الرمزية
وصاحَت «أورسولا» بصوتٍ عالٍ «يا لَه من أبله! لماذا لا يمضي بها بعيدًا حتى يمرَّ القطار.»
كانت «جودران» تنظر إليه بعينَين ذاهلتَين قد اتسعَت حدقتاهما، بَيْد أنه جلس مُتَوِّهها عنيدًا، شاكمًا المهرة، التي كانت تدور وتلفُّ كالريح، وإن لم تتمكن من الإفلات من قبضة إرادة الرجل الذي يشكمها، أو الهروب من صخب الرعب المجنون الذي كان يضطرم في جوانحها حين أخذَت عرباتُ القطار تمرُّ في بطءٍ وثقل، واحدة وراء الأخرى، واحدة تتبع الأخرى، فوق قضبان المعبر.
وضغطَت القاطرةُ فراملها كأنما تريد أن ترى ما بوسعها أن تفعله، من ثَم تدافعَت العرباتُ تصطدم بالحواجز الحديدية في كلٍّ منها، تقرع كالصَّنْج النحاسية الهائلة، وتتصادم بقربٍ متزايد في ارتجاجات صريرية مخيفة، وفغرَت المهرةُ فاهًا ونهضَت في بطء كأنما ترفعها تياراتٌ من الرعب. وفجأةً، طفقَت ترفسُ بساقَيها الأماميَّتَين، وهي تُحاول الهربَ من الرعب عن طريق تشنجاتها، وعادَت المُهرةُ إلى الخلف، فتعلَّقَت الفتاتان إحداهما بالأخرى وهما تشعران أن المُهرة لا بد واقعةٌ فوق الرجل، بَيْد أن الرجل انحنى إلى الأمام، ووجهُه مشرق بالحبور الثابت، وأخضع المُهرةَ أخيرًا، وجعلها تركع، وأخذ يُعيدها إلى مكانها، ولكن بقدر ما كان ضغطُ الرجل قويًّا، كان الرعبُ الكامل يسيطر على المُهرة، ويُرغمها على محاولة الابتعاد عن قضبان القطار، فجعلها ذلك تدور وتدور على ساقَين اثنتَين، كأنما قد سقطَت في براثن دوَّامة من الريح، وقد جعل هذا المنظرُ جودران يُغشى عليها من الدُّوار الحاد، الذي بدَا كأنما يلجُ إلى قلبها.
على نحوٍ تقريبي، كلُّ شيء «يقوم مقامَ» شيءٍ آخر فهو رمز؛ بَيْد أن هذه العملية لها طرقٌ مختلفة كثيرة؛ فالصليب قد يرمز للمسيحية في سياق ما، لارتباطه بالصَّلب، ولكنه يرمز لتقاطع الطريق في سياق آخر، للتشابُه في الهيئة والرمزية الأدبية، لا يمكن تفسيرُها بمثل السهولة التي قدَّمنا بها هذا المثال، لأنها تحاول أن تكون أصيلةً، وتنحو تجاهَ ثراءِ تعدديةِ المعنى، بل وغموضه (وكلُّه صفاتٌ غير مستحبَّة في مجال علامات المرور، ومجال الأيقونات الدينية، خاصة في المجال الأول)، فإذا كانت استعارةٌ أو تشبيهٌ يتمثَّل في مماثلة ألف لباء، فالرمز الأدبي يكون باء تُوحي بألف، أو عددًا من الألفات، والأسلوب الشعري المعروف بالرمزية، الذي بدأ في «فرنسا» في أواخر القرن التاسع عشر، في أعمال بودلير وفيرلين ومالارميه، وفرض تأثيرًا كبيرًا على الكتابة الإنجليزية في القرن العشرين، كان يتميز بسطحٍ فاترٍ من المعاني الموحَى بها دون وجود جوهر ذي دلالة معينة، بَيْد أن أحدهم قد قال مرة: إن على الروائي أن يجعل من الجاروف جاروفًا قبل أن يجعل منه رمزًا، وتلك فيما يبدو نصيحةٌ مخلصة للكاتب الذي يهدف إلى خلقِ أيِّ شيء يُماثل «الإيهام بالواقع»، فإذا قدَّم الروائيُّ الجاروفَ بصورة واضحة جليَّة لمجرد معناه الرمزي، فإنه ينحو تجاهَ تدميرِ مصداقية السرد القصصي، بوصفه أحداثًا يقوم بها بشرٌ حقيقيون، وكثيرًا ما كان د. ﻫ. لورانس على استعدادٍ لركوب تلك المخاطرة، كيما يعبِّرَ عن بصيرة رؤيويَّة، حين قام في موضع آخر من رواية «نساء عاشقات» بتصويرِ بطلِه يتمرَّغ عاريًا فوق الحشائش، ويُلقي بالأحجار على صورة القمر المنعكسة على صفحة المياه، ولكنه في القطعة المقتبسة هنا، أقام توازنًا جميلًا ما بين الوصف الواقعي والإيحاء الرمزي، والجاروف في هذه الحالة، وهو حدثٌ مركب؛ رجلٌ يسيطر على حصانٍ مذعور من مرور قطارِ فحمٍ من المعبر، وتُراقبه امرأتان، والرجل هو «جير الدكرتش» ابنُ أحد ملَّاك مناجم الفحم المحليِّين، الذي يُدير العمل، وسوف يَرِثه في نهاية الأمر، ومكان الحدث وهو منطقةُ مقاطعة نوتنجهام الطبيعية، التي تربَّى فيها لورانس، ابن عامل مناجم الفحم: مناطق ريفية جميلة لا يُلوثها ويُظلِّلها بالسواد إلَّا الأماكن التي فيها المناجم وقطاراتها. ويمكن للمرء أن يقول إن القطار «يرمز» إلى صناعة المناجم، التي هي نتاج الحضارة بالمعنى الأنثروبولوجي، وإن الحصانَ، مخلوقَ الطبيعة، يرمز للريف، وقد قامت الرأسمالية الذكرية القوية بفرض الصناعة على الريف، وهي عملية يُعيد جيرالد تمثيلَها رمزيًّا بالطريقة التي يسيطر بها على المُهرة، مرغِمًا الحيوانَ على قبول الضجيج الآلي الكريه الذي يصدر عن القطار.
والمرأتان في هذا المشهد شقيقتان — أورسولا، وجودران برانجوين — الأولى مُدرِّسة والثانية فنَّانة، وكانتا تتجولان في الريف حين شاهدتا هذا المنظرَ عند معبر القطار. ويُثير سلوكُ جيرالد غضبَ أورسولا، وتعبِّر عن ذلك بكلامها، بَيْد أن المشهدَ يُروَى من وجهة نظر جودران، واستجابتُها له أكثر تعقيدًا وغموضًا، فثَمَّة رمزية جنسية في الطريقة التي يسيطر بها جيرالد على حصانه: «وأخضع المُهرة أخيرًا، وجعلها تركع، وأخذ يُعيدها إلى مكانها»، وهناك بالتأكيد عنصرٌ من استعراض الرجولة في عرضة قوية أمام امرأتين. وفي حين تبدو أورسولا مشمئزةً من المنظر، تشعر جودران منه بإثارة حسية، على الرغم منها. فالمُهرة «تدور وتدور على ساقَين اثنتَين، كأنما قد سقطَت في براثن دوامة من الريح. وقد جعل هذا المنظر جودران يُغشى عليها من الدُّوار الحاد، الذي بدا كأنما يلجُ إلى قلبها». وكلمة «حاد» هي من الصفات المنقولة؛ فهي تنتمي عن حقٍّ لوصف الحصان الذي يتألم؛ وتطبيقها الغريب نوعًا ما على «الدوار» يعبِّر عن جَيَشان عاطفة جودران، ويلفت النظرَ إلى الجذر اللغوي الذي تَعْنيه الكلمة، من الحدَّة والقطع التي تُعطي إلى جانب كلمة «يلج» في الجملة التالية، تأكيدًا جنسيًّا ذكوريًّا قويًّا للوصف كله. وبعد هذه القطعة ببضع صفحات، تُوصف جودران بأنها «قد خَدِر عقلُها من فكرة الثقل اللين الذي لا يُساس للرجل الذي يحمل قوتَه على الجسد الحي للحصان: فَخْذَا الرجل الأشقر القويان المسيطران، يُمسكان بجسد المُهرة الخافق في سيطرة تامة» والمشهدُ كلُّه يُبنَى بحقٍّ على العلاقة المحمومة، وإن كانت مدمرة، التي ستنشأ بعد ذلك في القصة بين جودران وجيرالد.
بَيْد أن هذا الإعداد الثري للإيحاء الرمزي كان سيُصبح أقلَّ تأثيرًا بكثير، لو لم يسمح لنا لورانس في الوقت نفسه، أن نتصوَّر المشهدَ بتفصيلٍ حسيٍّ نَشِطٍ؛ فهو يقدِّم الضجيجَ القبيح لعربات القطار وحركاتها حين يُفرمل القطار، في جُمَل، وأسلوب «أونوماتوبي»، «تقرع كالصَّنْج النحاسية الهائلة، وتتصادم بقربٍ متزايد في ارتجاجات صريرية مخيفة». وتبع ذلك بصورة بليغة للحصان، رشيقًا حتى في وسط آلامه، «وفغرَت المُهرة فاهًا ونهضَت في بطء، كأنما ترفعها تياراتٌ من الرعب». ومهما كان رأي القارئ في رجال «لورانس» ونسائه، فهو دائمًا رائعٌ في وصفه للحيوانات.
وجديرٌ بالملاحظة أن الرمزية تتولد بطريقتَين مختلفتين في هذه القطعة؛ فرمزية الطبيعة/الحضارية قد صِيغت على مثال المجازَين البلاغيَّين المعروفَين باسم الكناية والمجاز المرسل؛ فالكناية تستعيض عن السبب بالنتيجة أو العكس (القاطرة تقوم مقامَ الصناعة لأنها نتيجة للثورة الصناعية)، والمجاز المرسل يستعيض عن الكل بالجزء أو العكس (الحصان يقوم مقام الطبيعة لأنه جزء من الطبيعة)، ومن الناحية الأخرى، صِيغت الرمزية الجنسية على الاستعارة والتشبيه؛ حيث تتمُّ المعادلة بين شيء وآخر على أساس بعضِ الشبه بينهما؛ فإخضاع جيرالد لفرستِه، يُوصَف على نحوٍ يُوحي بالفعل الجنسي البشري. وهذا التمييز، الذي صاغه في الأصل البنيوي الروسي رومان ياكوبسون، يعمل على كلِّ مستوى من مستويات النص الأدبي، بل وخارج الأدب بالفعل، مثلما برهنَت «روبين بنروز» بطلةُ روايتي «عمل طيب»، للمتشكك «فيلك ويلكوكس» عن طريق تحليلِ إعلانات السجائر، وللاطلاع على مزيد من الأمثلة عن كيفية دور هذا التمييز في الرمزية الروائية، انظر قطعة «جراهام جرين» التي نُوقشت تحت عنوان «المستغرب» في الفصل الخامس والثلاثين.