الرواية الكوميدية
«فلنرَ، ما هو العنوان الذي أعطيته للبحث بالضبط؟» وتطلَّع ديكسون خارج نافذة السيارة إلى الحقول وهي تمرُّ مسرعة، خضراء زاهية بعد شهر أبريل المطير. لم يكن ما أخرسه هو أثر التكرار فيما قاله ولش لتوِّه؛ فقد كانت تلك الأحداثُ شيئًا معهودًا في أقوال ولش؛ إنما كان السبب هو توقُّع تلاوته عنوان المقال الذي كتبه. لقد كان عنوانًا نموذجيًّا، من حيث إنَّه يُبلور الخواء التافه للموضوع، واستعراضه الجامد للواقع، بما يضمن إثارةَ ملل السامعين، والضوء الزائف الذي يُلقيه على الأمور الثانوية، وكان ديكسون قد قرأ، أو بدأ قراءةَ الكثير من مثله، ولكنَّ بحثَه بدأ أسوأَ من معظمها من حيث الاقتناع بفائدته وأهميته، وكانت عبارته الافتتاحية هي: «عند دراسة هذا الموضوع الذي سبق إهماله على نحو غريب …» ما هذا الموضوع الذي سبق إهماله؟ ما الموضوع الذي على نحوٍ غريب؟ ما الذي سبق إهماله؟ كان تفكيره في كل هذا دون أن يمزِّقَ البحث أو يُلقيَ به إلى النيران، يجعله ينظر إلى نفسه كمنافق وأبله، وردَّد كلام ولش في مجهود مَن يتظاهر بالتذكر: «فلنرَ. آه … أجل: الآثار الاقتصادية للتطورات في تقنيات صناعة السفن من ١٤٥٠ إلى ١٤٨٥، على كلِّ حال هذا هو …»
ولمَّا عجز عن إتمام عبارته، تطلَّع يسارًا مرة أخرى ليجد وجهَ رجل يتفرَّس فيه على بُعد حوالي تسع بوصات. وكان الوجه الذي امتلأ رعبًا، إذ هو يُحدق فيه؛ وجهَ سائقِ شاحنة صغيرة، عمد ولش إلى تعديلها عند منحنى يقع بين جدارَين حجريَّين، ظهر الآن أوتوبيس ضخم عند المنحنى نفسه، وأبطأ ولش قليلًا، بما يضمن أن يكون إلى جوار الشاحنة حين يصل الأوتوبيس إليهما وقال بحزم: «حسنًا من المؤكد أن هذا يفي بالغرض.»
الرواية الكوميدية فرعٌ من فروع الرواية مغرق في إنجليزيته، أو هو على الأقل بريطاني-أيرلندي؛ إذ إنه لم يُؤتِ ثمارًا طيبة خارج هذه الحدود. وقد قال «جون أبديك» بتنازل كبير، في معرض نقده لأحد أحداث روايات «كنجزلي إيميس» التي تلَت «جيم المحظوظ» والمسمَّاة «أشياء جاك»: «لقد انحصر جهدُ المؤلف وشهرتُه في حدود الرواية الكوميدية.» وأضاف: «لا حاجة بنا إلى كتابة روايات مسلِّية، ما دامت المتناقضات الحقيقية في الحياة الواقعية، إذا ما سُجِّلت بعناية، فيها ما يكفي ويزيد من الكوميديا.» وعلينا أن نسأل: ما يكفي مَن؟ ومن المؤكد أن تقاليد الرواية الإنجليزية شهيرة بقدر عدد الروايات الكوميدية التي تزخر بها أعمالُها الكلاسيكية، من أعمال فيلدنج وستيرن وسموليت في القرن الثامن عشر، عبر «جين أوستن» و«ديكنز» في القرن التاسع عشر، إلى إيفلين وو في العشرين، وحتى الروائيون الذين لم يكن يقصدون أساسًا كتابةَ روايات فكاهية؛ ﮐ «جورج إليوت» و«توماس هاردي»، تمتلئ قصصُهم بمشاهد تجعلنا نُقهقه عاليًا، وحتى لو لم نكن نقرؤها للمرة الأولى.
وتبدو الكوميديا في القصة ولها مصدران أساسيَّان، رغم أنهما مرتبطان أشدَّ الارتباط: الموقف (الذي يتطلب شخصية؛ فالموقف الذي تعتبره إحدى الشخصيَّات كوميديًّا، لا يكون بالضرورة كذلك عند شخصية أخرى)، والأسلوب، وكلاهما يعتمد اعتمادًا جذريًّا على التوقيت، أي النظام الذي يتمُّ به ترتيب الكلمات وما تحمله من معلومات، ويمكن تصوير هذا المبدأ بعبارة واحدة من رواية إيفلين وو «الانهيار والسقوط»، ففي بداية الرواية، تقوم جماعة من الأرستقراط المهرجين السكارى بالاستيلاء على بنطلون بطل الرواية الخجول المتواضع «بول بنيفذر» الطالب بجامعة أكسفورد، وبناءً على ذلك يتمُّ طردُه من الجامعة لسلوكه الشائن، وهو ظلمٌ بيِّن، وينتهي الفصل الأول هكذا:
«ليلعنهم الله جميعًا إلى جهنم.» ردَّد بول بنيفذر لنفسه هذه الجملة بوداعةٍ وهو يسوق سيارته إلى المحطة؛ وبعدها شعر بشيء من الخجل؛ لأنه لم يكن يسبُّ إلَّا نادرًا، فنحن إذن ضحكنا من هذا، وأعتقد أن معظم القرَّاء يفعلون ذلك، فالسبب هو تأخر ظهور كلمة «بوداعة»؛ فما يظهر عند بداية الجملة من انفجار محق، طال انتظاره لغضب البطل الضحية، يتضح أنه ليس كذلك، بل مثال آخر على خجله وسلبيته، وكان يمكن لذلك الأثر أن يضيع لو كانت العبارة على النحو التالي: «قال بول بنيفذر لنفسه بوداعة وهو يسوق سيارته إلى المحطة ليلعنهم الله جميعًا ويقذف بهم إلى جهنم …» وهذا يُشير إلى صفة أخرى من صفات الكوميديا في القصة: مزيج من المفاجأة (بول يعبِّر عن أحاسيسه أخيرًا) والتوافق مع النمط (كلا، إنه لا يفعل ذلك في نهاية الأمر).
والفكاهة مسألةٌ ذاتية تمامًا، بَيْد أنَّ مَن لا يبتسم عند قراءة القطعة المقتبسة من «جيم المحظوظ» لهو قارئٌ متحجرُ القلب؛ والقطعة تعرض كلَّ صفات القصة الكوميدية في شكل مصقول رفيع؛ فجيم ديكسون مدرس مساعد مؤقت في جامعة إقليمية، وهو يعتمد تمامًا للاستمرار في وظيفته على رعاية أستاذه الشارد الذهن، وهذا بدوره يتطلب أن يُبرهن جيم على قدرته العلمية عن طريق نشر أحد الأبحاث، وجيم يزدري كلًّا من أستاذه وطقوس الدراسة الأكاديمية، ولكنه لا يملك التعبير عن هذا الازدراء؛ ولهذا فإنه يكتم ضيقَه في نفسه، ويُطلق له العنان أحيانًا في خيالات من العنف (مثلًا، أن يربط أستاذه ولش في مقعده ويقرع رأسَه وكتفَيه بزجاجة إلى أن يفسِّر سرَّ إطلاقه أسماءً فرنسية على أولاده على الرغم من أنه ليس فرنسيًّا)، وأحيانًا أخرى، كما في القطعة المقتبسة، في تعليقٍ ساخر على السلوك والخطاب والرموز المؤسسية التي تضغط على أعصابه.
ولقد أدخل أسلوب «جيم المحظوظ» نغمةً صوتية جديدة في القصة الإنجليزية. فهو أسلوب مهذب ولكنه لا ينتمي لطبقةٍ اجتماعية معينة؛ ولكنه غير منمَّق بالمعنى التقليدي وهو بدقَّته الشكية المفرطة، مدين شيئًا ما لفلسفة «اللغة العادية» التي سادَت أكسفورد حين كان إيميس طالبًا بها (وهو تأثيرٌ واضح بصفة خاصة في الضوء الزائف الذي يُلقيه على المشكلات التي ليست بمشكلات)، وهو يزخر بالمفاجآت الصغيرة، وتحفظات ذهنية وقلب للأوضاع، مما يفكك على نحوٍ ساخر الكليشيهات والاستجابات الجاهزة.
وديكسون لا يردُّ على الفور على سؤال ولش عن عنوان مقالته، على الرغم من أن ما أخرسه «لم يكن … هو أثر التكرار في الحديث الذي انقضى لتوِّه». فإذا لم يكن هذا هو السبب، فلماذا يذكره؟ هناك سببان لذلك: (١) التعليق بشكلٍ مجازي مسلٍّ على عادة ولش السخيفة بأن يردِّد شيئًا قاله جيم نفسه للتوِّ، وكأنما هو قد طرأ على ذهن ولش من فوره، (٢) أن ذلك يخلق تأخيرًا، لحظة صغيرة من التشويق الكوميدي، تزيد من قدر كشف السبب الحقيقي لصمت جيم، وهو شعور جيم بالحرج من اضطراره لتلاوة عنوان مقالته. وهو عنوان «كامل» بالمعنى التهكمي فحسب؛ إذ إنه يجسِّد كلَّ منحًى من مناحي الخطاب الأكاديمي الذي يزدريه جيم، «وكان ديكسون قد قرأ أو بدأ قراءةَ الكثير من مثله»، والعبارة التي وُضعت تحتها خطًّا، تُنبئنا بالكثير عن ضجر جيم ونفاد صبره عند قراءته للأبحاث الأكاديمية، وليست هناك حاجةٌ للمزيد من التعليق على تحليله المدمر للعبارة الافتتاحية للمقالة، الذي يعمد فيه إلى إخضاعِ كلِّ كلمة ذات صيغة أكاديمية تقليدية لأسئلة هازئة، ويتبع ذلك إدانة من جيم، وهي صفة من صفاته المميزة لسوءِ ظنِّه الفكري، وهي حالة سوف يخلِّص نفسه منها دون قصد في النهاية، حين يُلقي محاضرتَه وهو ثَمِل عن «إنجلترا السَّكْرَى»، وبعد ذلك أخيرًا نعرف عنوان المقالة، وهو رمزٌ للدراسة الأكاديمية الجافة التي يعرفها الكثيرُ من القرَّاء الأكاديميِّين من معارفي معرفةً وثيقة. وكان يمكن للمؤلف أن يذكر عنوان المقالة توًّا بعد سؤال ولش عنه، دون أن يُخلَّ ذلك بالتماسك السردي، وإنما سيكون ذلك بخسارة كبيرة للأثر الكوميدي.
ويصور عجز جيم على نحوٍ ماديٍّ بأنه يركب في سيارة ولش، وضحية قيادته المفزعة، وعند ذلك تبدو أهمية العبارة التافهة الزائدة التي وردت في البداية، عن تطلُّع ديكسون من نافذة السيارة إلى الحقول الخضراء؛ ذلك أن جيم ينظر عبر النافذة نفسها بعد عدة لحظات، فيُفاجأ بوجود «وجه رجل يتفرَّس فيه على بُعد حوالي تسع بوصات»، وتمزج المفاجأة هنا بالتوافق مع النمط (عدم مهارة ولش). وتخلق الدقة الهادئة للغة، «على بُعد حوالي تسع بوصات» «امتلأ رعبًا» «عمد ولش إلى تعديلها»، شعورًا بالحركة البطيئة، مما يتناقض تناقضًا كوميديًّا مع السرعة التي يقترب بها الاصطدامُ المنتظر، ولا يُقال للقارئ على الفور ماذا يحدث، بل يُترَك كيما يستنبطَه، هو وشخصية جيم في الرواية، على نحوٍ مفاجئ ومفزع، والموضوعُ كلُّه موضوعُ الوقت الذي تتكشَّف فيه الأحداث.