الانتقال الزمني
كان غضب مونيكا يتصاعد مستبينًا في وجهها.
قالت: «كان مستر لويد واضعًا ذراعه حولها، لقد رأيتهما، لَشدَّ ما أنا آسفة لأنني أخبرتكن، إن روز هي الوحيدة التي تصدِّقني.»
كانت «روز ستانلي» تُصدِّقها، ولكن سبب ذلك أن الأمر يستوي عند روز، فهي كانت أقلَّ واحدة بين تلميذات «مس برودي» اهتمامًا بغراميات مُدرستها، أو بالنشاط الجنسي لأي شخص آخر. وسيظل الأمر دائمًا هكذا، فبعد ذلك، حينما أصبحت هي نفسها شهيرة بأمورها الجنسية، كانت جاذبيتها الفائقة في أن الجنس لم يكن يُثير لديها أيَّ حبِّ استطلاع على الإطلاق، ولم تكن تفكر فيه أبدًا وكما ستقول «مس برودي» بعد ذلك إنها كانت تملك الغريزة.
قالت مونيكا دوجلاس: «روز هي الوحيدة التي تصدِّقني.»
وقالت مونيكا حين زارَت «ساندي» في دير الراهبات في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين: «حقيقة رأيتُ تيدي لويد يُقبِّل مس برودي يومًا ما في غرفة الفنون.»
قالت ساندي: «أعلم أن ذلك صحيح.»
كانت ساندي تعلم ذلك حتى قبل أن تذكرَه لها مس برودي يومًا ما بعد نهاية الحرب، حين كانتا تجلسان في فندق «بريد هلز» تأكلان الساندويتشات وتشربان الشاي، مما لم تكن تسمح به حصةُ تموين «مس برودي» تقديمَه في بيتها، كانت مس برودي تجلس ضامرةً مغدورة في معطفها الفرو الداكن الذي عاش معها طويلًا، كانت قد تقاعدَت قبل الأوان.
قالت: «لقد تجاوزتُ ربيع العمر.»
فقالت ساندي: «لقد كان ربيعُ عمرٍ رائعٍ.»
إن أبسط طريقة لحكاية قصة، وهي التي يفضِّلها منشدو القبائل نفسَ تفضيل الآباء عند نوم أبنائهم، هي البدء من البداية والمضيُّ قُدُمًا حتى الوصول إلى النهاية أو حتى يغلب النومُ المستمعين، ولكن حتى في قديم الزمان، أدرك القصاصون النتائجَ الشائقة التي يمكن الحصولُ عليها بالانحراف عن الترتيب الزمني للأحداث، وتبدأ الملاحم القديمة عادةً في منتصف القصة؛ فقصة الأوديسة، مثلًا، تبدأ والبطل في منتصف رحلة العودة إلى وطنه من الحرب الطروادية، وتعود القهقرَى كي تصفَ مغامراتِه السابقة، ثم تتابع القصة حتى نهايتها في «إيثاكا».
فعن طريق الانتقال الزمني، يتجنَّب السرد تصوير الحياة كمجردِ شيءٍ يقع يتبعه شيءٌ آخر، ويسمح لنا بالربط بين أحداث منفصلة متباعدة، عن طريق السببية والسخرية، فإن نقلةً زمنية إلى الوراء في القصة، يمكنها أن تغيِّر فهمَنا لحدثٍ يقع بعد ذلك في التسلسل الزمني للقصة، ولكننا نعلمه بوصفنا قرَّاء النص، وهذه أداة مألوفة في السينما عن طريق الفلاش باك، وتجد السينما صعوبةً أكبر في تناول «الفلاش فوروارد» — وهو الرؤية المتوقَّعة لما سيحدث من وقائع في المستقبل — والذي يُعرِّفه علماء البلاغة بالمعاجلة، أي توقُّع حدوثِ الشيء قبل وقوعه، وترجع تلك الصعوبةُ إلى أن هذه المعلومات تتطلَّب وجودَ راوٍ يعرف القصة بكاملها، والأفلام لا تتضمَّن عادةً رواة، ومن المهم في هذا المقام أن فيلم «ربيع عمر مس جين برودي» كان أقلَّ كثافة وابتكارًا من الرواية التي انبنى عليها؛ فقد قدَّم الفيلم القصةَ في ترتيب زمني مباشر، في حين تمتاز الرواية بمعالجتها السيَّالة للزمن، فتنتقل بسرعة إلى الأمام وإلى الوراء في الإطار الزمني للحدث.
وتتعلق الرواية ﺑ «جين برودي»، وهي مدرِّسة غريبة الأطوار وذات «كاريزما»، تعمل في مدرسة للبنات في إدنبرة فيما بين الحربَين العالميَّتَين، وبمجموعة من التلميذات الواقعات تحت سحرها، ومنهن مونيكا المشهورة بمهارتها في الرياضيات، وروز المشهورة بالجنس و«ساندي سترينجر» المشهورة بنطقها الغريب لأحرف العلة، والشهيرة بعينَيها الصغيرتَين اللتين لا تكادان تظهران، ومع ذلك، لم تكن هاتان العينان تغفلان عن أيِّ شيء؛ ولذلك فإن «ساندي» هي الشخصية التي توفر وجهة النظر الرئيسية في الرواية، وتبدأ الرواية والبنات في سنواتهن النهائية، ثم تعود سريعًا إلى الوراء لتصفَ سنينهن الأولى في المدرسة، حين كان تأثيرُ «مس برودي» عليهن في أشدِّه، وتقفز مراتٍ عديدةً لتصورهن كبارًا، ولا تزال ذكرياتُ مدرِّستهن الرائعة تُطاردهن.
وفي سنواتهن الأولى، كانت البنات يتجادلنَ باستمرار حول حياة مس برودي الجنسية، وبخاصةٍ ما إذا كانت هناك علاقةٌ لها مع مستر لويد، مدرِّس الرسم الوسيم الذي كان قد فقَدَ «محتوياتِ» أحدِ كُمَّيه في الحرب العظمى، وتذكر مونيكا أنها شاهدَته يحتضنها في غرفة الفنون، وتتضايق لأن «روز» وحدها هي التي تصدِّق ما تقوله، وتُبين الملاحظات التي تقولها لساندي بعد عدة سنوات، أنها ما تزال تتألم لذلك التكذيب، وتعترف ساندي، التي كانت قد التحقَت أثناء ذلك بديرٍ للراهبات، أن مونيكا كانت على حقٍّ، ويذكر الراوي أن ساندي كانت تعرف ذلك، حتى قبل أن تُخبرَها به مس برودي نفسها يومًا ما بعد قليل من نهاية الحرب.
وفي هذه القطعة الصغيرة، يتحرك القارئ إلى الوراء وإلى الأمام بسرعة بالغة بين نقاط زمنية مختلفة وكثيرة، فهناك زمن القصة الرئيسية، ربما كان أواخر العشرينيات، حين كانت الفتيات في سنينهن الأولى يناقشنَ غرامياتِ مس برودي. وهناك فترة السنوات الأخيرة في الدراسة، في الثلاثينيات، حين أصبحَت روز مشهورة بنشاطها الجنسي، ثم هناك الوقت الذي تزور فيه مونيكا ساندي في الدير، في أواخر الخمسينيات. وهناك الوقت الذي تتناول ساندي فيه الشاي مع مس برودي بعد تقاعدها الاضطراري، في أواخر الأربعينيات، ثم هناك ذلك الوقت غير المحدد، حين تكتشف ساندي أن مستر لويد قام بالفعل بتقبيل مس برودي في غرفة الفنون.
ونحن نعرف بعد ذلك بكثير في الرواية أنه قد اكتشفَت ذلك في سنوات الدراسة الأخيرة، وكانت مناسبة ذلك محادثةً تُعلن فيها مس برودي أن روز سوف تصبح عشيقةَ مستر لويد بدلًا منها، لأنها سوف تكرِّس نفسها لتلميذاتها، وتقرر ساندي أن هناك شيئًا خطيرًا ومثيرًا في الوقت نفسه في إفراط مدرِّستها في الإعجاب بذاتها، «وجال بخاطر ساندي أنها تظنُّ نفسَها العنايةَ الإلهية، أو تعتقد أنها الإله الذي ذكره «كالفن»، وأنها تعرف البداية والنهاية»، والروائيون طبعًا يعرفون هم أيضًا بدايةَ قصصهم ونهايتها، بَيْد أن «مورييل سبارك» تُشير إلى أن هناك فرقًا بين القصص النافعة والهلوسات الخطرة، وربما أيضًا بين الإله في الكاثوليكية الذي يسمح بالإرادة الحرة، والإله في العقيدة الكالفنية الذي لا يسمح بذلك، وهناك وصفٌ له دلالته في قسم آخر من الرواية عن عقيدة كالفن عن القدَر المرسوم، الإيمان بأن الله قد أعدَّ لكل شخص تقريبًا قبل أن يُولد مفاجأةً غير سارة عند موته.
وتُحبط «ساندي» نبوءةَ «مس برودي» بأن تصبح هي نفسها عشيقةَ مستر لويد، وتُفند بذلك دعواها بالسيطرة على مصائر الآخرين، وتقوم بعد ذلك بالوشاية بمس برودي لدى سلطات المدرسة، لأنها بعثت إحدى الطالبات في مغامرة أودَت بحياتها في إسبانيا الفاشية، وهذا هو سببُ وصفِ «مس برودي» بالمغدورة في القطعة. ولا تتخلص ساندي أبدًا، فيما يبدو، من عقدة الذنب تجاه ذلك الموضوع، بالرغم من توجهها الديني. وتُوصَف مس برودي أيضًا بأنها «ضامرة»؛ لأنها كانت مصابة بالسرطان وتُشرف على الموت؛ ولذلك فالمشهد حزين بَيْد أنه مشهد يقع قبل منتصف الرواية، ويعوض عمَّا يُثيره من أحزان بمشاهد أخرى كثيرة، تُحكَى عن مس برودي في ربيع عمرها.
والانتقال الزمني إجراءٌ شائع جدًّا في الرواية الحديثة، بَيْد أنه عادةً ما يُضفَى عليه مظهرٌ «طبيعي» بوصفه من عمل الذاكرة، إما بتقديم تيارِ وعيِ شخصية من الشخصيات (فالمونولوج الداخلي لموللي بلوم ينتقل باستمرار من مرحلة من مراحل حياتها إلى مرحلة أخرى؛ مثل إبرة الجراموفون التي تنتقل وراء وأمامًا بين مسارات الأسطوانة الكبيرة) أو على شكلٍ أكثر تحفظًا، بتقديم مذكرات الراوي/الشخصية أو ذكرياته (مثل دويل في رواية فورد «الجندي الحميد») ورواية جراهام جرين «نهاية العلاقة» (١٩٥١) هي عملٌ بارع من هذا النوع؛ فالراوي «بندريكس» كاتبٌ متفرع في بداية الرواية، هنري، زوج سارة، التي كان بندريكس على علاقة بها منذ سنوات إلى أن قامت سارة بإنهائها على نحوٍ مفاجئ، ويفترض بندريكس، الذي كان لا يزال يشعر بالمرارة والغيرة، أنها قد وجدَت عشيقًا آخر. وحين يُفضي هنري إليه بشكوكه في زوجته، يقوم بندريكس بكلِّ عناد باستخدام مخبرٍ سرِّي لكشف سرِّها، ويكتشف المخبر يوميات تحتفظ بها سارة، وتصف فيها علاقتها ببندريكس من وجهة نظرها، وتكشف فيها سببًا غير متوقَّع على الإطلاق لقطع علاقتها به، وتحكي عن إيمانها الديني المفاجئ، وتجيء هذه التطورات على نحوٍ درامي مقنع. لأنها تُسرد خارج مكانها الزمني الطبيعي.
وقيام مورييل سبارك بالجمع بين كثرة الانتقال الزمني، والسرد بضمير الغائب على لسان المؤلف، هو استراتيجية مميزة لكُتَّاب ما بعد الحداثة، بما يلفت الانتباه إلى البناء الاصطناعي للنص، ويحول بيننا وبين أن «نفقد أنفسنا» في التتابع الزمني للقصة الخيالية أو في العمق السيكلوجي للشخصية الرئيسية، ومثال ملحوظ آخر على ذلك هو رواية كورت فونيجوت «المذبح رقم خمسة» (١٩٦٩)، فالمؤلف يذكر منذ البداية أن قصة البطل، بيلي بلجرام، هي قصة خيالية مبنية على تجربته الواقعية، حين كان أسيرَ حرب في مدينة درسدن عندما دمرَتها قنابل الحلفاء في (١٩٤٥)، وهي إحدى الغارات الجوية الأشد هولًا في الحرب العالمية الثانية، والقصة نفسها تبدأ هكذا: «اسمعوا. لم يَعُد «بيلي بلجرام» مقيدًا بالزمن.» وهي تنتقل كثيرًا انتقالاتٍ مفاجئةً بين أحداث متفرقة في حياة بيلي المدنية، حين كان يعمل في مجال قياس النظَّارات الطبيَّة، وكان زوجًا وأبًا في وسط غرب أمريكا، وأحداث خدمته العسكرية التي تصل إلى الذروة في أهوال درسدن، وهذا يتضمن ما هو أكثر من عمل الذاكرة؛ فبيلي «يرحل في الزمان»، وهو يسعى مع مجموعة من المحاربين القدماء إلى الهروب من حقائق التاريخ الحديث غير المحتملة، عن طريق خرافة الخيال العلمي عن الترحال دونما مجهود في الزمان وفي الفضاء بين المجرَّات (الذي يُحسب زمنيًّا بالسنوات الضوئية)، وهو يؤكد أنه قد اختُطف لفترة ما إلى كوكب «تر الفامادور»، الذي تعمره مخلوقاتٌ صغيرة الحجم تُشبه سلَّاكات السبَّاكين تعلوها عينٌ واحدة. وهذه المقطوعات هي على السواء محاكاةٌ تهكمية مسلِّية لروايات الخيال العلمي وفلسفة جادة. وبالنسبة لأهل «تر الفامادور»، كل الأزمنة حاضرة في الوقت نفسه، ويمكن للمرء أن يختار الزمان الذي يريد أن يكون فيه، إن الحركة العنيدة ذات الاتجاه الواحد للزمن، هي التي تجعل من الحياة مأساة من منظورنا البشري، إلَّا إذا آمن المرء بأبدية يتم فيها استرداد الزمن وعكس مسار آثاره، ورواية «المذبح رقم خمسة» هي تأملات شجنيَّة دافعة إلى التفكير في هذه المواضيع، وهي رواية ما بعد المسيحية وما بعد الحداثة على السواء، وإحدى صِوَرها الأشد عجبًا ومرارة تتمثل في فيلم عن الحرب، يشاهده «بيلي بلجرام» بترتيبٍ عكسي:
انطلقَت الطائرات الأمريكية، مليئة بالثقوب والرجال الجرحى … والجثث، في عكس مسارها من أحد مطارات لندن وفوق فرنسا، طارَت نحوها مقاتلاتٌ ألمانية في عكس مسارها، وامتصَّت رصاصاتِ وشظايا القنابل من بعض الطائرات وملَّاحيها، وقد فعلت الشيء نفسه بالنسبة لقاذفات القنابل الأمريكية المحطمة الراقدة على الأرض، فطارت تلك الطائراتُ في مسارٍ عكسي لتلحق بتشكيلاتها.
وقد قام مارتين إيميس مؤخرًا (مع اعترافه على النحو الواجب بالفضل لفونيجوت) بتطوير هذا الوهم في كتاب كامل «سهم الزمان»، ويقص فيه حياةَ مجرم حرب نازي، بمسار عكس، من لحظة مماته حتى لحظة مولده، مما يخلق أثرًا كوميديًّا غريبًا في البداية، إلَّا أنه سرعان ما يتحول تدريجيًّا إلى شيء مضطرب ويُثير الاضطراب في الوقت نفسه حين تقترب القصةُ من أهوال «الهولوكوست». ومن الممكن تفسيرُ القصة على أنها نوعٌ من المطر تضطرُّ روحُ الشخصية الرئيسية أن تحيا فيه ثانيةً ماضيَها المفزع، أو على أنها أسطورة إلغاء الشر، الأمر الذي يُشكل استحالة واضحة، ومعظم الأمثلة التي تحضرني عن التجريب الجذري للتسلسل الزمني في القصة تتعلق، فيما يبدو، بالجرائم وسوء السلوك والخطايا.