تقديم الشخصية
وبعد دقائق قليلة، وصلَت سالي نفسها.
– هل تأخرتُ كثيرًا يا عزيزي فريتز؟
فردَّ فريتز وهو يُشرق بسرور المالك: «نصف ساعة فقط. اسمحي لي أن أقدِّم لكِ مستر إشيروود، من بولز ومستر إشيروود معروف باسم كريس.»
قلت: «ليس هذا صحيحًا. إن فريتز هو الوحيد تقريبًا طوال حياتي الذي يناديني كريس.»
وضحكَت سالي. كانت ترتدي فستانًا من الحرير الأسود، ووشاحًا صغيرًا يغطِّي كتفَيها، وثَمة قبعة تُشبه قبعات الصِّبية مرشوقة بازدهاء على أحد جانبَي رأسها، وقالت: هل أستطيع أن أستعمل التليفون يا عزيزي؟
– طبعًا. تفضلي.
ونظر فريتز لي وقال: «تعالَ إلى الحجرة الأخرى يا كريس. أريد أن أُريَك شيئًا.» كان واضحًا أنه يتوق إلى سماع رأيي في سالي، أحدث مقتنياته.
وهتفَت سالي: «بحقِّ السماء لا تتركني وحدي مع هذا الرجل! وإلَّا فإنه سيُغويني عبر التليفون. إنه عاطفيٌّ إلى حدٍّ بعيد.»
وبينما هي تُدير قرص التليفون، لاحظَت أن أظافرها مطليةٌ باللون الأخضر الزمردي، وكان لونًا في غير محلِّه؛ لأنه كان يلفت الأنظارَ إلى يدَيها الملطختَين بآثار السجائر والقذرتَين مثل يدَي فتاة صغيرة، كانت سمراء إلى درجة تحسب معها أنها أختُ فريتز، وكان وجهُها طويلًا ونحيفًا، تُغطِّيه البودرة البيضاء. وكانت عيناها واسعتَين جدًّا، بُنيَّتَي اللون، وإن كان لا بد وأن تكونَا أغمقَ مما هما عليه حتى يتماشيَا مع لون شعرها واللون الذي اختارَته لتُزجِّجَ به حاجبَيها.
وقالت بصوتٍ ناعم وهي تزُمُّ شفتَيها البرَّاقتَين بلونِ الكريز كأنما ستطبع قُبلةً على سمَّاعة التليفون: «إيست داس دو، ماين ليبلنج؟» (أهذا أنت يا حبيبي؟)
وانفرج فمُها في ابتسامة عذبة بلهاء، وجلستُ وفريتز نرقبها كأنما نرى مشهدًا على خشبة المسرح.
الشخصية هي على الأرجح أهمُّ عنصر مفرد من عناصر الرواية. فالأشكال السردية الأخرى كالملحمة، والوسائط الأخرى كالفيلم، يمكن أن تحكيَ قصةً كالرواية تمامًا، بَيْد أنه ما من شيء يُضارع التقاليدَ العظيمة للرواية الأوروبية في الثراء والتنوُّع والعمق النفسي لطريقتها في تصوير الطبيعة البشرية، ومع ذلك فلربما كانت الشخصيةُ أصعبَ جانب من جوانب الفن الروائي يمكن مناقشتُه مناقشةً تكنيكية. ويرجع هذا في جزءٍ منه إلى وجود أنماط مختلفة كثيرة جدًّا لتقديمها: شخصيات رئيسية وشخصيات ثانوية، شخصيات ثابتة وشخصيات متغيرة، شخصيات تُصوَّر من داخل عقلها، مثل مسز دالواي لفرجينيا وولف، وشخصيات ينظر إليها آخرون من الخارج، مثل شخصية «سالي بولز» لكريستوفر إشيروود.
وقد حظيَت «سالي بولز» — وهي أصلًا موضوع القصص والاسكتشات القصصية التي تُشكِّل «وداعًا برلين» — بحياة طويلة بشكلٍ ملحوظ في الخيال العام لزمننا، وذلك بفضلِ تحويلِ نصِّ إشيروود أولًا كمسرحية وفيلم (بعنوان أنا كاميرا)، ثم كمسرحية وفيلم غنائيَّين (كباريه)، ومن الوهلة الأولى، من الصعب أن نفهم لماذا أحرزَت تلك الشخصيةُ هذه المكانةَ شبهَ الأسطورية؛ فلا هي جميلة على نحوٍ خاص، ولا ذكية ذكاءً خاصًّا، ولا هي فنَّانة، وهي مغرورة، مستهترة، وتسعى إلى كسْب المال عن طريق علاقاتها الجنسية، بَيْد أنها رغم كلِّ شيء تكتسب مظهرًا محبَّبًا من البراءة والضعف؛ وثَمة فكاهةٌ جذَّابة في تصوير الهُوَّة التي تفصل بين ادِّعاءاتها وبين حقيقة حياتها. وتكتسب قصتُها قدرًا كبيرًا من الأهمية والتشويق من كونها تحدث في برلين أيام جمهورية «فيمار» في ألمانيا (١٩٢٠–١٩٣٣) قبل استيلاء النازي على السلطة بقليل. وهي نموذجٌ لخداع النفس والحماقة اللذَين سادَا هذا المجتمع المحتوم في تلك الأيام؛ إذ هي تحلم بالشهرة والثراء بينما تعيش في بنسيونات حقيرة، وتنتقل من رجل تافه يبسط عليها حمايتَه إلى رجل آخر تافه أيضًا؛ وهي تُنافق وتستغل وتكذب على نحوٍ صريح لا خفاء فيه.
وأبسط طريقة لتقديم الشخصية هي التي اتبعها الروائيُّون القدماء، وهي إيراد وصف جسماني لها وموجز عن حياتها، وصورة «دوروثيا بروك» في أول فصل من رواية جورج إليوت «ميدل مارش» مثالٌ كامل لهذه الطريقة:
كانت «مس بروك» جميلةً ذلك الجمال الذي يُبرزه الرداءُ الرثُّ.
وكانت يدُها ومعصمُها من جمال التكوين بحيث كان بوسعها أن ترتديَ أكمامًا لا زينةَ فيها، مثل التي كانت عليها مريم العذراء في لوحات الرسَّامين الإيطاليِّين. وبدَت صورةُ وجهها الجانبية وسَمْتُها ومسلكُها أكثرَ هيبة بفعل بساطة ملابسها، التي خلعَت عليها — بالمقارنة إلى الطراز السائد في الأقاليم — روعةَ اقتباس جميل من الكتاب المقدس — أو من أحد شعرائنا الأقدمين — يَرِد في فقرة من صحيفة اليوم، وكانوا يتحدثون عنها بوصفها ذات مهارة ملحوظة، وإن كانوا يُضيفون دائمًا أن أختها «سليا» أكثرُ منها إدراكًا للأمور.
وهلمَّ جرًّا، لعدة صفحات. وهذه طريقة رائعة، بَيْد أنها تنتمي إلى ثقافة لها من الصبر وأمامها من الفراغ أكثر مما تتميز به ثقافتنا الحالية؛ فالروائيون المحدثون يفضِّلون أن يتركوا الحقائق الخاصة بالشخصية تظهر تدريجيًّا، وتتنوع أو تنتقل مباشرة عن طريق الحدث والكلام. وعلى كل حال، فكلُّ وصفٍ تحتويه روايةٌ من الروايات هو وصفٌ ينتقيه الروائي؛ والتكنيك الأساسي الذي يعتمد عليه هو المجاز المرسل، أي كناية البعض عن الكل؛ فكلٌّ من جورج إليوت وكريستوفر إشيروود يبعثان المظهرَ الجسماني لبطلتَيهما بالتركيز على الأيدي والوجه، ويتركان الباقي لخيال القارئ؛ ذلك أن وصفًا شاملًا لصفات دوروثيا أو سالي بولز الجسمانية والنفسية يمكن أن يستغرقَ صفحاتٍ عديدةً، وربما كتابًا.
ودائمًا ما تكون الملابس مؤشرًا مفيدًا لبيان الشخصية وطبقتها وطريقة حياتها، خاصة في حالة امرأة ذات ميول استعراضية مثل سالي بولز؛ فرداؤها الحريريُّ الأسود (الذي ترتديه لزيارة عابرة في الأصيل) يُنبئ عن رغبةٍ في لفتِ الأنظار؛ والوشاح ذو دلالة مسرحية؛ بينما يتضح استفزازها الجنسي من القبعة التي ترتديها، والتي تُشبه قبَّعات الصِّبية، وهي إشارة ضمن إشارات عديدة للثنائية الجنسية، والانحراف الجنسي، بما في ذلك ارتداء ملابس الجنس المخالف، المتضمنة في الكتاب، وهذه الصفات سرعان ما تتأكد بكلام سالي بولز وسلوكها، حتى تطلب استخدام التليفون كيما تحوزَ إعجابَ الرجلَين بأحدث غزواتها الإيروسية، والتي تُعطي الراويَ الفرصةَ لوصف يدَيها ووجهِها.
وهذا هو ما عناه «هنري جيمس» حين تحدَّث عن «الأسلوب التصويري»، وما هدَفَ إلى إنجازه حين أوعز إلى نفسه قائلًا: «ضع في قالب تمثيلي!» وكان جيمس يفكِّر في المسرحية، ولكن إشيروود كان ينتمي إلى أول جيل من الروائيِّين ينشأ مع السينما، يبدو أثرُها في أعمالهم. فحين يقول الراوي في «وداعًا برلين»: «أنا كاميرا» فهو يفكر في كاميرا السينما، وفي حين تظهر دوروثيا على نحوٍ ساكن، كأنما تجلس لرسم صورة لفظية لها وتُقارن بالفعل بشخصية في اللوحات، فإن سالي تبدو لنا وهي تتحرك في الحدث، ومن السهل تقسيمُ هذه القطعة المقتبسة في سلسلة من اللقطات السينمائية: سالي تستعرض ثوبَها الحريريَّ الأسود — تبادُل سريع للنظرات بين الرجلين — لقطة مكبرة لأظافر سالي الخضراء وهي تُدير رقم التليفون — لقطة مكبرة أخرى لمكياجها غير المنسق الشبيه بالمهرجين، وتعبيرها المتكلَّف وهي تُرحب بعشيقها — ثم لقطة ثنائية للرجلَين وهما منبهران بأدائها الأخَّاذ.
ولا شك أن هذا يفسِّر إلى حدٍّ ما، السهولةَ التي انتقلَت بها قصةُ «سالي بولز» إلى السينما، بَيْد أن القطعة تحتوي ظلالًا من المعاني هي أدبية صِرف؛ فتلك الأظافر الخضراء على اليدين القذرتَين، هي أول ما يخطر على بالي حين يذكر اسمها؛ فطلاء الأظافر الأخضر في الفيلم، ولكن ليس تعليق الراوي الساخر، «وكان لونًا في غير محله»؛ ذلك أن قصة حياة سالي بولز هي في غير محلِّها جملةً وتفصيلًا، ويمكن للفيلم أن يُظهر آثارَ السجائر والقذارة على يدَيها، ولكنَّ الراوي وحده هو الذي يستطيع أن يلاحظ أنهما «مثل يدَي فتاة صغيرة»؛ فالطابع الطفولي الذي يكمن تحت السطح المعقَّد، هو بالضبط ما يجعل من سالي بولز شخصيةً مشهودة.
قال السير «بت» وهو يدقُّ بإبهامه على المنضدة: «أقول مرة أخرى، إني أريدك.»