القصة المجازية (الأليجوري)
ومع ذلك، فحتى الآن خمنتُ، مما كان بوسعي أن أعرف، أنه كان لديهم نوعان متميزان من العملة، لكلٍّ منهما مصرفُه وقوانينه التجارية، واحد منها (تلك ذات المصارف الموسيقية) كان يُفترض أنها هي «النظام»، وهي التي تصكُّ العُملة التي ينبغي أن تتمَّ كلُّ المعاملات المالية عن طريقها، وعلى قدر علمي، كان على كلِّ مَن يرغب أن يكون محترمًا، أن يحتفظَ بمبلغٍ قلَّ أو كَثُر في هذه المصارف، ومن ناحية أخرى، فإذا كان ثَمة شيءٌ أكيد لديَّ، فهو أن المبالغ التي يتمُّ الاحتفاظ بها على هذا النحو ليسَت لها أيةُ قيمة تجارية في العالم الخارجي، وأنا متأكد كذلك أن مديري وصرَّافي المصارف الموسيقية لا يتقاضَون مرتَّباتِهم بعُملة مصارفهم، وكان السيد «نوسنيبور» متعودًا على التردُّد على تلك المصارف، أو إلى المصرف الرئيسي للمدينة، أحيانًا وليس كثيرًا. وكان يشكِّل في الوقت نفسه دعامةً من دعامات مصرف من النوع الآخر للمصارف، رغم أنه فيما يبدو كان يشغل وظيفةً صغيرة كذلك في المصارف الموسيقية، وكانت السيدات يتردَّدن عليها وحدهن بصفة عامة، كما هو الحال عند كلِّ العائلات، إلَّا في حالة المهمَّات الرسمية.
وطالما رغبتُ أن أعرفَ المزيد عن هذا النظام الغريب، وغمرَتني رغبةٌ شديدة في مرافقة مضيفتي وبناتها، لقد كنت أُراهن أن يخرجنَ كلَّ صباح تقريبًا منذ وصولي، وكنتُ ألاحظ أنهن يحملنَ كيس نقود في أيديهن، لا على سبيل التفاخر تمامًا، وإنما فحسب كي يعلمَ مَن يراهن الجهةَ التي يقصدنَ إليها، بَيْد أنهن لم يطلبنَ مني أبدًا أن أذهب معهن.
القصة المجازية في شكل متخصص من السرد الرمزي، لا يُوحي فحسب بشيء وراء معناه الحرفي، لا بد من فكِّ شفرته فيما يتصل بمعنًى آخر، والقصة المجازية الأشهر في اللغة الإنجليزية هي رواية «رحلة الحاج» من تأليف «جون بنيان»، التي تقصُّ بشكل مجازي النضالَ المسيحيَّ للتوصيل إلى الخلاص، على صورة رحلة من مدينة الدمار، مرورًا بعوائق ومُلهيات مثل مستنقع اليأس وسوق الغرور، وصولًا إلى المدينة السماوية، وتتجسد الفضائلُ والرذائل في صورة شخصيات يُصادفها المسيحيُّ في رحلته، مثل:
«والآن، حين وصل إلى قمة التل، جاء رجلان يجريان نحوه، اسمُ أولهما الرعديد، والثاني المرتاب، وقال لهما المسيحي: ما الأمر أيها السيدان؟ إنكما تجريان في الطريق الخاطئ. وأجابه الرعديد، إنهما كانَا ذاهبَين إلى مدينة صهيون، فبلغَا هذا المكان الصعب؛ وأضاف، كلما تقدَّمنا صعودًا زاد ما نصادف من أخطار؛ وعليه فقد ارتدَدنا على أعقابنا واعتزَمنا العودة من حيث جئنا».
ولما كان تطورُ السرد في القصة المجازية، يعتمد في كلِّ نقطة منها على التوازي بينها وبين المعنى المضمَّن، فإنها بذلك تنحو إلى عكس ما دعاه هنري جيمس «الشعور بالحياة في الرواية»؛ ولهذا السبب لا تظهر الأليجورية كثيرًا في الرواية المعاصرة، وإن ظهرَت فتكون في صورةِ سردٍ مُقحم على النص، مثل الأحلام (ورحلة الحاج ذاتها مُقدَّمة على هيئة حلم)، أو قصص تحكيها شخصيةٌ ما في الرواية إلى شخصية أخرى؛ فرواية جراهام جرين «مسألة منتهية»، مثلًا، تعرض قصةَ أطفال، يحكيها البطل «كويري» إلى الصبيَّة «ماري رايكر»، والقصة عن تاجر مجوهرات ناجح وإن كان مستخفًّا بالدنيا، هي قصة مجازية واضحة عن عمل «كويري» المهني، بوصفه مهندسًا معماريًّا كاثوليكيًّا مشهورًا، فقَد إيمانه الديني، وهي أيضًا تنطبق على نحوٍ تهكُّمي، على حياة «جراهام جرين» نفسه ومهنته الأدبية:
«وكان الجميع يقولون إنه فنيٌّ ماهر، بَيْد أنه كان يلقَى ثناءً مضاعفًا لجديَّة مواضيعه؛ لأنه كان يضع فوق كلِّ بيضة صليبًا ذهبيًّا مرصَّعًا بالأحجار الكريمة على شرف الملك».
وتنحو الأعمال التي تستخدم أسلوبَ القصة المجازية، لا على نحوٍ عارض بل بوصفه وسيلةً سردية أساسية، إلى أن تكون قصصًا تعليمية أو تهكمية، مثل «رحلات جليفر» ﻟ «جوناثان سويفت»، و«مزرعة الحيوانات» ﻟ «جورج أورويل»، و«إيرهون» ﻟ «صمويل بتلر». ففي هذه الروائع، تُقدَّم الأحداثُ في واقعية سطحية، تُضفي نوعًا غريبًا من الصدق على الوقائع الخيالية، وتتمُّ لعبةُ التوازي بين الأشياء بحِذْق ومهارة، لا تحمل القارئَ على الشعور بالملل من أحداث متوقَّعة، وعنوان الرواية «إيرهون» بالإنجليزية تعني تقريبًا «لا مكان» إذا قرأت الكلمة بالعكس، وبهذا يضع بتلر كتابَه في الطراز نفسه الذي وضع به توماس مور كتابَه «يوتوبيا» (وهي كلمة تعني لا مكان)، وهو وصفُ عالَمٍ خيالي يَحمل تماثلًا واختلافًا عن عالمنا، وفيها يَعبر شابٌّ إنجليزي سلسلةَ جبال في مكانٍ قصيٍّ من الإمبراطورية (يبدو أنه نيوزيلندا، حيث قضى بتلر عدةَ سنوات من حياته)، ويعثرُ بطريق المصادفة على بلدٍ لم يكتشفه أحدٌ من قبل، وكان أهل هذا البلد قد بلغوا مستوًى حضاريًّا، يكاد يُماثل مرحلةَ التقدُّم التي كانت عليها إنجلترا في العصر الفيكتوري، ولكن قِيَمهم ومعتقداتهم كانت تبدو غريبةً ومنحرفة في عين الراوي؛ فمثلًا، كانوا يعتبرون المرضَ جريمةً تتطلب عقوبةً وعزلًا عن الناس المحترمين، ويعتبرون الجريمةَ مرضًا يستحق الشفقة من الأصدقاء والأقارب، ويحتاج إلى علاج باهظ النفقة بواسطة أطباء رحماء، يسمُّونهم «المُطبِّعون». وبسرعة، يُدرك القارئ الفكرةَ الأساسية من وراء ذلك، وهي أن بلدة «إيرهون» تَعْرض القِيَم الأخلاقية والأعرافَ الحميدة للمجتمع الفيكتوري، ولكن في أشكال بديلة أو معكوسة، وكان من المهم أن يُدرك الراوي ذلك، والسبب أن جزءًا من المتعة التي يستخلصها القارئ من هذا النوع من القصص يأتي من استخدام ذكائه في تفسير القصة المجازية، والشعور بالفخر من وراء تمكُّنِه من ذلك التفسير. وأهل «إيرهون» لا يدينون بأيٍّ من العقائد الدينية، ويعزون مراعاةَ الراوي ليوم الراحة الأسبوعي على أنه «نوبةٌ من نوبات العزوف تنتابني مرة كلَّ سبعة أيام»، وبدلًا من ذلك، كانت عندهم «المصارفُ الموسيقية التي سُمِّيَت كذلك لأن كلَّ المعاملات تجري فيها بمصاحبة الموسيقى … رغم أن تلك الموسيقى كانت منفِّرةً للأُذُن الأوروبية»، وتُزيَّن هذه المباني على نحوٍ مبهرج بطبقةٍ من الرخام وبالتماثيل والزجاج الملون وغير ذلك من الزخارف، ويَعْمِد أناسٌ محترمون مثل عائلة نوسنيبور (روبنسون) التي أصبحَت من أصدقاء الراوي، إلى أداء مراسم القِيَم بمعاملات مالية صغيرة مع هذه المصارف ويعبِّرون عن استيائهم؛ لأن قلةً من الناس فحسب يستفيدون فائدةً كاملة من هذه المصارف، وذلك على الرغم من أن الجميع يعرفون أن عملةَ هذه المصارف لا قيمةَ لها.
ومن الواضح من كلِّ هذا المعنى المراد توصيله للقارئ، أن الدين الفيكتوري ما هو إلَّا طقوسٌ اجتماعية في معظمه، وأن طبقةَ البورجوازية الإنجليزية، إذ تعتنق ظاهريًّا نصَّ العقيدة المسيحية، تُباشر حياتَها وفقًا لمبادئ مادية مختلفة تمامًا عن تلك العقيدة، بَيْد أننا إذا كنَّا نقرأ «إيرهون» ونستمتع بها، فذلك لا يرجع إلى الرسالة التعليمية الواضحة التي تكمن وراءها، بل لأن المؤلف يرسم أوجهَ التناظر في روايته، بنوعٍ من التفكُّه السيريالي ودقة التعبير الذي يحفز الفكر؛ فالمصارف، خاصة الكبير منها، هي بالفعل تُشبه الكنائس أو الكاتدرائيات في معمارها وديكوراتها، وتدفعنا دقةُ التناظر إلى التفكير في النفاق والادعاءات الزائفة، التي تتحلَّى بها المؤسساتُ المالية والدينية على السواء، أما السلوك الراضي عن النفس لسيدات أسرة نوسنيبور اللاتي يتوجَّهن إلى المصرف الموسيقي يتأبَّطن أكياسَ نقودهن، «لا على سبيل التفاخر تمامًا، وإنما فحسب كي يعلمَ مَن يُراهن الجهةَ التي يقصدنَ إليها»، فهو يُضفي إمتاعًا أكبر مما لو كان سلوك شخصيات في رواية واقعية، يحملنَ كتبَ الصلوات، ومع ذلك فالقصة المجازية هي أسلوبٌ فنيٌّ آخر من أساليب إزالة الألفة.