النثر المنمَّق
لنور لوليتا نور حياتي، نار أعضائي. يا خطيئتي، ويا روحي، لو-لي-تا. طرف اللسان يقوم برحلة ذات خطوات ثلاث إلى الحلق، كيما يُطبق، في الثالثة، على الأسنان. لو-لي-تا. كان اسمها لو، لو فقط في الصباح، وهي تقف وطولها أربع أقدام وعشر بوصات في فردة جورب، واسمها لولا وهي ترتدي البنطلون. واسمها دوللي في المدرسة، واسمها دولوريس في الأوراق الرسمية، ولكن اسمها وهي بين ذراعيَّ هو دائمًا لوليتا.
هل كان لها سابقة؟ كان لها، بالفعل، كان لها. فثَمة نقطة حق، أنه ما كان ليُصبح هناك لوليتا لو لم أحب، ذات صيف، فتاة معينة صغيرة، في مملكة مطلَّة على البحر، ومتى كان ذلك؟ سنوات عديدة قبل أن تُولد لوليتا، تُناهز سنوات عمري في ذلك الصيف، لكَم أن تثقوا في قدرة أحد القتلة في تدبيج أسلوب نثري منمَّق.
سيداتي سادتي، أعضاء هيئة المحلفين، البند الأول من الاتهام: الشيء نفسه الذي تمنَّاه ملائكة «إدجار ألان بو»، الملائكة غير العارفين، البسطاء، ذوو الأجنحة السامية، انظروا إلى تلك الكتلة المعقدة من الأشواك.
القاعدة الذهبية للنثر الروائي هي ألَّا تكونَ هناك أية قواعد — ما عدا تلك التي يضعها كلُّ كاتب لنفسه؛ فهمنجواي قد استخدم التكرار والبساطة، بنجاح في أغلب الأحيان، للوصول إلى أغراضه الفنية، وقد نجح «نابوكوف» في استخدام التنويع والزخرفة، خاصة في رواية «لوليتا».
فهذه الرواية تتخذ شكلَ قطعة بديعة من الدفاع الذاتي لرجل أدَّى به هيامُه بنوع خاص من المراهقات، يسمِّيهنَّ بالحوريات، إلى ارتكابِ أفعالٍ شريرة، وقد أثار الكتابُ جدلًا عند نشرِه أول مرة، وهو لا يزال يُثير القلق، لأنه يخلع بلاغةً خلَّابة على أحد المغرِّرين بالأطفال، وقاتل كذلك، وكما يقول بطل الرواية «همبرت همبرت» نفسه: «لكَم أن تثقوا في قدرة أحد القتلة في تدبيجِ أسلوبٍ نثريٍّ منمَّق.»
وهناك بالطبع الكثيرُ من التكرار في القطعة الافتتاحية للرواية، ولكنَّه ليس تكرارًا معجميًّا، كالذي وجدناه عند همنجواي في القطعة التي ناقشناها في الفصل السابق، فالأمر يتعلَّق بتركيبات أسلوبية متناظرة وأصوات متماثلة؛ وهو ذلك النوع من التكرار الذي يتوقَّع القارئ أن يجده في الشعر. (والاصطلاح الآخر للنثر المنمَّق هو النثر الشعري)، فهناك على سبيل المثال عرضٌ مبهرج حقيقي لاستخدام الكلمات التي تبدأ بالحرف نفسه في الفقرة الأولى [في النص الإنجليزي]، فحرفَا اللام والتاء يتفجران ببراعة في الاحتفاء باسم المحبوبة: النور، الحياة، أعضاء، طرف، لسان، رحلة. لو–لي–تا.
وكلٌّ من الفقرات الأربع التي نقدِّمها تَعرِض نوعًا مختلفًا من الخطاب؛ فالخطاب الأول هو دفعة غنائية، سلسلة من النداءات، دون فعل تام، وتدافعُ الاستعاراتِ في الافتتاحية مسرفٌ وقديمُ الأسلوب إلى حدٍّ ما، نور حياتي، نار أحشائي، خطيئتي، روحي (مزيد من الكلمات التي تبدأ بالحرف نفسه). والاستعارة التالية، عن اللسان الذي يقوم برحلة إلى الحلق كيما يُطبقَ على الأسنان، هي أكثر أُلفة وطرافة، بَيْد أنها تلفتَ الانتباه إلى عضوٍ يُستخدم في مجالَي البلاغة والشهوة على السواء، وهما مجالان لا ينفصلان تمامًا لدى بطل الرواية.
والفقرة الثانية تتضمن ذكريات رقيقة، سلسلة من العبارات ذات التركيب المتماثل، تعدد أنواع أسماء الحبيبة كترتيل دنيوي: «كان اسمها لو … واسمها لولا … واسمها دوللي … واسمها دولوريس … ولكن اسمها وهي بين ذراعيَّ هو دائمًا لوليتا»، وهو كلام يمكن أن يُغنَّى. (وقد عُرضت بالفعل مسرحية موسيقية لم تنَل نجاحًا للوليتا، وذكرها نابوكوف بجفاف في يومياته بأنه «غلطة لطيفة صغيرة»)، وبالطبع تُعطينا تلك الفقرة، إذا لم نكن نعرف بالفعل، أولَ فكرة بأن لوليتا هي قاصر محط شهوة، وذلك في الإشارة إلى طولها، وجوربها ومدرستها.
بَيْد أن الفقرة الثالثة تأخذ مسارًا آخر، فهي ذات صبغة أكثر تحاورية، تُجيب على أسئلة مضمَّنة من مُحاوِر مجهول الهُوِيَّة، بصورة مونولوج مسرحي: «هل كان لها سابقة؟» ويُعطي الرد الإيجابي بتكرار شاعري: «كان لها، بالفعل، كان لها» وتُهيؤنا العبارة القانونية الطبية «ثَمة نقطة حق» للابتعاث الصريح لسياق المحكمة في الفقرة الأخيرة (من المفترض أن همبرت يكتب دفاعه إذن ينتظر محاكمته)، «ومتى كان ذلك؟» ويضع الجواب الملغز التقريبي الأساس للتفاوت في السن بين همبرت ولوليتا.
وفي هذه الفقرة، يبدأ الاهتمام السردي بإثارة أسئلة عن علاقة السببية «كان يمكن أن … لو لم …» وعن شخصية «الفتاة المعيَّنة الصغيرة». ومما يزيد في الصفة الشاعرية لهذا النثر، الإشارة إلى قصيدة معروفة لإدجار ألان بو، هي قصيدة «أنابل لي»:
وتفسير البطل «همبرت» لتعلُّقه الإيروسي بصغار الفتيات وتعليله له، هو أن حبيبةً له في فترة المراهقة تُدعى «أنابل»، قد ماتت قبل أن يكتملَ ذلك الحب، وقصيدة «بو» هي مرثيةٌ عاطفية مريرة تسير في النهج نفسه: فالمتحدث يلوم الملائكةَ الغيورين على أخذهم حبيبتَه من هذا العالم، ويجد عزاءً في الرقاد إلى جوار قبرها، بَيْد أن «همبرت» يسعى دون هاجس، وراء حوريات بدائل عن حبيبته أنابل، وثَمة سخرية شيطانية في الصفات التي يخلعها على الملائكة، «غير العارفين، البسطاء، ذوو الأجنحة السامية»، وإشارة تجديفية بأن آلامَه مناظرة لإكليل الشوك، «وهذا الإلماح من نصٍّ لنصٍّ آخر يُعرف باسم التناصِّ، ويستحق إفرادُ فصل خاص له، انظر الفصل التالي».
وإن البراعة التي حققها «نابوكوف» في لغةٍ ليست هي لغتَه الأم، لا تزال تُثير الدهشة، ولكن ربما كان ذلك بالضبط، هو السبب الذي أدى به إلى اكتشاف جميع موارد النثر الإنجليزي، واستخدامها بمتعة لا تُقيدها قيود.
إن أكثر الألوان بريقًا هي أسرعها انطفاء، وأرهف النصال هو أولها صدأً، وأرق الثياب هو أسرعها عرضة للتآكل، والنسيج الرقيق أسرع إلى التلطيخ من النسيج الخشن، إن ما بدا حسنًا في يوفيوس، الذي كان ذهنه، كأنما هو الشمع المذاب، عرضة لتلقِّي أيِّ أثر، وأن يتولَّى بنفسه زمامَ جميعِ أمره، أنه كان يُهمل النصح، ورحل عن بلده، وكَرِه معارفَه القدماء، وفكَّر في استخدام ذكائه في كسبِ الودِّ، أو استغلال خجله في تفادي النزاع، قد فضَّل الخيال على الصداقة، وما يشعر به الآن على الشرف والمجد في المستقبل؛ عطَّل عملَ عقله بعد أن وجده مُرَّ المذاق في فمه، وجمحَ وراء عاطفته التي وجد مذاقَها عذبًا في فمه.
وهذا نثرٌ بارعٌ ومسلٍّ حين يُقدَّم جزء منه، بَيْد أنه بعد صفحات قليلة، ينحو التماثلُ في استعراضه الأسلوبي إلى إصابة القارئ الحديث بالتعب، ذلك أن أنماط التركيب نفسه اللغوي والصوتي، تُستخدم مرة بعد مرة، وتستعملها جميعُ الشخصيات، إلى جانب صوت المؤلف. وهذا النوع من النثر أدبيٌّ محض، ينتمي كليةً للكلمة المكتوبة، الشيء الناقص، الشيء الذي دخل قصص اللغة الإنجليزية فيما بين روايتَي «يوفيوس» و«لوليتا» هو نغمة الصوت البشري، أو الأصوات البشرية، وهي تتحدث في مجموعة متنوعة من اللهجات والإيقاعات والقدرات، مما يُحيي الأنماط الرسمية للبلاغة الأدبية ويُغيِّرها، وسوف نذكر المزيد عن هذا الموضوع تحت عنوان «التحدث بأصوات مختلفة» (الفصل ٢٧). ولكن قبل هذا: التناص.