التشويق
في البداية، حين لم يكن الموتُ يبدو محتملًا لدى «نايت»؛ لأنه لم يقترب أبدًا منه، لم يستطع أن يفكرَ في أيِّ شيء في المستقبل أو أيِّ شيء يرتبط بالماضي، لم يكن أمامه إلَّا أن يراقبَ في صرامةٍ الجهودَ التي تبذلها الطبيعة كي تضعَ حدًّا لحياته، وأن يجاهدَ لإحباط تلك الجهود …
ولما كان الجرف يشكِّل سطحًا داخليًّا من جزء من تشكيل أسطواني مجوَّف، السماء في أعلاه والبحر أسفله، يحيط بالخليج بما يُشبه نصف دائرة، كان بوسعه أن يرى السطح العمودي ينعرجُ عن يمينه وشماله، وألقى بنظره بعيدًا عن تلك الواجهة، وتحقَّق على نحوٍ أدقَّ من الخطر الذي تمثله له، كان الشر يكمن في كل مظهر من مظاهرها، وكان هذا الشكل في صميمه المعادي يمثل الدمار والخراب.
ويأخذ ذلك الترابط في الأحداث التي يعمل عالمُ الجماد على تعذيب عقل الإنسان بها حين يتوقف برهةً في لحظات الترقُّب، كان أمام عين «نايت» حفريَّة متحجِّرة منفصلة من الصخرة على نحوِ نقشٍ بارز، كان كائنًا له عينان، وحتى في تلك الساعة، كانت العينان، وقد ماتتا وتحولتا إلى حجر، ترقبانه الآن، كانت الحفرية واحدة من تلك القشريات البدائية المسمَّاة «تريلوبايتس»، ومع أن ملايين السنين كانت تفصل بينها وبين «نايت»، فقد بدَا كما لو أنهما قد التقيا في مكان موتهما، كانت الشيءَ الوحيد الذي وقع عليه بصرُه، ويمثِّل كائنًا كانت تنبض فيه حياة، وله جسمٌ يتوجَّب إنقاذه، في الوضع نفسه الذي كان فيه «نايت» الآن.
الروايات ما هي إلَّا سردٌ، والسرد — مهما تكن وسائطه: الكلمات، أو الفيلم السينمائي، أو الصور الهزليَّة — يجذب اهتمامَ جمهورِه عن طريق إثارة أسئلة في أذهانهم، وتأخير الإجابة عليها، والأسئلة في عموميتها تنقسم إلى نوعين، الأسئلة المتعلقة بالسببية (مثلًا: مَن فعل هذا؟) والأسئلة المتعلقة بالزمنية (مثلًا: ما الذي سيحدث بعد ذلك؟) ونماذج هذين النوعين، في أبسط شكل، هي على التوالي، القصص البوليسية التقليدية، وقصص المغامرات. والتشويق عاملٌ يرتبط على وجه الخصوص بقصص المغامرات، وبالهجين المتكون من القصة البوليسية وقصة المغامرات، المعروف بقصص الإثارة، ومثل تلك الحكايات السردية تتوخَّى وضْعَ البطل أو البطلة مرارًا في مواقف تحفُّها المخاطر الشديدة، مما يُثير في القارئ انفعالاتِ الخوف والقلق من النتائج المحتملة، فيتعاطف بذلك مع الشخصيات.
ولما كان التشويق يرتبط ارتباطًا خاصًّا بأشكال القصة الشعبية، فإن الروائيِّين الأدبيِّين في الفترة الحديثة كانوا ينظرون إليه دائمًا بازدراء، أو على الأقل نظرتهم إلى الشيء الأدنى؛ ففي «عوليس» مثلًا، فرض جيمس جويس أحداثًا تافهة لا تخلص إلى نتيجة، وتقع في يوم واحد في مدينة دبلن الحديثة، على قصة عودة «أوديسيوس» من حرب طروادة، وهي قصة بطولية ومكتملة على نحوٍ مُرضٍ، وهو يُلمِّح بذلك إلى أن الواقع أقلُّ إثارة وأكثر إبهامًا من الأحداث التي يرمي القصص التقليدي أن يُقنعنا بها. ولكن كان هناك دائمًا كُتَّابٌ محترمون، خاصة في القرن التاسع عشر، قاموا عن قصد باستعارة أساليب توليد عنصر التشويق من القصص الشعبي وحوَّلوها إلى ما يحقِّق أغراضَهم.
وتوماس هاردي أحد هؤلاء الكُتَّاب؛ فقد كانت أولى رواياته واسمها «حلول يائسة» (١٨٧١م)، وهي رواية «إثارة»، بأسلوب «ويلكي كولينز»، وثالث رواياته «عينان زرقاوان» (١٨٧٣م)، بها عناصر أكثر غنائيةً وتحليلًا نفسيًّا، وقد استمدَّها من الفترة التي كان يتودَّد فيها إلى زوجته الأولى في محيط رومانسي في شمال «كورنوول»، والتي كانت أقربَ الروايات المحببة إلى سيد قصص السيرة الذاتية «مارسيل بروست».
وما حدث هو أنه في منتصف رواية «عينان زرقاوان» تقريبًا، تقوم «ألفرايد»؛ بطلة الرواية الشابة المتقلبة الأطوار نوعًا ما، وابنة قسيس «كورنيش»، بحمل تلسكوب إلى قمة جرف يُشرف على قناة «بريستول»، كيما ترى السفينة التي تُقلُّ المهندس المعماري الشاب، الذي عقد خطبتَه عليها سرًّا، من الهند إلى وطنه ويصحبها «هنري نايت» صديق زوجة أبيها، وهو رجل ناضج ذو اهتمامات فكرية، ويحاول خطبَ ودِّها بينما هي تشعر بالذنب إذ بدأت تنجذب إليه، وبينما هما يجلسان على قمة الجرف، تُطير الريحُ قبعةَ «نايت» نحو الحافة، وحين يحاول استعادتَها، يجد أنه لا يستطيع صعودَ المنحدر الزلج الذي ينتهي بهُوَّةٍ عمقُها مئاتُ الأقدام، وتزيد محاولات «ألفرايد» المتهورة الوضع سوءًا. «وبينما تعود هي إلى منطقة الأمان، تدفع به دون قصد، أقرب إلى الهاوية. وبينما كان «نايت» ينزلق في بطء بوصة وراء بوصة … يَثِب وثبةً أخيرة يائسة نحو أكمة مزروعة، هي آخر نقطة من الحشائش الذابلة تظهر بعدها الصخرة بكل عريها. وأوقف هذا من سقوطه. وأصبح «نايت» الآن معلَّقًا من ذراعَيه …» (التسطير مضاف)، وتختفي «ألفرايد» من ناظرَي «نايت» ويفترض أنها قد ذهبَت في طلب العون، رغم أنه يعرف أنهما كانَا على بُعد أميال عديدة من العمران.
ما الذي يحدث بعد ذلك؟ هل سيُنقذ «نايت» حياته؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، كيف؟ ولا يمكن إطالة عنصر التشويق إلَّا بتأخير الإجابة على هذه الأسئلة، وإحدى الطرق لذلك، وهي الطريقة المفضلة في السينما (التي استبقها توماس هاردي بقصصه ذات العامل البصري الكثيف) هي الانتقال مرارًا ما بين آلام «نايت» وبين ما تبذله البطلة من جهود لإنقاذه، بَيْد أن «هاردي» يريد أن يفاجئ «نايت»، (ويفاجئ القارئ كذلك) باستجابةِ «ألفرايد» لهذه المحنة الطارئة؛ ولهذا فهو يقصر المشهد على وجهة نظر «نايت»، ويمتدُّ التشويق عن طريق بيان لأفكاره بالتفصيل؛ إذ هو معلَّق على سطح الجرف، وتلك الأفكار هي ما يَرِد على ذهن مثقف يعيش في العصر الفيكتوري، ذلك الذهن الذي خلَّفت فيه الاكتشافات الحديثة في مجالَي الجيولوجيا والتاريخ الطبيعي، خاصة أعمال داروين، تأثيرًا عميقًا، وفي تلك القطعة التي يتحقق فيها «نايت» أنه يُحملق في عينين «قد ماتتا وتحوَّلتا إلى حجر» لإحدى الحفريات المفصلية التي مضى عليها ملايين السنين، هي قطعة ربما كان هاردي هو الوحيد القادر على كتابتها.
ويستطيل المشهد لعدة صفحات عن طريق الأسلوب نفسه: تأملات فلسفية حول الجيولوجيا وعصور ما قبل التاريخ، والشر الكامن في الطبيعة (الريح تعصف بثياب «نايت» والمطر ينقر وجهه بينما شمس حمراء ترقب ما يحدث «بنظرة نشوى») تصحبها أسئلةٌ تُبقي وترَ التشويق السردي مشدودًا: هل سيموت؟ … إنه يأمل في النجاة، ولكن ماذا تستطيع فتاة أن تفعل؟ لم يجرؤ على الحركة قيد أنملة، هل حقًّا يبسط الموتُ يدَه إليه؟
ولسوف تُنقذه «ألفرايد» طبعًا، ولن أُفشيَ لك سرَّ الكيفية التي ستفعل بها ذلك، إلَّا لأقول، على سبيل التشجيع لهؤلاء الذين لم يقوموا بعدُ بقراءة هذا الكتاب الممتع، إن الحل يتضمن أن تقوم «ألفرايد» بخلع ملابسها كلها!