الواقعية السحرية
وفجأة كانوا جميعًا يغنُّون الألحان الثلاثة أو الأربعة البسيطة مرة أخرى ويُسرعون بخُطى رقصاتهم، هاربين من الراحة ومن النوم، قاهرين الزمن، ومالئين برئاتهم القوة والعزم، كان الجميع يبتسمون، وانحنى «إيلوار» على فتاة كان يُطوِّقها بذراعه، وقال: الرجل الذي يستحوذ السلام عليه لا يكفُّ أبدًا عن الابتسام.
وضحكَت ودقَّت الأرض بقوةٍ أشدَّ وارتفعَت عدَّة بوصات فوق الإفريز، جاذبةً معها الآخرين؛ وسرعان ما كانوا جميعًا لا يطئون الأرض بأقدامهم؛ كانوا يدقُّون مرتين في المكان نفسه ثم يتقدَّمون خطوة واحدة إلى الأمام دون أن يلمسوا الأرض، أجل، إنهم كانوا يرتفعون فوق ميدان «ونسسلاو» وتمثِّل حلقتهم صورةً صادقة لإكليلٍ هائلِ الحجم يطير في الهواء، وجريتُ وراءهم على الأرض، وبقيتُ أتطلَّع إليهم وهم يُحلقون في الهواء، يرفعون ساقًا في البداية، ثم الأخرى، ومن تحتهم «براغ» بمقاهيها المزدحمة بالشعراء وسجونها الممتلئة بالخونة، وفي المحرقة كانوا ينهون حرقَ أحد النواب الاشتراكيين وأحد السرياليين، وصَعِد الدخان إلى السماء كفَأل حسن، وسمعتُ إيلوار المعدني يُنشد:
الحب يعمل، إنه لا يكلُّ ولا يتعب.
وجريتُ وراء هذا الصوت عبر الطرقات آملًا أن أبقى مع ذلك الإكليل من الأجساد التي ترتفع فوق المدينة، وتبيَّنتُ والشجن يعصر قلبي أنهم كانوا يطيرون كالطيور بينما أنا أسقط كالحجر؛ إن لهم أجنحةً وأنا لن يكون لي ذلك أبدًا.
تتصف الواقعية السحرية بوقعِ أحداثٍ غريبة ومستحيلة في قصة تميل أحداثُها الأخرى إلى الواقعية، وقد ارتبطَت بصفة خاصة بالقصص المعاصر في أمريكا اللاتينية (مثلًا، أعمال الروائي الكولومبي غرسيا ماركيز)، بَيْد أننا نعثر عليها في روايات قارات أخرى؛ مثل روايات «جونتر جراس»، و«سلمان رشدي»، و«ميلان كونديرا»، وكلُّ هؤلاء الكُتَّاب قد عاصروا اضطراباتٍ تاريخيةً كبيرة، وعاشوا فتراتِ غليان شخصي رهيب، وهم يشعرون أنه لا يمكن تصويرُ كلِّ ذلك على «نحوٍ وافٍ» عبر خطاب الواقعية العادي. وربما عمل تاريخ إنجلترا الحديث، الخالي نسبيًّا من الصدمات، على تشجيع كُتَّابها على الاحتفاظ بالواقعية التقليدية. وقد جرى استيرادُ التنوع السحري في قصصنا من الخارج بدلًا من انبثاقه على نحوٍ طبيعي، رغم أن عددًا قليلًا من الروائيِّين الإنجليز قد سار على دربه، وبخاصة الروائيَّات اللواتي اعتنقنَ آراء حقوق النساء؛ مثل «فاي ولدون»، و«أنجيلا كارتر»، و«جانيت ونترسون». ونظرًا إلى أن تحدِّي قانون الجاذبية كان دائمًا حلمًا من أحلام الإنسان المستحيلة، فلا عجب أن تكثر في هذا النوع من القصص صور الطيران والارتفاع في الهواء والسقوط الحر، وفي رواية ماركيز «مائة عام من العزلة»، تصعد إحدى الشخصيات إلى السماء بينما كانت تنشر الغسيل. وفي بداية «سلمان رشدي» «آيات شيطانية»، تسقط الشخصيتان الرئيسيتان من طائرة جامبو انفجرَت في الجو، تتعلق إحداهما بأخرى ويتنافسان في الغناء إلى أن يحطَّا دون إصابات على أحد الشواطئ الإنجليزية المغطاة بالثلوج، أما بطلة رواية أنجيلا كارتر «ليالٍ في السيرك»، فهي بهلوانة تُدعى «فيفرس» ذات ريش رائع ليس مجردَ رداء للعمل، بل هو جناحان يُتيحان لها أن تطير، ورواية جانيت ونترسون «الجنس والكريز» تتضمن مدينة طائرة بسكانها؛ إذ إنه «بعد تجارب بسيطة قليلة، أصبح مؤكدًا أن الناس التي تهجر قانون الجاذبية، تهجرها الجاذبية». وفي القطعة المقتبسة من رواية «كتاب الضحك والنسيان»، يذكر الكاتب أنه قد شاهد حلقة من الراقصين يرتفعون في الهواء ويطيرون.
وكان «ميلان كونديرا» أحد الشبان التشيك الكثيرين الذين رحَّبوا بالانقلاب الشيوعي عام ١٩٤٨، آملين أن يخلق عالمًا جديرًا سعيدًا يقوم على الحرية والعدالة، وسرعان ما يخيب ظنُّه، «ويقول شيئًا كان من الأفضل ألَّا يُقال». فيُطرد من الحزب، وتُشكِّل تجاربُه بعد ذلك أساسَ روايته الأولى الجيدة «النكتة» (١٩٦٧). وفي روايته «كتاب الضحك والنسيان»، يستكشف أوجهَ السخرية العامة والمآسي الشخصية في تاريخ تشيكوسلوفاكيا الحديث، عن طريق نوعية أكثر انطلاقًا وتشظيًا، بطريقة في السرد الذي ينتقل بحريَّة بين التوثيق والسيرة والفانتازيا.
والإحساس الذي يشعر به الراوي بأنه طُرد من وسط زمالة البشر ومن الحزب، بأنه قد أصبح بلا هُوِيَّة، يستبين في صورة رمز استبعاده من حلقة الطلاب الراقصين الذين يحتفلون عادةً بالمناسبات التي يُقرُّها الحزب، وهو يتذكر يومًا معينًا في شهر يونيو ١٩٥٠، حين كانت شوارع براغ تزدحم مرة أخرى بالشبَّان والشابَّات يرقصون في حلقات وتنقَّلتُ من حلقة لأخرى، ووقفتُ أقرب ما أستطيع منهم، بَيْد أنه لم يُسمح لي بالدخول، وفي اليوم السابق جرى شنقُ سياسيٍّ اشتراكي وفنانٍ سريالي بوصفهما «أعداء للدولة»، وكان الفنان السريالي «زافيس كالاندرا»، صديقًا لبول إيلوار، الذي كان في ذلك الوقت أشهرَ شاعر شيوعي في العالم الغربي، وربما كان بمقدوره أن يُنقذه، ولكن إيلوار رفض أن يتدخل؛ فقد كان «مشغولًا تمامًا بالرقص في الحلقة الضخمة التي تُحيط … بجميع البلدان الاشتراكية وجميع الأحزاب الشيوعية في العالم، مشغولًا تمامًا بإلقاء قصائدها الجميلة التي تدور حول السعادة والإخاء».
وبينما كان كونديرا يتجول في الطرقات، إذا به يلتقي فجأةً بإيلوار نفسه يرقص في حلقة من الشباب، «أجل، لا شك في هذا، براغ كلُّها تشرب نَخْبه. بول إيلوار!» ويشرع إيلوار في إلقاء إحدى قصائده السامية والإخاء، فتأخذ القصة في «التحليق» حرفيًّا وبلاغيًّا على السواء. وترتفع حلقةُ الراقصين من الأرض وتبدأ في الطيران في الفضاء، وهذا حدثٌ مستحيل بالطبع. بَيْد أننا نُعلق إنكارنا؛ لأن الحدث يعبِّر بقوة وبمرارة عن الشعور الذي كان ينمو تدريجيًّا في الصفحات السابقة؛ فصورة الراقصين وهم يرتفعون في الهواء، وهم لا يزالون يرفعون سيقانَهم في اتساق، بينما دخانُ ضحيَّتَين من ضحايا الدولة حُرقَت جثتاهما، يصعد في نفس الهواء، ترمز إلى خداع النفس الواهم للرفاق وتَوْقهم إلى إعلان طهارتهم وبراءتهم الذاتية، وعزمهم ألَّا يرَوا الرعب والظلم للنظام السياسي الذي يخدمونه، ولكن الصورة تعبِّر أيضًا عن حسد وعزلة شخصية الراوي المؤلف، وقد نُفيَ إلى الأبد من نشوة الرقصة الجماعية وأمنها، وإحدى صفات كونديرا الأشد جاذبية هي أنه لا يدَّعي لنفسه أبدًا مكانةَ البطل الشهيد، ولا يبخس أبدًا من الثمن الإنساني الذي يدفعه المنشقُّون.
ولا أدري كيف هي وقْعُ هذه القطعة المقتبسة في الأصل التشيكي، بَيْد أنها رائعةٌ في الترجمة الإنجليزية، ربما لأنها مصوَّرة تصويرًا بارعًا، وقد قضى كونديرا زمنًا يُعلِّم فنَّ السينما في براغ، والوصف الذي تحتويه القطعة يُظهر في تكوينه حسًّا سينمائيًّا، بالطريقة التي ينتقل بها منظورها بين بانوراما من الجو ونظرة الشوق إلى أعلى من الراوي، بينما هو يجري في الطرقات، كما أن حلقة الراقصين بين الطائرة تُشبه «المؤثرات الخاصة» في الأفلام، ومن الناحية النحوية، تتألف هذه القطعة في معظمها من جملة واحدة بالغة الطول؛ عبارتها تُماثل «اللقطات»، يجمع بينها حرفُ الوصل البسيط «و» في سياق متدفق يرفض أن يُعطيَ أولوية لشعور الراوي الساخر ولا لشعوره، فكلا الشعورَين مرتبطان بطريقةٍ لا انفصام لها.