتًا صغيرًا في سوق وردُر، ثم تزوج بفتاة تُدعَى حنة دَنْمَن، وكانت تحب الشعر والتصوير وتُعجَب بمهارة زوجها، ويقال إنَّ السر يشوع رينلدز المصور الشهير التقى بفلكسمن بعد زواجه ببرهة يسيرة، وقال له: بلغني أنك تزوجت، فإذا كان الأمر كذلك فلم تعد مصورًا. فمضى فلكسمن إلى بيته، وجلس بجانب امرأته، وقال لها: ألا ترين يا حنة أني قد عدمت صناعتي؟ فقالت: من أعدمك إياها؟ قال: أنتِ. قالت: وكيف ذلك؟ اصدُقني الخبر، فقص عليها ما قاله له السر يشوع رينلدز، وأخبرها بما يرتئيه، وهو أنَّ من يقصد إتقان التصوير يجب أنْ يصبَّ كلَّ قوى عقله عليه من الصباح حتى المساء، وأنه لا يمكن لأحد أنْ يكون مصورًا ماهرًا ما لم يذهب إلى رومية وفلورنسا، ويشاهد أعمال رافائيل وميخائيل أنجلو وغيرهما، ثم التفت إليها، وقال: وأنا مرادي أنْ أكون مصورًا ماهرًا. فقالت: وستكون وتزور رومية إنْ كان ذلك لا بدَّ منه للمهارة في التصوير. قال: وبمَ؟ قالت: بالاجتهاد والاقتصاد لأني لا أريد أنْ يقال إنَّ حنة دنمن أعدمت يوحنا فلكسمن صناعته. فقال: إذن أَمْضِي إلى رومية وتكونين برفقتي، وسوف أُري الرئيس — يريد به رينلدز لأنه كان رئيس مدرسة التصوير — أنَّ الزواج يئول إلى خير الرجل لا إلى ضره.
فبقيا خمس سنوات في بيتهما الصغير، واضعين زيارة رومية نصب أعينهما، ولم ينفقا درهما واحدًا بغير لزوم، بل كانا يذَّخران كلَّ ما يمكنهما ذخره لينفقاه في ذلك السفر الطويل، ولم يكاشفا أحدًا بما أضمراه، ولم يطلبا مساعدة المدرسة بل اعتمدا على عمل أيديهما وميل قلبيهما، ولم يكن فلكسمن قادرًا على ابتياع المرمر ونقش التماثيل المبتكرة، ولكنه صنع عدة تماثيل مما يوضع فوق اللحود حسب طلب أهلها، فكسب بها ما يكفي لنفقة بيته، وذخر أجرته التي كان يأخذها من ودجود.
ولما صار عنده ما يكفيه للسفر قام هو وامرأته وتوجها إلى رومية، ولما وصلاها أخذ ينقل صورًا عن التماثيل القديمة ويبيعها للزوار، وفي ذلك الوقت رسم أومرُس وأسكيلوس ودنتي، وباع كلَّ رسم بخمسة عشر شلنًا، وصنع رسمًا لكوبد (إله الحب) وآخر لأورورا (إلهة الفجر)، وصنع صورة فوري (إلهة النقمة)، ثم أخذ يتأهب للرجوع إلى إنكلترا؛ لأنه كان قد نال بغيته، وقبلما ترك إيطاليا انتخبته جمعيتا فلورنسا وكارارا عضوًا منهما، ولما وصل إلى لندن وجد أنَّ شهرته قد سبقته إليها، وأنَّ أعمالًا كثيرة مهيأة له، منها التمثال العظيم الشهير الذي صنعه لِيُنْصَب فوق لَحْدِ لورد منسفيلد في وستمنستر، ولم يزل هذا التمثال تذكارًا لحذاقة فلكسمن. قال بنكس النقاش، وهو في معظم شهرته عندما رأى هذا التمثال: «قد قصَّرنا كلنا عن هذا القصير.» (يريد به فلكسمن).
ولما سمع أعضاء المدرسة الملكية برجوعه، ورأوا ما أذهلهم من الحذاقة التي أظهرها في تمثال منسفيلد، طلبوا إليه بلجاجة أنْ يدخل بينهم عضوًا، ولم يمضِ عليه إلا وقت قصير حتى انتُخِب أستاذًا للنقش في المدرسة الملكية، ولم يكن أليق منه لهذا المنصب، كيف لا وقد حصل ما حصله بالسعي والاجتهاد متغلبًا على ما حال دونه من الصعوبات.
وعاش فلكسمن زمنًا طويلًا في الراحة والتوفيق، ولم يكدر صفاء عيشه إلا موت امرأته، وعاش بعدها سنين عديدة صنع فيها صورتين، تُعدَّان من أشهر ما صنعه، وهما صورة ترس أكلس وصورة ميخائيل رئيس الملائكة قاهرًا الشيطان.
وهاك ترجمة نقاش آخر، وهو تشنتري الشهير الذي كان يفتخر بأنه تغلب على الصعوبات الكثيرة المحدقة به باجتهاده، وهو ابن رجل فقير، وقد مات أبوه وهو صغير فتزوجت أمه، وكان عمله حينئذٍ أنْ يحمِّل حمارًا وطبي لبن ويسوقه إلى شفيلد فيبيعهما فيها، ولكن زوج أمه تذمر من وجوده في بيته، فوضعه صانعًا عند بدَّال (بقال)، فمرَّ تشنتري يومًا أمام دكان نقاش ينقش الخشب، ورأى فيه من الأدوات المذهَّبة ما أذهله، فأحب أنْ يتعلم هذه الصناعة، وأخذ يتوسل إلى أصدقائه؛ لكي يضعوه عند النقاش، فاستحسنوا ذلك، ووضعوه عنده صانعًا؛ ليتعلم النقش والتذهيب بشرط أنْ يبقى عنده سبع سنوات، وكان معلمه يصنع تماثيل جبسين أيضًا، فتعلم منه هذه الصناعة، وكان يُمضِي كلَّ ساعات العطلة في الرسم والتصوير والدرس حتى إنه كان يُحيي جانبًا كبيرًا من الليل في مثل ذلك، ولما بلغ الحادية والعشرين، وكان لم يَنْتَهِ الأجل المعين لبقائه عند معلمه، دفع له كلَّ ما كان يملكه حينئذ، وهو خمسون ليرة؛ لكي يفسخ العقد الذي بينهما ففسخه، وانطلق إلى لندن، وأخذ يعمل عند نقاش فيها، وكان يمضي أوقات الراحة في الدرس والتصوير، ومن جملة الأعمال التي عملها وحده نقش غرفة المائدة لرجرس الشاعر، وكثيرًا ما كان يُدعَى بعد أنْ اشتهر أمره ليأكل في تلك الغرفة، فكان يُري المدعوين معه عمله الذي عمله في أوائل حياته.
ثم اقتضى عمله أنْ يذهب إلى شفيلد، فذهب إليها وأعلن في الجرائد أنه يصور الناس بالكربون وبالزيت، وأول صورة صورها بالكربون باعها بليرة إنكليزية، وأول صورة بالزيت باعها بخمس ليرات وحذاء، ثم رجع إلى لندن؛ لِيَدْرُس في المدرسة الملكية، ولم يلبث طويلًا حتى عاد إلى شفيلد، وأعلن في الجرائد أنه يصنع ثماثيل الناس بالجبسين، ويصورهم تصويرًا، فطلب منه أنْ يعمل تمثالًا لقسيس مُتوفًّى فعمله عملًا متقنًا، ولما كان في لندن صنع تمثال رأس الشيطان؛ لكي يعرضه في معرض التصوير، وهو أول مبتكراته، وكان في غاية المهابة والغرابة، قيل إنه دخل عليه في أواخر حياته صاحب له، والتفت إلى هذا الرأس فاندهش من منظره، فقال تشنتري: إنَّ هذا الرأس أول مصنوعاتي في لندن، وقد صنعته وأنا ساكن بين السقف والقرميد، وعلى رأسي قلنسوة من الورق، وإذ لم يمكني حينئذ أنْ أشتري أكثر من شمعة واحدة، كنت أركزها في قلنسوتي؛ لكي تدور معي كيفما درت. ولما عُرِض هذا الرأس في معرض المدرسة الملكية رآه فلكسمن — المار ذكره — فأعجبه حسن صنعته، وكان قوم يطلبون منه نقاشًا؛ ليعمل أربعة تماثيل لأربعة قواد، فأشار عليهم أنْ يستخدموا تشنتري، فاستخدموه فعمل التماثيل وأجاد، وحينئذ دُعي لعمل تماثيل أخرى فترك صنعة التصوير وأخذ في النقش، مع أنه كان قد استعمل النقش قبل ذلك ثماني سنوات، ولم يربح منه أكثر من خمس ليرات. ومن أشهر ما نقشه رأس هورن نوك، وكان هذا التمثال سببًا لتشغيله باثني عشر ألف ليرة، فعُدَّ بين مهرة النقاشين، واختير من بين ستين نقاشًا لعمل تمثال الملك جورج الثالث، وبعد ذلك بقليل عمل تمثال الأولاد النائمين، ومن ثَمَّ أخذ صيته يمتد في الآفاق وشهرته تزيد يومًا فيومًا. وقد نال كلَّ ما نال بالصبر والاجتهاد والمواظبة. نعم إنه كان ذا موهبة طبيعية فائقة، ولكنه اجتهد في استعمالها حق الاستعمال، وقد أدخل البساطة التامة في جميع مصنوعاته، فإن تمثال وط الذي صنعه بلغ فيه الدرجة القصوى من الإتقان والبساطة، وكان كريمًا على أبناء صناعته، ووهب الجانب الأكبر من تركته لمدرسة التصوير الملكية؛ لترقية صناعتي التصوير والنقش.
وهاك مثالًا آخر للاجتهاد والمواظبة في حياة داود ولكي المصور، وهو ابن قسيس اسكتلندي، فقد بانت عليه منذ حداثته أمارات النباهة والميل إلى فنِّ التصوير، فكان يمضي أكثر أوقاته في الرسم والتصوير مغتنمًا كلَّ فرصة لذلك، فكنتَ ترى جدران البيوت ورمال الأنهار مغطاة برسومه، وكان يستعمل كلَّ قلم صادفه وإنْ قطعةً من الفحم، ويصور على كلِّ سطح وجده ولو صخرًا أملس، وقلما زار بيتًا إلا رسم شيئًا على جداره علامة لمجيئه إليه، ولو ضد إرادة صاحبة البيت. وكان أبوه يكره هذه الصناعة محرِّمًا إياها، ولكن ما كان ولكي ليرتدع بردع أبيه له، بل أعطى نفسه هواها، وركب مركبًا خشنًا محفوفًا بالمصاعب، فعرض نفسه عضوًا على مدرسة إيدنبرج فرُفض؛ لأن تصاويره كانت بعيدة عن الإتقان؛ فأخذ يجتهد في إتقان التصوير إلى أن قُبِل فيها، وكان نجاحه بطيئًا جدًّا إلَّا أنه عقد قلبه على النجاح التام، فنجح ولم يَقْتدِ بغيره من الشبان الذين لا يبالون كثيرًا بالاجتهاد لزعمهم أنَّ لهم موهبة فائقة، بل كان ينسب كلَّ نجاحه إلى اجتهاده الدائم، ثم عزم على المجيء إلى لندن؛ لأن فيها بابًا واسعًا للعلم والعمل، فأتاها وصوَّر فيها صورته المسماة بفلدْج بوليتيشنس — أي رجال السياسة القرويين — فراقت هذه الصورة في عيون الجمهور، وفتحت له بابًا واسعًا للعمل، ولكنه بقي فقيرًا؛ وذلك لأنه كان يقيم وقتًا طويلًا على عمل كلِّ صورة، حتى مهما كان ثمنها كثيرًا يصير قليلًا بالنسبة إلى الوقت الذي يضيعه فيها، ووضع لنفسه أنموذجًا مثل أنموذج رينلدز، وهو أن كلَّ ما يستحق أنْ يُصنَع يجب أنْ يصنع جيدًا، وكان يكره المصورين الثرثارين، ويقول: إنَّ المتكلم يزرع والساكت يحصد. ويوبخ الذين يلهونه بالحديث بقوله لهم: هلموا نعمل عملًا ما. وقال مرة لأحد أصحابه: إنني لما كنت أَدْرُس في المدرسة الأسكتسية كان من عادة المعلم كراهم أنْ يقول لنا بكلام رينادز: إذا كان لكم موهبة، فالاجتهاد يقويها، وإن لم يكن لكم موهبة فالاجتهاد يقوم مقامها؛ ولذلك عزمت أنْ أكون مجتهدًا إلى الغاية القصوى لأنني أعلم أنْ ليس لي موهبة.
وهاك مثالًا آخر للاجتهاد العظيم والمواظبة المستمرة في حياة وليم أَتي، وهو ابن صانع كعك وأمه ابنة صانع حبال، وقد وُضِع في صغره عند طباع؛ ليتعلم صناعة الطباعة، ولكنه كان يغتنم كل فرصة، ويمارس الرسم، فكان يملأ الحيطان برسومه ولو بفحمة، ولما انتهت مدة بقائه عند الطباع عزم أنْ يتبع ميله الطبيعي، فساعده عمه وأخوه حتى طلب في المدرسة الملكية، ولم يكن ذكيًّا إلَّا أنه كان مجتهدًا، فارتقى باجتهاده إلى أسمى الدرجات.
إنَّ أكثر الصناع قاسوا ضيقات عظيمة، واحتملوا ضنك المعيشة الشديد قبل أنْ نجحوا النجاح المطلوب، وكثيرون منهم برَّحت بهم المصائب، ولم تنفرج حتى أوردتهم حتفهم، مثاله أن مرتن المصور أصابته ضيقات شديدة قلَّ مَن أصابه نظيرها؛ لأنه مرارًا كثيرة أوشك أنْ يموت جوعًا وهو يصور الصورة الأولى الكبيرة. روى بعضهم أنه مرة لم يكن في كيسه إلَّا شلن واحد، وكان قد عني بحفظه؛ لأنه وجده لامعًا أكثر من غيره، ثم اضطر أنْ يبتاع به خبزًا لسد رمقه، فمضى إلى الخباز واشترى به خبزًا، وهمَّ بالخروج، فنظر الخباز وإذا بالشلن زائف، فردَّه عليه وأخذ منه الخبز، فرجع إلى منزله منصدع الفؤاد، وأخذ يفتش في وطابه عساه أنْ يجد شيئًا من فتات الخبز يسد به رمقه، وقد احتمل هذا الضنك الشديد بالصبر الجميل، وجدَّ في عمل الصورة حتى أكملها فعرضها واشتهر أمره بها، وصار يعدُّ بين المصورين العظام، وحياة هذا الرجل تبين — كما تبين حياة باقي المصورين — أنَّ الموهبة المعززة بالاجتهاد تكفي للنجاح مهما كانت الأحوال ضيقة، وأن الشهرة وإن تأخرت فلا بدَّ من أنْ ينالها مَن يستحقها.
وأفضل الوسائط التي تستعملها المدارس لا يمكنها أنْ تجعل الإنسان مصورًا ماهرًا ما لم يجتهد هو في ذلك، وهذا الأمر يصدق على كلِّ نوع من العلوم والصناعات. يُرْوَى أنَّ بوجن النجار قال — بعد أنْ تعلم من أبيه كلَّ ما كان يعرفه من صناعة النجارة — إنه لا يعرف إلا شيئًا يسيرًا، وإنه يجب عليه أنْ يبتدئ من المبدأ الأول، فأخذ يعمل كنجار بسيط في بعض المراسح، وتقدم رويدًا رويدًا إلى أنْ صار يصنع الأشياء الدقيقة، ثم لما أُغلِق المرسح الذي كان يعمل فيه، أخذ يتاجر في سفينة شراعية بين إنكلترا وفرنسا، وكان كلما سنحت له الفرصة يرسم ما يقع نظره عليه من الأبنية القديمة كالأديرة والصوامع والكنائس، وكان يضرب في البلاد طويلًا لهذا المقصد، وما زال على مثل ذلك حتى بلغ درجة عليا بين أرباب هذه الصناعة.
ومن قبيل ذلك نجاح جورج كمب راسم مدفن سكُت الشهير، فإنه ابن راعٍ فقير مقامه بين تلال بنتلند، وهناك تربى غير متمتع برؤية شيء من الصناعات، ولما بلغ السنة العاشرة أرسله صاحب الغنم التي كان يرعاها أبوه إلى رُزلين، فرأى قلعتها وكنيستها الشهيرتين، واندهش من حسن منظرهما، وبقيت صورتهما في فكره زمانًا طويلًا، ثم طلب من أبيه أنْ يضعه صانعًا عند نجار؛ لكي تكون له فرصة للتمتع بصناعة البناء التي مال إليها كلَّ الميل فوضعه، ولما انتهت أيام تعلمه مضى إلى غلاشيلس يطلب عملًا، وإذ كان مارًّا في وادي نهر تويد وأدواته في صندوق على ظهره مرت به مركبة، فسأله السائق: أين تقصد؟ فقال إنه ذاهب إلى غلاشلس، فأشار إليه أنْ يصعد إلى المركبة فصعد، وإذا بالسر ولتر سكوت راكب فيها، وكان هو الذي أمر السائق أنْ يُصعده إلى المركبة، ولما كان يعمل في غلاشلس ناسبته فرص كثيرة لزيارة الأديرة القديمة والاطلاع على ما فيها من صناعة البناء، فطاف أكثر شمالي إنكلترا، ولم يترك بناءً غوطيًّا إلا زاره ورسمه بعد أنْ نظر فيه نظرًا مدققًا، ولما كان في لنكشير ذهب إلى بورك ماشيًا، وذلك مسافة خمسين ميلًا، وبقي أسبوعًا كاملًا وهو يبحث في بناء كنيستها الكبيرة ثم رجع ماشيًا، وبعد ذلك انتقل إلى كلاسكو، وأقام فيها أربع سنوات، وكان يذهب إلى الكنيسة الكبرى كلما مكَّنته الفرصة، ويتأمل في بنائها، ثم انتقل إلى الجنوب ودرس كنتربري وونشستر وتنترن وغيرها من الأبنية الشهيرة، وسنة ١٨٢٤ عزم على الطوفان في أوروبا لهذه الغاية، وكان يعول نفسه على الطريق من عمل يديه، فوصل إلى بولون ومنها إلى باريس، فأقام فيها بضعة أسابيع، وكان يرسم كل ما ظنه يستحق الرسم، وبما أنه كان حاذقًا في عمل الآلات والمطاحن وجد عملًا يعمل به حيثما توجه، وكان يفضل الإقامة بقرب بنية غوطية قديمة؛ لكي ينظر في بنائها كلما سنحت له الفرصة، فبقي سنة من الزمان في هذه السياحة، ثم انقلب راجعًا إلى اسكتلندا، وواظب على دروسه حتى صار ماهرًا في الرسم، وكانت ملروز أحب الخرائب إليه، وقد رسم لها عدة رسوم، ثم أخذ يرسم رسومًا لواحد كان شارعًا في طبع كتاب ذي صور على مبدأ كتاب برتون في آثار الكنائس، وكان هذا العمل يلذ له جدًّا، وقد عمل فيه برغبة شديدة، واضطر أنْ يجول نصف أراضي اسكتلندا لأجله، إلا أن المؤلف مات فجأة ووقف عمل الكتاب؛ فطلب كمب بابًا آخر للرزق، ولم يشتهر أمره كثيرًا مع ما وصل إليه من الحذاقة واتساع العلم وطول الباع؛ لأنه كان يميل إلى السكوت وعدم التظاهر ولو بما في الواقع، ولما عينت لجنة مدفن سكت جائزة لمن يرسم الرسم الأفضل لذلك المدفن اختير رسمه من بين رسوم كثيرة صنعها أمهر صناع العصر، فأُرسل إليه كتاب يعلمه باختيار رسمه، ولكنه لم يعش بعد ذلك إلا وقتًا قصيرًا، ولم يرَ شيئًا من ثمار أتعابه العظيمة راسخة في حجارة ذلك المدفن، الذي هو أعظم مدفن أقيم لرجل من رجال الإنشاء.
ومن المشهورين في الصناعات جون جبسن، كان أبو هذا الرجل بستانيًّا، فرأى ميله إلى التصوير والنقش من الخشب الذي كان ينقشه بسكين صغيرة، فأرسله إلى لفربول، ووضعه صانعًا عند نقاش خشب، فأتقن هذه الصناعة في وقت وجيز، وأُدْهِش الجميع بجمال منقوشاته، ثم انتقل من نقش الخشب إلى نحت التماثيل في الحجارة، ولما كان ابن ثماني عشرة سنة صنع تمثالًا للوقت بديع المنظر، فأخذه أولاد فرنسيس النحاتون بعد أنْ أطلقوه من عند معلمه الأول، ووضعوه عندهم ست سنوات أظهر فيها الغرائب، ثم انتقل إلى لندن، ومن ثَمَّ إلى رومية، وحينئذٍ انتشر صيته في كل أقطار أوروبا.
ونويل باتون المصور الشهير ابتدأ في صناعته يصنع رسومًا لتطريز أغطية الموائد، وكان يرسم الصور البشرية، ولم يشتهر أمره حتى عينت جوائز لصور البرلمنت، فصور صورة روح الديانة، ونال جائزة من الجوائز الأولى، واشتُهر بها شهرة فائقة، ثم أشهر صورة مصالحة أوبرون وتيتانيا وصورة الوطن وغيرهما مما بان منه أنه كان يتقدم كثيرًا في إتقان هذه الصناعة.
ومنهم جمس شاربلس الحداد، وُلِد هذا الشهير سنة ١٨٢٥، وإخوته وأخواته اثنا عشر وهو الثالث عشر، وكان أبوه يعمل في سبك الحديد، ولم يُعلَّم أحدًا من أولاده في مدرسة، بل كان يرسلهم إلى معمل حالما يصيرون قادرين على العمل، ولذلك صار جمس هذا عاملًا في مسبك قبلما بلغ العاشرة، ولما بلغ الثانية عشرة دخل معمل الآلات، وكان عمله فيه إحماء المسامير وتقديمها لصانع الخلاقين، وقد اجتهد أبوه في غضون ذلك أنْ يعلمه القراءة مع أنه كان يقيم في المعمل من الساعة السادسة قبل الظهر إلى الثامنة بعده، وكان من عادته أنْ يمسك خيط الطباشير لناظر المسبك عندما يرسم رسوم الخلاقين على الأرض، ويساعده في الرسم فأُغرم بالرسم، وصار حينما يرجع إلى البيت يجلس على أرضه، ويرسم عليها رسوم الخلاقين، وفي ذات يوم أُخبرت أمه أن واحدة من نسيباتها آتية لزيارتهم، فنظفت البيت لاستقبالها بقدر ما يمكن، وخرجت فلاقتها وأتت بها، وكان جمس قد عاد في غيبتها من المسبك، وجلس يرسم رسم خلقين على الأرض كجاري عادته، فاغتاظت أمه غيظًا شديدًا، إلَّا أنَّ نسيبتهم مدحت عمله، وطلبت من أمه أنْ تعطيه قلمًا وقرطاسًا.
والصورة الثانية التي صورتها صورة أرض وأُوقِع عليها نور القمر، ثم صورت اثنتين أو أكثر، وحينئذٍ خطر ببالي أن أصور مسبكًا، وكان ذلك في فكري منذ زمان طويل، ولم أجسر عليه قبلًا خوفًا من الفشل، ولكني رسمته حينئذٍ على القرطاس، وشرعت في تصويره على الجنفيص، ولم يكن صورة مسبك خاص، ولذلك يمكنني أنْ أحسبه صورة مبتكرة لكوني لم أنقله عن شيء، وبعد أنْ رسمت حدوده رأيت أنه يلزمني أنْ أدرس التشريح جيدًا؛ لكي يمكني أنْ أصور أعضاء العمال وعضلاتهم تصويرًا صحيحًا، وهنا يجب أنْ اعترف بفضل أخي عليَّ؛ لأنه اشترى لي كتاب فلكسمن في التشريح الذي لم يكن ممكنًا لي أن أشتريه؛ لأن ثمنه أربعة وعشرون شلنًا، فاعتبرته ككنز ثمين ودرسته باجتهاد لا يفوقه اجتهاد، فكنت أقوم إلى درسه الساعة الثالثة صباحًا، وأعري أخي وأوقفه أمامي؛ لكي أدرس عليه وأرسمه، وما زالت على ذلك إلى أنْ تيقنت أنني صرت كفؤًا للشروع في صورة المسبك، ولكنني وجدت صعوبة في الأظلال وخطوط النظر، فاستحضرت كتابًا في هذا الموضوع، وأخذت أدرس فيه، وحينئذٍ طلبت من رئيس المسبك أنْ يسمح لي بالعمل في الأدوات الكبيرة؛ لأنه يقتضي لها وقت طويل لإحمائها فيمكني في مدة إحمائها أنْ أرسم رسومًا كثيرة على صفيحة الحديد التي على واجهة الكور.
وما زال يدرس ويعمل حتى أتقن فن التصوير مع كل متعلقاته، وصور أباه صورة بديعة، ثم أكمل صورة المسبك، ولما رأى رئيس المسبك منه ذلك، طلب إليه أنْ يصور له عائلته، فصورها صورة متقنة، فلم يكتف بإعطائه الأجرة التي قاوله عليها، وهي ثماني عشرة ليرة بل أعطاه فوقها ثلاثين شلنًا، ولما كان يصور هذه الصورة ترك العمل في المسبك، وقصد أنْ يتركه دائمًا، ويقتصر على التصوير، فصور صورًا عديدة بين منقول ومبتكر، ولما لم ترُج بضاعته كما يجب عاد إلى صناعة الحدادة، وكان يصرف أوقات العطلة في نقش صورة المسبك التي صورها، أما سبب أخذه في نقشها فهو أنه أراها ذات يوم لبائع صور، فقال له: لو نَقَشَها نقاش ماهر وطبعها لخرجت ذات رونق بديع. فقال في نفسه: علامَ لا أنقشها أنا. إلا أنه كان يجهل صناعة النقش على الإطلاق، وهاك وصف المشقات التي عاناها في نقشها:
قال: «رأيت إعلانًا في بعض الجرائد من رجل يصنع صفائح الفولاذ، التي تُستعمَل لنقش الصور وقد عرضها للبيع بأثمان ذكرها في الجريدة، فاخترت واحدة ذات قدر مناسب، وأرسلت له الثمن المطلوب، وزدته قليلًا من الدراهم، طلبت منه أنْ يرسل لي به بعض أدوات النقش اللازمة، ولم يمكني أنْ أذكر له أنواع الأدوات؛ لأنني لم أكن أعرف ما هي، فأتتني الصفيحة مع الأدوات، ولما كنت أنقش هذه الصورة أعلنتْ جمعية المهندسين أنها تعطي جائزة لأحسن صورة تشخيصية تُقدَّم لها، فاعتمدت أنْ أتطفل على أرباب هذه الصناعة، وأطلقت فرسي في ميدانهم، ولحسن حظي نلت الجائزة، ثم انتقلت إلى بلكبرن، ودخلت معمل الخواجات يتس حدادًا للآلات، وكنت أقضي أوقات العطلة في الرسم والتصوير ونقش صورة المسبك، وصادفت مصاعب كثيرة في نقشها؛ لأنه لم يكن عندي الأدوات اللازمة، فخطر لي أنْ أصنع هذه الأدوات بيدي، وبعد تعب كثير صنعت عدة أدوات توافق ذوقي، وكنت محتاجًا إلى زجاجة مكبرة؛ لأني نقشت قسمًا كبيرًا من صور المسبك بعوينات أبي قبل أن وجدت زجاجة مكبرة تفي بغرضي، وحدثت حادثة بينما كنت أنقش هذه الصورة كادت تجعلني أترك نقشها، وذلك أنه كان من عاداتي أن أضع الصفيحة جانبًا عندما أُدعَى لعمل آخر بعد أنْ أدهن الجزء المنقوش بالزيت حذرًا من الصدأ، وذات مرة افتقدتها بعد أن تركتها زمانًا طويلًا، فوجدت الزيت قد جمد عليها، فحاولت إخراجه بالإبرة، فوجدت أنه يقتضي لإخراجه وقت قدر وقت النقش، فتكدرت من ذلك كدرًا مفرطًا، ولكنه خطر ببالي أنْ أغليها في ماء الصودا ففعلت ومسحتها بفرشاة ناعمة فزال الزيت عنها، ولما زِلت هذه الصعوبة، رأيت أنه لم يبقَ عليَّ إلا الاستمرار على نقشها بالصبر، ولم يكن من يساعدني ولا من يرشدني في شيء، ولذلك أقول بكل جراءة إنه إذا كان في هذه الصورة شيء من الفضل فجميعه لي وليس لي فيه شريك، وما من شيء يدعوني لإشهارها إلا إظهار ما يمكن أن يُفعل بواسطة الاجتهاد والمواظبة وهذا هو فخري.» وقال أيضًا: إنَّ زوجته كانت تجلس بجانبه وهو آخذ في نقش هذه الصورة، وتقرأ له في الكتب المفيدة، فتسليه وتعينه على السهر الطويل.
وليس من قصدنا أنْ نطيل الكلام على هذه الصورة وما تستحقه من الاعتبار؛ لأن جرائد التصوير قد استوفت ذلك، وإنما نقول إنه نقشها في أوقات العطلة مدة خمس سنوات، ولم ير قط صورة منقوشة غيرها قبل أنْ أتم نقشها وأتى بها إلى المطبعة.
وما رأيناه من الاجتهاد والمواظبة بين المصورين نراه بين المغنين؛ لأن صناعة الغناء من أخوات التصوير والغناء للأصوات كالتصوير للألوان وكالشعر للكلمات. فهندل المغني المشهور لم يكن يمل من المواظبة، ولم ييأس من الفشل، بل كان يزيد همة كلما زاد الدهر له عنادًا، وعمل وحده أعمالًا يعجز عنها اثنا عشر رجلًا. وقال هيدن عن صناعة الغناء: إنها تقوم بالمواظبة. وقال موزار المغني الشهير: «إن العمل لذَّتي العظمى.» وقال بيتوفن الموسيقي الشهير: «لا شيء يصد المجتهد عن التقدم.» قيل عَرَضَ مشلز كتاب غناء على بيتوفن، فرآه قد كتب في آخره: انتهى بعون الله. فكتب تحتها «يا إنسان عِن نفسك.» وهذا أنموذج بيتوفن. وقال يوحنا سبسنيان باخ: على قدر الاجتهاد النجاح. أما ميربير فقد قال فيه بيل: إنه يمارس الموسيقى خمس عشرة ساعة كل يوم، وهو ليس بذي موهبة خاصة، ولكنه مفطور على الاجتهاد.
ولم يشتهر الإنكليز كثيرًا بالموسيقى حتى الآن، ولكن قام من بينهم موسيقيون يحق لهم أنْ يفتخروا بهم مثل: أرن وهو ابن منجد، وكان أبوه عازمًا أنْ يعلمه الفقه، ولكنه كان مغرمًا بصناعة الغناء، حتى لم يمكن صرفه عنها، فتعلم لعب الرباب خفية عن أبيه، وحدث مرة أنَّ أباه دخل بيتًا، فرأى فيه نفرًا من المغنين وأرن بينهم، فتركه إلى هواه، فخسر الناس فقيهًا ولكنهم كسبوا مغنيًا حسن الذوق جيد الغناء.
ووليم جكسن وهو ابن طحان غلب المصاعب بالمواظبة، ويظهر أنَّ محبة الغناء كانت وراثية في عائلته؛ لأن أباه كان مرتلًا في الكنيسة، وجده كان رأس المرتلين، ولما بلغ وليم السنة الثامنة من عمره كان يدق على صافور أبيه، وكان فيه بعض الخلل، فاشترت له أمه فلوتًا صغيرًا ذا مفتاح واحد، ثم أهداه رجل فلوتًا من الفضة ذا أربعة مفاتيح، فدخل في زمرة المغنين، وتعلم مبادئ الغناء حسب الأسلوب الإنكليزي القديم، ونجح سريعًا، ثم تعلم اللعب على البيانو، ونحو ذلك الوقت اشترى واحد من جيرانهم أرغنًا صغيرًا مختلًّا، واجتهد لكي يصلحه، فذهب تعبه سدًى، فأعطاه لجكسن هذا ليصلحه؛ لأنه كان قد أصلح أرغن الكنيسة، فأصلحه على أتم المراد، وحينئذٍ خطر ببال جكسن أنْ يصنع أرغنًا مثله، فشرع هو وأبوه في هذا العمل مع أنهما لم يكونا نجارين، وبعد معاناة مشقات كثيرة استتبَّ لهما عمل أرغن يدق عشرة ألحان، فنظر الجميع إلى هذه الآلة بعين الاندهاش، وصاروا يدعون جكسن لإصلاح الأراغن فكان يأتي بالغرائب.
وفي ذلك الوقت تألف صفٌّ من المغنين، فصحبهم جكسن فعينوه قائدًا لهم، وكان يدق على كل آلاتهم، ونظم لهم ألحانًا كثيرة، ثم تعين للعب على أرغن جديد، كان قد أُهدي للكنيسة، وكان قد ترك صناعته الأولى الطحانة، وأخذ في عمل الشمع الأبيض، وصار يقضي أوقات العطلة في ممارسة الموسيقى، وسنة ١٨٣٩ نشر أغنية مطلعها لتغنِّ الأودية المخصبة فرحًا، وفي السنة التالية نال الجائزة الأولى على أغنية نظمها اسمها أخوات المرج، ثم نظم ترنيمة مطلعها يا رب كن لي راحمًا، ونظم غناءً مزدوجًا للمزمور المائة والثالث، وفي غضون ذلك كان آخذًا في نظم خروج بني إسرائيل من بابل، ثم طبعه في أجزاء بين سنة ١٨٤٤ و١٨٤٥، وقد انتهى من طبعه يوم بلوغه السنة التاسعة والعشرين، ثم صار أستاذًا للموسيقى في برَدْفرد، وتشرف بالمثول لدى الملكة فكتوريا في قصر بكنهام وفي قصر البلور، وغنَّى لها شيئًا من نظمه، ونال منها الثناء الجميل، وقبل أن انتهت الطبعة التي ترجم منها هذا الكتاب وردت الأخبار بموت هذا الشهير وله من العمر خمسون سنة، أما ما كتب عنه في هذا الفصل فقد نقله المؤلف عن لسانه، حينما كان يصنع الشمع، وهنا نختم الكلام عن المصورين والنقاشين والمغنين الذين ارتقوا إلى أسمى درجات المجد بواسطة اجتهادهم في العمل ومواظبتهم، وتغلبوا على كل الموانع التي حالت في طريق تقدمهم.
وكنا نود أنْ نضيف إلى هذا الفصل شيئًا عن الذين اشتُهروا في المشرق بالتصوير والنقش والغناء من المصريين والآشوريين والبابليين وغيرهم من أمم المشرق، ولكن المعروف من ذلك نزر واهن لا يُعتمَد عليه مع أنَّ أمم المشرق أتقنت هذه الصناعات إلى الغاية القصوى، ولاسيما صناعة النقش كما تشهد الآثار المصرية، أما العرب ومن قام في دولهم فلم يتعاطوا صناعة التصوير والنقش، ولكن قام من بينهم مغنون مشهورون بالغناء مثل إبرهيم الموصلي وابن جامع ونحوهما، وحازوا أسمى المراتب بجدهم واجتهادهم في إتقان هذه الصناعة كما سترى.
ولد إبرهيم الموصلي سنة ١٢٥ للهجرة، وتُوفِّي أبوه بالطاعون وهو ابن سنتين أو ثلاث، فنشأ مع أمه وأخواله، ولما أدرك صحب الفتيان ومال إلى الغناء، فضيَّق عليه أخواله بذلك، فهرب إلى الموصل وأقام بها فلُقِّب بالموصلي، ثم أتقن صناعة الغناء، فبلغ خبره إلى الخليفة المهدي، فاستدعاه وسمع منه وأمره أن يلازمه، وكان أميًّا يجهل القراءة والكتابة، وفَرَطَ منه ذنبٌ حبسه المهدي عليه، فتعلم القراءة والكتابة وهو في الحبس، ثم مات الخليفة المهدي، وتولَّى ابنه موسى الهادي الخلافة بعده، فقرب إبرهيم لحسن غنائه، وواصله بالعطايا الكثيرة، قال ابنه إسحاق: لو عاش لنا الهادي بَنَيْنا حيطان دورنا بالذهب والفضة. وقال أيضًا: إنَّ أباه صنع تسع مائة صوت، تقدَّم بثلاثمائة منها جميع الناس، وقيل سأل الرشيد يومًا إبرهيم الموصلي: كيف تصنع إذا أردت أنْ تصوغ الألحان. فقال: «يا أمير المؤمنين، أُخرج الهمَّ من فكري، وأمثل الطرب بين عينيَّ، فيسرع إليَّ مسالك الألحان، فأسلكها بدليل الإيقاع، فأرجع مصيبًا ظافرًا بما أريد.» وهو مثل قول الفيلسوف إسحاق نيوتن عندما سُئِل: بمَ اكتشفت هذه الاكتشافات العظيمة، كما جاء في الفصل الأول من هذا الكتاب، ومما يشهد بمهارة إبرهيم الموصلي في هذه الصناعة ما رواه علي بن عبد الكريم، قال زار ابن جامع إبرهيم فأخرج إليه ثلاثين جارية فضربن جميعًا طريقة واحدة، فقال ابن جامع في الأوتار وتر غير مستوٍ، فقال إبرهيم: يا فلانة شدي مثناك فشدته، فعجبتُ أولًا من فطنة ابن جامع لوتر غير مستوٍ في مائة وعشرين وترًا، ثم ازداد عجبي من فطنة إبرهيم له بعينه.
ومرض إبرهيم بداء القولنج فلزمه وعاده الرشيد يومًا في مرضه، وقال له: كيف أنت يا إبرهيم؟ فقال كما قال الشاعر:
فقال الرشيد: إنَّا لله، وخرج فلم يبعد حتى سمع الناعية عليه، وكانت وفاته سنة ١٨٨ هجرية، وله من العمر ٦٣ سنة، وأسف عليه الناس، ورثاه كثير من الشعراء، من ذلك قول ابنه إسحاق:
أما ابن جامع المذكور فمغنٍّ من أشهر المغنين من طبقة إبرهيم الموصلي ومن معاصريه، وهو عربي الأصل قدم من مكة على الرشيد، وكان حسن السمت متضلعًا بعلوم الدين حتى ظنه أبو يوسف القاضي من الفقهاء، قيل وكان ابن جامع بارًّا بأمه، فاحتال عليه الرشيد مرة، وأخبره أنها ماتت، فاندفع يغني بصوت حزين حتى أبكى كل من كان حاضرًا، فأمر له الرشيد بمال كثير، وأعلمه أنَّ الخبر حيلة ليسمع غناءه المحزن.
ومن المغنين المشهورين إبرهيم بن المهدي أخو هرون الرشيد، كان له اليد الطولى في الغناء والضرب بالملاهي، وكان أسود اللون؛ لأن أمه جارية سوداء، ولم يُرَ في أولاد الخلفاء قبله أفصح منه لسانًا ولا أحسن منه شعرًا، وبويع له بالخلافة ببغداد والمأمون يومئذٍ بخراسان، وأقام بها خليفة نحو سنتين، ثم خلعه أهل بغداد ودعوا للمأمون بالخلافة.
ومنهم ابن سريج، وهو تركي الأصل، وكان من أحسن الناس غناءً، غنَّى في خلافة عثمان بن عفان، ومات في خلافة هاشم بن عبد الملك، وهو أول مَنْ ضرب بالعود على الغناء العربي بمكة وكان مثلًا في حسن الغناء.
ومنهم ابن مسحج، وهو أول من نقل غناء الفرس إلى غناء العرب، رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية، وانقلب إلى فارس، وأخذ بها غناءً كثيرًا، وتعلم الضرب، ثم قدم الحجاز، وقد أخذ محاسن تلك النغم وألقى منها ما استقبحه وغنى على هذا المذهب، فكان أول من أثبت ذلك ولحنه وتبعه الناس بعد ذلك.
والمغنون والمغنيات كثار، ونوادرهم عديدة، وكثيرون منهم بذلوا جهدهم في إتقان هذه الصناعة، فتقربوا بها من الملوك، وأَثْرَوا إثراءً وافرًا.