الطقس
كان مساء هذا اليوم طويلًا وكئيبًا في «هارتفيلد». وأضاف الطقس ما يمكن أن يُضيف من الجهامة، وتساقط مطرٌ عاصف بارد، ولم يستبن شهر يوليو إلَّا في الأشجار والشجيرات، التي كانت الرياح تلعب بها وفي طول اليوم، وهو ما أطال أمد رؤية هذه المناظر القاسية.
لندن. وجلسة «سان ميشيل» قد انتهَت منذ فترة قصيرة. وقاضي القضاة يجلس في قاعة «لنكولن إن» طقس نوفمبر اللدود، كثير من الوحل في الشوارع، كأنما المياه قد انزاحَت حديثًا من على وجه الأرض، ولن يكون غريبًا أن نُلاقيَ ديناصورًا طوله أربعون قدمًا أو نحو ذلك يخوض كسحلية فيلية عبر طريق «هولبورن هل». ويسقط الدخان من فوهات المداخن على هيئة رذاذ أسود بنُدَفٍ من الهباب في حجم نُدَف الثلج الكبيرة — ويتخيل المرء أنها قد ارتدَت الحداد حزنًا على موت الشمس. ولا تكاد الكلاب تبين في ذلك الوحل، والجياد ليست أحسن حالًا؛ مغطاة بالرذاذ حتى غمامة عيونها، والمشاة، يتدافعون بمظلاتهم وقد سرَت عدوى سوء المزاج بينهم سريانًا عامًّا، ويفقدون توازنهم عند ركن الطريق، حيث كان الآلاف غيرهم من المشاة يتعثرون ويتزحلقون منذ أن انشق النهار (إذا كان لذلك النهار أن ينشق)، فيُضفون ركامًا جديدًا على طبقات الوحل التي تشبَّثَت بعنادٍ في تلك المناطق على الأرصفة، وتتضاعف بفائدة مركَّبة.
فيما عدا عاصفة أو أخرى تثور في البحر، لم يحظَ الطقس إلَّا باهتمام ضئيل في النثر القصصي حتى أواخر القرن الثامن عشر، وفي القرن التاسع عشر، بدا كما لو أن جميع الروائيِّين أصبحوا يتحدثون عنه، وكان هذا يرجع في جزء منه إلى زيادة تقدير الطبيعة، التي خلقها الشِّعرُ والتصوير الزيتي الرومانسيان، وفي الجزء الآخر إلى نمو الاهتمام الأدبي بالشخصية الفردية، وفي حالات الشعور التي تتأثر بإدراكنا للعالم الخارجي وتؤثر فيه. وكما أوضح كولردج في قصيدته عن «الكدر»:
ونحن نعرف أن الطقس يؤثر في حالاتنا النفسية، والروائيون لديهم ميزة وضع الطقس المناسب لكل حالة من الحالات النفسية التي يريدون ابتعاثها.
ولذلك فكثيرًا ما يُستخدم الطقس لإثارة الوقع الذي سمَّاه جون رسكن «الوهم الشعري»، وهو إسقاطُ عواطف بشرية على عالم الطبيعة، وهو قد كتب قائلًا: «كل عاطفة جامحة … تخلق فينا انطباعًا زائفًا عن الأشياء الخارجية؛ وأنا أسمِّي ذلك الانطباع الزائف، بصفة عامة، الوهم الشعري.» وكما ينطوي عليه الاصطلاح، كان رسكن يعتقد أنه شيء طالح، علامة على انحدار الفن والأدب الحديثَين (بالمقارنة مع الفن والأدب الكلاسيكيَّين). وبالفعل فإنه كان يفتح المجال للكتابات المتكلفة والمعبِّرة عن الرضا عن الذات. بَيْد أن تلك الأداة البلاغية، لو استُخدمت بذكاء وكياسة، فبوسعها أن تُنتج انفعالات مؤثرة وقوية، بدونها تُصبح القصة أشدَّ ضعفًا بكثير.
وكانت جين أوستن، الكاتبة الكلاسيكية، ترتاب ارتيابًا قويًّا في الخيال الرومانسي، وسخرَت منه في رسمها لشخصية مريان في روايتها «العقل والهوى». فبعد الفورة العاطفية التي مرَّت بها ماريان في الخريف قائلة:
«لكَم شعرتُ بالبهجة حين كنت أسير وأنا أراها تُطيِّرها الرياح نحوي كمياهِ الأمطار، كم أثارت هذه الأوراق، مع فصل الخريف والهواء، في نفسي من مشاعر ملهمة!»
علَّقت على ذلك «إلينور»، الأخت الصغرى لماريا بقولها في جفاف: «إن الجميع لا يشاطرونك شعورك هذا تجاه الأوراق الذابلة»؛ فالطقس في روايات «جين أوستن» عادةً ما يؤدي دورًا عمليًّا مهمًّا في الحياة الاجتماعية لشخصياتها، أكثر منه مجازيًّا لمشاعرهم الداخلية، والثلج في الفصلين «١٥، ١٦» من رواية «إيمَّا» تصويرٌ لذلك. فأول ذِكْر له يَرِد في وسط مأدبة العشاء التي يُقيمها «مستر وستون» قُبيل الكريسماس، حين يدخل «مستر جو نايتلي»، الذي لم يكن راغبًا في حضورها على أية حال، ويُعلن في غبطة لا يُفلح في إخفائها أن «الثلج يتساقط بغزارة مع رياح عاتية» مما دفع الرعب في قلب مستر وودهاوس، والد إيمَّا المعتل الصحة. وتبعَت ذلك مناقشة اشترك فيها الجميع، وكلٌّ يقول ما يُفصح عن شخصيته بدلًا من تناول الموضوع، إلى أن يعود مستر «جورج نايتلي» من تقييمه الشخصي لحالة الطقس ويُدلي بتقرير معقول ومُطَمئن عنه، كعادته في مثل تلك الأمور ويستنتج هو وإيمَّا أن مستر «وودهاوس» سينتابه القلقُ رغم ذلك طول المساء، فيقرران استدعاء العربات للعودة، ويستغل مستر إلتون هذا الرحيل المفاجئ، للانفراد بإيمَّا في عربتها والتصريح لها بحبِّه، مما يسبِّب لها مفاجأة وحرجًا عميقَين، لأنها كانت تعتقد أنه واقع في هوى صديقتها هارييت، ومن حسن الحظ أن أعطى الطقس الذي ساد خلال الأيام القليلة التالية عذرًا لإيمَّا، لعدم مقابلةِ أيٍّ من هذين الشخصين.
كان الطقس مواتيًا لها تمامًا … فالثلج يغطِّي الأرض والجو في حالة غير مستقرة بين الصقيع والذوبان، وهي حالة لا تدعو أبدًا إلى الخروج؛ ولما كان كل يوم يبدأ بالمطر أو الثلج، ويعود كلُّ شيء إلى التجمد في المساء، فقد وجدَت إيمَّا العذرَ المطلوب كيما تسجنَ نفسها في منزلها.
وهنا لأنه ذو صلة وثيقة بالقصة، ولكن الوصف حرفي تمامًا.
ومع ذلك، فحتى «جين أوستن» تستخدم أحيانًا الوهمَ الشعري استخدامًا حذرًا؛ فحين تُصبح إيمَّا في وضع صعب، بعد أن اكتشفَت حقيقةَ «جان فير فاكس» بكل ما فيها من ملابسات حرجة بالنسبة لمسلكها، وحين تحقَّقت في وقت متأخر أنها تحب مستر نايتلي ولكنها تعتقد أنه سيتزوج هارييت — في ذلك الوقت، الذي كان أسوأَ أيام حياتها. «أضاف الطقس ما يمكنه من الغم»، وكان بوسع رسكن أن يبيِّن أن الطقس غير قادر أن يُضيف أيَّ شيء، بَيْد أن العاصفة الصيفية هي الموازي الأكمل لمشاعر البطلة، بشأن مستقبلها لأن وضعها البارز الثابت في المجتمع الصغير المغلق في «هايبيري»، سيجعل «شيئًا قاسيًا»؛ كزواج هارييت من نايتلي «ظاهرًا لفترة أطول»، ولكن لما كانت تلك العاصفة قد هبَّت في غير وقتها، فقد ظهرَت الشمس في اليوم التالي، وجاء جورج نايتلي ليطلبَ يدَ إيمَّا وليس هارييت.
وفي حين تدسُّ جين أوستن الوهمَ الشعري بخفة لا نكاد نلحظه معها، يقرعنا به ديكنز على رءوسنا في الفقرة الافتتاحية الشهيرة من روايته «منزل قفر»؛ فإضفاءُ صفة تشخيصية على طقس نوفمبر في عبارة «طقس نوفمبر اللدود»، شيءٌ عاديٌّ في اللغة الجارية، ولكنه يحمل هنا مظهرَ الغضب الإلهي، خاصة وأنه جاء قريبًا من الإشارات إلى العهد القديم من الكتاب المقدَّس. فعبارة «كأنما المياه قد انزاحَت حديثًا من على وجه الأرض» ترجِّع صدى وصفِ قصة الخلق وقصة الطوفان، وهذه الإشارات من الكتاب المقدس، تمتزج بطريقة فيكتورية صرف بنظريات الكون الأحدث التي تلَت داروين، عن الديناصورات وتُحلل المنظومة الشمسية بفعل التعادل الحراري. ومحصلة ذلك كله تمثِّل عملًا غريبًا من أعمال إزالة الألفة.
تمثل، فعلى المستوى المباشر، تمثِّل تلك الفقرة صورةً واقعية لشوارع لندن في القرن التاسع عشر في طقس سيِّئ. وتقدِّم تجميعًا لتفاصيل مألوفة في وصف بسيط وحرفي: الدخان المتساقط من فوهات المداخن، كلاب لا تستبين من الوحل … جياد مغطَّاة بالرذاذ حتى غمامة عيونها … مظلَّات تتصادم. بَيْد أن خيال ديكنز المجازي يحوِّل هذا المشهد العادي إلى رؤيا مخيفة لعاصمة الإمبراطورية البريطانية الشموخ، وقد ارتدَّت إلى مستنقعات بدائية، أو استبقَت الفناء النهائي لكل صِوَر الحياة على الأرض، والتقلُّب الاستعاري المضاعف من نُدَف الهباب، إلى نُدَف الثلج وقد ارتدَت ثياب الحِداد، إلى موت الشمس، وهو تصويرٌ رائع بصفة خاصة.
وهذه الفقرة تمثِّل مشهدًا من النوع الذي نُلاقيه في قصص الخيال العلمي (رؤيا الديناصور يخوض عبر «هولبورن» هل تستبق «كنج كونج» وهو يتسلق مبنى الإمباير ستيت، و«موت الشمس» النهاية المرعبة لرواية ﻫ. ج. ولز «آلة الزمان»)، وفي روايات ما بعد الحداثة للمتنبِّئين بالمصير المحتوم مثل «مارتن إيميس»، فهو يصوِّر، كيما يشجُبَ، مجتمعًا قد خرج على نواميس الطبيعة بفعل الطمع والفساد، والذي سيدرسه ديكنز في حبكة روايته المتشابكة، التي تدور حول ضيعة يتنازع الجميع على ملكيتها. وهو يذكر بلماحية أن الوحل هنا في مدينة لندن، يتضاعف بأرباح مركَّبة، مذكِّرًا إيَّانا بشجب الكتاب المقدس للمال بوصفه «الربح القبيح». وقاضي القضاة، الذي يُوصف في بداية القطعة (في سلسلة من العبارات الموجزة تُماثل العناوين في «أخبار الساعة العاشرة») وهو يترأس المحكمة العليا، يبدو أيضًا وكأنه يترأس الطقس، ويتم حسمُ هذا التماثل بعد عدة فقرات:
لم يكن هناك أبدًا مثل هذا الضباب الكثيف والوحل الدفينَين وكل ما يتمشَّى مع الجلسة المتعثرة الموحلة التي تواجه المحكمة العليا في ذلك اليوم، متمثلة في أعتى المجرمين والخطاة الذين شهدَتهم السماء والأرض.