إزالة الألفة
أقول، إن اللوحة بدَت كما لو كانت تعتبر نفسها ملكةَ المجموعة. كانت تصور امرأة، أعتقد أنها أكبرُ بكثير من حجمها الحقيقي، وحسبتُ أن هذه السيدة، إذا وضعَت في ميزان للأحجام يناسب الأوزان الكبيرة، لا بدَّ أن تكون ما بين ٨٩ و١٠٢ من الكيلوجرامات. كانت والحق يقال حسنةَ التغذية للغاية، فلا بدَّ أنها استهلكت من لحوم الجزارين — عدا الخبز والخضراوات والمشروبات — قدرًا مكَّنها من الوصول إلى هذا العرض وذلك الطول وتلك الثروة من العضلات وهذه الوفرة من اللحم كانت تستلقي نصفَ متكئة على الأريكة، لماذا؟ يصعب الرد على هذا السؤال؛ فضوء النهار الغامر يحيط بها من كل جانب، وكانت تبدو موفورةَ الصحة، وذات عافية تمكِّنها من القيام بعمل اثنين من الطباخين العاديِّين، ولم يكن لها أن تشكوَ من ضعف عمودها الفقري، فكان يجب أن تكون واقفة أو على الأقل جالسة في وضع قائم، ولم يكن هناك داعٍ لأن تُضيعَ وقتها هكذا في الظهيرة مسترخيةً على أريكة، كذلك كان ينبغي لها أن ترتديَ ملابس محتشمة، فستان يغطيها كما يجب، وهو ما لم يكن عليه الحال، لقد عمدت ألَّا تغطيَ نفسها بأيٍّ من الأنسجة الوفيرة التي تبدو في اللوحة — حوالي سبع وعشرين ياردة حسب تقديري. وفوق هذا، لم يكن هناك ما يُبرر الفوضى التي تحوطها: أوعية المطبخ … أو ربما كان من الأفضل أن أقول الزجاجات والكئوس … تنتثر هنا وهناك في مقدمة اللوحة، يختلط بها كومٌ من الزهور الذابلة. وثمة كتلة سخيفة ومهملة من النسيج تكاد تغطي الأريكة وتنوء بحملها على الأرض.
وحين راجعَت الكتالوج، وجدَت أن هذه اللوحة الشهيرة تحمل اسم «كليوباترا».
«التعود يلتهم الأعمالَ والملابس والأثاث وزوجة المرء والخوف من الحروب … والفن موجود كيما يتمكنَ المرءُ من استعادة الإحساس بالحياة؛ إنه يوجد كيما يحسَّ المرءُ بالأشياء، كي يجعلَ من الصخر «صخرًا». إن الهدف من الفن هو نقل الإحساس بالأشياء كما تُحس، وليس كما هي معروفة.»
وهذه النظرية تُبرر أوجه التشويه والتفكيك اللذَين يمارسهما كُتَّاب الحداثة، بَيْد أنها تنطبق كذلك على مؤلفي الرواية الواقعية الكبار. وقد أورد شكلوفسكي بين ما أورده من أمثلة، فقرة يسخر فيها تولستوي سخرية فعَّالة من الأوبرا، عن طريق وصف عرض أوبرالي كأنما هو من منظور شخص لم يرَ أو يسمع أيَّ أوبرا من قبل:
«وبعد ذلك جاء المزيد من الناس يجرون هنا وهناك وبدءوا يسحبون إلى الخارج الصبية التي كانت تلبس رداءً أبيض ثم أصبحت الآن ترتدي ثوبًا أزرق سماويًّا. ولكنهم لم يسحبوها إلى الخارج على الفور، بل تمهلوا معها وقتًا طويلًا قبل أن يسحبوها خارجًا.»
وتُقدِّم «شارلوت برونتي» شيئًا مماثلًا عن الصالونات الفنية في الفقرة التي اقتبسناها أعلاه من روايتها «فييت».
وفييت هو الاسم الخيالي لمدينة بروكس؛ حيث تُضطر البطلة التي تروي القصة لوسي سنو أن تكسب قوتَها بالعمل مُدرِّسة في مدرسة داخلية للبنات، وهي واقعة سرًّا في غرام لا أملَ فيه لطبيب إنجليزي هو «جون بريتون»، الذي يصطحبها لزيارة قاعات العروض الفنية ثم يتركها كي تستكشفَ اللوحاتِ وحدها، وهو ترتيب يتلاءم مع روحها التي تتسم بالاستقلال.
واللوحة موضع البحث هنا تنتمي إلى طراز معروف من الرسوم، يجري بمقتضاه إضفاءُ الاحترام على التصوير المسرف للأنثى العارية، بربطها بمصدر أسطوري أو تاريخي، وعن طريق حجمها الضخم الذي يملأ النفسَ بالوجل، وعلامات رمزية أخرى تُوحي بانتمائها إلى الثقافة الرفيعة، وطبيعيٌّ أن التناقضات الواردة في مثل هذا المشهد، كانت أكثرَ حدَّة في أيام «شارلوت برونتي»؛ حين كانت المرأة مضطرةً لأن تُبقيَ كلَّ بوصة تقريبًا من جسدها مغطَّاة في كل الأوقات، عنها في أيامنا. وتُبرز المؤلفة، من خلال بطلتها، هذه التناقضات، والزيف الأساسي «في رأيها» لهذا النوع من الفن، وذلك بوصف اللوحة وصفًا حرفيًّا وصادقًا، فتضعها بذلك في سياق حياة النساء الواقعية، وتتجاهل خطاب تاريخ الفن والتذوق الفني الذي يتم الإحساس بتلك اللوحات «عادةً» في إطاره.
وهكذا فإن حجم المرأة الهائل، والأقمشة النسيجية الزائدة عن الحد التي تحيط بها، وهي من الأمور التي يتمُّ تجاهلها أو التغاضي عنها في التذوق التقليدي للفن، تبرز إلى الوجود عن طريق حساب استقرائي وشبه علمي للوزن والكم: «ما بين ٨٩ و١٠٢ من الكيلوجرامات … سبع وعشرين ياردة من القماش.» ولقد تعودنا على رؤية الأقمشة والنسيج في اللوحات الكلاسيكية العارية، تتماوج حول الشخصية المصورة في اللوحة في ثنيات هوجاء دون أن تغطِّيَ أيَّ شيء من جسدها فيما عدا بوصات صغيرة، إلى درجة أننا لم نَعُد نشعر بمدى زيفها، وينطبق الشيءُ نفسه على التوزيع الحي لمختلف الأشياء والأدوات التي تظهر في المستوى الأول لمثل تلك اللوحات، لماذا تكون هذه الكئوس ملقاةً دائمًا على الأرض ما دامت الشخصيات المصورة تكون في وضعٍ يسمح لهم بترتيبها على نحوٍ ملائم، أو يكون لهم خدم يقومون بذلك؟ والفحص المدقق الذي قامت به لوسي يجسِّد الأسئلة التي تعوَّدنا أن نحبسَها في صدورنا عند زيارتنا للمتاحف، فهي تسخر من الوضع المسترخي للسيدة المتكئة على الأريكة، بكل ما يحمله ضمنًا من دعوة إيروسية، بملاحظتها عن عدم ملاءمة الوقت الذي تصوره اللوحة من أوقات النهار، وعدم وجود أي دليل يُوحي بأيِّ ضعف جسماني تُعاني منه الشخصية المصورة، وتشير لوسي، بحجبها عنوان اللوحة إلى ما بعد وصفها لها، إلى تعسُّف وزَيف المبرر التاريخي/الأسطوري الذي تزعمه اللوحة، وهي التي كانت يمكن بالمنطق نفسه أن تُسمى «ديدو» أو «دليلة» أو بالأحرى «المحظية».
ووصف اللوحة في حد ذاته لا يتضمن أيَّ محتوًى سرديٍّ؛ ذلك أن القصة «تتوقف» حتى يمكن إيراد هذا الوصف. بَيْد أن له «وظيفة قصصية؛ فأولًا، يُسهم الوصف في رسم شخصية لوسي سنو، الشابة ذات الآراء القوية المستقلة غير التقليدية، رغم أن افتقارها إلى الجمال والمال والمكانة الاجتماعية، يضطرُّها في معظم الأحوال أن تحتفظ لنفسها بتلك الآراء. وثانيًا، فهو يخلق مشهدًا شيقًا للسيد «بول عمانويل»، المدرس الحاد الطباع، غير الجذاب وإن كان مليئًا بالحيوية، الذي يعمل في المدرسة نفسها مع لوسي، والذي تعترف في الوقت المناسب بأنه رفيق أكثر ملاءمة من الدكتور جون الذي تُوحي المظاهر السطحية فحسب بصلاحيته لها؛ ذلك أن «بول عمانويل» يُفاجَأ بها تقف أمام لوحة كليوباترا ويُصاب بصدمة، وهو ردُّ فعلٍ يُظهره بمظهرِ المحصَّن ضد هراء التذوق الفني (فهو لا يهتم بادعاءات اللوحة من الثقافة الرفيعة) والحريص على القوالب النمطية بالنسبة للذكر والأنثى (فهو يرى أنه من غير المناسب لشابة مثلها أن تتأمل تلك اللوحة)، سحب لوسي بعيدًا كيما يُريَها لوحة أخرى تُصور ثلاثةَ مشاهد عاطفية في حياة امرأة فاضلة، فتجدها لوسي سخيفةً وغيرَ ملائمة، مثلها في ذلك مثل لوحة كليوباترا.»
وكانت فييت هي آخِر رواية تكتبها شارلوت برونتي قبل موتها المبكر، كما أنها أنضج رواياتها، وقد أصبحت هذه الرواية نصًّا مهمًّا من نصوص النقد النسائي المعاصر، لأسباب تتضح بجلاء في الفقرة المقتبسة، بَيْد أن شارلوت برونتي — في إزالتها لألفة تصوير النساء في اللوحات التاريخية — كانت تتخذ موقفًا من الفن، وكذلك من السياسات الجنسية، وبصفة خاصة من فنها هي نفسها، الذي حرَّر ذاته تدريجيًّا وبمشقة كبيرة من أوجه الزيف وإرضاء الرغبات، وهو ما كان يشيع في الميلودراما والرومانس، وقد قالت لوسي سنو قبل الفقرة المقتبسة مباشرة: «لقد بدا لي أن لوحةً أصيلة وجيدة نادرة ندرة الكتاب الأصيل الجيد» ورواية فييت أحد تلك الكتب.
ولكن، ماذا نعني حين نقول — على سبيل التقريظ — إن كتابًا ما «أصيل»؟ إننا لا نعني عادةً أن الكاتب قد اخترع شيئًا لم يسبقه إليه أحد، بل إنه قد جعلنا «ندرك» ما كنَّا «نعرف» قبل ذلك بصورة نظرية، عن طريق انحرافه عن الطرق التقليدية المألوفة لتصوير الواقع، ومجمل القول، إن إزالة الألفة هي عبارة أخرى لكلمة «الأصالة»، ولسوف ألجأ إلى هذا التعريف مرة أخرى في تلك اللمحات عن الفن الروائي.