حِسٌّ من الماضي
لم يكن رصيف البناء الكبير يخلو من الناس في ذلك الصباح؛ كان هناك صيادون يُصلحون شباكَهم وأدواتِ صيدهم، أو يُعدِّون السِّلال الخاصة بالكابوريا وأبو جلمبو، وكان هناك كذلك أناسٌ من طبقات أعلى، زائرون مبكرون، وسكان محليُّون، يتمشَّون إلى جوار البحر الذي كان لا يزال فائضًا وإن كان قد هدأ الآن، ولاحظ «تشارلز» أنه لا يوجد أثرٌ للمرأة التي كانت تُحدِّق فيه، بَيْد أنه لم يفكر مرة أخرى فيها، أو في منطقة «الكُب»، وحث السَّير بخطوة سريعة مرنة تختلف تمامًا عن طريقةِ سيرِه المتمهل في المدينة، على طول الشاطئ نحو هدفِه، عند جرف «وير كليفز».
ولو رأيتَه لابتسمتَ؛ لأنه كان مجهَّزًا على أفضل وجهة للمهمة التي أمامه، كان يرتدي حذاءً برقبةٍ متينًا مطوَّقًا بالمسامير، و«توزلوك» من الكتَّان طويلًا كيما يطوِّقَ بنطلونه «النورفوك» المصنوع من قماش الفانلة الثقيلة، وكان يرتدي معطفًا ضيقًا شديد الطول يلائم ما تحته، وقبَّعة من الكتَّان لونها بيج وذات حوافَّ مرفوعةٍ إلى أعلى وعصًا غليظة كان قد اشتراها وهو في طريقه إلى منطقة «الكُب»، وحقيبة ظهر جسمية، بوسعك لو هززتَها أن تسقط منها مجموعةٌ كاملة من المعاول والمظاريف والكراسات وعُلَب العينات والقودايم وما لا يعلمه إلا الله، فليس هناك من شيء يستغلق على أفهامنا أكثر من إفراط أهل العصر الفيكتوري في التدقيق في كلِّ شيء، ويرى المرء ذلك على أفضل وجه (وأسخفه كذلك) في النصيحة التي تُسدَى إلى المسافرين في الطبعات الأولى من دليل «بيدكر» السياحي، ويتساءل المرء إن كان قد بقيَ لهم من شيء يستمتعون به في رحلتهم بعد كلِّ ذلك، وفيما يختص بشارلز: كيف أنه لم يرَ أن الثياب الخفيفة كانت أنسبَ له في مهمته؟ وأنه لا ضرورةَ أبدًا للقبعة؟ وأن أحذية الرقبة المتينة المطوَّقة بالمسامير لا تتناسب مع شاطئ من الرمال والحصى إلا كما تتناسب معه زلاجاتُ الانزلاق على الجليد.
إن أولَ كاتبٍ استخدم الروايةَ لابتعاثِ حسٍّ من الماضي، على نحوٍ محدد مقنع، هو السير والترسكوت، في رواياته عن اسكتلندا في القرنَين السابع عشر والثامن عشر، مثل «ويفرلي» (١٨١٤)، و«قلب مدلوثيان» (١٨١٦)، وكانت تلك الرواياتُ رواياتٍ تاريخيةً، من حيث إنها عالجَت شخصياتٍ وأحداثًا تاريخية؛ بَيْد أنها بعثَت الماضيَ أيضًا فيما يتصل بالثقافة والأيديولوجية والعادات والأخلاق، عن طريقِ وصفِ مجموع «طريقة حياة» الناسِ العاديِّين، وقد مارس سكوت، بعمله ذاك، تأثيرًا عميقًا على التطور اللاحق للنثر القصصي، ولقد قيل إن الرواية الفيكتورية هي نوعٌ من الرواية التاريخية، ولكنها تدور في الزمن المعاصر لها، وكثيرٌ من الروايات الفيكتورية (مثل «ميدل مارش»، و«سوق الغرور»)، اتخذَت في الواقع زمنًا ماضيًا عن وقت تأليفها، إذا كانت أحداثُها تجري في فترة الطفولة والشباب التي عاشها مؤلفوها؛ وذلك من أجل إبراز ظاهرة التغيُّر الاجتماعي والثقافي، ولكن القارئ الحديث لا يستطيع أن يُدرك هذا الأثرَ بسهولة، خُذ، على سبيل المثال، الفقرة الافتتاحية من رواية «سوق الغرور» لثاكري:
في صباح يوم من أيام يونيو المشمسة، حين كان القرن الحالي لم يُكمل سنواتِه العشرين، دلفَت إلى البوابة الحديدية الضخمة لأكاديمية البنات التي تُديرها «مس بنكرمون» في «تشويك مول»، عربةٌ عائلية كبيرة، يقودها حصانان سمينان، ويسوقها حوذيٌّ سمين يرتدي قبَّعةً مثل الأركان وشَعرًا مستعارًا، بسرعة أربعة أميال في الساعة.
فالزمن الذي كتب فيه ثاكري هذا، وهو أواخر الأربعينيات من القرن التاسع عشر، يبدو بعيدًا لنا بنفس قدر بُعد الزمن الذي يكتب عنه بالنسبة له هو نفسه، بَيْد أن ثاكري كان يهدف بوضوح أن يبعثَ إحساسًا مرحًا، وربما متعاطفًا بعضَ الشيء بالحنين إلى الماضي، فبالنسبة له ولقُرَّائه، كان عصرُ السكك الحديدية والقطارات قد دخل فيما بين عشرينيات وأربعينيات ذلك القرن الذي يعيشون فيه، ولفتَت الإشارةُ إلى السرعة المتدنِّية للعربة الانتباهَ إلى خُطى الحياة الأكثر دعة في الفترة السابقة، كما أن وصف قبَّعة الحوذي وشعره المستعار، يمكن أن يكون أيضًا من المؤشرات التي جرى بثُّها بعناية لتُصور الفترة التي تحكيها الرواية، موجهةً للقُرَّاء الأوائل أكثر منها لنا نحن الآن.
ولقد ظل الماضي القريب موضوعًا مفضلًا للروائيِّين حتى عصرنا الحالي، ومن الأمثلة العديدة على ذلك رواية «فاي ولدون» المعنونة «الصديقات»، بَيْد أن هناك فرقًا كبيرًا بين القيام بذلك، وبين الكتابة عن الحياة في قرنٍ ماضٍ، خاصة حين تكون تلك الحياة قد وصفها بالفعل كتَّابُها المعاصرون على نحوٍ مشهود، فكيف يمكن لروائي في أواخر القرن العشرين أن ينافس «تشارلز ديكنز أو توماس هاري» في تصوير رجال ونساء القرن التاسع عشر؟ والإجابة على ذلك هي أنه لا يمكنه ذلك بالطبع، وكل ما يستطيعه هو أن يعرض سلوك القرن التاسع عشر من منظور القرن العشرين، وربما يكشف بذلك أشياء عن الفيكتوريِّين، ربما لم يكونوا هم أنفسهم يعرفونها، أو يفضِّلون كَبْتها، أو ببساطة لا يشعرون بها.
ونحن إذا قرأنا الفقرة الأولى من القطعة المقتبسة من رواية «عشيقة الضابط الفرنسي»، خارج سياقها، لكان من الصعب علينا أن نحدِّد متى كُتبت؛ ذلك لأنها تركز على صفات «لا زمان لها» للبلدة الساحلية للرواية، «لايم ريجيس» (الصيادون وشبكاتهم وسلال أبو جلمبو، والمتنزهون على الشاطئ)، ولأنها مكتوبة وفقًا لتقاليد نوع معين من الواقعية القصصية، استمرَّ وجوده خلال السنوات المائتين الأخيرتين، وإن وصف المشهد من خلال وجهة نظر «تشارلز»، وهو يبدأ رحلةً استكشافية لجميع الحفائر، يلخص بمهارة المسألة الرئيسية ذات الأهمية القصصية في الرواية حتى آنذاك، وهي هُوِيَّة المرأة الغامضة التي رآها في منطقة «الكُب» عندما كان الجو عاصفًا، والاستعمال القديم شيئًا ما، لكلمة «مرنة» (بالإنجليزية)، هو وحده الذي يُلمح إلى أننا أمام رواية فيكتورية أو تقليد حديث لها.
ومع ذلك، فإن الفقرة الثانية تكشف بوضوح المسافةَ الزمنية التي تفصل بين المؤلف، ومن ثَمة القارئ، وبين أحداث الرواية التي تقع عام ١٨٦٧، مائة سنة بالضبط قبل الوقت الذي كان فاولز يكتبها فيه، والملابس مؤشرٌ واضح للزمن في الرواية (خاصة في صِوَرها الشعبية، والدليل على ذلك تعبيرات مثل «دراما بملابس عصرها» و«رواية المعطف والسيف»)، ويمكن جمعُ معلومات عن نوعية الملابس التي كان يرتديها الناس في أزمان أخرى، عن طريق البحث التاريخي، مثلما لا بد فعل فاولز، بَيْد أن ما عنَته ملابس تشارلز ومعداته بالنسبة إليه وإلى معاصريه (وهو أنه من السادة ويعلم الطريقة الصحيحة لأداء الأمور) يختلف عمَّا تَعنيه تلك الأشياء بالنسبة لنا: طابعها المفرط وعدم ملاءمتها ولا مناسبتها للمهمة المهيَّأ لها، وما يُنبئنا به كلُّ ذلك عن قِيَم العصر الفيكتوري.
واختلاف المنظور في الفقرتين، من الإحياء الخيالي للماضي في الفقرة الأولى، إلى الاعتراف الصريح بالانفصال عنه في الثانية، من خواص أسلوب فاولز في الرواية، بالفقرة التي اقتبستها، تستمر بعد ذلك كما يلي:
«حسنًا، إننا نضحك، ولكن ربما كان هناك شيء محبَّب في هذا الفصل، بين ما هو مريح وبين ما هو مُستصوَب، وها نحن مرة أخرى نصادف هنا، ما بين قرن وقرن، اختلافًا في المفهوم الأساسي وهو: هل ينبغي أن يكون الواجب هو أساس سلوكنا أم لا؟»