البقاء على السطح
وكان هناك الكثيرُ من المواضيع للحديث عنها؛ فقد سألَت فلورا وهي ترقد بكل ثقلها على هوارد: «ماذا يُخيفك؟» قال هوارد: «أعتقد أننا نتنافس بشدة في المجال نفسه، وهذا طبيعي؛ فدورها لا يزال وثيقَ الصلة بدوري، وهذا يُعيق نموَّها فيجعلها تشعر بالاضطرار إلى تدميري من الداخل.» تقول فلورا: «هل أنت مستريحٌ هكذا؟ ألَا أُثقل عليك؟» فيقول هوارد: «كلَّا.» تقول فلورا: «كيف تدمرك؟» يقول هوارد: «يجب عليها أن تعثر على نُقَط ضعفٍ عندي، إنها تريد أن تُقنع نفسها أنني زائف ومدَّعٍ.» وتقول فلورا: «إن صدرك رائع يا هوارد.» ويقول هوارد: «لا أظن ذلك ليس أكثر من أيِّ شخص آخر، كلُّ ما في الأمر أنني أتوقُ إلى تحقيق الأمور، أن أُدخِل بعض النظام على الفوضى، وهي ترى في ذلك نوعًا من الراديكالية.» وتقول فلورا: «آه يا هوارد، إنها أشطر مما كنت أظن، أهي تخونك؟» ويقول هوارد: «أظن ذلك، أرجو أن تُغيِّري وضعك فأنتِ تؤلمينَني.» وتهبط فلورا فترقد إلى جواره؛ ويبقيان هكذا ووجهاهما إلى السقف، في شقة فلورا البيضاء، وتسأل فلورا: «ألا تعرف؟ ألَا يهمُّك أن تعرف؟» ويقول هوارد: «لا»، وتقول فلورا: «ليس لديك أيُّ حب استطلاع، هاك موضوعًا مليئًا بعلم النفس وأنت لا تهتم به، لا عجبَ أنها تريد أن تدمرك.» قال هوارد: «نحن متفقان على أن يفعل الواحدُ منَّا ما يروقه.» وتقول فلورا: «غطِّي نفسك بالملاءة فالعرق يغمرك، هكذا يُصاب الناس بالبرد، وعلى أية حال، فأنتما باقيان معًا.» «أجل إننا باقيان معًا، ولكننا لا نثقُ ببعض.» وتقول فلورا: «آه، أجل» — وهي تنقلب على جنبها كي لا تنظرَ إليه، حتى إن ثديها الأيمن الضخم ينغمر في جسده — وتُضيف وعلى وجهها تعبيرٌ حائر: «ولكن، أليس هذا تعريفًا للزواج؟»
لقد ألمحتُ سابقًا (الفصل ٩) أن الرواية هي أفضل الأشكال في الأدب السردي لتصوير النواحي الذاتية؛ فأوائل الروايات الإنجليزية — مثل «روبسون كروزو» ﻟ «ديفو»، و«باميلا» ﻟ «ريتشاردسون» — استخدمَت اليوميات والرسائل لتقديم الأفكار الداخلية لشخصياتها في واقعية لم يسبق لها مثيل، ويمكن النظر إلى النمو اللاحق للرواية، حتى جويس وبروست على الأقل، في صورة استكشافٍ للوعي على نحوٍ تدريجي من العمق والدقة؛ ولذلك حين يختار أحدُ الروائيِّين البقاءَ على سطح السلوك الإنساني، فإننا نسجِّل غيابَ العمق النفسي باهتمام. تشربه الدهشةُ بل وربما القلق، حتى لو لم نتمكَّن من تحديدِ سبب ذلك على الفور.
ورواية مالكولم برادبري «رجل التاريخ»: رواية من ذلك النوع، هي تدور حول مدرِّس جامعي لعلم النفس، كتب لتوِّه كتابًا عنوانُه «هزيمة الخصوصية»، يُعالج فيه فرضيةَ أنه لم تَعُد هناك نفوسٌ ذات خصوصية؛ فهوارد كيرك يؤمن أن النفس قد أصبحت مفهومًا بورجوازيًّا عفى عليه الزمن، وأن أفراد الجنس البشري هم بالأحرى ربطةٌ من ردود الفعل المنعكسة، وأن السبيل الوحيد لأن يُصبح المرء حرًّا، هو أن يُحدد حبكة التاريخ (بمساعدة علم الاجتماع الماركسي) ثم يتعاون معها، وحين يُبْقِي الخطاب الروائي على سطح السلوك والبيئة، فهو يقلِّد تاريخ الفلسفة الكئيبة غير الإنسانية للحياة، على نحوٍ يبدو وكأنه يسخر منها، بَيْد أنه لا يعطي القارئ وجهةَ نظر معينة، يمكنه عن طريقها أن يشجُبَ تلك الفلسفة أو يلغيَها، وعلى الرغم من أن القصة تُروى بصفة رئيسية، من وجهة نظر هوارد كيرك، بمعنى أنه حاضر في معظم الأحداث التي تَصِفها الرواية، فإن السرد القصصي، لا يُمكِّننا من الحكم على دوافعه عن طريق السماح لنا بالدخول إلى عالم أفكاره الخاصة، وينطبق الأمرُ نفسُه على بقية الشخصيات، بمَن فيهم خصوم كيرك.
وتتكون الرواية من وصفٍ وحوار، ويركز الوصف بصورة مركَّزة على أسطح الأشياء: ديكور منزل كيرك، المعمار الكئيب غير الإنساني لمباني الحرم الجامعي، السلوك الخارجي لأعضاء هيئة التدريس والطلاب في الندوات واللجان والحفلات، ويجري تقديمُ الحوار على نحوٍ مسطح، موضوعي، دون تفسير مُمحَّص من الشخصيات، ودون أيِّ تنوع على كليشيهات الحديث التي لا صفةَ لها، قال، قالت، سأل، سألت، ودون حتى فصل كلام كل شخص في سطر جديد، ويتأكد «لا عمق» الخطاب بصورة أكبر عن طريق تفضيل استخدام الزمن الحاضر؛ ذلك أن استخدام الزمن الماضي في السرد التقليدي يلمح إلى أن السارد يعرف القصة بكاملها، وأنه قد انتهى من تقييمها بالفعل، وفي الرواية، يتتبع الخطاب السردي، بصورة سلبية، الشخصياتِ وهي تتحرك من لحظة إلى أخرى تجاه مستقبل غير معروف.
والأثر الذي يخلفه هذا التكنيك، وهو أثرٌ فكاهي ومزعج في الوقت نفسه، مدهش بوجه خاص في مشاهد الجنس التي يتوقع المرء فيها عادةً بيانًا للعواطف والأحاسيس الداخلية لشخصية واحدة على الأقل، في القطعة التي اقتبسناها هنا، يرقد هوارد كيرك في الفراش مع زميلته «فلورا بنيدورم» التي تحبُّ إقامة علاقات مع الرجال ذوي المشاكل الزوجية؛ ذلك لأن لديهم الكثيرَ مما يقولون وقد زادت حميَّتُهم من جرَّاء المناورات الأسرية المعقَّدة التي هي مجال التخصص الدراسي لفلورا؛ وهما في هذه القطعة يتحدَّثان عن علاقة هوارد بزوجته بربارا.
وهناك بالطبع فكاهة ملازِمة لفكرة تعاطي الجنس كوسيلة للكلام، خاصة عن زواج العشيق، وفي التضاد بين الاتصال الجسماني الحميم لجسدَي الشخصيَّتَين، وبين النزعة الفكرية التجريدية للحديث الذي يدور بينهما، بَيْد أن هناك ما هو أكثر من التنافر الفكاهي في الطريقة التي يتراوح بها الحوارُ ما بين الجسماني والعقلي، التافه والجاد؛ فحين يقول هوارد إن زوجته تُريد أن تُقنع نفسها بزيفه وادِّعائه يوضِّح القضية الرئيسية للرواية، وتُحاول فلورا في البداية أن تتحاشاها بلفتة تجاه الإيروسية: «إن صدرك رائع يا هوارد.» ورده: «وصدرك أنت أيضًا يا فلورا.» مضحك، ولكن على حساب مَن تكون الفكاهة؟ لا بد لنا أن نحدد موقفنا، مثلما يتعيَّن علينا تجاه السؤال الأكثر أهمية، وهو هل هوارد زائف ومدَّعٍ؟ أو هل أن تَوْقه إلى «تحقيق الأمور» هو نوع من الأمانة، مَظهر من مظاهر النشاط في عالم من الخمول الأخلاقي؟ ويؤدي غياب الولوج إلى داخلية الشخصيات، يساعد على البتِّ في هذه الأسئلة، إلى إلقاءِ عبءِ تفسيرِ كلِّ ذلك على كاهل القارئ.
وقد وجد الكثيرون أن افتقارَ النص إلى التعليقات وإلى إعطاء مؤشرات لا إبهامَ فيها على الطريقة التي يمكن بها تقييمُ الشخصيات؛ شيءٌ مزعجٌ؛ بَيْد أن هذا بلا شك هو مصدرُ القوة والإبهار فيه، ومن الشيِّق في هذا الصدد، أن نُقارن الصياغة التليفزيونية التي قدَّمتها اﻟ بي. بي. سي. عن الرواية؛ فالنصُّ الذي كتبه كرستوفر هامتون، أمينٌ تمامًا للرواية الأصلية، والإنتاج جيد للغاية من ناحية التمثيل والإخراج، وكان «أنتوني شير» مدهشًا في دور هوارد كيرك، بَيْد أنه كان عليه بوصفه ممثلًا، أن يُعطيَ تفسيرًا للدور، وقد اختار، ربما بصورة لا مفرَّ منها، يقدِّم هوارد كيرك بوضوح بوصفه مراوغًا ومستغلًّا حقيرًا للآخرين في سبيل منفعته الشخصية، وبهذا استرجعَت الصيغة التليفزيونية عبءَ التفسير، وهو ما ألقَته الرواية الأصلية في ملعب الجمهور، وكانت بذلك، رغم إمتاعها الكبير، عملًا أقلَّ كثافة. (ويجب القول أيضًا إنه في تقديم المشهد الذي اقتبسناه هنا من الرواية، انصرف انتباهُ المُشاهد عن الحوار بفعل الجمال البادي لصدر فلورا بنيدورم!)