التجلي
ويَصِلان إلى موضوعِ حاملِ كرة الجولف، وهي منصةٌ من الحشائش إلى جوار شجرة فاكهة ضئيلة الحجم، تعرض حفناتٍ من البراعم العليلة اليابسة، ويقول «رابيت» «من الأفضل أن أبدأ إلى أن تهدأ.» كان الغضب يكتم على قلبه ويقطع دقَّاتِه. إنه لا يعبأ بأيِّ شيء سوى أن يخرج من هذه الورطة، إنه يرغب لو أمطرَت الدنيا، وكيما يتجنَّبَ النظرَ إلى «إكليز» أخذ يتطلَّع إلى الكرة التي كانت تستقرُّ أعلى حاملها وتبدو كأنها بالفعل قد أصبحَت منفصلةً عن الأرض. وبكلِّ بساطة، يرفع عصا الجولف حول كتفه ثم يهوي بها على الكرة، وكان الصوتُ محملًا بالتجويف والفرادة إلى حدٍّ لم يُسمَع مثلُه من قبل، كانت ذراعاه ترفعان وجهَه إلى أعلى وكرتُه تطير بعيدًا عنه، شاحبةً شحوبَ القمر قبالة الزرقة السوداء الجميلة للسُّحب التي تُنذر بالعاصفة، وذلك كان لونَ جده المفضل يمتدُّ بكثافة ناحية الشرق، ثم تنحسرُ الكُرة على طولِ خطٍّ مستقيم كأنها حافةُ مسطرة، ثم تضعف، فتصير، كنجمة، كنقطة. وتتردَّد، فيظن رابيت أنها ستتوقف، بَيْد أنه مخطئ؛ فالكرة تجعل من هذا الترددِ نقطةَ انطلاق لقفزة أخيرة: ففيما بدا كأنه شهقة واضحة، قضمَت قضمةً أخيرة من الفضاء قبل أن تسقطَ مختفيةً. وصاح: «هكذا!» ثم التفتَ إلى إكليز وكرَّر بابتسامةِ تفخيم: «هكذا.»
التجلِّي، بمعناه الحرفي، هو عرضٌ. وبالمصطلح المسيحي يُشير إلى عرض يسوع الطفل على ملوك المجوس الثلاثة. وقد عَمَد «جيمس جويس»، وهو الكاثوليكي المرتدُّ الذي اعتبر مهنةَ الكاتب نوعًا من الكهانة الدنيوية، إلى تطبيق الكلمة على العملية التي يتم بمقتضاها تحويلُ حدثٍ عاديٍّ أو فكرة عادية، إلى شيءٍ يتصف بالجمال الدنيوي عن طريق ممارسة الكاتب لعمله، كما يقول «ستيفن ديدالوس»: «تبدو روحُ أبسط الأشياء نورًا مضيئًا»، وينطبق هذا المصطلح الآن على نحوٍ واسع، على أيِّ مقطعٍ وصفيٍّ تحمل فيه الحقيقةُ الخارجية معنًى أكثرَ استشرافًا بالنسبة للمتلقِّي، وفي الرواية الحديثة، يقوم التجلي عادةً بالوظيفة التي يقوم بها الحدثُ الحاسم في السرد التقليدي، موفرًا نقطةَ الذروة أو الحل في القصة أو المقطع القصصي، وقد أرانا جويس نفسُه الطريقَ إلى هذا؛ فكثيرٌ من قصص «ناس من دبلن» ينتهي، على ما يبدو، بعدمِ تحقق الذروة — بهزيمة ما أو إحباط أمل أو حادثة تافهة — بَيْد أن اللغة تجعل من عدم التحقق ذلك، لحظةَ صدقٍ بالنسبة للبطل أو للقارئ، أو بالنسبة لكليهما. وفي رواية «صورة الفنان في شبابه» يرتفع مشهدُ فتاة صبية تخوض في البحر وقد رفعَت ذيلَ تنُّورتها إلى أسفلِ وسطِها، ليُصبحَ عن طريق الإيقاعات والتكرارات في الأسلوب، رؤيا استشرافية للجمال الدنيوي، تؤكد للبطل التزامَه باتخاذِ مهنةِ الفنان بدلًا من مهنة رجل الدين: «كانت تنُّورتُها الزرقاء ملفوفةً في جرأة حول وسطها ومعقودةً خلفها، وكان صدرُها يمثِّل صدرَ طائر، نحيلًا رقيقًا كصدرِ يمامة داكنة الريش، غير أن شعرَها الجميل الطويل كان شعرَ صبيَّة، وكان وجهُها وجهَ صبيَّة وعليه مسحةٌ من روعة الجمال الآدمي».
والقطعة المقتبسة من أولى روايات «جون أبدايك» عن شخصية رابيت، تَصِف حدثًا في مباراة، ولكن كثافة اللحظة، وليست نتائجها، هي المهمة هنا (فنحن لا نعرف أبدًا ما إذا كان البطل قد كسب هذا الموقع من عدمه)، و«هاري أرمسترنج»، الذي يُكنَّى «رابيت» (وهي تعني الأرنب)، هو شابٌّ مغروز في وظيفة لا مستقبل لها في مدينة أمريكية صغيرة، ومغروز في زيجة لم يَعُد فيها من حياة سواء من الجانب الحسي أو العاطفي، بعد مجيء أولِ مواليد الزوجين، وهو يقوم بمحاولةِ عقيمٍ للهرب من وجوده الخانق، فلم يؤدِّ به ذلك إلى أبعد من أحضان امرأة أخرى. ويدعوه قَسُّ كنيسته المحلية المدعو إكليز إلى لعب مباراة للجولف، كطريقة لنُصحِه بالعودة إلى زوجته. ورابيت، الذي عَمِل في صباه كحامل لأدوات الجولف، يعرف أصول اللعبة الأساسية، ولكن نظرًا لتوتُّر الموقف، فإن ضربتَه الأولى «جعلَت الكرة تنحرف إلى جانب واحد، ثم تحيد عن طريقها بصورة فجائية، تجعلها تسقط في وسط طيرانها في ثقلٍ حادٍّ كأنما هي قطعة فخار»؛ ثم لا يتحسن لعبُه، إنَّ «إكليز» يُضايقه بالأسئلة. «لماذا هجرتها؟» «لقد قلتُ لك؛ هناك ذلك الشيءُ الذي افتقدتُه.» «أي شيء؟ هل رأيته أبدًا؟ هل أنت متأكد أنه موجود؟ … أهو جامدٌ أم ليِّن يا هاري؟ ألونه أزرق؟ أهو أحمر؟ أهو مبرقش؟» ويشعر رابيت بالضيق الشديد من إكليز الذي سَخِر منه بأسئلته ذات النبرة التهكمية، فيُجيبه على كلِّ ذلك بأن يُسددَ أخيرًا ضربةً ناجحة إلى الكرة.
وفي أساليب التجلي، يأتي النثرُ القصصي إلى أقربِ حدٍّ من الكثافة الفعلية للشعر الغنائي (ومعظم القصائد الغنائية هي في الواقع تجليات)؛ ولهذا فالوصف المعتمِد على التجلي يكون على الأرجح غنيًّا بالاستعمالات البديعية والجناس اللفظي. وأبدايك كاتبٌ موهوب على نحوٍ كبير بقوةِ الاستعارات التي يستخدمها؛ فحتى قبل أن يدخلَ في الموضوع الرئيسي في تلك الفقرة، يمهِّد للمشهد بوصفٍ حيٍّ طبيعي لشجرة الفاكهة، التي تُوحي «حفنات البراعم العليلة اليابسة» بها، بالعداء الذي يكتنف المناسبة وبالأمل في الخروج من هذا العداء، بَيْد أن الوصف الأول للضربة كان وصفًا حرفيًّا عن عمد؛ فعبارة «وبكل بساطة يرفع عصا الجولف حول كتفه ثم يهوي بها على الكرة»، هي أشبهُ بوصفِ خبيرٍ في لعبة الجولف لضربةٍ فنية. وفي عبارة «كان الصوتُ محمَّلًا بالتجويف والفرادة إلى حدٍّ لم يُسمع مثله من قبل»، يُضفي تحويلَ حالة الصفة، من أجوف وفريد إلى حالة الاسم المجرَّد، رنينًا خفيًّا إلى الكلمتين، ثم تتخذ اللغةُ منحًى استعاريًّا: «وكرتُه تطير بعيدًا عنه، شاحبةً شحوبَ القمر قبالةَ الزرقة السوداء الجميلة للسحب التي تُنذر بالعاصفة.» ثم تتسع هذه السلسلة الكونية والفلكية من الاستعارات بعد ذلك في كلمات: «كنجمة، كنقطة.» أما أجرأ استعمال بديعي فقد أُرجئ لآخر الفقرة: ففي هذه اللحظة التي كان يظنُّ فيها أن كرتَه سوف تتوقف، فإنها «تجعل من هذا التردد نقطةَ انطلاق لقفزة أخيرة؛ فما بدا كأنه شهقةٌ واضحة، ليس سوى قضمة أخيرة من الفضاء قبل أن تسقطَ مختفيةً». وإن الجمع بين الحواسِّ في كلمتَي «شهقة واضحة»، قد تبدو غنيةً أكثر من اللازم عند تطبيقها على الكرة للجولف، إذا لم تكن تحتلُّ مكان الذروة في الوصف، وحين يلتفتُ «رابيت» إلى «إكليز» ويصيح بانتصار: «هكذا»، فهو يردُّ على أسئلة القَسِّ عمَّا يفتقدُ في زواجه، بَيْد أن هناك إلماحًا إلى التسامي الديني في اللغة التي استُعملَت لوصف كرة الجولف، فعبارة «نقطة انطلاق لقفزة أخيرة» يمكن أن تكون مأخوذةً من اللاهوت الوجودي الحديث، الذي يعلِّق في غموض على افتقارِ إكليز نفسِه إلى الإيمان الديني الحقيقي، وربما يسمع القارئ أيضًا في صيحة رابيت الأخيرة «هكذا» صدًى لرضاء الكاتب، الذي له ما يُبرره بعد أن كشف عن طريقِ اللغةِ عن الصوت المتألق لضربة جولف ماهرة التسديد.