الرواية التجريبية
برايد سلي، برنجام.
الثانية. آلاف يعودون بعد الأكل عبر الطرقات.
قال رئيس العمل لابن مستر «دوبريت»: «ما نريد هو التقدم، الدفع. ما أقول لهم هو … علينا المضيُّ في الأمر، علينا أن نتقدَّم.»
آلاف يعودون بعد الأكل إلى مصانع عملوا فيها.
«دائمًا أُزعجهم بهذا القول ولكنهم يعرفونني. يعرفون أنني أبٌ وأمٌّ لهم. إذا واجهَتهم مشاكلُ فما عليهم إلَّا أن يأتوا لي، وهم يقومون بعمل رائع، عمل رائع. إني مستعدٌّ أن أفعلَ لهم أيَّ شيء وهم يعرفون ذلك.»
بدأَت ضجَّةُ المخارط مرة ثانية في هذا المصنع، ومشى المئات في الطريق خارجًا، رجالًا وفئات. ودخل بعضهم إلى مصنع «دوبريت».
وبقيَ البعض في ورشة الصهر بهذا المصنع ليأكلوا، وجلسوا حول الموقد في دائرة. «كنت أقف في مدخل المحل وظهري إلى باب ورشة المواسير وقد وضعتُ أنفًا من الكارتون وشاربًا أخضر، وكان ألبرت يضحك في الداخل ويكاد ينفجر من الضحك حين اقترب منه الرجل إياه، لكنني لم أرَه إلَّا بعد أن سمعتُه يقول، أليس لديك ما تفعله يا جيتس أفضل من تمثيل دور العبيط؟ وقال لألبرت: «هل أنت في انتظار مليجان أم ماذا؟ وقد حدث هذا بسرعة حتى إنني لم أخلع الأنفَ الصناعيَّ وكان الأمر مفاجئًا، لن أنسى ذلك أبدًا».»
«الرواية التجريبية» عبارةٌ صكَّها إميل زولا؛ كي يُقيمَ تماثلًا بين قصصه ذات التوجُّه الاجتماعي، وبين البحث العلمي للعالم الطبيعي، بَيْد أن هذه الموازنة لا تصمدُ أمام التحليل الدقيق؛ فالعمل القصصي ليس بالشيء الجدير بالتعويل عليه للتحقيق من صدقِ أو كذبِ فرضيةٍ ما بشأن المجتمع، ومن المفيد النظر إلى «التجريب» في الأدب، كما هو في الفنون الأخرى؛ كنهج راديكالي لمهمة «إزالة الألفة» المستمرة دومًا (انظر الفصل ١١)، والرواية التجريبية هي الرواية التي تحيد بشكل ظاهر عن الطرق المألوفة لتصوير الواقع — إما في تنظيم عملية السرد، أو في الأسلوب، أو في كليهما — من أجل تكثيف إدراكنا لذلك الواقع، أو تغيير هذا الإدراك.
ولقد تميَّز العقدان الثاني والثالث من القرن العشرين، وهما ذروة الحداثة بالقصص التجريبي. وما دوورثي ريتشاردسون، وجيمس جويس، وجرترود شتاين، وفرجينيا وولف إلا بعض الأسماء القليلة التي تَرِد على الذهن. ومع ذلك، فما يكاد أحد الكُتَّاب يقوم بتجارب ما، حتى يُسارع كُتَّاب آخرون ويضعون يدَهم عليها ويستخدمونها بطريقة مختلفة؛ ولهذا فمن الصعب نسبةُ اكتشاف تكنيك معيَّن لكاتب واحد، وافتتاحية رواية هنري جرين «الحياة» هي بلا شك من نتاج العصر في أسلوبها، فالانتقالُ المفاجئ من السرد إلى الحوار السردي مرة أخرى، دون انتقالات سلسة أو وصلات تفسيرية؛ مماثلٌ لتكوينات بيكاسو التكعيبية، والقطع الفجائي السينمائي عند المخرِج أيزنشتاين، والشظايا التي كوَّمها ت. س. إليوت في مواجهة أطلاله في قصيدته «الأرض الخراب»، وربما كان جرين متأثرًا تأثرًا مباشرًا بها؛ فالتشظي والانقطاع و«المونتاج» منتشرة كلها في الفن التجريبي في عشرينيات القرن العشرين.
وهنري جرين هو اسم الشهرة لهنري يورك، الذي كانت أسرتُه تمتلك شركةً هندسة في برمنجهام، وقد حاول هنري أن يصبحَ مديرَها التنفيذي بالعمل في كل أقسامها بدءًا من الوظائف الدنيا، فاكتسب خلال تلك العملية فهمًا لا يُقدَّر بثمن لطبيعة العمل في الصناعة، وحبًّا واحترامًا عميقَين لمَن يعملون في هذا المجال من رجال ونساء، ورواية «الحياة» تمثِّل احتفاءً رائعًا رقيقًا بدون أن يسقط في العاطفية المبتذلة لحياة الطبقة العاملة الإنجليزية في لحظة زمنية معينة.
وإحدى صعوبات الكتابة عن حياة الطبقة العاملة في القصص التي تبدو جليةً بوجهٍ خاص في الروايات الحسنة النوايا، التي تتناول الصناعة في العصر الفيكتوري، وهي أن الرواية ذاتها شكلٌ أدبيٌّ خاص بالطبقة الوسطى، وأن صوتَ الراوي فيها قمينٌ بأن يُظهِر هذا التحيز في كلِّ منحًى من مناحي الكلمات، ومن الصعب للرواية ألَّا تبدوَ بمظهر التنازل، حين تَصِف تجربةً تَعْرض التناقضَ بين الخطاب المهذب المثقف للراوي وبين طريقة الكلام الفجَّة العامية للشخصيات. خُذ مثلًا معالجة تشارلز ديكنز للمشهد في رواية «أوقات صعبة»، الذي يرفض فيه ستيفن بلاكبول الانضمامَ إلى إضراب اتحاد العمال، استجابةً لنوازع ضميره:
قال الرئيس وهو ينهض: «فكِّر تاني في الحكاية دي يا ستيفن بلاكبول، فكِّر في الحكاية يا راجل قبل ما كل أصحابك يبعدوا عنك.»
وسرَت همهمةٌ تؤكد الكلامَ السابق، على الرغم من أنه لم ينطق أحدٌ بكلمة واضحة، وتركَّزَت كلُّ العيون على وجه ستيفن، فهو إذا رجع عن عزمه، فسيضع عن كاهلهم حملًا ثقيلًا، وتطلَّع حوله، وأدرك ذلك، ولم تكن تُخالج فؤادَه ذرةُ كراهية نحوهم، فهو يعرفهم، فيما وراء مظاهر ضعفهم وأخطائهم السطحية، كما لا يعرفهم سوى واحدٍ منهم.
«أنا فكرت في الحكاية كتير يا سيدي، لكن ببساطة أنا ما اقدرش أعمل كده مافيش قدامي إلَّا إني أمشي في سكتي، ودلوقتي أنا مضطر إني استأذن من كل الموجودين هنا إني أمشي.»
وقد حاول «جرين» أن يُلغيَ هذه الفجوةَ المؤلمة بين خطاب الراوي، وكلام الشخصيات في رواية «الحياة»، بأن شوَّه عمدًا الخطابَ السردي، مضيفًا عليه، كما قال هو نفسه، شيئًا من التركيز الذي تتصف به لهجةُ أهل مقاطعة «مدلاند»، وتجنُّب «الفصاحة السهلة»، ولا يعني هذا أن العبارات الواردة على لسان الراوي هي من طابع الحوار نفسه بين الشخصيات، فالأولى تتسم بالإيجاز الأدنى البارد، بما يطابق التعبيرَ عن الروتين الآلي المتكرر الذي تفرضه الصناعة على العاملين فيها، والتي تُقاومها اللغة التي تتكلم بها الشخصيات، متمثِّلة في الإطناب الشاعري (عمل رائع، عمل رائع) والتعبير بالأمثال (… أنني أب وأم لهم)، والشفرات الخاصة (رئيس العمل المعروف بالعبارة المستخدمة للتحذير باقترابه الرجل إياه)، وهكذا نجح أحد طلاب كلية «إيتون»، وهذا غريب جدًّا، عن طريق التجريب في الأسلوب، أن يكتب ما يمكن الدفع بأنه أفضل رواية على الإطلاق عن المصانع وعمال المصانع.
ومن الأرجح أننا نستمدُّ متعةً من القراءة عن مثل تلك الأعمال، أكثر من قراءتها هي نفسها، فمن الواضح أن هذه القيود الصارمة الشاملة تُعيق تأليفَ الرواية وفقًا للإجراءات العادية، البدء بنواة موضوع و/أو قصة، يتسع عن طريق ابتكارِ أحداثٍ وشخصيات وفقًا لنوع من المنطق القصصي. والتحدي في مثل السابق لوالتر أبيش، هو سردُ أيِّ نوع من القصة المتماسكة داخل القيود التي يفرضها الشكلُ المختار؛ والدافع (فضلًا عن رضى الكاتب عن اختباره لمقدرته) هو أن تُفضيَ القيود إلى ذلك النوع من السرور المتولِّد من إنجاز تناسق في الشكل يصعب تحقيقه عادةً، وتُفضي كذلك إلى مدلولات لم يكن يتيسر بغير ذلك أن يَصِل إليها الكاتب، وفي هذا المقام تقترب هذه التجارب النثرية من صفاتٍ تبدو عاديةً جدًّا في الشِّعر، مثل القافية وشكل المقطوعات، كما أن هذه التجارب تشكِّل فيما يبدو، تعدِّيًا متعمَّدًا للحدود التي تفصل عادةً بين خطابَي النثر والشعر، وهي، على كلِّ ما فيها من مهارة تبعث على الانبهار «هامشية» بالنسبة للفن الروائي.