الإحساس بالمكان
في لوس أنجليس، لا يمكن لأحد أن يقوم بأي شيء ما لم يكن لديه سيارة. وأنا، من جهتي، لا أستطيع القيام بأي شيء ما لم أشرب، والجمع بين الشرب وقيادة السيارات هو والحق يقال أمرٌ مستحيل في هذه المدينة، فإن حدث وفككت حزام الأمان أو انحنيت لتلتقط منفضة السجائر من العربة أو قمت بتنظيف أنفك؛ لا يصبح أمامك إلَّا غرفة المشرحة في «الكاتراز»، أما الأسئلة والتحقيق فهي تأتي بعد ذلك، ففي هذه المدينة تشعر أنك لو ارتكبت أبسط مخالفة، أو قمت بأقل تغيير، فستسمع صيحاتِ التنبيه بمكبرات الصوت، وتظهر أمام عينيك سلسلةٌ من الصور التي تُهددك، وسيُلقي خنزير تحمله إحدى طائرات الهليكوبتر بروثه فوق رأسك.
فماذا إذن يستطيع فتى مسكين مثلي أن يفعل؟ يخرج من الفندق، فندق «فريمونت». ووجه المنطقة العمرانية من الجزء الأدنى من المدينة يغطيه مخاطٌ أخضر، وإذا ما اتجهتَ يمينًا أو اتجهتَ يسارًا فما أنت إلَّا كالفأر على شاطئ نهر مزدحم، هذا المطعم لا يقدِّم خمورًا، وذاك لا يقدِّم لحومًا، وذلك الأبعد لا يخدم إلَّا الشواذ، يمكنك في هذه المدينة أن يغسلوا قردك بالشامبو، وأن يرسموا لك وشمًا على مؤخرتك، خدمات مستمرة طوال الأربع والعشرين ساعة يوميًّا، ولكن، هل باستطاعتك الحصول على وجبة غداء؟ على الرغم من أنك ترى على الرصيف المقابل واجهةً بالنيون تُعلن «لحوم – مشروبات كحولية – بلا حدود»، فالأفضل أن تنسى ذلك، فمن أجل أن تعبر الشارع إلى الرصيف المقابل، لا بد وأن تكون قد وُلدت هناك؛ فكل إشارات المرور لعبور المشاة حمراء على الدوام، كلُّها تُعلن «لا تمشِ». هذه هي العبارة، هذا هو مضمون لوس أنجليس: لا تمشِ. ابقَ في بيتك. قُد سيارتك. لا تمشِ. اجرِ! وجربت التاكسيات. بلا جدوى. فسائقو التاكسي كلهم كأنهم جاءوا من كوكب زحل، لا يعرفون هل السواقة على هذا الكوكب على اليمين أم على الشمال. وأول شيء يتعين عليك أن تفعله، في كل مرة، هو أن تُعلمهم كيف يسوقون.
لا بدَّ أنه قد أصبح واضحًا للقارئ الآن أن تقسيمي للفن الروائي إلى «معالم» مختلفة هو تقسيم اصطناعي إلى حدٍّ ما؛ فالأساليب المستخدمة في الروايات متعددة وتتصل ببعضها البعض، وكلٌّ منها يستمد من الآخر ويُسهم فيه. والقطعة التي اخترتها من رواية «المال» ﻟ «مارتين إيميس» بوصفها مثالًا على وصف المكان، يمكن تمامًا أن تكون مثالًا للسرد الشفاهي في سنِّ المراهقة أو إزالة الألفة، أو العديد من المواضيع التي لم أتعرض لها بعد، وهذه طريقة أخرى للقول بأن الوصف في رواية جيدة لا يكون وصفًا «فحسب».
والإحساس بالمكان هو ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ القصة، فكما لاحظ ميخائيل باختين، إن المدن في القصص الكلاسيكية تشكِّل بالنسبة للحبكة خلفيةً يمكن الاستعاضة بواحدة منها عن الأخرى؛ فإفسوس يمكن أن تكون كورينثة أو سيراكيوز، بالنسبة للقليل الذي يَرِد عنها في القصة، كما أن أوائل الروائيين الإنجليز لم يكونوا أكثرَ تحديدًا بالنسبة للمكان؛ فلندن في روايات هنري فيلدنج، مثلًا، تفتقر إلى التفاصيل المرئية الحية للندن في كتابات ديكنز. فحين يَصِل توم جونز إلى العاصمة بحثًا عن حبيبته صوفيا، يقول لنا الراوي إنه: كان غريبًا تمامًا في لندن؛ ولما كان قد وصل أول ما وصل، إلى حيٍّ من أحياء المدينة لا يكاد يوجد لسكَّانه أيُّ صلة ببيوتات هانوفر أو ميدان جروزفنور (ذلك أنه دخل من جهة «جراي إن لين») فقد جال تائهًا لبعض الوقت، قبل أن يجد طريقةً إلى تلك القصور السعيدة؛ حيث تعمل «عجلة الحظ» على التفرقة بين السوقة وبين أولئك الذين وُلد أسلافهم في أيام أفضل، عن طريق أنواع متفرقة من الجدارة، فأهالوا الثروات والشرف على أحفادهم.
فنحن نجد وصفًا للندن من وجهة نظر الاختلافات في الطبقة والمركز بين سكانها، كما يجري تفسيرها من جانب رؤيا المؤلف الساخرة، وليست هناك أيُّ محاولة لجعل القارئ «يرى» المدينة، أو لوصف أثرها الحسي على شابٍّ يَفِد إليها لأول مرة من الريف، قارن ذلك بوصف ديكنز لجزيرة يعقوب في «أوليفر تويست»:
يتعين على الزائر، كي يصلَ إلى هذا المكان، أن يخترقَ متاهةً من الشوارع الخانقة الضيقة الموحلة، التي يحفُّ بها زمرةٌ من أخشن وأفقر الناس الذين يعيشون قريبًا من النهر … وتعرض المحلات أكداسًا من المؤن الشديدة الرخص والقليلة القيمة؛ بينما تتدلَّى أصناف الملابس الرديئة النوع من أبواب البائعين وتتبدَّى من شرفات المنازل … وهو يسير تحت عوارض المنازل التي تبرز على الرصيف، وجدران منهارة تبدو وكأنها تترنَّح وهو يمرُّ بها، ومداخن شبه متهاوية، تريد أن تنقضَّ، ونوافذ يحميها قضبانٌ من الحديد الصدئ قد أكلها الزمنُ والتراب، وكل علامة من علامات الدمار والإهمال يمكن تخيُّلها.
وقد نُشرت «توم جونز» في عام (١٧٤٩م)، و«أوليفر تويست» في ١٨٣٨م. وما حدث بين هذين التاريخين هو الحركة الرومانسية، التي ركَّزت على أثر «البيئة» على الإنسان، وفتحَت أعين الناس على الجمال السامي للطبيعة، وبعد ذلك للمزية المتجهمة للحياة في المدن في عصر الصناعة.
و«مارتين إيميس» هو من التابعين المتأخرين لسياسة «ديكنز» في تصوير العنصر البشع في حياة المدن؛ فوصفه المبهور والمفزع للمدنية في عصر التصنيع، يوحي برؤيا نبوئية للثقافة والمجتمع في حالة تحلل ميئوس منه، وكما هو الحال مع ديكنز، دائمًا ما تبدو البيئة الخلفية لرواياته أكثرَ حيوية من شخصياتها، كما لو أن الحياة قد استنزفَت من الناس، كيما تظهر من جديد بشكل شيطاني مدمر في الأشياء: الشوارع، الآلات، الأدوات.
والراوي في «المال»، جون سِلْف (وإيميس يتوافر أيضًا على اللعب الديكنزي بالأسماء) ليس تمامًا بالشخصية المركبة أو المتعاطفة، فهو شابٌّ دينامي لمفاوي، مدمن على الطعام سريع التجهيز والسيارات السريعة والغذاء القليل القيمة والأدب المكشوف؛ وهو يتنقل ما بين إنجلترا وأمريكا في محاولته عقدَ صفقة لفيلم سوف تجعله من الأثرياء، ولندن ونيويورك هما مكانَا الحدث الرئيسيان، والثانية تتفوق على الأخرى في القذارة المادية والأخلاقية؛ ولكن طبيعة عمل «سلف» تقوده بالضرورة إلى لوس أنجليس، عاصمة صناعة السينما.
والتحدي الذي يكمن في الشكل المختار للرواية، هو أن ينجح أسلوبها في أن يصفَ ببلاغة، الخرابَ العمراني، وأن يكون «كذلك» معبِّرًا عن شخصية الراوي: مُهمِل، منافق، ضيق الأفق. ويتصدَّى «إيميس» لتلك المهمة الصعبة عن طريق إخفاء مهاراته الأدبية وراء سيل من عامية الشوارع، والسباب، والبذاءات والنكات، ويتكلم الراوي برطانة إنجليزية/أمريكية، مستمدة في جزء منها من الثقافة الشعبية ووسائط الإعلام، وفي جزئها الآخر من ابتكار «إيميس» المشكور، وكيما يفسرَ القارئ ما جاء في الفقرة الأولى من القطعة المقتبسة، مثلًا، لا بد له أن يعرف أن الكاتراز هو سجن مشهور في كاليفورنيا، وأن «خنزير» هو كلمة سِباب لرجل الشرطة، وأن الكلمتَين المستخدمتَين [في النص الأصلي] للإشارة إلى «يلقي» و«رأسك» هما من العامية الأمريكية الصِّرف، وأن المؤلف قد اشتقَّ فعلًا ماضيًا من اسم طائرة الهليكوبتر، أما الاستعارة التي تصف تلوُّث سماء المدينة بأنها «مخاط أخضر»، فهي تلمح إلى ما جاء في العهد القديم عن مدينة سدوم بعد أن أهلكها الرب، وهي استعارة مدهشة، مثلها مثل وصف إليوت للمساء «الممدد عبر السماء/كأنه مريض يرقد مخدَّرًا على المائدة»، قصيدته «أغنية حب ج. ألفرد بروفروك»، كما أن فيها ملامحَ من وصف ستيفن ديدالوس للبحر بأنه «مخاط أخضر»، في الحكاية الأولى من «عوليس». بَيْد أنه في حين أن بروفروك ذو خلفية ثقافية رفيعة، وأن ديدالوس يحرِّف عمدًا وصفَ هوميروس المحب للبحر بأن له «قتامة النبيذ»، يبدو «سلف» مطلِقًا عنانَه للبذاءات المعتادة من صِبية المدارس، وهذا يُلهينا عن الرفعة الأدبية للصورة.
والمجاز الرئيسي في هذا الوصف لمدينة لوس أنجليس هو المبالغة، أو التعبير الزائد. وهو في هذا يُشبه قصة أخرى من قصص السرد الشفاهي، ناقشناها قبل ذلك وهي «الحارس في الحقول». ولكن قطعة إيميس تستخدم استراتيجيةً بلاغية أكثر تعقيدًا بكثير من تلك الموجودة في رواية سالينجر، وهي تقدِّم سلسلة من التنويعات المبالغ فيها على نحوٍ كوميدي للموضوع المعتاد بأن لوس أنجليس مدينة مكرَّسة للسيارات التي تسود الحياة هناك (فمن أجل أن تعبر الشارع إلى الرصيف المقابل، لا بد وأن تكون قد وُلدت هناك)، وللملاحظات الأقل اعتيادًا بأن أمريكا تميل إلى أنواع التجارة المتخصصة، وبأن سائقي التاكسي الأمريكيين، هم عادة من المهاجرين الذين وصلوا حديثًا، ولا يعرفون طريقَ أيِّ شيء.
وعند زيارةٍ قمتُ بها مؤخرًا إلى مدينة بوسطن، أخذتُ تاكسيًا تعيَّن على سائقه أن يغيِّر طريقَه ثلاث مرات، تساعده استشاراتٌ لاسلكية يقوم بها مع مقر شركته باللغة الروسية، وذلك قبل أن يجدَ طريقه الصحيح للخروج من المطار، ومن الصعب المبالغة في ذلك النوع من قلة المهارة، ولكن إيميس وجد مخرجًا لذلك؛ «فسائقو التاكسي كلهم كأنهم جاءوا من كوكب زحل، لا يعرفون هل السواقة على هذا الكوكب على اليمين أم على الشمال، وأول شيء يتعيَّن عليك أن تفعله، في كل مرة، هو أن تُعلمَهم كيف يسوقون». وثَمة صدًى لشعار استخدام حزام الأمان المألوف «اربط حزام الأمان، وسُق باطمئنان» بعد الإشارة إلى القصص الخيالي العلمي، وكثيرًا ما يستخدم إيميس في نثره مثل هذه المقابلات، التي يختارها من حثالة الوعي الحضري المعاصر، ويُسهم ذلك الصدى في الإيقاع الطروب، الذي يدعو إلى التهلل في القطعةِ كلِّها، مما يُهدد في لحظة ذات طابع ملهم إلى الخروج إلى عبارات موزونة مقفَّاة [في النص الإنجليزي الأصلي].
والخطر الذي يمثِّله الاستغراق في وصفٍ تفصيلي للمكان (وروايات السير والترسكوت توفر أمثلة كثيرة) هو توارُد سلسلة من العبارات البيانية الحسنة التكوين، مقرونة بتوقُّف السرد القصصي، مما يحمل القارئ على النوم، بَيْد أن هذا الخطر لا يوجد هنا؛ ففعل الزمن الحاضر يصفُ كلًّا من المكان وحركة الراوي خلاله. والانتقال في صيغة الفعل، من الصيغة الخبرية (يخرج من الفندق) إلى صيغة الاستفهام (ولكن، هل باستطاعتك الحصول على وجبة غداء؟) إلى صيغة الأمر (لا تمشِ. ابقَ في بيتك. قُد سيارتك. لا تمشِ. اجرِ!) واستخدام ضمير المخاطَب — «وإذا ما اتجهتَ يمينًا أو اتجهتَ يسارًا» — كل ذلك يُشرِك القارئ في العملية، وبعد عدة صفحات من هذا النوع، يمكنك أن تنام من الإرهاق، ولكن ليس من الضجر.