التحدث بأصوات مختلفة
كان «كريستي» هو الأعزب، محط الأنظار في ذلك العالم؛ فبينما كانت ثلوج الشتاء تنتشر في كلِّ مكان شهرًا وراء شهر، ونصف أوروبا يتضوَّر جوعًا، وقاذفات القنابل تحمل الغذاء لألمانيا بدلًا من القنابل، والغاز يتضاءل إلى شعلة واهية، وأنوار المصباح الكهربائية تخفق، والغرباء يتجمَّعون مع بعضهم البعض طلبًا للسلوى — كان كريستي يتلألأ أمام «جريس» كشعاع الأمل والرجا، كان يُبهرها كرمزٍ للرجولة في صراحته واعتداله (ولكن في حدود الزواج فحسب)، كان كريستي هو مطمح جريس، لم يكن يهمُّها الحصول على شهادة أو وظيفة ولا إعجاب مَن حولها، لا شيء من هذا، كريستي وحسب.
كانت تحبُّه، أجل، تحبُّه كلَّ الحب، كانت دقَّات قلبها تتسارع عند رؤيته، وتلتهب أحشاؤها بالشوق، بَيْد أنها لن تستسلمَ لأحضانه ولا يمكنها أن تفعل ذلك، وهو يصطحبها في قاربه، في غاية التهذيب «أجل، إنه يُحسن ركوبَ البحر»، وتسلُّقَ الجبال، حيث يكون أقلَّ تهذيبًا، «أجل، إنه يُحسن التسلُّق»، وهو يعرض أن يشتريَ لها شقَّة، «أجل، إن معه ما يُمكِّنه من ذلك»، ولكنها لا تقبل ذلك، لا أريد مجوهرات، شكرًا يا كريستي، لا أريد ساعاتِ يد، لا أريد هدايا، لا أريد رشاوى يا عزيزي، شكولاتة، أجل، شكرًا! وزهور الأوركيد ودعوات للعشاء وتاكسي للعودة إلى البيت وقُبلة، أجل وأجل يمكنك أن تلمس صدري (يا لَك من شقي!) وبسرعة، بسرعة، مساء الخير يا كريستي، يا صاحبي، يا حبيبي يا أعزَّ الأعزاء، إني أُضحِّي بحياتي من أجلك ولكنني لن أنام معك.
ويتوقف كريستي في حي «سوهو» في طريقه إلى بيته، ويقضي ساعة مع إحدى العاهرات، فكيف يمكنه بغير ذلك أن يتحمل؟
إنها تحبُّه وتريد الزواج منه، فكيف يمكنها بغير ذلك أن تتحمل؟
في الفصل السابق، ألمحتُ وأنا أناقش التناوبَ المتوازن بين التقرير والتصوير، في رواية هنري فيلدنج «جوزيف أندروز»، أن أيَّ رواية مكتوبة بحالها في شكل تلخيص للأحداث لن تكونَ روايةً مقروءة، بَيْد أن عددًا من الروائيِّين المعاصرين قد قطعوا عامدين شوطًا بعيدًا في هذا الاتجاه، دون أن يتعينَ عليهم دفع هذا الثمن الباهظ؛ فالسرد الذي يعتمد على طريقة التلخيص يبدو مناسبًا لذوقنا الحديث فيما يتعلق بالسخرية وسرعة الإيقاع والتركيز، وهي طريقة فعَّالة بوجهٍ خاص، لتناوُلِ عددٍ كبير من الشخصيات، ولقصةٍ تُبسط أحداثُها عبر فترة طويلة من الزمن، دون أن تقعَ في مستنقع الإيقاعات الزمنية البطيئة، والتفاصيل الكثيفة التي وقعَت فيه الرواية الكلاسيكية (وقد استخدمتُ أنا نفسي هذه الطريقةَ في روايةٍ عنوانها «ما هي إمكانياتك؟») بَيْد أنه لا بد من الحرص على ضمان ألَّا يُصبحَ أسلوبُ التلخيص متماثلًا في كلماته وعبارته بصورة رتيبة، وتشتهر روايات «فاي ولدون» التي تستخدم التلخيصَ بكثرة، بإيقاعها السردي المحموم وبحيوية أسلوبها على حدٍّ سواء.
وتقصُّ رواية «الصديقات» أحوالَ ثلاث نساء خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، مع التركيز على تجاربهن الجنسية والزوجية، على خلفية من العادات الاجتماعية التي تتغير بسرعة، وهي تُصور النساءَ عمومًا بوصفهن ضحيةً لا حيلةَ لهن لغرائزهن وقلوبهن، يشتقنَ إلى الأزواج والمحبِّين، حتى لو لم يلقينَ منهم إلَّا الإساءة والخيانة، ويُصور الرجال أيضًا كضحايا لا حيلة لهم، لأنانيَّتِهم وشهيَّاتِهم الجنسية، بَيْد أنهم بطبيعتهم ميالون للتنقل بين النساء، قد استفادوا من الانفتاح الأخلاقي الذي طرأ على المجتمع أكثر من استفادة الشخصيات النسائية، ولكن القطعة المقتبسة هنا تتناول فترةً أسبق من ذلك الانفتاح، في أربعينيات القرن العشرين، حين لم يكن الفتيات المحتشمات يفعلنَ ما تفعله فتياتُ اليوم، وكان بوسعهن استغلال تلك الفرضية للمساومة في الحرب الدائرة بين الجنسين، وجريس في الواقع ليست عذراء، ولكنها تتظاهر بذلك، فهي تعلم أن كريستي «يشعر أن العذرية شيء أساسي لدى المرأة التي يحبُّها، بينما هو يبذل قصارى جهده كيما يُخلصَها من تلك العذرية»، وهكذا يقع كلا الشخصيَّتَين بصورة كوميدية في التناقض والنفاق.
وتُصور الفقرة الأولى من القطعة سياقَ الفترة التي تحكي عنها — التقشف، نقص المواد، الحرب الباردة — في توالٍ سريع من الصور، كالمونتاج السينمائي، ثم تُقابل بصورة ساخرة بين انشغالِ بالِ جريس بعاطفتها الخاصة، وبين أوجه الشقاء والقلق العامة؛ فبينما يتضور نصفُ أوروبا جوعًا، لا تستطيع جريس أن تفكر إلَّا في الطريقة التي تُقنع بها كريستي أن يتزوجَها، وقد نسيَت تمامًا طموحاتِها في أن تُصبح رسَّامة (فهي طالبة في كلية «سليد» في هذه النقطة من نقاط الرواية): «كان كريستي هو مطمح جريس، لم يكن يهمُّها الحصول على شهادة أو وظيفة ولا إعجاب مَن حولها»، ويبدأ الخطاب هنا في الانتقال من تلخيص للأحداث إلى تلخيص لأفكار جريس، وهو شيء يبدو أكثرَ ظهورًا في نهاية الفقرة التالية.
والواقع أن ما نجده هنا ليس أسلوبًا واحدًا متسقًا كصوت المؤلف في رواية فليدنج «جوزيف أندروز»، بل مزيجًا متعددًا من الأساليب، أو الأصوات، تُصوَّر من خلالها المناوشاتُ الجادَّة والفكاهية للتودُّد بين كريستي وجريس بصورة ولكن موجزة: «كانت تحبُّه، أجل، تحبُّه كلَّ الحب، كانت دقاتُ قلبِها تتسارع عند رؤيته، وتلتهب أحشاؤها بالشوق»، ويبدو الراوي هنا وكأنه قد استعار الخطابَ الأدبيَّ التقليديَّ للحب — الخطابات الغرامية، الشعر الغرامي، القصص الغرامية؛ فعبارة أنها لا يمكنها الاستسلام لأحضانه هي إكليشيه مأخوذ بحرفة من قصص «ميلز وبون» الرومانسية — وتُبرز صفتُها الساخرة زيفَ سلوك جريس، والعبارات التي وردت بين قوسين في الجملة التالية (أجل إنه يُحسن ركوب البحر … أجل إنه يُحسن التسلُّق … أجل إن معه ما يُمكِّنه من ذلك) قد تَبِين عن الراوي الذي يستبق أسئلة القارئ، مسلِّمًا بتأخر إيراد تلك المعلومات، ولكنه لا يعتذر عن ذلك التأخير، أو ربما تكون تلك العبارات أصداء لتفاخر جريس بكريستي أمام صديقاتها. (وثَمة تعقيدات أخرى هي أن الراوي تقوم بدوره إحدى أولئك الصديقات واسمها كلو، وهي تكتب عن نفسها بضمير الغائب وتتقمص الروائي في معرفته الشاملة بالأفكار الداخلية للشخصيات الأخرى).
«لا مجوهرات، شكرًا يا كريستي، لا ساعات يد، لا هدايا، لا رشاوى يا عزيزي … شكولاتة، أجل، شكرًا!» هذا كلُّه مثله مثل بقية الفقرة، هو من الناحية النحوية كلامُ جريس المباشر، ولكنه لا ينحصر بين علاماتِ تنصيص في النص، كما أنه ليس تسجيلًا لأقوالٍ ردَّدَتْها جريس في مناسبة واحدة، إنما هو كلام مباشر يؤدي عمل التلخيص، واختصار لما قالَته جريس في عدة مناسبات مختلفة أو جال بخاطرها أو ضمنًا، من الممكن أن تكون قد قالت «مساء الخير»، وربما أيضًا «يا صاحبي، يا حبيبي، يا أعز الأعزاء»، ولكن المستحيل هو أن تكون قد قالت «إني أُضحِّي بحياتي من أجلك ولكني لن أنام معك»، وهو سطرٌ يبدو أنه قد خطر على بالها من مصدر أدبي لا تتذكره جيدًا، والقطعة عبارة عن فقرتَين قصيرتَين متسقتَين، تُلخصان المأزق الجنسي في صوت سردي يردِّد أصداءَ حججِ كلِّ شخصية على نحوٍ جافٍّ.
وهذه القطعة مثالٌ صادق، ولا يمنع ذلك أن تكون نموذجًا لصفة من صفات النثر الروائي، التي أطلق عليها الناقدُ الروسي ميخائيل باختين «تعدد الأصوات»، وأحيانًا «التحاورية» (قد يرغب القُرَّاء الذين ينفرون من النظرية الأدبية في تخطِّي بقية هذا الفصل، رغم أن موضوعه يتجاوز الاهتمامَ بالنظريات؛ إذ إنه يتكلم في لُبِّ تمثيل الرواية للحياة)، فوفقًا لباختين، تتصف لغة الملحمة والشعر الغنائي التقليديَّين، ولغة العرض النثري، بأنها «مونولوجية»، أي تسعى إلى أن تفرض على العالم رؤيةً واحدة أو تفسيرًا مفردًا عن طريق أسلوب وحدوي مفرد، أما الرواية فهي على نقيض ذلك «تحاورية»، تشتمل على أساليب، أو أصوات مختلفة كثيرة، تتكلم مع بعضها البعض، ومع أصوات أخرى خارج النص، خطاب الثقافة والمجتمع على إطلاقهما، وتقوم الرواية بذلك بطرق متعددة؛ ففي أبسط مستوى، هناك تناوب صوت الراوي وأصوات الشخصيات التي تُقدَّم حسب الصفات اللغوية الخاصة بطبقتها ومنطقتها الجغرافية ومهنتها وجنسها، وغير ذلك، ونحن نأخذ هذه الأمور في الرواية كشيءٍ مسلَّم به، بَيْد «أنها كانت ظاهرةً نادرة نسبيًّا في الأدب القصصي قبل عصر النهضة، وهناك لقيطٌ في رواية تشارلز ديكنز صديقنا المشترك اسمه «زقزق» تتبنَّاه سيدةٌ عجوز تُدعى «بتي هجدن».» والتي ترى أنه موهوب على نحوٍ خاص، وهي تقول: «ربما لا يخطر على بالك، ولكنَّ زقزق قارئٌ جميلٌ للصحف، وهو يقلد رجال الشرطة بأصوات مختلفة.» والروائيون يُقلدون رجال الشرطة بأصوات مختلفة.
وقد كتب باختين: «وبالنسبة للفنان الذي يستخدم النثر، يملأ العالمَ بكلمات الناس الآخرين، الذين يجب عليه أن يطوف وسطهم، وأن يكون بمقدوره إدراكُ كلامهم بآذانٍ واعية، ويجب عليه أن يقدِّم هؤلاء الآخرين في مستوى سطح خطابه الذاتي، وإنما بطريقة لا يدمر بها ذلك المستوى.» وبوسع الروائيِّين القيام بذلك بطرق متعددة؛ فعن طريق تكنيك الأسلوب الحر غير المباشر (انظر الفصل ٩)، بوسعهم أن يمزجوا بين صوتهم وأصوات شخصياتهم من أجل عرض الأفكار والعواطف، وبوسعهم أن يخلعوا على صوتهم السردي الذاتي نوعًا مختلفًا من التلوين لا دخل له بالشخصية؛ فهنري فيلنج، مثلًا، يسرد قصتَه بأسلوب تهكمي-بطولي، مطبِّقًا لغةَ الشعر المحلي الكلاسيكي والنيوكلاسيكي، على المشاحنات السوقية أو اللقاءات الغرامية، وهناك وصفةٌ لجهود مسز وترز لإغراء توم جونز، بطل الرواية المسمَّاة باسمه، هما يتناولان العشاء:
أولًا، من عينَين زرقاوَين جميلتَين، اللتين تُطلِق مُقلتاهما الزاهيتان برقًا لامعًا، طارَت نظرتان غراميتان حادَّتان، ولكن لحسن حظِّ البطل، وقعتَا على شريحة كبيرة من اللحم كان ينقلها في تلك اللحظة إلى طبقِه، ففقدتَا قوتهما دون أن تُحدثا أيَّ ضرر.
وهكذا، وقد أطلق باختين على هذا النوع من الكتابة «الخطاب الثنائي التوجه»؛ فاللغة تقوم في وقت واحد بوصف الحدث وتقلِّد أسلوبًا معينًا في الكلام أو الكتابة، وفي هذه الحالة يتم خلقُ أثرٍ من آثار المحاكاة التهكمية؛ لأن الأسلوب لا يتفق مع الموضوع؛ ولذلك تبدو اللوازم الكلامية سخيفة وزائفة، بَيْد أن الهُوَّة التي تفصل الموضوع والأسلوب هي أقل ظهورًا في رواية فاي ولدون؛ لأن اللغة التي تستعيرها من الروايات الأدبية الرومانسية والمجلات النسائية البرَّاقة تتفق مع الموضوع، مع بعض المبالغة وكثير من الكليشيهات، وربما وجب أن يَصِف المرءُ هذا النوع من الكتابة بطريقة «القص واللصق»، عنه بطريقةِ المحاكاة التهكمية، أو أن يستخدم اصطلاحَ باختين نفسه «الأسلبة» (إخضاع الأسلوب لطابع أو نمط معين)، وتصنيفُ باختين لمختلف مستويات الكلام في الخطاب الروائي تصنيفٌ معقد، ولكن نقطته الرئيسية بسيطة؛ فلغة الرواية ليست بلغة، بل مزيج من الأساليب والأصوات، وهذا بالتحديد هو ما يجعلها شكلًا أدبيًّا ديمقراطيًّا ومناهضًا للشمولية؛ حيث لا يكون أيُّ موقف أيديولوجي أو أخلاقي معصومًا من الطعن فيه ومخالفته.