في النشاط والشجاعة
قال جاكس كر: لا مستحيل على القلب الشجاع.
وقال المثل الجراماني: الأرض للنشيطين.
وقيل عن الملك حزقيا: إنَّ كل عمل ابتدأ به إنما عمله بكل قلبه وأفلح ٢ أي ٣١: ٢١.
***
روي أنَّ أحد جاهلية الجرمانيين قال: إني لا أركن إلى الأصنام، ولا أخاف من الشياطين، بل إنما ثقتي بقوة جسدي وعقلي. وقيل إنَّ أهالي أسوج ونروج كان لهم إله يحمل تمثاله مطرقة، وهذا دليل على اجتهادهم؛ لأن حمل المطرقة من علامات الهمة والنشاط، وقد يُستدل على أخلاق الإنسان وأحواله من أعمال طفيفة يعملها. حُكي أنَّ رجلًا فرنساويًّا قال لصاحب له، وهو عازم على الانتقال إلى ما بين قوم والسكنى في بلادهم: «إياك وهؤلاء الناس؛ لأني رأيت ضربة مطرقة أولادهم الذين يدخلون مدارس البيطرة ضعيفة؛ فهم ليسوا من ذوي النشاط، فإذا سكنت بلادهم خسرْتَ ولم تربح.» ولقد أصاب فيما قال؛ لأنه كما يكون الآحاد يكون الشعب، وكما يكون الشعب تكون البلاد.
والنشاط والهمة أساس لكل نجاح، وما أحسن ما قاله بعض بلغاء العرب، قال: الارتكاض باب الإفلاح، والنشاط جلبابه، والفطنة مصباحه، والقحة سلاحه، ويجب على طالبه أنْ يقرع باب رعيه بسعيه، وأنْ يجوب كل فج، ويلج كل لج، وينتجع كل روض، ويلقي دلوه في كل حوض، وألَّا يسأم الطلب، ولا يمل الدأَب؛ لأن من طلب جَلَب، ومن جال نال، والكسل عنوان النحوس، ولبوس ذوي البوس، ومفتاح المتربة، ولقاح المتعبة، وشيمة العجزة الجَهلة، وشنشنة الوكلة النكلة، وما اشتار العسل مَن اختار الكسل، ولا ملأ الراحة مَن استوطأ الراحة، والخور صنو الكسل وسبب الفشل ومبطأة للعمل ومخيَبة للأمل.
والنشاط يوصل الإنسان إلى أعلى مراقي النجاح، مهما حال دونه من الموانع، ومن اتَّصف به سبق المتكلين على مواهبهم، غير معرِّض نفسه للفشل مثلهم، والموهبة من النشاط كالأهلية من الإرادة، فإذا كان الإنسان أهلًا لأن يعمل عملًا ما فلا يعمله ما لم يكن مريدًا، فكما أنَّ الإرادة هي التي تعمل كذلك النشاط هو العامل فينا، وهو الإنسان الأدبي. والأمل الحقيقي مبني على النشاط، قال الشاعر:
وقال ابن سيراخ: ويل لخائر العزم. فلا بركة تضاهي ثبات العزم وحسن الرجاء، فإنه — وإنْ خابت أكثر مساعي الإنسان — يبقى باله مطمئنًا بأنه قد فعل ما في طاقته، ومَن يضع ملاك الأمل نصب عينيه يحتمل المتاعب بالصبر الجميل، ويلقى المحن متهللًا مسرورًا، وأتعب الناس وأكثرهم شقاءً من قصرت مقدرته واتسعت مطامعه:
ومن كان غذاؤه الأماني عاش خائر القوى، وأكثر الناس تعرضًا لهذا الداء العضال هم الشبان؛ فيجب أنْ يُدرَّبوا من صغرهم على إخراج كل شيء من حيز الأمل إلى حيز العمل.
قال أري شفر: لا شيء يثمر إلا بتعب العقل والجسد، والحياة جهاد مستمر، كما أرى بنفسي، وما فخري إلا بنشاطي، فإن عزيز النفس شريف المطالب، يستطيع أنْ يفعل كل ما يشاء، وقال هيو ملر: «إنَّ المدرسة الوحيدة التي تعلمت فيها العلم الحقيقي هي مدرسة العالم التي يُعلِّم فيها التعب والعناء معلمان صارمان ولكن شريفان.» ومن يتردد في عمله، ولا يقتحم المصاعب بقدم راسخة، وعزيمة ماضية تحبط مساعيه ويعود بالفشل، وأمَّا إذا نهض لعمله بهمة وحزم انقشعت غيوم مصاعبه، كما ينقشع الضباب بحرِّ الشمس، قال الشاعر:
والإكباب على الأعمال عادة كبقية العوائد والمواظبة تجعله ملكة، وكل من أكب على عمله بجدٍّ أفلح فيه ولو كان معتدل القوى. قيل إنَّ فول بكستن اتَّكل على الوسائط الاعتيادية والإكباب الشديد جاريًا على قول الحكيم: كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك، ونسب نجاحه إلى إكبابه بكليته على أمر واحد في وقت واحد، ولا يبلغ الإنسان أمرًا ذا طائل إلا بالعمل المقرون بالشجاعة، والإنسان يقوى باقتحام المصاعب، وهذا هو الجهاد، ونتائج هذا الجهاد تدهش كل من ينظر فيها، حتى إنَّ توقُّع المستحيل يصيِّر المستحيل ممكنًا، والآمال طلائع الأعمال، وأمَّا ضعيف الهمة والمتردد في أموره فيرى الممكن محالًا.
حُكي أنَّ جنديًّا فرنساويًّا كان يمشي في غرفته ويقول: لا بُدَّ من أنْ أصير مرشالًا، وما به من شدة الأمل هوَّن عليه كل أمر عسير، فنال مُنْيته وصار مرشالًا عظيمًا. وقيل إنَّ واحدًا مرض مرة فعزم أنْ يُشفَى فشُفِي من تلقاء عزمه، وإنَّ المولى مولك القائد المراكشي كان مصابًا بمرض عضال حين انتشبت الحرب بين جيوشه والجيوش البرتوغالية، فلما سمع صرخات الحرب نهض من عن سريره واقتاد جيشه، وبقي حيًّا حتى فاز بالغلبة على العدو.
والإرادة هي التي تُقدر الإنسان على عمل ما يريد عمله. قال بعض الأفاضل: الإنسان كما يريد. وحكى بعضهم أنه رأى نجارًا يصلح كرسيًّا لأحد القضاة، وكان يعتني بإصلاحه أكثر من المعتاد، فقال له: ما لك تعتني بإصلاح هذا الكرسي اعتناءً شديدًا؟ قال: لأني أريد أنْ أجلس عليه يومًا ما، وهكذا كان؛ لأن ذلك النجار درس الفقه، وجلس على ذلك الكرسي، ولا داعي لما أقامه المنطقيون من الأدلة على أنَّ الإنسان حر الإرادة؛ لأن كل إنسان يحس بأنه متروك إلى حريته، وله أنْ يختار الخير أو الشر، وليس الإنسان ورقة تُرمَى في النهر لتدل على سرعة مجراه، بل هو سباح نشيط يقاوم المجاري ويصارع الأمواج، ويسير إلى حيث أراد بقوة ذراعيه. نعم إننا أحرار، ولنا حرية أدبية لنعمل ما أردنا، ولسنا مرتبطين بطلسم أو سحر يربطنا بعمل من الأعمال، ومن لا يشعر هذا الشعور لا يُرجَى منه كبير فائدة.
ومهام الحياة وعلاقات البشر العائلية والمدنية والعلمية تصرِّح بلسان واحد أنَّ الإنسان حرُّ الإرادة، ولولا ذلك ما كان الإنسان مطالبًا، ولا كانت فائدة من التعليم، ولا من النصح، ولا من الوعظ، ولا من الحث، ولولا حرية الإرادة ما وُجدت الشرائع؛ لأن وجودها يستلزم كون الإنسان حرًّا أنَّ يطيعها أو يعصاها حسب موافقتها أو مضادتها له، ونحن نحس في كل دقيقة من حياتنا أنَّ لنا إرادة حرة سواء استعملناها في المليح أو في القبيح، وليس الإنسان عبدًا لعوائده وتجاربه، بل سيد عليها، ويرى في نفسه ما يحثه على مقاومتها، ولو أطاعها فلا يصعب عليه قهرها إذا أراد، قال لامنيس لأحد الشبان: قد بلغتَ السن الذي يجب أن تنهج فيه منهجًا لا تحيد عنه وإلا فستئنُّ داخل القبر الذي تحتفره لنفسك غير قادر أنْ تزحزح غطاءه عنه. والإرادة أسهل القوى انقيادًا وأسرعها تملكًا، لذلك تعلَّم من الآن أنْ تكون قوي الإرادة، شديد العزم لئلا تبقى:
قد حان لك أنْ تميل يمنة أو يسرة؛ فعليك أن تظهر حزمك وإقدامك وإلَّا فستكون خامل الذكر، ضعيف الهمة، وتتملك منك صفات الكسل والتواني، وإذا سقطت في مثل ذلك — لا سمح الله — صعب عليك النهوض، وإني لمتيقن أنَّ كل شاب يقدر أنْ يكون كما يشاء، وأنا جريت هذا المجرى فنتجت كل سعادتي ونجاحي من المنهج الذي نهجته لنفسي وأنا في سنك، فإذا عزمتَ الآن أنْ تكون مجدًّا ومجتهدًا فستفرح كل حياتك بأنك عزمت هذا العزم.
والإرادة هي الدأب والمزاولة والمواظبة والثبات، فلذلك لا تحتاج إلَّا إلى التدريب فإذا دُرِّبت على الشر كانت شيطانًا مريدًا، وكان العقل لها عبدًا ذليلًا، وإذا دُرِّبت على الخير كانت ملكًا عادلًا، وكان العقل لها وزيرًا فاضلًا وعكفا كلاهما على خير الإنسان.
والإرادة لغة نزوع النفس وميلها إلى الفعل، بحيث يحملها ذلك الميل عليه، فمن أراد أمرًا فإرادته تحمله على عمله، بل تسهل له العمل، وتهوِّن عليه المصاعب، حتى إنَّ «من أطاق التماس شيء غلابًا واغتصابًا لم يلتمسه سؤالًا.» والعزم لغة عقد القلب على الشيء؛ فمن عقد قلبه على أمر وأراد عمله قدر عليه، ألا ترى أنَّ رشليه ونبوليون الأول طلبا أنْ تُلغى كلمة مستحيل من كتب اللغة، أمَّا نبوليون فكان أكره شيء لديه هذه الكلمات: «لا أقدر، لا أعرف، مستحيل»، فكان جوابه للأولى حاول، وللثانية تعلم، وللثالثة جرِّب، وكاتبو سيرة حياته يقولون إنها مثال للنشاط في استعمال القوى التي لا يخلو قلب من جراثيمها، ومن أمثاله: إنَّ من الحزم لحكمة. ولا يمكن أنْ يظهر مقدار ما تفعله الإرادة أكثر مما ظهر في حياة هذا الإنسان العجيب؛ لأنه صبَّ كلَّ قوى عقله وجسده على عمله فأخضع أممًا وقهر ممالك، وقيل له يومًا: إن جبال الألب الشاهقة تمنعك عن التقدم، فقال: يجب أنْ تُلغَى من الأرض. وهو الذي قال: إنَّ كلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس المجانين. وكانت أشغاله تفوق الوصف؛ فكان يشغل أربعة كتبة وينهكهم من التعب، وقد ألقى النخوة في قلوب كثيرين، وقال مرة: إنني صنعت قوادي من التراب. لكن يغمنا أنْ نقول إنَّ حبه لنفسه أضره وأضر قومه معه بعد أنْ تركهم فى فوضى، ويظهر من حياته أنَّ القوة غير المؤسسة على المبادئ الحسنة تضر بأصحابها، وأن الفطنة بدون الصلاح مبدأ شيطاني.
وأمَّا ولنتون الشهير فلم يكن أقل من نبوليون عزمًا وإقدامًا، ولكنه كان منكرًا نفسه عفيفًا محبًّا لوطنه، كان غرض نبوليون الأقصى المجد، وغرض ولنتون القيام بواجباته، حتى قيل إنَّ كلمة «المجد» لم ترد في كلِّ كتاباته، وأمَّا كلمة «واجبات» فكثيرًا ما وردت، ولكن ليس بالعُجب والافتخار. وأقوى الصعوبات لم توهن عزم هذا البطل، بل كانت قوته تعظم بتعاظم المصاعب المحيطة به، وما أظهره من الصبر والثبات والحزم في حرب إسبانيا يفوق وصف الواصفين؛ لأنه أقام هناك قائدًا وحاكمًا، وكان غاية في حدة الطبع، إلا أنَّ عقله حكم على طبعه فظهر لمن حوله غاية في الصبر والجلد، ولم يشب أخلاقه الحميدة شيء من الطمع أو الحسد أو الهوى؛ فاجتمعت فيه خبرة نبوليون وجسارة كليف وحكمة كرمول وعفة وشنطون وخلَّد اسمه في رياض الحكمة والإقدام.
وأول ظواهر النشاط السرعة، قال الشاعر:
قيل سألت اللجنة الأفريقية لديرد السائح: متى تسافر إلى أفريقية (بعد أنْ عينته للذهاب إليها)؟ فأجاب: غدًا. ولما سُئل جون جرفيس (وهو الذي لُقِّب بعدئذٍ أرل سنت فِنْسنت) متى تكون مستعدًّا للنزول في سفينتك؟ أجاب: «الآن.» ولما عُيِّن السر كلون كمبل قائدًا للجيش الهندي سئل متى تكون مستعدًّا للسفر؟ فأجاب: غدًا. وبالسرعة وانتهاز الفرص يُكتسَب الظفر. قال نبوليون: إنني انتصرت في واقعة أركولا بخمسة وعشرين فارسًا، وذلك أنني انتهزت فرصة تعب العدو واقتحمته بهذا العدد القليل فتغلبت عليه. والجيوش المتحاربة شبه رجلين يتصارعان، فإن أخطأ أحدهما خطأً صغيرًا وانتهز قرينه فرصة خطئه غلبه. وقال مرة أخرى إنه كسر النمساويين؛ لأنهم لم يعتبروا وقتهم.
والعرب تقول: الحرب خدعة؛ أي تنقضي بخدعة، ويقال إنَّ معنى كون الحرب خدعة أنَّ الظفر بها يكون بحسن التدبير والحزم، لا بمجرد الشجاعة والإقدام، كما قال أبو الطيب المتنبي:
ومن هذا القبيل ما حُكي عن عنترة العبسي أنه قيل له: أنت أشجع العرب وأشدهم بطشًا؟ فقال: لا. فقيل له: كيف شاع لك هذا الاسم بين الناس؟ قال: إني أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل مدخلًا إلا إذا رأيت لي منه مخرجًا، وأعتمد الضعيف الساقط فأضربه ضربة يطير منها قلب الشجاع فأنثني عليه فآخذه، والحرب خدعة.
ولقد كانت بلاد الهند في القرن الماضي ميدانًا للنشاط الإنكليزي، فإنه قام من كليف إلى هفلوك وكليد حكامٌ وقواد طارت شهرتهم في الآفاق كولسلي ومتكلف وأُترَم وإدواردس ولورنس وهستنس، وهستنس هذا من عائلة قديمة شهيرة دهمها الفقر لتبذيرها وانتصارها لآل ستورت فانحط شأنها، وساءت حالها، فألجأها الفقر إلى بيع دالسفرد التي استولت عليها مئات من السنين، ولما وُلِد هستنس كانت العائلة قد انحطت من درجة الأعيان إلى السوقة؛ فتعلم في مدرسة القرية مع أولاد الفلاحين، وكان يلعب في الأراضي التي كانت تخص أسلافه، إلا أنه لم يبرح من باله ما كان لهم من المجد والشرف، قيل إنه، وهو في السابعة، اتَّكأ على ضفة غدير جار في أملاك أسلافه، وجعل يتأمل في ما كانوا عليه فحتَّم على نفسه أنْ يسترجع أملاكهم واسمهم، وذلك فكر صبي غر، ولكنه عاش حتى أخرجه من حيز الفكر إلى حيز الفعل؛ لأنه رُبي معه، وأصبح جزءًا من حياته، وبعزمه وإقدامه صار من أعظم رجال عصره، فاستردَّ أملاك أجداده، وبنى بيت عائلته، قال فيه ماكولي: إنه فيما كان يتسلَّط على خمسين مليونًا من أهالي آسيا، ويقوم بإدارة أمورهم وحروبهم، كانت آماله موجهة لرددالسفرد، ولما انتهت أتعاب حياته اعتزل إليها ليموت فيها.
والسر تشارلس نبير قائد آخر من قواد الهند يُضرَب به المثل في الشجاعة والحزم، قال مرة عن الشدائد الكثيرة التي كان محاطًا بها في إحدى المواقع: إنها لا تزيدني إلَّا ثباتًا ورسوخًا. وواقعة مياني التي انتصر فيها من أعجب الوقائع التي حدثت على وجه الأرض؛ لأنه تغلب فيها على خمسة وثلاثين ألف بلوخي شاكي السلاح بألفي رجل، وذلك أنه كان يثق بنفسه وبقوة جنوده، فاقتحم بهم الأعداء بقلب أشد من الحديد، وانتشب بينهم القتال، ودام ثلاث ساعات متواصلة فقهرهم، واضطرهم إلى الهزيمة بعد أنْ أهلك منهم خلقًا كثيرًا، ولم يفز إلَّا بثباته، وكثيرًا ما يكون بين الغالب والمغلوب فرق يسير، وقد لا يوجد فرق سوى أنَّ الغالب يثبت بضع دقائق أكثر من المغلوب، وثبات خمس دقائق كافٍ للظفر، كما أنَّ السابق من خيل الرهان لا يفوت المصلي إلَّا بمسافة يسيرة جدًّا. قال شاب إسبرطي لأبيه وقد قلده سيفًا: يا أبتِ هذا السيف قصير، فقال له: تقدم به خطوة فيصير طويلًا.
وما من وسيلة استخدمها نبير لإلقاء الحماسة في قلب جنوده إلا شجاعته الشخصية، فكان يتعب كما يتعب كل جندي، ويقول: إنَّ القيادة لا تقوم إلا بمقاسمة الجنود أتعابها، ولا ينجح القائد ما لم يصبَّ كل قوة عقله وجسده على عمله، ويحتمل كل المتاعب، ويعرض نفسه لكل الأخطار. قال بعض الشبان في واقعة كتشي وكان تحت قيادته: «كيف يمكنني أنْ أتكاسل وأنا أرى هذا الشيخ (يريد به نبير) على ظهر جواده دائمًا، فلو أمرني أنْ أزج بنفسي في فم مدفع محشو لفعلت.» وبلغ نبير هذا الكلام فقال: إنَّ هذا جزاء كافٍ لكل أتعابي. ومما يظهر شجاعة هذا البطل وإنصافه الحادثة التي وقعت له مع المشعوذ الهندي، وهي أنَّ مشعوذًا هنديًّا شهيرًا لعب أمامه وأمام عائلته وحاشيته ألعابًا كثيرة، وفي جملتها أنه وضع ليمونة صغيرة كالجوزة في كف رفيقه وضربها بالسيف فقطعها شطرين فارتاب الجنرال نبير في صحة ذلك، ونسبه إلى مواطأة بين السياف ورفيقه، ودفعًا للريب طلب أنْ يمسك الليمونة بيده، ومد يمينه فنظر إليها السياف وقال: لا يمكني أنْ أضربها هنا، فقال نبير: هكذا ظننت، فقال السياف: مدَّ شمالك، فمدها، فقال له: إذا كنت قادرًا أنْ تثبتها فأنا أضرب الليمونة فيها، فقال: ولمَ لا تضربها في اليمنى؟ فأجاب: لأن كفك اليمنى مقعرة فأخاف أنْ أقطع إبهامك، وأمَّا الشمال فليست كذلك؛ فيكون الخطر أقل. قال نبير: وحينئذٍ ارتعدت فرائصي؛ لأنني تأكدت أنه يضرب الليمونة حقيقة، ولو لم أكن قد نسبته إلى الخداع أمام حشمي لعدلت عن المخاطرة بيدي، فمددت شمالي ووضعت الليمونة في كفها، فاستل سيفه وضربها فقطعها شطرين، فشعرت كأن خيطًا باردًا مرَّ على يدي إلى أنْ قال: انظروا إلى مهارة فرسان الهند الذين غلبهم رجالنا في واقعة مياني.
والحوادث الأخيرة التي حدثت في الهند أظهرت جليًّا همة الأمة الإنكليزية وتعويلها على نفسها، ففي شهر أيار سنة ١٨٥٧ ثارت الفتنة في كل بلاد الهند، وكانت الجيوش الإنكليزية حينئذٍ على أقلها، وكانت مشتتة في كل أنحاء البلاد، والجنود البنكالية عصت رؤساءها وانطلقت إلى دلهي، وامتدت الثورة في كل الولايات، وأُلقِي النفير في كل البلاد، وقام جميع الأهالي على الإنكليز حتى خُيِّل لِعَيْن الرائي أنَّ الدولة الإنكليزية قد فقدت بلاد الهند، وفقدت رجالها الذين فيها، وقبلما امتدت الثورة استشار أحد أمراء الهند المنجمين، فقالوا له إذا لم يبقَ من الأوروبيين إلا رجل واحد فلا بد من أنْ يتغلب علينا أخيرًا، وكان في لكنو قليلون من الإنكليز فتحصنوا هم ونساؤهم، وبقوا عدة أشهر، ولا اتصال بينهم وبين الإنكليز الذين في باقي الجهات، وكانوا يجهلون ما إذا كانت البلاد باقية في حوزة دولتهم أو تحررت، إلَّا أنه لم يخُر عزمهم، ولم تضعف ثقتهم برجال بلادهم، بل كانوا متأكدين أنه ما دام رجل إنكليزي في الهند فهو يفتكر فيهم، ولم يخطر على بالهم إلا الثبات، ولو إلى آخر نسمة من حياتهم، فأظهر الجميع شجاعة تفوق الوصف من قواد العساكر، حتى النساء والأولاد، ولم يكن هؤلاء الناس منتخبين من بني البشر، أو ممتازين عنهم، بل كانوا كغيرهم ممن يقع نظرنا عليهم كل يوم في الشوارع والمعامل والحقول والمزارع، ولكن لما انتابتهم المصائب أظهر كل منهم من البسالة والإقدام ما يفوق التصديق، قال منتالنبر: ما من أحد منهم خاف أو ارتعب، بل الجميع من القواد العظام حتى الأولاد الصغار دافعوا عن نفوسهم إلى آخر نسمة من حياتهم، ففي مثل هذه الأحوال تظهر فائدة التربية الإنكليزية التي تدعو كل إنكليزي لكي يستخدم قوته في كل حال من أحوال الحياة.
ويقال إنَّ دلهي أُخذت والهند أُنقذت بواسطة مناقب السر جون لورنس؛ لأن اسمه في الولايات الشمالية الغربية كان رمزًا للقوة، ومناقبه تساوي قوة جيش جرار، وما قيل فيه يقال في أخيه السر هنري لورنس، وكان الجميع يحبون هذين الأخوين محبة شديدة ويثقون بهما ثقة قوية لما رأوه فيهما من الشفقة والصلاح، قال القائد إدوردس: «إنهما طبعا في عقول الشبان من الأخلاق والمحامد ما فعل فعل الديانة، فكأنهما أنشأا ديانة جديدة.» وكان مع السر جون لورنس منتكمري ونكلصن وكُتن وإدوردس، وكلهم من النبلاء الحاذقين الحازمين، ونكلصن كان من أشجع الناس وأكملهم خَلقًا وخُلُقًا، حتى لقبه الأهالي حكيمًا، ودعاه اللورد دلهوسي برج قوة، وكانت كل أعماله من الطراز الأول؛ لأنه ما عمل شيئًا إلا انصب عليه بكليته ولذلك قام قوم من الدراويش وعبدوه فقاصَّ كثيرًا منهم بسبب عبادتهم إياه إلَّا أنه لم يقدر أنْ يردعهم عنها.
أمَّا حصار دلهي والضيقة التي صارت على الجنود الإنكليزية الذين لم يكونوا أكثر من ثلاثة آلاف وسبع مائة، وعدد جنود العدو المحصور أكثر من ٧٥٠٠٠ جندي، فمن الأمور النادرة المثال؛ لأن هذه الشرذمة من الإنكليز غلبت أخيرًا كل قوات الهند، وفتحت دلهي، ورفعت فوقها الراية الإنكليزية بعد أنْ هاجمهم العدو فردوه ثلاثين مرة، وقد أظهر كل جندي من الجنود الإنكليزية بسالة يعجز القلم عن وصفها، ولا ننكر أنَّ هذا الفصل من تاريخ الأمة الإنكليزية قد كلفها كلفة باهظة، ولكن إذا اعتبرنا الفوائد الجزيلة التي يحصدها مَنْ يطَّلع عليه من أولادها رأينا أنَّ المُثمَّن ليس دون الثمن.
وقد ذهب إلى الهند وبلاد المشرق أناس من أمم مختلفة، وأظهروا همة وإقدامًا في أمور أكثر نفعًا للجنس البشري من الحرب، وإذا ذكرنا أبطال السيف وَجَب أن لا ننسى أبطال الدين، فإننا إذا تتبعنا حياة هؤلاء الأفاضل من زفير حتى مرتين ووليمس رأينا عددًا من الدعاة الذين ضحوا حياتهم وصوالحهم على مذبح محبة الجنس البشري، غير مفتشين عن شيء من الفخر والشرف العالمين، وغير قاصدين سوى خلاص البشر، كيف لا وقد احتملوا كل نوع من المتاعب والبلايا، وكانوا عرضة لكل نوع من المخاطر حتى الاستشهاد، ومع ذلك لم ينثنوا عن عزمهم، ولا خارت عزائمهم. ومن أوَّل هؤلاء الدعاة وأشهرهم فرنسيس زفير الذي وُلِد من عائلة شريفة، وكان محاطًا من صغره بالغنى والشرف، إلا أنه برهن بحياته وجود أمور أشرف من شرف العالم، أمور تستحق الاقتناء أكثر من كل مقتنياته، وكان من أفضل الرجال مناقب، وأشجعهم قلبًا، وألينهم عريكة، وأوطاهم جانبًا، وأصدقهم فعالًا، وأفحمهم حجة، وأكثرهم جلدًا.
ولما عزم الملك يوحنا الثالث ملك البرتوغال على نشر الديانة المسيحية في الولايات الهندية الخاضعة له اختار زفير لهذا العمل، فقام ورفأ جُبَّته الخَلَق، وأخذ معه كتاب الصلوات، وانطلق إلى لسبون وأقلع منها إلى المشرق، وكان ذاهبًا في السفينة التي ذهب فيها حاكم كوا، ومعه كتيبة من ألف جندي، فعُيِّنت لزفير قمرة لينام فيها، فاختار المنام على ظهر السفينة ووسادته لفَّة حبال، وكان يأكل مع الملاحين ويمرضهم، فأحبوه واعتبروه اعتبارًا عظيمًا.
ولما وصل إلى كوا اندهش من فساد السكان من أوروبيين ووطنيين؛ لأن الأوروبيين جلبوا معهم كلَّ قبائح أوروبا، والوطنيين لم يقتدوا بهم إلا في القبيح فجال في الشوارع، وكان يدعو الناس ويستعطفهم ليرسلوا له أولادهم لكي يعلمهم، ولم يمضِ إلَّا برهة قصيرة حتى صار عنده عدد وافر من التلامذة، فبذل الهمة في تعليمهم، وكان مواظبًا على افتقاد المرضى والبُرْص والبئسين من كلِّ صفٍّ ورتبة لكي يخفف مصائبهم، ويهديهم طريق الحق، ولم يسمع بإنسان مصاب إلا زاره وفرَّج كربه بقدر إمكانه، وسمع مرة أنَّ الغوَّاصين في منار في حالة يُرثَى لها، فمضى إليهم حالًا، وكان يعمِّدهم ويعلمهم بواسطة الترجمان، وأمَّا تعليمه الأعظم فكان بواسطة أعمال الرحمة التي عملها لهم، ثم طاف كل شطوط كومورن، وجال في المدن والضياع، ودخل البيوت والهياكل معلمًا ومبشرًا، وكان قد سعى في ترجمة التعليم المسيحي، وقانون الإيمان، والوصايا العشر، والصلاة الربانية، وبعض قوانين الكنيسة، فتعلم كل ذلك غيبًا بلغة الأهالي، وكان يتلوه على الأولاد حتى يتعلموه هم أيضًا، ثم يرسلهم لكي يعلموه لوالديهم وجيرانهم، وأقام ثلاثين كنيسة في رأس كومورن، وعين لها ثلاثين معلمًا، ومن ثمَّ انتقل إلى ترافنكور، وجال في قراها وهو يعمِّد ويعلم حتى كَلَّتْ يداه وبح صوته، ولقد قال إنَّ نجاحه فاق انتظاره كثيرًا جدًّا، وكثيرون اعتنقوا الديانة المسيحية من نظرهم إلى طهارة سيرته، واستقامة أعماله.
ثم مضى إلى ملفا ويابان فوجد نفسه بين أقوام يجهل لغاتهم كلَّ الجهل، فكان يصلي ويبكي ويفتقد المرضى والمصابين، وكان مفعمًا من الإيمان والاجتهاد راجيًا كل شيء وغير خائف من شيء، ومن جملة ما قاله: إنني مستعد أنْ أحتمل كلَّ نوع من الموت والعذاب لأجل خلاص نفس واحدة. وما من أحد يقدر أنْ يصف مقدار الأتعاب التي كابدها، والمخاطر التي وقع فيها مدة إحدى عشرة سنة، وفيما كان عازمًا على الدخول إلى الصين أصابته حمى شديدة في جزيرة سنكيان أنهت حياته السعيدة، وتوجته بتاج المجد، ولعله لم يدس دنيانا رجل أشجع منه ولا أطهر.
وحذا حَذْوَ زفير مبشرون آخرون، منهم شورنس وكاري ومرثمن وكتزلف ومريصن ووليمس وكمبل ومُفات ولفنستون، أمَّا وليمس فكان في صباه صانعًا عند رجل يبيع الأدوات الحديدية، وكان ماهرًا في صناعة الحديد، ومغرمًا بتعليق الأجراس، وفي كلِّ عمل يبعده عن دكان معلمه، وحدث أنه سمع عظة مؤثرة أثَّرت فيه تأثيرًا عميقًا، وصيرته معلمًا في مدرسة من مدارس الأحد، ثم طرق أذنيه أمر التبشير في الأصقاع البعيدة، فعزم أنْ يُوقِف نفسه على هذا العمل، وعرض نفسه على جمعية التبشير الإنكليزية، فأرسلته إلى جزائر الأوقيانوس الباسيفيكي، وكان يعمل بيديه في الحدادة والحراثة وبناء السفن، واجتهد في تعليم الأهالي هذه الصنائع وهو يبشرهم بالديانة، وبينما هو في وسط أتعابه هجم عليه البرابرة في أرومنكا وبطشوا به، وإنه لجدير بلبس إكليل الاستشهاد.
أمَّا الدكتور لفنستون فقد قصَّ سيرته بنفسه على أسلوب وضيع — كما هو شأنه — وبيَّن فيها أنَّ أسلافه كانوا فقراء، ولكنهم من ذوي الاستقامة، وأن واحدًا منهم مشهودًا له بالحكمة والفطنة دعا أولاده عندما حضرته الوفاة، وقال لهم: إنني قد نظرت بالتدقيق في كلِّ أخبار عائلتنا التي وصلتُ إليها، فلم أجد بين كلِّ أسلافنا رجلًا عديم الاستقامة؛ فلذلك إذا سار أحدكم، أو أحد أولادكم في طرق معوجة فلا يكون ذلك لأصل وراثي، ووصيتي الأخيرة لكم أنْ تسيروا بالاستقامة.
ولما بلغ لفنستون العاشرة من عمره وُضِع في معمل قطن بالقرب من كلاسكو، فأخذ أجرة الأسبوع الأول، واشترى بقسم منها كتاب نحو لاتينيًّا، وعكف على درس هذه اللغة في مدرسة ليلية، وكان يُحْيي أكثر من نصف الليل في الدرس، فقرأ فرجيل وهوراس، وكلَّ كتاب وصلت إليه يده إلا القصص والروايات، وكان مغرمًا بقراءة الكتب العلمية والرحلات، وعكف أيضًا على درس علم النبات — مع ضيق وقته — وطاف أراضي كثيرة ليجمع منها النباتات، وكان يأخذ كتبه معه إلى المعمل، ويضع الكتب أمامه وهو آخذ في عمله، فارتشف قدرًا جزيلًا من بحار المعارف، ولما تقدم في السن قام فيه ميل شديد لتبشير الوثنيين، فعزم على درس الطب لكي يصير أهلًا لهذا العمل، فأخذ يقتصد في نفقته حتى صار معه ما يكفيه لدرس هذا الفن، فدخل مدرسة كلاسكو، وكان يدرس الطب واليونانية واللاهوت، ويعمل مدة الفرص في معمل القطن، ولم يقبل مساعدة من أحد، بل كان يحصِّل كلَّ ما يكفيه ويكفي لدفع أجرة المدرسة بتعب يديه، وقال بعد ذلك بسنين عديدة: إنني حينما التفت إلى حياتي الماضية، حياة التعب، أشكر الله؛ لأنني حَصَّلتُ ما حصلته بتعبي واجتهادي، وأود أنْ أبتدئ بحياتي جديدًا على المنهج الأول من التعب والاجتهاد. وكان في نيته أنْ يذهب إلى الصين، ولكن كانت الحرب منتشبة في تلك البلاد فعدل عن الذهاب إليها، وعرض نفسه على جمعية التبشير الإنكليزية فأرسلته إلى أفريقية، فوصلها سنة ١٨٤٠ ولم يكن شيء يزعجه في ذهابه إلى أفريقية ويكدر صفاء عيشه إلا ذهابه إليها على نفقة غيره؛ لأنه قال: لا يليق بشخص اعتاد أنْ يفتح طريقه بيده أنْ يعتمد على غيره. ولما وصل إلى أفريقية لم يرد أنْ يبشِّر حيث بشَّر غيره، بل اختط لنفسه قسمًا من البلاد لم يبشِّر فيه أحد قبله، وكان يبشِّر ويعلِّم ويعمل بيديه كلَّ الأعمال الممكنة من الفلاحة والتجارة والبناء وحفر الترع وتربية المواشي، وعَلَّم الأهالي هذه الصنائع أيضًا، ولم يدع دقيقة من الوقت تذهب سدًى، وفي ذات يوم سافر مع نفر من الأهالي ماشيًا، فسمع البعض منهم يقولون: إنه ليس قوي البنية، ولكن بما أنه لابس بنطلونًا نظهر له مهابة وهو دوننا قوة، فحرك فيه هذا الكلام النخوة الأسكتسية، فواصل السير أيامًا عديدة وهو دائمًا أمامهم إلى أن أعياهم التعب، وسمعهم يتعجبون من استطاعته على السير.
ومن الرجال العظام يوحنا هَوَرْد الذي دلَّت حياته على أنَّ الضعف الطبيعي يقدر أنْ يزحزح جبالًا من المصاعب، كان كل اهتمام هذا الرجل موجهًا إلى إصلاح شأن المسجونين، وقد تمكَّن فيه هذا الاهتمام حتى صار ملكة، ولم يثنِه عنه تعب ولا خطر ولا مرض ولا أمر من الأمور، وكان خاليًا من المواهب الفائقة، ومعتدلًا في قواه العقلية، إلَّا أنه كان ذا عزيمة ثابتة، وقلب رحب فحاز شهرة عظيمة، وأثَّر تأثيرًا عظيمًا في المحاكم الإنكليزية وغير الإنكليزية، ولم يزل تأثيره حتى يومنا هذا.
ويونس هنوي رجل آخر من الرجال العظام الذين أوصلوا إنكلترا إلى ما هي عليه بجدهم ودأبهم، وتركوا بعدهم ذكرًا جميلًا وأيادي لا تُنسَى، ولد هذا الرجل سنة ١٧١٢ ويُتِّم من أبيه وهو صغير فانتقلت أمه إلى لندن لكي تعلم أولادها، واجتهدت كثيرًا في تربيتهم وتهذيبهم، ولما بلغ السابعة عشرة أُرسل إلى لسبون؛ ليكون صانعًا عند تاجر من تجارها، وبحذاقته وتدقيقه واستقامته اكتسب محبة كلَّ من تعرَّف به، ثم رجع إلى لندن سنة ١٧٤٣ ودخل في شركة تجار مركزهم في بطرسبرج وتجارتهم في بحر قزبين، فمضى إلى هناك، ولم يلبث أنْ وصل حتى انطلق إلى بلاد العجم ومعه حمل عشرين مركبة من الأنسجة الإنكليزية، فوصل إلى أستراخان وأقلع إلى أستراباد في الجنوب الشرقي من بحر قزبين، وحالما وصل إلى الشاطئ اعترضه قوم من العصاة ونهبوا بعض ما معه، ثم علم أنهم كانوا قاصدين القبض عليه وعلى الرجال الذين معه، فحذر الخطر قبل وقوعه ووصل إلى غيلان بعد ملاقاة أخطار كثيرة. ونجاته العجيبة في هذه النوبة جعلته أنْ يقول الكلام الذي صيَّره دستورًا لحياته، وهو: «لا تيأس قط.» ثم رجع إلى بطرسبرج، وأقام فيها خمس سنوات سائرًا في سبيل النجاح، وفي غضون ذلك مات أحد أنسبائه، وترك له ميراثًا ليس بقليل، وكان هو قد كسب غنًى وافرًا فرجع إلى وطنه سنة ١٧٥٠ لإصلاح صحته المنحرفة، وعمل الخير لأبناء جلدته، فصرف باقي حياته في الأعمال الخيرية، وأول عمل خيري شرع فيه إصلاح طرق لندرة، فنجح في ذلك أيَّ نجاح، ثم شاع أنَّ الفرنساويين عازمون على غزو إنكلترا؛ فوجَّه اهتمامه إلى إيجاد وسيلة لتقوية رجال البحر، فاستدعى مجلس شورى من التجار وأصحاب السفن، وتذاكر معهم في هذا الشأن، وطلب منهم أنْ يعقدوا لجنة مآلها إعداد رجال متطوعين ليحاربوا في سفن الدولة، فلبوا طلبه فتألفت لجنة هي اللجنة البحرية، وعُيِّن هو مديرًا لها، ولم تزل هذه اللجنة قائمة حتى يومنا هذا، وقد أتت بفوائد عظيمة للأمة، وقبلما مضى عليها ست سنوات أعدت ١٠٢٣٨ من المتطوعة.
ثم التفت إلى إنشاء المباني العمومية في القصبة، من ذلك إصلاح شأن مستشفى اللقطاء، وأنشأ مستشفى مجدلين، إلَّا أنَّ معظم اهتمامه كان موجهًا إلى تربية أطفال الفقراء؛ فإن أولئك الأطفال كانوا بحالة يُرثَى لها من الشقاء، وكان يموت منهم عدد غفير لقلة الاعتناء بهم، فعقد قلبه على هذا العمل الخطير، وبحث في هذه القضية بنفسه حتى عرف اتساع خرقها؛ لأنه دخل مساكن الفقراء في لندن وسوادها، ولا سيما المرضى منهم، وعرف أحوالهم تمامًا، ثم انطلق إلى فرنسا على طريق هولندا، وزار بيوت الفقراء المقامة ملجأً لهم لكي يرى ما يمكن اقتباسه منها في إقامة بيوت مثلها في بلاد الإنكليز، فقضى في ذلك خمس سنوات، ثم عاد إلى إنكلترا، ونشر خلاصة بحثه في البلاد، فكانت سببًا لإصلاح شئون فقرائها، وقضى حياته بأسرها يغيث الملهوف، ويعين المحتاج ويُنْهِض الدولة إلى سنِّ الشرائع التي تعود على الفقراء بالنفع، وكان لا يتعب، ولا يمل، ولا يأنف من أمرٍ مهما عده الناس زريًّا إذا كان هو متيقنًا نفعه، وهو أول من سار في شوارع لندن حاملًا مظلة، ولا يخفى ما لحقه بذلك من الإهانة لمخالفته زي البلاد، ولكنه ما انفك يحملها مدة ثلاثين سنة حتى شاع استعمالها كثيرًا، وكان صادقًا مستقيمًا ثقة، لا لوم في سيرته، خدم الدولة في منصبٍ أبواب الرشوة واسعة فيه، ولكنه كان يرد الهدايا إلى أصحابها قائلًا: إني حتمت على نفسي ألا أقبل شيئًا من مثل ذلك، ولما حضرته الوفاة تأهَّب لها تأهبه للسفر، فوفَّى كل ديونه، ورتب كل أموره، وودَّع أصدقاءه، وانضم إلى آبائه وهو في الرابعة والسبعين، ولم تبلغ تركته سوى ألفي ليرة، وكان قد أوصى بها لبعض الأيتام والبئسين؛ إذ لم يكن له وريث.
وهاك مثالًا آخر للنشاط في حياة كرنفيل شَرْب الذي هو أول من اجتهد في إلغاء العبودية، ثم سلَّم هذا العمل العظيم إلى أناس مشاهير، منهم كلركسن وولبرفورس وبكستون وبروَم، وهؤلاء الرجال من الأفراد النادري المثال، ولكن كرنفيل أعظمهم شأنًا وبسالة، وقد ابتدأ في العمل صانعًا عند رجل يبيع المنسوجات، ولما انتهت خدمته عنده جُعل كاتبًا في بيت الأسلحة، وهناك شرع في هذا العمل العظيم؛ أي عتق الرقيق، وكان من صغره يُنتَدب لكل عمل نافع، من ذلك أنه — وهو صانع عند بائع الأنسجة — كان له رفيق من الموحدين (فئة من النصارى تنكر التثليث)، فتناظرا في بعض المواضيع الدينية فادَّعى الموحِّد أنَّ كرنفيل بانٍ اعتقاده في التثليث على آيات من الكتاب لا يفهمها؛ لأنه لا يعرف اللغة اليونانية، فدبَّت الحمية في رأسه، وأخذ يدرس اليونانية باجتهاد شديد، فلم يمضِ عليه وقت طويل حتى صار يعرفها معرفة كافية لغرضه، ثم حدثت مناظرة أخرى بينه وين رجل يهودي من جهة تفسير النبوات فتعلم اللغة العبرانية لكي يفحم خصمه.
وكان له أخ طبيب اسمه وليم كان يشاهد المرضى والمصابين، فاستشاره رجل أسود مسكين اسمه يوناثان سترن في مسألة جراحية، وكان هذا المنكود الحظ عبدًا لفقيه بربدوزي، وقد أساء معاملته حتى كاد يصيره أعمى وأعرج، ولما رأى أنه عديم النفع طردهُ من بيته ليهلك جوعًا، فأخذ يستعطي ليقوت نفسه — مع ما به من الأدواء — إلى أنْ ساقه سعده إلى وليم شَرْب فعالجه قليلًا، ثم أدخله مستشفى مار برثلماوس فبقي فيه إلى أنْ شُفِي، ولما خرج من المستشفى عالجه وليم وأخوه إلى أنْ وجدا له عملًا عند صيدلاني، فبقي في خدمة الصيدلاني سنتين، وحدث يومًا أنه كان ذاهبًا مع امرأة معلمه الصيدلاني فمر به سيده القديم؛ أي الفقيه، ولما رأى أنه قد تعافى استدعى اثنين من الحراس، وأمرهما بأن يقبضا عليه عازمًا أنْ يرسله إلى الهند الغربية، ففعلا ووضعاه في محرس، فلما رأى نفسه في هذه الحالة التعيسة تذكر كرنفيل شرْب وما عمله معه من الإحسان فأرسل إليه كتابًا يخبره بحاله ويطلب مساعدته، أمَّا شرْب فكان قد نسيه تمامًا؛ ولذلك أرسل رسولًا ليفحص ويرى من هو سترن هذا، فأنكر الحراس أنَّ عندهم رجلًا بهذا الاسم، ولما أُخبر شرْب بذلك كثرت عنده الظنون، فقام لساعته وانطلق إلى المكان الذي كان فيه العبد، ولم يرجع حتى رآه فعرفه، وأوصى رئيس السجن أن لا يسلمه لأحد حتى يعرض أمره لحاكم المدينة، ثم مضى إلى الحاكم وعرض له واقعة الحال، فاستدعى الحاكمُ العبدَ واللذين مسكاه، وكان سيده السابق قد باعه من رجل آخر فحضر هذا أيضًا وادَّعى به، وبما أنَّ الحاكم لم يكن قادرًا أنْ يحكم بحريته ولا بعبوديته، ولا كانت له دعوى جنائية، أطلقه، فتبع مستر شرْب، ولم يجسر أحد أنْ يدنو منه إلَّا أنَّ سيده استخرج أمرًا من الدولة بإرجاعه.
وكانت حرية الرعايا في ذلك الوقت — أي نحو سنة ١٧٦٧ — قائمة بالقول لا بالفعل؛ لأنه كان في كل المدن الكبار قوم دأبهم القبض على الناس، وإرسالهم إلى الهند خدامًا للشركة الهندية، وإذا استغنت الشركة عنهم في الهند كانت ترسلهم إلى المهاجر الإنكليزية في أميركا ليكونوا فيها عبيدًا، وكان بيع العبيد يُعلن في الجرائد، بل كان يعلن حُلْوان من دلَّ على عبد آبق، وكانت مسألة الاستعباد غامضة والحكم فيها متقلبًا غير ثابت، وكان الرأي العام أنَّ من دخل إنكلترا تخلص من ربقة العبودية إلَّا أنَّ أناسًا كثيرين من ذوي الشهرة والمكانة كان رأيهم خلاف ذلك، وهذا كان رأي القضاة الذين استغاثهم شرْب على عتق سترن حتى إنَّ قاضي القضاة اللورد منسفيلد، وأكثر أرباب المجلس كان رأيهم أنَّ العبد يبقى عبدًا ولو دخل إنكلترا، وإن أبق وجب رده إلى سيده شرعًا، وهذا كان يجب أنْ يقطع آمال شرْب من إطلاق سبيل يوناثان، ومن الانتصار للعبيد، ولكنه زاده همَّةً ونشاطًا فعزم أنْ ينتصر للعبيد، ويدافع عن حريتهم إلى آخر نسمة من حياته؛ ولذلك رأى أنْ لا بد له من تعلم الفقه؛ لأن الفقهاء الذين التجأ إليهم لم يكونوا من رأيه، ولم يكن قد فتح كتابًا فقهيًّا قبل ذلك، فابتاع كتبًا كثيرة، وأخذ يطالع فيها صباحًا ومساءً؛ لأنه كان يعمل النهار كله في بيت الأسلحة — كما قدمنا — فصار عبدًا وهو يحاول تحرير العبيد، وكتب مرةً إلى أحد أصحابه يقول له: اعذرني لعدم مجاوبتي كتابك في حينه؛ لأن الوقت الذي كنت أملكه من الليل قد ملكته لمطالعة بعض الكتب الفقهية، وهي تستدعي وقتًا طويلًا واجتهادًا عظيمًا.
ودام على مثل ذلك سنتين كاملتين، وهو يطالع في كتب كثيرة، ويدون كلَّ ما يوافقه من آراء القضاة وبنود المجلس العالي وأحكامه، ولم يكن له مساعد ولا مرشد، بل لم يجد قاضيًا واحدًا من رأيه، إلَّا أنَّ نتيجة درسه كانت حسب مطلوبه، الأمر الذي انذهل منه كلُّ المفتين. ومن جملة ما كتبه حينئذٍ قوله: الحمد لله لأنني لم أرَ في كلِّ شرائع دولتنا الإنكليزية ما يجيز استعباد البشر. ثم كتب نتيجة بحثه في ملخص سهل العبارة واضح الإشارة، سمَّاه بطلان إباحة العبودية في إنكلترا، ونسخ منه عدة نسخ بيده، ووزعها على أشهر مفتي عصره، فلما رأى سيد سترن من شرْب ذلك حاول تأخير المرافعة، ثم طلب أنْ تصير بينهم مراضاة بلا مرافعة، فلم يقبل شرْب بذلك، واستمر على توزيع النسخ على القضاة، حتى إنَّ المحامين الذين اختارهم سيد سترن تنحوا عن المحاماة، فالتزم أنْ يدفع ثلاثة أضعاف النفقات؛ لأنه لم يمكنه إثبات دعواه، وحينئذٍ طُبعت رسالة شرْب المار ذكرها.
ونحو ذلك الوقت حدثت في لندن حوادث كثيرة من اختطاف السود وإرسالهم للبيع في الهند الغربية، أمَّا شرْب فكان يخلِّص كلَّ من عثر عليه من هؤلاء المنكودي الحظ بأمر الدولة، ومن ذلك امرأة رجل أفريقي اسمه هيلاس خطفها البعض وأرسلوها إلى بربادوز، فانتصر لها شرْب، وخلَّصها بقوة الحكومة من النخاسين، وأجبرهم على رَدِّها إلى إنكلترا، وكان في إنكلترا زنجي اسمه لويس ادَّعى به رجل، وأرسل اثنين فمسكاه وقيداه، ومضيا به إلى سفينة مسافرة إلى جمايكا، فسمع البعض صراخه، ومضوا وأخبروا شرْب الذي كان قد اشتهر أمره حينئذ بتخليص العبيد، فعرض الدعوى للحكومة، وحصل على أمر بإطلاق العبد، ولما أُخْرِج الأمر كانت السفينة قد سافرت، فأخرج أوامر مشددة من الحكومة، تقضي باتباع السفينة ورد العبد، فاتُّبعت قبل أنْ باينت شواطئ إنكلترا، وإذا بذلك المسكين مقيد إلى السارية مغتسل بدموعه، فأُطلق وجيء به إلى لندن، وأُلقي القبض على النخاس، فرُفِعَت الدعوى إلى قاضي القضاة منسفيلد، وقد تقدم أنَّ رأيه يخالف رأي شرْب، فلم يرِد أنْ يحكم في هذه الدعوى لا سلبًا ولا إيجابًا، ولكنه أطلق العبد؛ لأن النخاس لم يقدر على تقديم بينة أنَّ العبد ملك له.
ولم تكن حرية العبيد مثبتة في لندن حتى ذلك الوقت غير أنَّ شرْب لم يكفَّ عن إنقاذ مَن مكنته الفرصة من إنقاذه، وأخيرًا تصدرت دعوى جمس سمرست الشهيرة، ويقال إنَّ هذه الدعوى تصدرت بتواطؤ لورد منسفيلد ومستر شرب؛ لكي يُبَتَّ الحكم في مسألة تحرير العبيد بتًّا شرعيًّا نهائيًّا، وسمرست هذا عبد جلبه سيده معه إلى لندن، ثم قصد أنْ يرسله إلى جمايكا ويبيعه فيها، فقام مستر شرْب حسب عادته وانتصر له، فقال لورد منسفيلد: إنَّ هذه الدعوى مهمة جدًّا، فيجب أنْ يؤخذ فيها رأي كل القضاة. فقامت على مستر شرب جميع قوَّات المملكة، إلَّا أنه رأى نفسه كفؤًا لها لما عنده من ثبات العزم، ولحسن حظه وجد كثيرين من القضاة قد غيَّروا رأيهم، وصاروا من رأيه (من قراءتهم رسالته المار ذكرها)، فالتأم مجلس قضائي من لورد منسفيلد وثلاثة من رؤساء القضاة، وجرت المذاكرة فيه في أمر حرية الرعايا ولزومها، وكيف أنها لا تفقد إلَّا لعلة شرعية توجب النفي، وبعد مباحثة دامت أيامًا كثيرة خرج حكم لورد منسفيلد (الذي كان قد غير رأيه بواسطة رسالة شرب) أن لا شيء في الشرائع الإنكليزية يعضد العبودية أو يجيزها؛ ولذلك يجب أنْ يطلق سبيل سمرست، وبهذا الحكم نُقضت تجارة العبيد التي كانت جارية علانية في أسواق لندن ولفربول، وأثبت القول القائل: إنَّ العبد يُعتَق عندما تطأ رجله أرضًا إنكليزية. كل ذلك باجتهاد مستر شرب وحده.
ولم يكتف هذا الشهم بالفوز العظيم الذي فاز به، بل لازم أعمال البر بهمَّة لا يخامرها كلَلٌ ولا ملل، وبهمته تأسَّس مهجر سرَّاليون لسكنى العبيد المعتقين، وأُصلح شأن هنود أميركا، وألغى إجبار الناس على الخدمة البحرية، واجتهد أيضًا في إرجاع الصلات الحبية بين الدولة الإنكليزية ومهاجرها في أميركا، ولما انتشبت حرب الحرية بين إنكلترا وأميركا كانت ضد رأيه على خط مستقيم، فتنحَّى عن وظيفته في بيت الأسلحة؛ لأنه لم يطق أنْ يعمل في عمل له شركة في تلك الحرب المشئومة، وبقي إلى آخر نسمة من حياته مهتمًّا بإلغاء العبودية، وبمساعيه انتظمت لجنة لإلغائها قام منها أناس مُتَّقِدون غيرةً واجتهادًا، وأكبوا على تنفيذ مآربه، ولا عجب إذا فعلوا ذلك؛ لأنهم كانوا مضطرمين بما بثَّه في صدورهم من محبة عمل الخير، ولم يساعده هؤلاء وحدهم بل كل الأمة، إلَّا أن أخصَّ خلفائه هم: كلاركصن وولبرفورس وبروم وبكستون الذين اشتغلوا في هذه المسألة باجتهاد يوازي اجتهاده إلى أنْ أُلْغِيت العبودية من كل السلطنة الإنكليزية، والفضل الأول في إلغائها لكرنفيل شَرْب الذي شرع في هذا العمل وكل رجال المملكة ضده، فصارعهم جميعًا قضاة ورؤساء، وتغلب عليهم بثباته واجتهاده وصيرهم له أنصارًا، والناس كلهم مدينون لهذا الرجل؛ لأنه نزع من الدنيا شرًّا عظيمًا حط شأن الإنسان زمانًا طويلًا، وكل ما حدث بعده هو نتيجة تعبه، فهو أول من مسك هذه الشعلة بيده، وأضرم بها بعض العقول، فاستنارت وعمَّ ضياؤها المسكونة.
وقبلما تُوفي شرْب قام كلاركصن، ووجَّه اهتمامه إلى هذا الأمر، حتى إنه اختاره موضوعًا لرسالة مدرسية (رسالة ينشئها الطالب عندما ينتهي من المدرسة)، ثم ترجم هذه الرسالة من اللاتينية إلى الإنكليزية وطبعها، وكانت قد تألفت لجنة إلغاء العبودية، فانضم إليها، وضحَّى كل صوالحه لإتمام غرضها، وكان شغله جمع البيِّنات التي تعين على إبطال العبودية، وكان المحامون عن العبودية يدَّعون أنَّ العبيد إنما هم أسرى، أُخذوا في الحروب، وابتياعهم خير لهم من العذاب والقتل حسب عوائد بلادهم، إلا أنَّ كلاركصن كان يعرف أنَّ النخاسين يصطادون العبيد صيد الوحوش، غير أنه لم يقدر أنْ يثبت ذلك بالبينة، وحدث يومًا أنه التقى بصاحب له، وفيما هما يخوضان في الحديث قال له صاحبه إنه يعرف نوتيًّا كان عمله اقتناص العبيد إلا أنه لا يعرف اسمه، ولا يقدر على وصفه، ولا يعرف مقره، وكل ما يعرف من أمره أنه في إحدى السفن الحربية، فعزم كلاركصن أنْ يفتش عن هذا النوتي، ويأتي به شاهدًا، فتفقَّد كل المرافئ البحرية بنفسه، وفتش كل السفن، وأخيرًا وجد النوتي المذكور في آخر مرفأ وصل إليه وفي آخر سفينة دخلها، فأتى به شاهدًا على صدق دعواه، فكان من أقوى شهوده، وبقي سنين عديدة يفتش عن شواهد وأدلة أخرى، فكاتب أكثر من أربع مائة رجل، وسافر نحو خمسة وثلاثين ألف ميل حتى أضناه التعب وخارت قوته، ولكنه لم يترك هذا الميدان حتى نبَّه أفكار الجمهور إليه، وحرَّك ذوي الشهامة إلى المعاضدة على الانتصار للعبيد والشفقة عليهم.
وبعد معاناة مشقات كثيرة أُلْغِيَت تجارة العبيد تمامًا، ولكن بقي أمر أهم من إلغاء التجارة، وهو إلغاء العبودية نفسها وعتق العبيد، وهذا أيضًا تم بواسطة نشاط النشيطين، وأشهر الذين لهم اليد الطولى في إتمامه فول بكستون. كان هذا الرجل في صباه مشهورًا بالعناد والمكابرة، فإنه يُتِّم من أبيه وهو حدث، وكانت أمه امرأة فاضلة حكيمة، فاجتهدت كثيرًا في تربيته تربية حسنة وردع أهوائه، ولكنها كانت تبيح له الحكم في بعض الأمور الطفيفة، مرتئية أنَّ الإرادة القوية صفة حميدة، وكان معارفها يلومونها؛ لأنها ربَّت في ولدها هذه القوة، فتجيبهم بقولها: لا بأس عليه من ذلك، فإن هذه الإرادة سيكون منه إفادة. ثم أرسلته إلى المدرسة، فلم يستفد منها شيئًا؛ لطيشه وكسله، ورجع إلى البيت وهو في الخامسة عشرة، وكان مولعًا بالصيد وركوب الخيل، وفيما هو في السن الذي تبتدئ فيه حياة الشاب إمَّا في المليح وإمَّا في القبيح، ألقته التقادير في بيت كرني، بيتٍ مشهور بالفضل والتهذيب، وقد شهد من فمه فيما بعد أنه يَعْزي تقدمه إلى دخوله هذا البيت، وهو الذي ساعده على تهذيب نفسه وعلى الدخول إلى مدرسة دبلن الكلية، وقد أفلح في تلك المدرسة إفلاحًا عظيمًا، وكان أحب شيء لديه أنْ يرى أهل ذلك البيت أنَّ تعبهم لم يذهب سُدًى، ثم تزوج بواحدة من بناتهم، وصار كاتبًا عند أخواله في لندن. والملكة التي تأسست فيه وهو ولد ظهرت الآن في كلِّ أعماله، وسبَّبت كلَّ نجاحه؛ لأنه قدر بواسطتها أن يعمل كلَّ ما وصلت إليه يده بلا كلل ولا ملل، وكان يصب كل قوته على كل عمل أخذ فيه، ونجح في كل أعماله؛ لأنه عملها بكل قوته، وبعد أنْ بقي مدةً كاتبًا صار شريكًا، ثم صار المعمل كله تقريبًا في يده، وكان نجاحه يزداد يومًا فيومًا، ولم يكتف بالتقدم والغنى، بل خصص لياليه لترويض عقله بالدرس، فقرأ بلاكستون ومنتسكيو ومؤلفات كثيرة في الفقه، وجعل دستورًا لحياته أنْ يأتي على آخر كلِّ كتاب شرع فيه وأن لا يحسب أنه أتم قراءة كتاب ما لم يكن قد استوعبه تمامًا.
ولما صار له اثنتان وثلاثون سنة من العمر صار عضوًا في البرلمنت، فاهتم بعتق العبيد في المهاجر الإنكليزية، وكان يقول: إنَّ الذي وجَّه أفكاره إلى هذه المسألة السيدة برسكلَّا كرني، وهي امرأة مشهورة بالفضل وسموِّ العقل، ولما كانت على فراش الموت سنة ١٨٢١ استدعته مرارًا كثيرة، وحثَّته على جعل عتق العبيد غرضه من الدنيا، وهذا كان كلامها الأخير، فلم ينسَ وصيتها قط، وسمَّى واحدة من بناته باسمها تذكارًا لها، ولما تزوجت هذه الابنة في أول آب (أغسطس) من شهور سنة ١٨٤٣ اليوم الذي صار فيه عتق العبيد، كتب إلى صاحب له يقول: الآن تركتنا برسكلَّا وذهبت مع عريسها، وقد تمَّ كل شيء كما تحب، ولم يبق عبدٌ في كلِّ المهاجر الإنكليزية.
ولم يكن بكستون ذا موهبة فائقة ولا من ذوي العقول الثاقبة، ولكنه كان شديد العزم عالي الهمة، وتظهر أخلاقه من قوله الذي يحق له أنْ يُطبَع على قلب كلِّ شاب، وهو أنني أرى بالاختبار أنَّ الفرق بين البشر بين القوي منهم والضعيف وبين العظيم والحقير، هو في قوة العزم، حتى إذا عزم المرء على أمر لا يرتد عنه إلَّا بالغلبة أو بالمنية، ومن كان ذا عزم قويٍّ أمكنه أنْ يفعل كلَّ ما يمكن فعله في هذه الدنيا، ولا يمكن للمواهب ولا للأحوال ولا للفرص أنْ تجعل الرجل رجلًا إذا لم يكن ذا عزم.
•••
وقد قام من بلاد المشرق أيضًا رجال مشهورون بالهمة والإقدام، قادوا الجيوش، ودوَّخوا البلدان، وأقاموا لهم اسمًا بين أعظم الفاتحين مثل صلاح الدين وجنكيز خان وتيمور لنك وإبرهيم باشا وغيرهم من القواد العظام، وهاك طرفًا من سيرة كلٍّ من هؤلاء الأربعة:
وُلِد صلاح الدين بقلعة تكريت سنة ٥٣٢ للهجرة الموافقة سنة ١١٣٧ للمسيح، ودخل مصر مع عمِّه شيركوه، ولما مات شيركوه استقرَّت وزارة مصر له، فبذل الأموال، وملك قلوب الرجال، وتقمَّص بقميص الجدِّ والاجتهاد، وغَشِي الناس من سحائب الأفضال والإنعام.
وكان الإفرنج قد زحفوا على بلاد الشام منذ أكثر من ثمانين سنة، واستولوا على أنطاكية والقدس ومدن الساحل، وحاولوا الاستيلاء على دمشق والقطر المصري كله، فعزم صلاح الدين على طردهم من البلاد، فالتقاه بدوين الرابع ملك القدس بالقرب من مدينة الرملة وكسره، فعاد إلى الديار المصرية، وأقام فيها ريثما لمَّ شعث أصحابه، ثم عاد يطلب الشام، فنازل حلب سنة ٥٧٩، واستلمها من صاحبها عماد الدين زنكى، وسار إلى دمشق ومنها إلى الكرك، وكان صاحبها الأمير رينود ده شاتيليون قد نكث عهود الصلح، وقطع السابلة، فدافعه بعساكر الإفرنج، فرحل عنها ونازل الموصل، ومرض بعد ذلك مرضًا شديدًا حتى يئسوا منه ثم عُوفِي، وجمع ثمانين ألف محارب، ونازل عساكر الإفرنج بقرب طبرية، وحجز بينهم وبين الماء، فقتل منهم خلقًا كثيرًا وأسر غاي ده لوزينيان ملك القدس والأمير رينود صاحب الكرك، وسُمِّيت هذه الوقعة وقعة حطين نسبة إلى جبل هناك، ولم يُصَب الإفرنج من حين خروجهم إلى الشام بمصيبة مثل هذه، ولما انقضى المصاف جلس في خيمته، وعُرِضت عليه الأسارى، فأجلس ملك القدس إلى جانبه، وناوله شربة من جُلَّاب وثلج، وكان قد أضناه الظمأ فشرب منها ثم ناولها للأمير رينود، فقال السلطان للترجمان: قل للملك أنت الذي سقيته؛ لأن من عادة العرب أنَّ الأسير إذا أكل من مال من أسره أمن. وكان قد هدر دم هذا الأمير، فعرض عليه الإسلام، فلم يفعل فسلَّ النمشا، وضربه بها فحل كتفه وتمَّم قتله من حضر، ثم التفت إلى ملك القدس وطيب قلبه، وقال له: لم تجرِ عادة الملوك أنْ يقتلوا الملوك، وأمَّا هذا فقد تجاوز الحد.
ثم نازل عكاء وأخذها، واستنقذ من كان فيها من الأسارى، وتفرقت عساكره في بلاد الساحل، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصرة، وسار هو يطلب تبنين وكانت قلعة منيعة، ونصب عليها المجانق، فتسلَّمها وأسر من بقي فيها حيًّا ورحل إلى صيدا، فنزل عليها واستلمها وسار عنها إلى بيروت، ورَكَّب عليها المجانيق، وداوم الزحف والقتال حتى أخذها، وامتنعت عليه صور فتركها وقصد عسقلان، وحاصرها أربعة عشر يومًا، وأقام عليها المجانيق حتى تسلمها، ثم قصد القدس، فاجتمعت إليه العساكر التي كانت في الساحل، فنصب عليها المجانيق، وشدَّد عليها الحصار، فسلَّم أهلها له على أنْ يؤدي الرجل منهم عشرة دنانير والمرأة خمسة والطفل من الذكور والإناث دينارين. ويظهر من تاريخ الإفرنج أنه شفِق على السكان، وردَّ لهم أسراهم وعاملهم بالرفق أكثر مما تستدعيه شروط الصلح الذي عقده معهم.
ثم خلَّف أخاه الملك العادل بالقدس، يقرر قواعدها ودوَّخ كل المدن والحصون التي في شمالي بلاد الشام وصالح أهل أنطاكية، ولم يمتنع عليه إلَّا صور سيدة البحار.
وكان شجاعًا مهابًا ماهرًا بفنون الحرب والجلاد، كريمًا حسن الأخلاق، صبورًا، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، حسن السياسة، عظيم الهيبة، وافر العدل، كثير التواضع واللطف، قريبًا من الناس، كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحب العلم والشعر والعلماء والشعراء، ويقربهم إليه ويحسن إليهم، ولما ملك الديار المصرية لم يكن فيها شيء من المدارس، فعمَّر مدارس كثيرة، ووقف عليها أوقافًا واسعة، وبنى مدرسة بالقدس، ووقف عليها وقفًا كثيرًا.
وجنكيز خان ولد سنة ١١٥٥ للميلاد، وأبوه شيخ قبيلة صغيرة من قبائل المغول، فيها نحو ثلاثين أو أربعين بيتًا، ومات أبوه وتركه صغيرًا في الثالثة عشرة من عمره، فتولى أمر القبيلة مكانه، ولكن لم يخضع له بعض رجال قبيلته استخفافًا به، بل ولَّوا عليهم رجلًا آخر منهم، وانتشبت بينهم الحروب، فانجلت عن انهزام جنكيز خان، وكان اسمه حينئذٍ تموجين، فالتجأ إلى أنغ خان صاحب كرايت، فأزوجه من ابنته، وولَّاه قيادة فرقة من جنوده، وكان جنكيز شجاعًا مقدامًا، فحسده أنغ خان حموه، ودَسَّ له من يقتله سرًّا، وبلغ جنكيز ذلك، فجمع جنوده، وهاجر بهم إلى بلاده، وجمع هناك جيشًا كبيرًا، وعاد لمحاربة حميه، فتغلب عليه، واستولى على مملكته، وخاف التتر منه، واعتصبوا عليه عصبة واحدة، فنازلهم ومزَّق شملهم، واستولى على كلِّ بلاد المغول، ثم طمحت نفسه إلى توسيع نطاق مملكته، فجمع نوَّاب قبائل التتر الخاضعين له، وكاشفهم بما في نفسه، فقام واحد من كهانهم وأمنه بأنه سيملك المسكونة، وغيَّر اسمه وسمَّاه جنكيز خان؛ أي عظيم الخانات تفاؤلًا بذلك، فهابته القبائل فحمل بهم على بلاد الصين، واكتسح شماليها وتسوَّر السور الصيني المنيع، وهاجم باكين وافتتحها، ثم عاد إلى بلاده، ووطَّد الأمن فيها، وعقد لابنه جوجي على سبع مائة ألف محارب وسيَّره على خوارزم، وصاحبها علاء الدين محمد، وكانت سلطنته ممتدة من الشام إلى بلاد السند، ومن نهر سيحون إلى خليج العجم، فالتقى به وانتشب بينهما القتال، فتغلَّب جوجي على سمرقند، وبخارا وأحرق مكتبتها الشهيرة.
وقسم جنكيز خان جيوشه ثلاثة أقسام: قسمًا أرسله إلى الشمال الغربي، فاكتسح كلَّ بلاد فارس والقوقاس، واجتاز إلى بلاد الروس، ونهب البلاد التي بين الفلغا والنيبر، وقسمًا أرسله إلى الجنوب فاكتسح جنوبي آسيا، وقسمًا بقي يوغل في بلاد الصين، ثم جمع جنوده كلها، وقطع بهم صحراء كوبي قاصدًا مملكة طنجوت في الشمال الغربي من بلاد الصين، وحاصر فنهي فصبتها، وكان قد أنهكه الكبر، فوافته المنية قبل أنْ يستلمها، وكانت وفاته سنة ١٢٢٧، وله من العمر اثنتان وسبعون سنة، وكان عالي الهمة شجاعًا مهابًا منصفًا في الرعية أباح الحرية الدينية لكلِّ المذاهب، وعفا الأطباء والكهنة والمشايخ من الجزية، وشدَّد الوطأة على أهل البغي والفساد، وكان يقاص الزناة والسَّرَقة أشد القصاص، وأنشأ البريد في سلطنته الواسعة، ووطَّد الأمن فيها حتى كان الواحد يسير وحده من طرفها الواحد إلى الآخر آمنًا، وكان يكرم العلماء، ويقربهم منه إلَّا أنه كان سفَّاكًا للدماء كأكثر الفاتحين الأقدمين، فقد قيل إنه قتل في حروبه الكثيرة لا أقل من خمسة ملايين من البشر، وهذا غير مغتفر في عصرنا، ولكنه لم يكن غريبًا في عصره عصر سفك الدماء.
وتيمور لنك وُلِدَ بقرب كش في الثامن من نيسان سنة ١٣٣٦ للميلاد، ولما صار له من العمر أربع وعشرون سنة، كان القلموق قد أخضعوا كل تركستان، وطردوا منها الأمراء الذين لم يخضعوا لهم، وكان عمه أميرًا على كش، فهرب من وجههم، فلم يتبعه تيمور بل قدم على رئيس القلموق، فأعجبته فصاحته وطلاقة وجهه، فأقطعه كش وجعله وزيرًا لابنه الذي أقامه على تركستان، ثم اجتمع أمراء تركستان، ونبذوا طاعة القلموق، وولوا عليهم الأمير حسين والأمير تيمور، فحكما بالاتفاق مدة، ثم انتشبت الحرب بينهما، فَقُتِل حسين، واستقل تيمور، فنصَّب واحدًا من نسل الملك على سرير السلطنة واكتفى بلقب أمير، وكان هو الآمر الناهي، فانتقم من الذين نقموا على القلموق، وغزا قبائل خوارزم التي كانت قد نهبت بخارا، ودعا أمير هرات وأمراء خراسان ليتحالفوا معه على ردِّ السلطنة إلى حدودها الأولى، فلم يلبوا دعوته، فزحف عليهم وأخضعهم، ثم عصى عليه أهل هرات، وقتلوا رسله، فزحف عليها، وقبض على ألفين من حاميتها، وبنى هرمًا من أجسادهم والطين والآجر، واكتسح سجستان أيضًا، ثم عاد إلى سمرقند، وأقام فيها فصل الشتاء، وعاد في السنة التالية إلى الغزو، ولم تنصرم سنة ١٣٨٧ حتى أخضع كلَّ البلاد التي عبر دجلة من تفليس إلى شيراز، وكان طقتمش خان قد اجتاح بعض ولاياته، فأغار عليه وطرده من بلاده، وتأثَّره إلى توبول، وقطع جبال أورال، وسنة ١٣٩٨ شنَّ الغارة على البلدان الغربية، فعبر دجلة، وأخضع القبائل التي شرقي الفرات، ودار إلى الشمال حتى وصل إلى الفلكا، وتحوَّل إلى الغرب حتى وصل إلى النيبر، ثم نزل إلى موسكو، وعاد بطريق أستراخان، وأخضع كلَّ البلدان التي مرَّ بها، وسنة ١٣٩٨ قصد بلاد الهند وأثخن في أهاليها وعاد بالغنائم الوافرة، وفي السنة التالية عاد إلى غربي آسيا، وفتح حلب وحماه وحمص وبعلبك ودمشق وحارب السلطان بيازيد العثماني بقرب أنقرة، وتغلب عليه، وأخذه أسيرًا، وفتح آسيا الصغرى كلها، وطرد فرسان مار يوحنا من أزمير، وضرب الجزية على إمبراطور القسطنطينية، ثم عاد إلى بلاد الكرج، وأقام فيها فصل الشتاء، وعاد منها بطريق مرو وبلخ، وبلغ سمرقند سنة ١٤٠٤، واستعد لغزوة بلاد الصين، وزحف عليها بجيش جرار، ولكنه مرض في أثناء الطريق بالحمى، ومات في السابع عشر من ففريه (شباط) سنة ١٤٠٥، وكان مع ما اشتُهر عنه من الفتك ليِّن العريكة، محبًّا للعلم والعلماء، وله مؤلفات كثيرة باللغة الفارسية.
وإبرهيم باشا المشهور ابن محمد علي باشا عزيز مصر ولَّاه أبوه قيادة قسم من الجيش، وهو ابن ست عشرة سنة، وسيَّره سنة ١٨١٦ لمحاربة الوهابيَّة في بلاد العرب، وكانوا قد خرجوا على الدولة العلية، فذهب إليهم وقاتلهم وهزمهم وفتح مدنهم، وقبض على أميرهم عبد الله بن سعود، وكان يؤدي للعرب ثمن ما يعوزه من الميرة كما فعل ولنتن في إسبانيا فاستمال إليه قلوبهم، ولما قطع شأفة العصيان، وقتل شيوخ الوهابية صرف عنايته إلى إصلاح البلاد وتأمين السابلة، فانفتحت أبواب التجارة، ونُشِرت راية العدل بين الأهالي فدانوا له، واجتمعت قلوبهم على ولائه، فبنى قلاعًا منيعة لتأمين البلاد، واحتفر آبارًا كثيرة، وعاد إلى مصر ظافرًا غانمًا، ووقائعه في بلاد الشام مشهورة ومآثره فيها مبرورة، فإنه قصدها بثلاثين ألفًا، واستولى على كلِّ مدن الساحل من غزة إلى طرابلس، ثم استولى على دمشق وحمص وحلب وقونية، ولبث في سورية يدبر أمورها أحسن تدبير إلى أنْ اتفقت الدولة العلية مع دول أوروبا على إخراجه منها، فعاد إلى مصر وتولَّاها سنة ١٨٤٧، وتُوفِّي فيها في السنة التالية، وكان عالي الهمة، ثابت العزم، يُعَد من أفراد هذا الزمان في النشاط والشجاعة.