تخيل المستقبل
كان يومًا باردًا ناصعًا من شهر أبريل، وكانت الساعات تدقُّ الثالثة عشرة. وانسلَّ ونستون سميث وقد استكنَّ ذقنُه إلى صدره في محاولة منه للهرب من الرياح اللعينة، من الأبواب الزجاجية ﻟ «بيوت النصر» ولكن ليس بالسرعة الكافية لمنع دوَّامة من التراب الرملي من الدخول معه.
كانت الردهة تعبق برائحة الكرنب المسلوق والحصير القديم المهلهل. وفي إحدى نهايات الردهة، كان معلَّقًا على الجدار ملصقٌ ملون يزيد حجمُه على الحجم الطبيعي للملصقات الداخلية، يصوِّر فحسب وجهًا ضخمًا يزيد عرضُه على المتر، وجه رجل في الخامسة والأربعين من عمره تقريبًا، ذي شاربٍ كثٍّ أسود وملامح وسيمة قاسية. وتوجَّه ونستون إلى السلالم؛ فقد كان من العبث محاولةُ ركوب المصعد. كان المصعد، حتى في أفضل الأوقات، نادرًا ما يعمل، والتيار الكهربائي مقطوع الآن استعدادًا لأسبوع الكراهية، كانت شقتُه في الدور السابع، ولما كان في التاسعة والأربعين من عمره ويشكو من دوالٍ متقرِّحة في كاحله الأيمن؛ فقد طفق يصعد ببطء ويستريح مرات عديدة في الطريق، كان الملصق ذو الوجه الضخم يحدق من الحائط عند كلِّ بسطة للسلالم في مواجهة باب المصعد، كان من تلك الصور المعدَّة على نحوٍ خاص بحيث تجعل العينين تتبعانك وأنت تتحرك، وكانت الكتابة تحتها تقول «الأخ الأكبر يراقبك».
وفي داخل الشقة، كان ثَمة صوتٌ رخيم يقرأ قائمة بأرقام تتعلق على نحوٍ ما بإنتاج الحديد الخام، وكان الصوت يأتي من شاشة معدنية مستطيلة كالمرآة الصَّدِئة، كانت تشكِّل جزءًا من سطح الجدار الأيمن، وأدار ونستون مفتاحًا فانخفض الصوت نوعًا ما، رغم أن الكلماتِ كانت لا تزال واضحة، وكان يمكن خفض ضوء الآلة (وكانوا يسمونها شاشة الاتصال)، ولكن لم يكن هناك من وسيلة لإغلاقها كلية.
إن من المفارقات السطحية، أن تكون معظم الروايات التي تدور عن المستقبل مكتوبةً بزمن الفعل الماضي، وتبدأ روايةُ ميشيل فريد «حياة خاصة للغاية» بَيْد أنها لا تستطيع الاستمرار كثيرًا هكذا، وتنقل سريعًا إلى زمن الفعل الحاضر، وكيما ندخلَ إلى العالم المتخيل لرواية من الروايات يجب أن نكيِّفَ أنفسنا مع المكان والزمان اللذَين تعيش فيهما الشخصيات، وزمن الفعل المستقبل يجعل ذلك مستحيلًا؛ وذلك أن الزمن الماضي هو الزمن «العادي» للسرد؛ فحتى استخدام الزمن الحاضر يحمل مفارقةً إلى حدٍّ ما، نظرًا لأنَّ أيَّ شيء كُتب لا بد وأن يكون قد حدث بالفعل.
وبالطبع، فإن عام «١٩٨٤» بالنسبة لنا الآن، قد حدث بالفعل. ولكن أورويل حين كان يكتب الرواية، كان يتخيل المستقبل؛ وكيما يتفهمها القارئ عليه أن يطلعَها بوصفها روايةً تنبُّئية وليست تاريخية، وقد استخدم المؤلف صيغةَ الزمن الماضي في السرد، كي يخلعَ على صورته عن المستقبل وهمًا روائيًّا بالحقيقة. وربما كان يهدف، بوضعه أحداثَ روايته بعد حوالي ثلاثين عامًا فحسب من كتابتها، إلى لفتِ انتباه معاصريه إلى قربِ وقوع الطغيان السياسي الذي صوَّره، بَيْد أن هناك أيضًا فكاهة جهمة في عكس السنة التي أتمَّ فيها الرواية (١٩٤٨) في سنة العنوان. وقد استمد أورويل الكثيرَ من الملامح المعروفة للحياة في بريطانيا وقت «التقشف» الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك من أنباء الحياة في أوروبا الشرقية، كيما يخلقَ الجو الكئيب للندن في عام (١٩٨٤): الرثاثة ونقص المواد والانهيار، وعادةً ما تقصُّ علينا الروايات العلمية الخيالية كيف ستكون الأحوال المادية مختلفة تمامًا في المستقبل، بَيْد أن أورويل ألمح أنها ستظل على ما هي عليه، وإنما على نحو أسوأ.
وتُثير أول جملة في الرواية الإعجابَ عن حق «كان يومًا ناصعًا من شهر أبريل وكانت الساعات تدقُّ الثالثة عشرة»، واللذعة هنا هي في الكلمتَين الأخيرتَين، وعلى الرغم من أنها أقوى على الأرجح لدى القرَّاء الذين يذكرون الزمنَ الذي لم تكن هناك فيه ساعات رقمية أو جداول زمنية على أساس أربع وعشرين ساعة، وإلى أن يَصِل القارئ إلى هاتين الكلمتَين، يبدو الخطابُ عاديًّا تمامًا بما يُوحي أنها قد تكون روايةً «عادية» عن يومٍ عاديٍّ في العالم المعاصر، بَيْد أن غرابةَ كلمتَي «الثالثة عشرة» وهي التي تُنبئنا بإيجاز رائع، أن أمامنا تجربةً جِدَّ مختلفة؛ فالساعات والزمن وما يحملان من حسابات، هي جزء من القاعدة العقلية التي نُظمت بموجبها حياتُنا في العالم المألوف العادي، ولذلك تمثِّل «الثالثة عشرة» تلك اللحظةَ في الكابوس، التي يُنبئنا فيها أمرٌ ما بأننا نحلم ثم نستيقظ، ولكن في هذه الحالة، يكون الكابوس لا يزال في بدايته، والبطل على أثرها الأقل لا يستيقظ منه أبدًا، من عالمٍ يمكن فيه للسلطة أن تأمرَ بأن يكونَ مجموع اثنين واثنين خمسة لا أربعة.
وفي الجملة التالية، تبدو أسماءُ العلم وحدها وكأنها تصوِّر أسلوبَ الواقعية المنضبطة؛ فمن الواضح أن ونستن سميث قد سُمِّي على اسم ونستون تشرشل، ندخل إلى العالم المتخيل لرواية من الروايات، يجب أن نكيِّف أنفسنا مع المكان والزمان، قائد الأمة الإنجليزية في الحرب العالمية الثانية، وتتجلَّى السخرية التي تحملها هذه التفاصيل، حين نعلم بعد ذلك في الرواية، أن العالَم منغمسٌ في حرب عالمية مستمرة منذ ستة وثلاثين عامًا، ويُوحي التراب الرملي الذي يهبُّ في مدخل البناية، أن الطريق والأرصف خارجها غير نظيفة:
ثم تزداد نغمةُ البؤس والحرمان الماديَّين عمقًا في الفقرة التالية، بإشارتها إلى الكرنب المسلوق، والحُصر القديمة المهلهلة، وانقطاع الكهرباء، ودوالي سميث المتقرِّحة.
والإشارة إلى «أسبوع الكراهية»، والملصق الملون الضخم بعبارة «الأخ الأكبر يراقبك»، وهي من التفاصيل غير المألوفة فيما يمكن أن يكون، لولا ذلك، وصفًا لمبنًى سكنيٍّ مُهمَل في عام ١٩٤٨، وهي تُعادل في أثرها الساعةَ التي تدقُّ الثالثة عشرة، إنها ألغازٌ تُثير حبَّ استطلاعنا، وتوجُّسَنا؛ حيث إن ما تنطوي عليه من سياق اجتماعي لا يُوحي بالاطمئنان، ونحن نبدأ بالفعل بالتوحد مع ونستون سميث، بوصفه ضحيةً لهذا المجتمع ويتصل أسبوع الكراهية والأخ الأكبر، بحكم التجاور، بالبؤس والحرمان الماديَّين في البيئة المحيطة، بل وبالرياح اللعينة في الفقرة الأولى. وتُشبه ملامح الأخ الأكبر وجهَ ستالين، ولكنها تُشير أيضًا إلى ملصقِ تجنيدٍ شهير إبَّان الحرب العالمية الأولى، وصِوَر رجل عسكري غزير الشارب (اللورد كتشنر) وهو يُشير بإصبعه وتحته عبارةٌ تقول «وطنك في حاجة إليك»، والشاشة التليفزيونية المزدوجة العمل (إذ إنها تُبقِي المشاهدَ تحت ملاحظة دائمة)، هي المرة الوحيدة التي يلجأ فيها أورويل إلى استخدام رخصة الخيال العلمي، كي «يتخيلَ آلةً لم تكن موجودة في زمنه، ويبدو تطورها التكنولوجي ذا طابعٍ أشدَّ شرًّا في المحيطِ الرثِّ الذي يضرب فيه الفقرُ أطنابَه في بيوت النصر».
ومجمل القول إن أورويل قد تخيَّل المستقبل، عن طريق ابتعاثِ وتغيير وتجميع صِوَر يعرفها قُرَّاؤه من قبل، معرفةً واعية أو غير واعية، وهذه هي الحال على الدوام، إلى حدٍّ ما؛ فقصص الخيال العلمي، على سبيل المثال، هي مزيجٌ غريب من الآلات المخترعة، والعناصر القصصية الجمعية المستمدَّة على نحوٍ صريح من القصص الشعبي ومن الحكايات الشعبية، والكتاب المقدَّس، فتُعيد صياغة أساطير الخلق والسقوط والطوفان والمخلِّص الإلهي، لاستخدام عصرٍ علماني، وإن كان لا يزال يؤمن بالخرافات، وأورويل نفسه يرجِّع صدى قصة آدم وحوَّاء في معالجته علاقةَ الحب بين ونستون وجوليا، وهي العلاقة التي كان الأخ الأكبر يرصدها سرًّا، وعاقب عليها في النهاية، وإن كان تأثيرُها عكس التأثير المطمئن، ويتبدَّى على نحوٍ دقيق إلى حدِّ أن القارئ قد لا يعي ذلك الإلماح، وفي هذا المقام، كما في نواحٍ أخرى، لا يتميز تكنيكُ أورويل عن تكنيك الروائي الواقعي التقليدي، رغم أن مقصده كان مختلفًا، عدم تصوير الواقع الاجتماعي المعاصر، بل رسم صورة مخيفة لمستقبل محتمل.