التصوير والتقرير
«إنك يا بُنيَّ ميَّالٌ للعاطفة إلى حدٍّ كبير، وقد ركَّزتَ محبَّتَك المطلقة على تلك الفتاة، إلى درجة أنه إذا طلَب منك الله تعالى أن تتركَها، لأثَّر ذلك الفراقُ عليك تأثيرًا عظيمًا، وعلى ذلك، صدِّقني إذا قلتُ لك إن المسيحيَّ الحقَّ يجب ألَّا يضعَ عواطفَه في أيِّ شخص أو أيِّ شيء دنيوي، بالصورة إذا استدعَت معها القدرةُ الإلهية أن تحرمَه منها، يكون قادرًا على تقبُّل ذلك الحرمان في هدوء وسلام وغبطة.»
وفي تلك اللحظة، دخل أحدهم إلى الغرفة مسرعًا ليُخبرَ مستر آدمز أن ابنَه الأصغر قد مات غريقًا، وبقيَ القَسُّ صامتًا عدة لحظات، ثم أخذ يذرع الغرفة جيئةً فقد استجمع قواه بما يكفي، كلٌّ يحاول مواساةَ القس، مستخدمًا في ذلك الكثيرَ من الأقوال التي كان القَسُّ يُردِّدها في مواعظِه، في المناسبات الخاصة أو العامة على السواء (فقد كان معروفًا عنه أنه عدوٌّ لدودٌ للعواطف، وأن أكثر عظاته تنصبُّ على وجوب قهرها عن طريق الحُجَّة والقناعة)، بَيْد أن القَسَّ لم يكن مقدوره أن يَعِيَ نصائحَه الآن.
وقالت مسز آدمز: «وعلاوة على ذلك كان صبيًّا وسيمًا، وكانت قد أفاقَت من إغماءة بين يدَي فاني»، حين سمعت الخبر الحزين.
وبكى القَسُّ قائلًا: «يا لَجاكي المسكين! ألن نراه مرة أخرى؟»
وقال جوزيف: «بالطبع ستراه؛ في عالم أفضل، سوف تلتقيان مرة أخرى ولن تفترقا بعدها أبدًا.»
وأعتقد أن القَسَّ لم يسمع تلك العبارة؛ لأنه لم يكن ليُصغيَ لما يقوله جوزيف وكان مستمرًّا في شكواه، بينما الدموع تنساب بغزارة على وجنتَيه، وصاح أخيرًا «أين هو صغيري العزيز؟» وكان على وشك الخروج من المنزل حين وجد نفسَه، لبالغِ دهشتِه وفرحِه، ذلك الفرح الذي لا شك سيُشاركه القارئ فيه، وجهًا مع ابنه، ذاك الذي كان، رغم بللِه الشديد، ما يزال حيًّا ويجري نحو أبيه في لهفة.
يتناوب الخطاب القصصي دومًا بين أن يصوِّر لنا ما حدث وأن يقرِّر لنا ما حدث وأن يُخبرنا به. وأنقى شكل من أشكال التصوير هو الكلام المقتبس للشخصيات، وفيه تُصوِّر اللغةُ الحدثَ تصورًا تامًّا (لأن الحدث هو شيء لغوي). أما الإخبار في أنقى أشكاله فهو التلخيص الذي يقوم به المؤلف، وفيه يمحو تحديد وتجريد لغة الراوي فردية وخصوصية الشخصيات وأعمالها؛ ولذلك السبب، فإن الرواية التي تُكتب كلها في صورة تلخيص للأحداث، لا يمكن قراءتها بسهولة، بَيْد أن للتلخيص فوائدَه: فهو يعمل، مثلًا، على الإسراع بإيقاع القصة، ويدفع بنا إلى المرور سريعًا على أحداث قد تكون غيرَ مشوقة، أو مشوقة أكثر من اللازم، بحيث تعمل على تشتيتِ انتباهنا إذا زادت عن الحد، ومن السهل دراسةُ أثرِ كلِّ هذا في عمل هنري فيلدنج؛ لأنه كان يكتب قبل أن يتمَّ اكتشافُ تقنيةِ الأسلوب الحر غير المباشر؛ حيث ينصهر معًا كلامُ المؤلف وكلام الشخصيات (انظر الفصل ٩)؛ ففي روايات فيلدنج تستبين الحدود ما بين هذين النوعين من الخطاب على نحوٍ لا لبس فيه.
والقسُّ أبراهام آدمز رجلٌ محسن كريم لا يهتمُّ بمتاع الحياة الدنيا، ولكنه أيضًا شخصية كوميدية من الطراز الأول — أحد أعظم الشخصيات الكوميدية في الرواية الإنجليزية — لأنه يقع على الدوام في أمور متناقضة؛ فهناك دائمًا تفاوتٌ بين فكرته الخاصة عن العالم (المليء بالأشخاص المحبِّين للخير مثله) وبين ما عليه العالم في الواقع (مليء بالانتهازيِّين الأنانيِّين)، وبين ما يدعو إليه (مسيحية أكثر صرامة وجمودًا)، وبين ما يمارسه (رابطة إنسانية فطرية مشتركة)، وهذا التناقض بين الوهم والحقيقة (الذي استعاره فيلدنج باعترافه من تصوير سرفانتس لدون كيخوته) يجعل منه شخصيةً فكاهية على الدوام، ولكنها شخصيةٌ محبَّبة؛ لأن قلبه يقع في موقعه الصحيح حتى ولو كانت أحكامُه لا يُوثَق بها.
وفي تلك الفقرة، يُحاضر القَسُّ آدمز بطلَ الرواية جوزيف عن تَوق هذا الأخير إلى الزواج من حبيبته فاني، التي التقى بها ثانيةً لتوِّه بعد فراقٍ طويل مليء بالأخطار، ويُخضع آدمز الشابَّ لموعظة طويلة، محذِّرًا إيَّاه من وباء الشهوة، ومن عدم وضع ثقة المرء في القدرة الإلهية، وهو يستعين بمثال إبراهيم في العهد القديم، الذي كان على استعداد للتضحية بابنه إلى الله لو لزم الأمر، وقد وردَت الموعظة بكاملها، «مصوَّرة»، وما كاد آدمز يُعلن أن علينا دائمًا أن نقبلَ بهدوء التضحية التي يطلبها الله منَّا، حتى تتعرَّض مبادئُه للاختبار على نحوٍ قاسٍ: «وفي تلك اللحظة، دخل أحدُهم إلى الغرفة مسرعًا ليُخبرَ السيد آدمز أن ابنَه الأصغر قد مات غريقًا»، وهذا هو أبسط نوع من أنواع التلخيص، وكلمة «يخبر» تبدو باردةً ورسمية في سياقها، كما أننا لا نعرف مَن هو الذي قام بذلك الإخبار، ويتم أيضًا تلخيصُ لوعات الأب المحزون، ومحاولات جوزيف مواساتَه، بَيْد أن رفضَ آدمز لنُصح جوزيف «مصوَّر»، ومسرود بالكامل، فقال «يا بني، لا تطلب مني المستحيل …» من أجل التأكيد على التناقض بين عملِ القَسِّ وعظاتِه.
وفيلدنج يقوم بلعبة خطرة هنا؛ فمن ناحية يقوم بتسجيل التناقض بوصفه التأكيد الكوميدي لصفة مألوفة في التشخيص، ومن ناحية أخرى، ليس هناك شيءٌ فكاهيٌّ في شأنِ موتِ أحد الأطفال؛ ولذلك فإن ميلَنا إلى الابتسام من إخفاق أبراهام آدمز في التشبُّه بسميِّه التوراتي في تضحية، يحدُّ منها دراميَّةُ موقفِه وطبيعيَّةُ حزنِه، ونحن نتردَّد ولا ندري كيف نستجيب.
ومع ذلك، فقد أعدَّ فيلدنج مخرجًا من تلك الورطة، بالنسبة للشخصية والقارئ على حدٍّ سواء؛ فبعد سطور قليلة أخرى من الرثاء من مستر ومسز آدمز، ومحاولات لا مُجدية من جوزيف لمواساتهما، يكتشف آدمز بعد كلِّ شيء أن ابنَه لم يغرق، وبالطبع لم يَطُل الوقت بآدمز، قبل أن يواصل بنشاط موعظته لجوزيف، عن الرضوخ المسيحي لأوامر الله.
وكان تفسير الراوي لعدم وفاة الطفل هو أن «الشخص الذي حمل نبأَ المأساة كان توَّاقًا بطبعه، مثل بعض الناس الذين لا ينطقون من أسباب موضوعية، إلى نقلِ الأخبار السيئة؛ ولما كان قد شاهد الطفل يقع في النهر، قام، بدلًا من أن يهرع إلى معونته، بالجري مباشرةً ليُخبرَ الأب بالمصير الذي توقَّع أن يكون محتومًا»، وتركه كيما يُنقذَه شخصٌ آخر، وهذا التفسير مقبول في جزء منه؛ لأنه ينتمي إلى سلسلة من الأمثلة على الحماقة والشرور البشرية، التي وردَت طوال الرواية، وفي جزء آخر لأنه جاء بسرعة جدًّا بعد وقوع الحدث، ولو أن شخصيةَ حاملِ الخبر السيِّئ، قد فُصِّلت بعضَ الشيء، ووردَ حديثُه الذي يَصِف الحادث بصيغةِ الحديث المباشر، لجاء إيقاعُ المشهدِ كلِّه أكثرَ واقعية، ولكان أثرُه الانفعاليُّ تامًّا، ولكانت ظروفُ غرقِ الطفل قد اكتسبَت خصوصيةً مؤلمة، ولضاعَت بذلك النبرةُ الكوميدية للرواية ضياعًا لا مردَّ له، وفي تلك الحالة، حين يظهر أن الخبرَ كان كاذبًا، كنَّا سنشعر نحن القرَّاء أن المؤلف قد استغلَّنا، وتجنَّب فيلدنج هذه الآثار غير المستحبة عن طريق الاستخدام الحصيف للتلخيص.