المؤلف المتطفل
بقطرة واحدة من الحبر يستخدمها كمرآة، كان الساحر في مصر القديمة يتعهد بأن يكشفَ لأيِّ زائر تقوده إليه المصادفةُ رؤى الماضي البعيد، وهذا هو ما أتعهَّدُ القيام به لك أنت أيها القارئ، فبنقطة الحبر هذه التي في طرف ريشتي سوف أعرض أمامك ورشة «جوناثان بيرج» الفسيحة، وهو نجَّار وبنَّاء في قرية «هيسلوب»، كما كانت عليه في يوم ١٨ يونيو عام ١٧٩٩ من ميلاد سيدنا المسيح.
بالنسبة لمارجريت، وأرجو ألَّا يتحاملَ القارئ عليها لذلك، كانت محطة تشيرنج كروس تمثِّل دائمًا فكرة اللانهاية، فموقعها ذاته — في انزوائها قليلًا خلف بهاء «سان بانكراس» المطواع — لم يكن يُوحي بأنها تقدِّم تعليقًا على مادية الحياة، وكان هذان القوسان العظيمان، بلا لون أو اكتراث، ويحتضنان بينهما ساعة ليس فيها أيُّ جمال، يمثِّلان مدخلًا مناسبًا يقودان إلى مغامرة أبدية يمكن أن تعودَ نتائجُها على المرء بالرخاء، ولكنها بالتأكيد لن تتبدَّى في لغة الرخاء العادية، فإذا كنت ترى أن هذا سخفٌ فتذكَّر أن مارجريت ليست هي التي تحكي لك عنه، ولأسارعنَّ فأقول لك إن الوقت كان متسعًا أمامهما ليلحقَا بالقطار، وإن مسز مانت قد حجزَت مقعدًا مريحًا في اتجاه السير وإن كان بعيدًا عن القاطرة؛ وإن مارجريت، عندما عادَت إلى «ويكهام بليس» قد فُوجئت بالبرقية التالية:
انتهى كلُّ شيء، وددتُ لو لم أكتب قط، لا تقولي لأحد. هيلين.
ولكن العمة جولي كانت قد ذهبَت، ولا قوة هناك قادرة على إرجاعها، ولا إيقافها.
أبسط طريقة لرواية قصة، هي حكايتها بصوت الراوي، الذي يمكن أن يكون ذلك الصوت المجهول في القصص الشعبي (كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان، أميرة في غاية الجمال)، أو بصوت شاعر الملاحم (مثلًا: فرجيل «إنني أتغنَّى بالسلاح والإنسان»)، أو صوت المؤلف الذي يستودِع القرَّاء السِّر، ويصطحبهم في قصته، ويُصدر حِكَمَه ومواعظَه، كما هو الحال في القصص الكلاسيكي من «هنري فيلدنج» إلى «جورج إليوت».
ففي بداية رواية آدم بيد، عَمَد جورج إليوت بحيلة بلاغية لبقة عن نقطة الحبر التي تمثِّل مرآة ووسيطًا على حدٍّ سواء، إلى تحويل عملية الكتابة إلى نوع من الحديث، خطاب مباشر وإن كان حميمًا للقارئ، تدعونا فيه إلى الدخول «عبر عتبة» الرواية، وبصورة أدق، عبر عتبة ورشة «جوناثان بيرج». وهي تقارن ضمنًا بين طراز قَصصها ذي الخصوصية الدقيقة والتاريخية المتفحصة، وبين كشوفات السحر والشعوذة المبهمة، وليس لشذرة المعلومات عن أساليب السحرة المصريين أيُّ وظيفة أخرى، بَيْد أنها لا تخلو من أهمية في حد ذاتها، فنحن لا نقرأ القصص على أية حال من أجل الحكاية فحسب، ولكن كيما نوسعَ من معرفتنا بالعالم وفهمنا له، ولذلك فإن أسلوبَ سردِ المؤلف يناسب بالتحديد إدراجَ هذا النوع من المعرفة الموسوعية والحكمة المأثورة.
بَيْد أنه مع بدايات القرن العشرين، أصبح صوتُ المؤلف المتطفل غير مرغوب فيه، بسبب انتقاصه من وهم الواقعية، وتقليله من الكثافة الانفعالية للتجربة التي يتم تقديمها، عن طريقِ تشتيتِ الانتباه إلى عملية السرد، وهو أيضًا يدَّعي نوعًا من الحُجِّية من التواجد في كل مكان في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي لا يستطيع عصرنا الذي ساد فيه الشكُّ والنسبية أن يخلعَه على أيِّ شخص؛ لذلك فقد نحَت القصةُ الحديثة إلى كبتِ صوتِ المؤلف أو إزالته تمامًا، عن طريق تقديم الحدَث من خلال وعيِ الشخصيات، أو إسناد مهمة السرد ذاتها إليهم، وحين يجري استخدام صوت المؤلف المتطفل في القصة الحديثة، يتم ذلك عادةً بشيء من الحرج الساخر، كما في القطعة السابقة من رواية «هواردز إند»، وهذه القطعة تَرِد في ختام الفصل الثاني، حين تعمد «مارجريت شليجل» عضوة جمعية «بلومزبيري»، بعد أن سمعَت أن أختها «هيلين» قد وقعَت في غرام «هنري ويلكوكس» ابن أحد أقطاب الصناعة من مُحدَثي الثراء، إلى إرسال عمتِها مسز «مانت» لتستقصيَ الأمر.
وهواردز إند رواية تُعنَى بتصوير حالة إنجلترا، وإن رؤية هذا البلد بوصفه كُلًّا عضويًّا يمتلك ماضيًا، زراعيًّا في أساسه، ذا ثراء روحي كبير، ومستقبلًا تحفُّه المشاكل، وتُظلِّله حركةُ التجارة والصناعة، وكل ذلك يخلع أهمية تصويرية على الشخصيات وعلى علاقاتهم، ويبلغ هذا الموضوع ذروتَه الحالمة في الفصل التاسع عشر، حين يطرح المؤلف، من فوق تلال «بيربك» ذات الذُّرى العالية، السؤال عمَّا إذا كانت إنجلترا تنتمي لهؤلاء الذين خلقوا ثروتها وقوتها أم «لهؤلاء الذين … رأوها على نحو ما، رأوا الجزيرةَ كلَّها على الفور، راقدةً كالجوهرة في بحر فضي، مبحرة كسفينة تحمل أرواحًا هائمة، وأسطول العالم الجسور يصحبها نحو الأبدية.»
ومن الواضح أن كلًّا من المؤلف ومارجريت ينتميان إلى فريق أصحاب الرؤى؛ فاللانهاية التي تربط مارجريت بينها وبين محطة «تشيرنج كروس»، تُعادل الأبدية التي تُبحر نحوها سفينة إنجلترا، في حين تنتمي المادية والرخاء اللذان تنتقدهما «كنجز كروس» إلى عالم آل ويلكوكس، ويستبين التضامنُ في الشعور بين المؤلف والبطلة بوضوح في الأسلوب؛ فالانتقال إلى زمن الماضي («كان يوحي» و«كانا مَدخلَين مناسبَين») هو وحده الذي يميز أفكار مارجريت، من ناحية القواعد النحوية، عن صوت المؤلف. ففورستر يقوم بدور الحامي لبطلة روايته علانية، أو زيادة عن اللزوم كما قد يقول البعض.
وعبارتان مثل «بالنسبة لمارجريت، وأرجو ألَّا يحملَ ذلك القارئ على الغضب عليها …» و«فإذا كنت ترى أن هذا سخف، فتذكَّر أن مارجريت ليست هي التي تحكي لك عنه.» هما حركتان خطرتان، تقتربان من خلق الأثر الذي يسميه «إرفنج جوفمان» «كسر الإطار»، حين يتم التعدي على قاعدة أو عُرف يحكم نوعًا معينًا من التجربة، وتقدِّم مثل هاتين العبارتَين بجلاء، ما يتطلبه منَّا الإيهام بالواقع عادة أن نقمعَه أو نزيلَه، وهو إدراكُنا أننا نقرأ رواية عن أشخاص وأحداث من وحي الخيال.
وهذه الوسيلة محبَّبة من قِبَل كُتَّاب ما بعد الحداثة، الذين ينبذون الإيمان بالواقعية التقليدية، عن طريقِ كشفِ القناع عن كلِّ ما في جعبتِهم من التركيبات القصصية، خُذ على سبيل المثال، هذا التطفُّل المذهل من المؤلف، في وسط رواية جوزيف هيلر «ثمين كالذهب» (١٩٨٠م):
ومرة أخرى وجَد «جولد» نفسَه على أُهبةِ تناول الغداء مع أحدهم — سبوتي واينروك — وقفزَت الفكرةُ إلى رأسه أنه يقضي وقتًا أكثر من اللازم يأكل ويتحدث في هذا الكتاب، لم يكن في الإمكان جَعْلُه يفعل أكثر من هذا، لقد كنت أضعه في الفراش كثيرًا مع «أندريا»، بينما أُقصي زوجته وأولاده إلى خلفية الكتاب … ولا بد أنه سيقابل قريبًا مدرِّسةً لديها أربعة أطفال، وسيقع في غرامها لشوشته، ولسوف أُلوِّح له عن قريب بالوعد المثير، بأن يُصبحَ أولَ وزير خارجية يهودي للبلاد، وهو وعدٌ لم أكن أنوي الوفاء به.
إن فورستر لا يقوِّض على هذا النحو الجذري، إيهامَ الحياة الواقعية الذي تولِّده قصته، ويدعونا لكي نُبديَ اهتمامًا متعاطفًا مع شخصياته ومصائرهم، عن طريق الإشارة إليهم بوصفهم أناسًا حقيقيِّين؛ ولهذا، فما غرضه من لفت النظر إلى الهُوَّة التي تفصل بين تجربة مارجريت، وبين سردِه لهذه التجربة؟ إني أرى أنه، عن طريق الإشارة إلى وظيفته البلاغية كمؤلف على نحو ساخر، به شيءٌ من اللوم الذاتي، يحصل على تصريح بالانغماس في خطابات بلاغية مسهبة، يقدِّمها المؤلف عن التاريخ والميتافيزيقا (مثل رؤيا إنجلترا من على تلال «بيربك»)، وتنتشر في طول الرواية وعرضها، والتي كان يعتبرها أساسية لموضوعها المستهدَف؛ ذلك أن الفكاهة الدَّمثة هي وسيلة فعَّالة لتجنُّب ما يُحتمَل من استجابة القارئ التي تتمثل في قوله «ابعد عنها!» والتي يُثيرها هذا النوع من التعميمات المقدَّمة من المؤلِّف. وفورستر يسخر أيضًا من مقاطعة الزخم السردي الذي تُسببه بالضرورة مثل هذه المقطوعات، بأن يعمِد متحرِّجًا إلى «التعجيل» بالعودة إلى الحكاية، ويُنهي فصلَه بأثرٍ طيب من التشويق، ولكن التشويق موضوع مستقل.