القارئ في النص
– كيف يمكنك، يا سيدتي، أن تكوني بهذه الغفلة عند قراءتك الفصل الأخير؟
– لقد ذكرت لك فيه، «أن أمي ليست من أتباع الكنيسة الكاثوليكية».
– أتباع الكنيسة الكاثوليكية! إنك لم تذكر لي شيئًا من ذلك القبيل يا سيدي.
– سيدتي، أستمحيكِ عذرًا أن أكرر لك ذلك، أنني قد أوضحت لكِ هذا الأمر بكل ما يمكن للكلمات أن تُبيِّنه بالطريق المباشر.
– إذن، يا سيدي، لا بد أنني قد قفزت صفحة من الصفحات.
– كلَّا يا سيدتي، لم تَفُتك كلمةٌ واحدة.
– إذن لقد نمت يا سيدي.
– إنَّ عزة نفسي لا تسمح لك بمثل هذا العذر يا سيدتي.
– إذن فأنا أُعلن أنني لا أعرف أيَّ شيء عن الموضوع.
– هذا يا سيدتي هو ما ألومك عليه. وكعقاب على ذلك، وأنا أُصرُّ عليه، يجب عليك أن تعودي حالًا، أي حين تصلين إلى آخر جملة تقرئين فيها، وتُعيدين قراءةَ الفصل كلِّه من جديد.
وقد أوقعتُ هذا العقاب على السيدة، لا بدافع من الجور أو القسوة، ولكن لأفضل الأسباب! ولهذا فلن أقدِّم لها أيَّ اعتذار حين تعود في قراءتها إلى الوراء: والسبب هو المؤاخذة على الذوق الفاسد الذي زحف على الآلاف من الناس غيرها، وهو القفز في القراءة السريعة بحثًا عن المغامرات، وليس الاطلاع على الفنون والمعارف العميقة، التي يتضمنها كتابٌ من هذا النوع، الذي سوف يُجنيها القرَّاء لو قرءوه كما تجب القراءة.
لا بد لكل رواية من راوٍ، مهما يكن بعيدًا عن الذاتية، ولكن ليس بالضرورة أن يكون لها «مروي له»، والمروي له هو أي ابتعاث، أو بديل، لقارئ الرواية في داخل النص ذاته. ويمكن لهذا أن يكون شيئًا عارضًا كالنداء المألوف الذي يستخدمه الروائيون الفيكتوريون «عزيزي القارئ»، أو يكون شيئًا مسهبًا كالإطار الذي وضعه «رديار كلبلنج» لروايته «مسز باتهيرست» التي ناقشتها سابقًا (الفصل ٧)، وفيها الراوي «أنا» هو نفسه المروي له في قصة يحكيها ثلاث شخصيات أخرى، تتبادل هي نفسها فيما بينها دورَي الراوي والمروي له. ويبدأ «إيتالو كالفينو» روايته «لو أن مسافرًا في إحدى الليالي» يحضُّ قارئَه على أن يُهيئ نفسه: «استرخِ ركِّز. اطرد عنك أيَّ فكرة أخرى، دع العالَم من حولك ينزوي. أفضل شيء إغلاق الباب؛ فالتليفزيون مفتوح على الدوام في الغرفة المجاورة.» بَيْد أن المرويَّ له، مهما كان تكوينه، هو دائمًا مجرَّد أداة بلاغية، وسيلة للسيطرة على استجابة القارئ الحقيقي الذي يضلُّ خارج النص، وتكثيف تلك الاستجابة.
ويعمد لورانس ستيرن، الذي يروي تحت اسم تريسترام شاندي، إلى القيام بكل أنواع اللعب بالعلاقة بين الراوي والمروي له، وهو يفعل ما يقوم به «الكوميديان» في صالات الموسيقى، الذي يزرع عملاء له بين النظارة، ويُدخل تعليقاتِهم وملاحظاتِهم السافرةَ في نمرته التي يؤديها؛ ﻓ «ستيرن» أحيانًا يجسِّد قارئه في صورة سيدة، يسأله، ويداعبه، وينتقده، ويتملقه، مما يعود علينا نحن القرَّاءَ الحقيقيِّين بالمتعة والنفع.
و«تريسترام شاندي» رواية ذات صفات مميزة للغاية، يعمد فيها راويها الذي يحمل العنوانُ اسمَه إلى حكاية قصة حياته منذ تخلُّقه نطفةً إلى مرحلة النضج، ولكنه لا يجاوز العام الخامس؛ لأن محاولته وصْفَ وتفسيرَ كلِّ حادثة بأمانة وإسهاب تقوده إلى استطرادات لا نهايةَ لها؛ فكل شيء يرتبط بأشياء أخرى حدثَت قبله أو بعده أو في مكان آخر، ويجاهد تريسترام، براعةً وإن عبثًا، للحفاظ على الترتيب الزمني في روايته. ففي الفصل التاسع عشر، وهو ما زال مربوطًا بلا أمل في التاريخ السابق لولادته، يُشير إلى المصير الساخر الذي لاقاه والده، الذي كان يكره اسمَ تريسترام أكثر من كل الأسماء، ثم عاش ليرى ابنَه يتلقَّى دون قصد ذلك الاسمَ نفسه عند تعمده، ويُعلن: «ولو لم يكن من المستحيل أن يجريَ تعميدي قبل أن أُولد بالفعل، لقدَّمت للقارئ بيانًا كاملًا عن ذلك الموضوع.»
وهذه هي العبارة (وهو يكشف ذلك بعد القطعة التي اقتبستها) التي كان يجب أن توضِّح للقارئة التي يتوجَّه إليها بالحديث، مذهب أمه الديني، لأنه «لو كانت أمي من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، يا سيدتي، لما كان هناك داعٍ لكل ما سبق ذكره»، والسبب في ذلك هو أنه، وفقًا لوثيقة يُورِدها تريسترام (في أصلها الفرنسي) في القصة، أقرَّ مؤخرًا بعض اللاهوتيِّين العالِمين في السوربون فكرةَ القيام، بشروط معينة، بتعميد الأطفال الذين يمرون بولادة صعبة، وهم ما زالوا في رحم أمهاتهم، عن طريق محقنة تحمل إليهم الماء المقدَّس، وعلى هذا، يمكن في بلد كاثوليكي، أن يتمَّ تعميدُ الشخص قبل أن يُولد.
وكانت السخرية من الكاثوليكية (كان ستيرن قسيسًا أنجليكانيًّا) والانخراط في مزح حول الأعضاء الخاصة في جسم الإنسان، من الأشياء التي كان المؤلف يُلام عليها أحيانًا، ولكنك لا بد أن تكون قارئًا عبوسًا إذا أنت لم تبتسم لطرافة وبراعة ردوده على السيدة (وقد زاد من حيويتها طريقة ستيرن الحرة المميزة في استخدام علامات الترقيم [في الأصل الإنجليزي]) ولتعليقاته الجانبية الموجهة للقارئ؛ ذلك أن الوظيفة الأساسية لهذا الخروج عن الموضوع هي تحديد فنه والدفاع عنه. وهو يُوعز إلى السيدة بإعادة قراءة الفصل السابق، بهدف «المؤاخذة على ذوق فاسد زحف على الآلاف من الناس غيرها، وهو القفز في القراءة السريعة بحثًا عن المغامرات، وليس الاطلاع على الفنون والمعارف العميقة التي يتضمنها كتابٌ من هذا النوع، الذي سوف يجنيها القرَّاء لو قرءوه كما تجب القراءة».
ولا عجب أن يصبح «تريسترام شاندي» كتابًا محببًا لدى الروائيِّين التجريبيِّين ومُنظِّري الرواية في بلدنا، وكما أوضحت سابقًا، عمد الروائيون المحدثون وروائيون ما بعد الحداثة، إلى محاولة إثناء القرَّاء، عن طريق تحطيم وإعادة ترتيب التسلسل الزمني والسببي التي تقوم عادةً عليهما، وقد استبق «ستيرن جيمس» «جويس وفرجينيا وولف» بالسماح لشطحات الذهن البشري أن يقرِّر شكلَ القصة ومسارها، وأحد شعارات النظرية الأدبية الحديثة هو «الشكل المكاني»، وهو يعني إضفاءَ حدة على العمل الأدبي، عن طريق نمط من الموتيفات المترابطة التي لا يمكن إدراكها إلَّا بإعادة قراءة النص بالطريقة التي يُوصي بها تريسترام.
ويعمل حواره مع قرَّائه على إضفاء طابع مكاني على الطابع الزمني لعملية القراءة، على نحوٍ أشد جذرية من ذي قبل؛ فالرواية تُقدَّم في صورة غرفة نختلي فيها نحن القرَّاء بالراوي؛ فقبل أن يورِد الراوي التفاصيل الدقيقة لعملية تكوينه من نطفة مثلًا، يُعلن أن ذلك مكتوب فحسب «لمحبِّي الاستطلاع والفضوليِّين» ويدعو القرَّاء الذين لا تهمهم هذه الأوصاف إلى تخطِّيها قائلًا:
وهو على ثقة من أننا سوف نختار البقاء معه.
وفي القطعة المقتبسة، يدعو الراوي أحدنا، السيدة، إلى إعادة قراءة الفصل السابق «حين تَصِلينَ إلى آخر جملة تقرئين فيها» (وهذا تذكير واضح ومميز من المؤلف بطبيعة عملية القراءة). ويجعلنا المؤلف، نحن الذين نقرِّر البقاء معه، نشعر أننا محظوظون بالثقة التي يُولينا إياها، ويدعونا ضمنًا إلى أن نُباعد بين أنفسنا وبين تلك القارئة غير الواعية وذلك «الذوق الفاسد الذي زحف على الآلاف من الناس غيرها»، وهو قراءة رواية من أجل القصة التي تحكيها وحسب، وما دمنا عند هذا الحد نجهل، كالقارئة المشار إليها، الإشارة إلى الكنيسة الكاثوليكية، فإننا لا نستطيع أن نعارض كثيرًا الحجةَ التي قدَّمها المؤلف للدفاع عن أسلوبه.